في التاسع عشر من هذا الشهر عودة إلى تشارلي تشابلن ممثَّلة بفيلم عنوانه «تشارلي تشابلن الحقيقي» (The Real Charlie Chaplin). هو فيلم تسجيلي من إخراج بيتر ميدلتون وجيمس سبيني يضعنا من جديد أمام تلك الأيقونة الكوميدية التي سطت نجوميّتها على العالم بأسره وبسرعة لم تكن معهودة آنذاك وما زالت مثيرة للدهشة اليوم.
في نطاق الأفلام التي تدور حول المشاهير، هناك - غالباً - نوعين: نوع يحتفي بالسينمائي موضوع الفيلم، ونوع يعاديه في سعيه للكشف عن الجانب المعتم من الشخصية. «تشارلي تشابلن الحقيقي» يأخذ طريقاً ثالثاً يجمع بين حسنات الفنان الكوميدي (1889 - 1977) وسيئاته.
هو كان قاسياً في تعامله مع الغير وكان مولعاً بالفتيات في سن مبكر من أنوثتهن. كان كثير الزواج وكثير العلاقات وغيوراً من نجاح سواه، خصوصاً ذلك الكوميدي الأقل شهرة و(الأفضل فناً؟) بستر كيتون.
لكنه كان، إذا ما نظرنا في خانة الحسنات، رجل أعمال ذكي وعصامي بنى نفسه بنفسه، إذ وُلد بلا رعاية عائلية وفي وسط فقير وهاجر إلى أميركا معرّضاً نفسه للفشل الذريع. كان كذلك قدوة للإنسان الكادح. نسمعه ونراه في هذا الفيلم يؤكد وقوفه لجانب الفقير وغير المحظوظ. وفي العديد من أفلامه نراه ضد المؤسسة.
- نبوءة فيلم
لا عجب، وهو في هذه الصفات، أن شهد ذلك النجاح من قِبل الجمهور العريض حول العالم المؤلّف غالباً من طبقة تذهب إلى السينما هرباً من عناء العمل وتعب المسؤوليات الملقاة على عاتق الفرد والعائلة. المشاهدون، في أميركا وخارجها، كانوا سعداء إذا ما رفس قفا رجل ميسور أو احتال على ثري. كانوا أكثر سعادة عندما يتحدّى رجل الشرطة ويهرب منه في كل مرّة.
كان تشابلن، وهذا ما لا يرد في الفيلم، كثيراً ما يؤدّي دور الإنسان الذي لا يملك قلباً عطوفاً وروحاً كريمة. هو من يساعد الفتاة الوحيدة التي يلتقي بها مهاجرة كحاله فوق باخرة آتية من أوروبا في «المهاجر» سنة 1917. وهو من يتبنى الصبي اليتيم في «ذا كِد» سنة 1921. ينقذ الفتاة وأمها من الغرق قبل أن يقع في حب الأولى في «المغامر» (2017).
في الواقع، شخصية تشابلن بُنيت على منوالين: واحد عاطفي (Sentimental أكثر مما هو Romantic) والآخر شكلي عندما اختار سنة 1914 صورة الصعلوك فيKid Auto Races at Venice. في هذا الفيلم، الصعلوك تشارلو يحضر سباق سيارات في فينيسيا ويلحظ أنّ هناك كاميرا تصوّر السباق. يقرر أنّه يريد أن يظهر في الصورة فيقف أمام الكاميرا حيناً بظهره وحيناً بوجهه. يُشير له المصوّر لكي يخرج من الكادر. يفعل ثم يعود.
هذا الفيلم لم يكن من كتابته (كتبه هنري لرمان) لكنه يبدو، من هذه المسافة التي تزيد عن 100 سنة، كما لو كان تعبيراً عن رغبة تشابلن نفسه في أن يحظى باهتمام المُشاهد. أمر تمكّن منه تباعاً في أفلام مثل «المتشرد» (The Vagabond) و«حياة كلب» و«الرابط» والعديد سواها مما مثله وأخرجه من عام 1916.
