الحشود في الملاعب الرياضية... غوغاء أم حالة توحد صوفية؟

غومبريخت يكتب عن طبيعتها وديناميتها منطلقاً من تجاربه الشخصية

جماهير كرة القدم خلال بطولة كأس أوروبا الأخيرة (غيتي)
جماهير كرة القدم خلال بطولة كأس أوروبا الأخيرة (غيتي)
TT

الحشود في الملاعب الرياضية... غوغاء أم حالة توحد صوفية؟

جماهير كرة القدم خلال بطولة كأس أوروبا الأخيرة (غيتي)
جماهير كرة القدم خلال بطولة كأس أوروبا الأخيرة (غيتي)

لا يسهل وصف التّجربة الشعوريّة التي يمرّ بها المرء عندما يشهد حدثاً رياضياً في ملعب كبير؛ إذ لا بدّ من الوجود مباشرة في قلب الأجواء الحماسيّة للملعب كي يمكن للإنسان الإحساس بكمّ الطاقة التي تنبع من مدرجات الجماهير وهي مزدانة بالمشجعين وهم يهتفون لفرقهم. ومع أنّ مفهوم «الحشود» عامّة - والرياضيّة خاصّة - اكتسب منذ فترة طويلة سمعة سيئة تماماً في السياسة والثّقافة، فإن الناقد الأدبي والمشجّع الرياضي وأستاذ الأدب الفخري في جامعة ستانفورد، هانز أولريش غومبريخت، معتمداً على تجاربه الشخصيّة مشاهِداً في ملاعب أميركا الجنوبية وألمانيا والولايات المتحدة، يقدّم في كتابه الأحدث: «الحشود: الملعب (الاستاد الرياضي) كطقس توحد»، مجادلة قويّة للإشادة بتجربة الحشود ومحاولة تفكيك أسرار تأثيرها الطاغي على الأفراد المنخرطين فيها، عادّاً «الاستاد الرياضيّ» نوعاً من فضاء لطقوس تجربة وجوديّة من التكثيف والتوحّد العابر للأفراد والأشبه بحالة صوفيّة جمعيّة، طارحاً بذلك زاوية رؤية مختلفة يمكن من خلالها التقاط طبيعة الديناميّات التي تحكم سلوك الجماهير.
في مقاربة هذا الرأي النقيض للاتجاه الغالب بالتعامل مع الحشود بوصفها تجمعات للغوغاء ووحشاً هائلاً بلا عقل تتلاعب به العواطف الجامحة، يدخل غومبريخت في محادثة مطوّلة مع أجيال من المفكرين الذين كانوا أكثر تشكيكاً في إمكانات الحشود ومالوا للخشية منها ومن عنفها المتفلّت الذي يسهل التلاعب به، أمثال غوستاف لوبون، وفريدريك نيتشه، وسيغموند فرويد، وخوسيه أورتيغا ذي غاسيت، وإلياس كانيتي، وسيغفريد كراكاور، وثيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر. وهو في محادثته تلك يأخذ قارئه في رحلة تاريخيّة شيّقة لتفكيك التوقعات السياسية من حراكات الجماهير: من الثورة الفرنسية إلى سقوط جدار برلين، ومن موسيلليني إلى مارادونا، ومن الثّورة الروسية إلى «حزب الشاي» في بوسطن، ومن أجواء الكليّات الجامعيّة الأميركيّة إلى ميدان التحرير بالقاهرة، ومن يسوع الناصري إلى كارل ماركس.
يقرن غومبريخت مع حماسه الظاهر لخبرة «الاستاد» بكثير من الصرامة الفلسفيّة، مستكشفاً أبعاد تجربة الانخراط في الجمهور كأنّه جالس بينهم، جازماً بأنّها تجربة استثنائيّة تتيح للناس العاديين اختبار شعور الانتماء لما هو أكبر وأبعد من حدود ذواتهم الفرديّة. لكنّه مع ذلك يتجنّب اتخاذ مواقف متطرّفة، مدركاً أن مفكرين كباراً عدّوا الحشد مساحة للغوغاء وأن الطاقة التي تنتج عنها دائماً تصرف في التفاهات والعبث. وفي ذلك يقول إن المنظّرين الناقدين المعروفين أدورنو وهوركهايمر «كانا ليجدا فكرة أن الموسيقى ذات الاثنتي عشرة نغمة يمكن أن تسهم في الصراع الطبقي أقل عبثية من التفكير الجاد فلسفياً حول سلوك الجمهور في الاستاد». يعمد غومبريخت لذلك إلى بناء تاريخ بديل للحشود كمتفرجين، في جزء لا يتجزّأ وعنصر أساسي من مكونات الحدث الرياضي، من سباقات عربات سيرك ماكسيموس في روما (التي كان يشاهدها 250 ألف شخص)، والمصارعين في الكولوسيوم (70 ألف شخص)، ثم فترة الهدوء في العصور الوسطى، إلى إحياء رياضات الملاعب في القرن الثامن عشر لحظة أقلعت نزالات الملاكمة بداية من لندن (10 آلاف شخص).
يستفيد تحليل غومبريخت لديناميّات حشود «الاستاد» من أعماله الفلسفيّة السابقة في علم الجمال، حيث يتقدّم عنده الوجود الحسي للفن محلّ تفسيرات المعنى. وفي ذلك يقول: «نحن ننتمي إلى الحشد بأجسادنا، ونصبح فيه جزءاً من علاقة تشابك بأجساد أخرى» على نحو أقرب ما يكون - وفق تعبيره – إلى «الحلقات الصوفية الوجدانيّة» التي يشكلها تجمع المصلين في الكنائس والمعابد والزوايا. والمشجعون في «الاستاد» «تنشأ لديهم علاقة أفقية بعضهم مع بعض تتجاوز الوجود الذاتي الفردي إلى كائن جمعي من الاهتمام المشترك، وتتصاعد عمودياً من خلال التعبير متصاعد الوتيرة للغبطة أو التّعالي».
ذلك الشعور بالغبطة يبدو في نص غومبريخت مركزيّاً أكثر من جوانب أخرى يوظّفها في محاولة تفسيره تجربة الأفراد ضمن الحشد في «الاستاد»، وعنده أن نقطة الانطلاق تكمن في تقارب الناس بشكل مقيّد للحركة من قبل أجساد بعضهم بعضاً في كتلة موحدة كأنهم أسراب من النمل أو النحل مثلاً التي تتحرك في إطار محلي بحركة منسقة تستهدف ديمومة النشاط الجمعي مع تجنّب تصادم الأفراد (وهي عملية معقّدة يدرسها علماء الأحياء المختصون). وينغرس الأفراد داخل كتلة الحشد الواحدة في حالة من التّوتر البدني والعصبي المكبوت يضيف إليها التركيز المشترك على اللاعبين أمامهم، الذين تؤدي أعمالهم في الملعب إلى استثارة الخلايا العصبية للأفراد باتجاه مطابقة حركات اللاعبين، وبالتالي قمع الحركة، ولكن محاكاتها في أعصاب المشجعين. والنتيجة هي كميّة هائلة من الطاقة الحركية التي يتم تصريفها في العنف والهتاف، أو تساميها في حالة تكثّف وتوحد صوفي لا يمكن الوصول إليها فردياً.
هذا التحليل لطبيعة تجربة الحشد يبدو انتقائياً يغرف من جهة المفاهيم العلمية المتقدّمة - لا سيّما مجال علم الأعصاب الذي تقدّم في العقدين الأخيرين بأكثر مما تقدّم طوال تاريخ البشريّة بأجمعه - ثمّ يمزجها بتعابير مجازيّة أقرب ما تكون إلى محاولة وصف شعور ذاتي استعصت المعرفة عن شرحه. ولذلك قد يجد القارئ نفسه في النهاية يميل للموافقة على وصف غومبريخت لتجربة التشجيع الجماهيري التي عاشها شخصياً عندما يقول إن «أحداث الاستاد التي شهدتها وسط حشد من الناس هي من بين أفضل الأشياء التي تقدمها الحياة»، لكن ربّما دون أن يتمكن من القبض على نظريّة علميّة محددة وتامّة لتفسير حالة (التكثّف والتوحّد الصوفيّ) التي يتحدّث عنها. ومع ذلك، فإن النصّ يبدو كأنّه دعوة صريحة من فيلسوف في فضاء المعارف النظريّة الإنسانيّة إلى العلماء لتفسير مشاعر حقيقيّة وحالات تسام على الذات في أجواء الحشد أصبحت في أيامنا المعاصرة وبشكل متزايد مساحة تجتذب أعداداً هائلة من البشر وتخضع في أجواء الرأسماليّة المتأخرّة إلى كثير من الاعتبارات التنظيميّة والتجاريّة، وتعنى بإدارتها سلطات معولمة عابرة للسيادة المحليّة للدّول، وتكتسب أدوراً محوريّة في تشكيل الهويّات الإقليميّة والقوميّة في لاوعي الجماهير. ولعل دعوة غومبريخت تلك تكتسب أهميّة مضاعفة بعد الزلزال السياسي الذي ضرب المجتمعات الغربيّة إثر الأزمة الماليّة العالميّة في 2008 وأفرز تصدعات سمحت بعودة أجواء التحشيد الشعبوي إلى الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، واستفادة الاتجاهات اليمينيّة من أجواء «الاستاد» لتمرير شعارات مفعمة بمعان سياسيّة عنصريّة غالباً ضد الآخر المختلف، وأيضاً بعد وباء «كوفيد19» الذي فرض إيقاعات مستجدة على عالم الرياضة؛ ومنها المباريات «الشبح» المفتقدة الروح في ظل غياب الجماهير عن أراضي الملاعب، وكذلك تمكّن جماهير الأندية الأوروبيّة من أخذ زمام المبادرة والتصدي بشكل جماعي فاعل ومؤثر لمؤامرة خلق دوري كرة قدم «أوروبيّ» خاص للأثرياء.
وإذا كانت هذه حال المقاربة النظريّة التي يطرحها غومبريخت، فإن أمتع أجزاء كتابه تقع في مساحة الملاحظة والخبرات الشخصيّة وحكايا الملاعب التي يسوقها لشرح وجهة نظره. هناك وصف مثير لأجواء الحشد في مباريات فاصلة؛ بوروسيا دورتموند ضد ميلان (12 فبراير/ شباط 1958) عندما نجح الفريق الألماني في تحقيق التعادل في الثواني الأخيرة من اللقاء، ومباراة أستراليا ضد نيوزيلندا في مباراة الرغبي بالاستاد الأولمبي في سيدني عام 2000 التي يذكرها المشجعون كأسطورة الآن. إضافة إلى المقدّمة التي تستكشف حشود فرق الجامعات بوصفها ظاهرة فريدة من نوعها في تكوين الثقافة الأميركية.

Crouds:The stadium as a ritual of intensity
«الحشود: الملعب (الاستاد الرياضي) كطقس توحّد»
المؤلف: أولريش غومبريخت
الناشر: مطبعة
جامعة ستانفورد 2021


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.