أحد الأفلام الصامتة الأولى التي تعكس كل هذه المعطيات «حياة كلب» (1916): نتعرف على الصعلوك مشرّداً ينام في خربة بموازاة الطريق وعندما يصحو يمد يده إلى بائع جوّال ويسرق منه قطعة «هوت دوغز». يشاهده رجل البوليس ويحاول إلقاء القبض عليه، لكنه يهرب ويلتقي بكلب شريد يلازمه. يحاول دخول مطعم مع الكلب لكنه يُطرد فيحشر الكلب في سرواله ويعاود الدخول. هناك يتعرّف على مغنية يريد صاحب المطعم أن يفرض عليها الجلوس مع الزبائن وهي تأبى. لصّان يسرقان محفظة ثري. تشارلو يسرقها منهما وبالمال يحقق زمنيته بشراء أرض وفلاحتها وبجانبه المغنية التي أصبحت زوجته.
تؤلف شخصيات الصعلوك والمغنية والكلب، المرتبة الدنيا والمسكينة من الناس. اللصان المرتبة المتوسطة وصاحب المطعم المرتبة الأعلى ثم، وفي الموازاة، هناك رجال البوليس الذين يفشلون دائماً في القبض على الصعلوك لمهارته في المناورة.
- أكثر من وجه
كان تشابلن يدرك تماماً ما كان يبثّه ولمن. كل تلك السخرية التي أطلقتها أفلامه الصامتة ضد الأثرياء كانت موجهة تبعاً لقناعاته. هم دوماً متميزون بالبدانة المفرطة والوجوه البشعة والرغبات المادية، وتشارلو دوماً ما يسخر منهم ومن عاداتهم وتصرفاتهم. هذا كله كان يجلب البهجة من القطاع الأكبر من المشاهدين الذين يتآلفون مع تشارلو الفقير ضد مجتمع الأقلية.
في أفلامه الصامتة هناك الكثير من رفس المؤخرات أو قيام تشابلن بحك مؤخرته. هذا بدوره لم يكن معهوداً وممارساً في الأفلام والجمهور استقبل ذلك كدعابات مضحكة كما أرادها تشابلن أن تكون.
لاحقاً، مع مطلع الثلاثينات، استبدل تشابلن بعض الوصفات الكوميدية ومال إلى إثراء الشخصية بمواقف عاطفية فعلية كما الحال في «أضواء المدينة» (1931). في ذلك الفيلم هو الصعلوك نفسه الذي يتظاهر بأنه ثري لحين تدبيره ثمن العملية التي ستجريها بائعة الورد العمياء التي وقع في حبها. يذوق طعم الحياة المترفة عندما ينقذ حياة ثري هجرته زوجته من الانتحار. والمنوال الناشئ هنا هو أنّ الثري يعتبر الصعلوك صديقاً عزيزاً عليه حين يسكر ليلاً وحين يصحو نهاراً لا يعرفه ويطرده من منزله.
في هذا الفيلم الصامت بعد نطق السينما بثلاثة أعوام، يوعز تشابلن بازدراء الفنون (تماماً كما قد يفعل بعض العامّة الذين ينظرون إلى الفن كترف): يفتتح الفيلم بإزالة الستار عن تمثال المدينة فإذا بتشارلو يستلقي في حضن الجزء الأعلى من التمثال بعدما كان لجأ إليه للنوم. لاحقاً، نراه يزدري الرقص والموسيقى في مشهد كجزء من نقده لمن هم فوق. سخريته مناسبة لشخصيّته وعلاقته بالجمهور الذي عمد إلى اكتسابه منذ البداية. لكنها ليست جارحة ولا هي عميقة.
هذا ما يفتح أمامنا المجال لمسائل محتدمة في أفلامه التي استمرت صامتة حتى بعدما نطقت السينما. مواقفه السياسية لم تتبلور في «أضواء المدينة»، فهي مُعالجة ضمن الحكاية العاطفية وتحت ستار مموّه.
الكشف عن سياسته حيال المجتمع تمّ على النحو المباشر أول مرّة في «أزمنة عصرية» (1936)، حين نتعرّف عليه عاملاً في مصنع ثم متشرداً يُساق إلى السجن ثم عاملاً في محلات كبرى ثم نادلاً في مطعم (هذا الجزء يفرض تصوير محافل الأكل والرقص والمقالب وهي تكررت في أفلامه السابقة).
في «أزمنة عصرية» (Modern Times)، نراه وقد اختير لإجراء تجربة إطعام العمّال من دون منحهم الوقت الاعتيادي لتناول الغداء. ستُطعمه الآلة عنوة في خمس دقائق. لكن التجربة تفشل ويعود تشابلن للعمل على قطع معدنية عليه التثبّت من إحكام براغيها. لكنه الآن مصاب بحالة نفسية فإذا به يمسك أدواته ويبدأ بممارسة حركاته على العمّال المحيطين به قبل أن يستقل الآلة الكبيرة ذاتها ويدخل في ممراتها تحت عجلاتها المعدنية الكبيرة.
في الجزء الثاني يسير في الطرق عاطلاً عن العمل. تمر به شاحنة على مؤخرتها الراية الحمراء التي تضعها الشاحنات للتحذير. تسقط الراية على الأرض. يلتقطها ويركض لإعادتها للشاحنة المبتعدة. في الوقت ذاته هناك مظاهرة عمّالية وراءه. ها هو يلوّح بالعلم الأحمر من دون أن يدري أنّه بات يقود المظاهرة.
هذان الفصلان كافيان ليؤكد للآخرين أنّ الرجل كان يساري الاتجاه. أمر لم ينفه مطلقاً، إذ كرر دوماً أنّه مع الرجل المسحوق. لكن التهمة تبلورت صوب موقف معاد من قِبل «لجنة التحقيقات في النشاطات غير الأميركية» (عرفت باللجنة المكارثية) التي قضت بالتحقيق معه، حين كان يقوم بجولة أوروبية فآثر أن يبقى هناك.
تشابلن وغريمه
موقف تشابلن من الرأسمالية لم يمنعه من أن يكوّن ثروة كبيرة لم يُعرف عنها أنّها ذهبت لصالح أي جمعيات ومؤسسات يسارية أو اجتماعية. امتلك منزلاً كبيراً في جنوب فرنسا وآخر في سويسرا وعاش حياته الاجتماعية مترفاً بدوره.
هناك من يقول إنّ هذا أمر طبيعي وهناك من يعتبره دليل ازدواجية معايير، وأن موقف تشابلن مع أبناء الطبقات الفقيرة لم يكن سوى استثمار لشهرته وثرائه.
بعيداً عن هذا الجانب، كان تشابلن كوميدياً ناجحاً في عمله بلا ريب. أفلامه القصيرة منها والطويلة لم تكن متساوية. لديه ما يكفي من أفلام مكررة المنوال كحكايات وكمشاهد، ولكن لديه تلك الأفلام التي تتميّز بعاطفتها المنفردة كما الحال في The Kid وCity Lights وThe Immigrant. أو بنظرتها الشمولية ضد الحروب والفاقة مثل The Great Dictator وShoulder Arm وThe Gold Rush
إنّ تشابلن هو أنجح كوميدي في تاريخ السينما وأكثرهم شهرة في زمنه وما بعد أمر لا كثير جدال فيه. إنّه عبقري الكوميديا، مسألة تستدعي النظر كونه بنى شهرته على شخصية أصابت الهدف بدقة، لكنه لم يصنع إلا بضعة أفلام تحتوي على إخراج مميّز بفنه.
هذا على عكس وضع منافسه بستر كيتون تماماً: شهرته أقل، لكنه كان فناناً تناول شتّى المسائل المطروحة بمعالجات فذة وبحكايات أجاد تأليفها وسردها مخرجاً وممثلاً.
الفيلم الجديد عنه، «تشارلي تشابلن الحقيقي»، لا يتطرّق لكل ما ورد هنا، لكن ما يتطرّق إليه يفتح المجال مجدداً للبحث عما هو حقيقي وعما هو غير حقيقي في حياة وأعمال هذا الكوميدي الذي، رغم كل الملاحظات، انبرى منفرداً بين أترابه.
كذلك هو ليس الفيلم الأول الذي عمد لمراجعة أفلام تشابلن وشخصيته (هناك 3 أفلام سابقة ما بين 2010 و2020) لكنه يأتي، بحق، على معلومات لم تتوفر في الأفلام الأخرى جميعاً.