آبي أحمد... المقاتل صانع السلام

وصفه الصادق المهدي بـ«زارع شجرة الزيتون» و«فخر أفريقيا»

آبي أحمد... المقاتل صانع السلام
TT

آبي أحمد... المقاتل صانع السلام

آبي أحمد... المقاتل صانع السلام

«إن سجلك مثير للإعجاب، ففي وطنك أطلقت سراح آلاف السجناء السياسيين، ورفعت الحظر عن الأحزاب السياسية، وجلبت بذلك آمالاً كبيرة للشعب الإثيوبي... وعلى المستوى الإقليمي، زرعت شجرة من أغصان الزيتون، خاصة السلام مع إريتريا، والوساطة الناجحة في السودان، إن نيلك جائزة السلام مثار فخر لأفريقيا، وسوف يعطي رافعة لإصلاحات ديمقراطية أكبر في إثيوبيا».
هذا مقتطف من رسالة وجهها السياسي السوداني المخضرم، ورئيس الوزراء السوداني الأسبق الصادق المهدي، لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بمناسبة فوزه بـ«جائزة نوبل للسلام»، مهنئا بجهوده الداخلية والخارجية في بسط السلام في القارة الأفريقية، ومطالباً إياه بلعب دور مشابه لحل معضلة «سد النهضة» بسلام.

ما المزايا التي أوصلت أبيي أحمد لقيادة إثيوبيا، وأهّلته بالأمس للفوز بـ«جائزة نوبل للسلام»، ونقلته من منصة «المحارب القديم» إلى منصة «صانع السلام» على المستوى الدولي؟
الذين يعرفون الرجل يشهدون بأنه فرض نفسه بقوة على منصّات التواصل القديمة والحديثة، وشغل العالم بإنجازاته خلال فترة وجيزة بعد تسلمه السلطة في بلاده.
البداية
ولد آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، يوم 15 أغسطس (آب) 1976، لعائلة فقيرة ورقيقة الحال، في منطقة غارو بمدينة جيما في إقليم أورومويا بجنوب غربي البلاد. إذ إن أباه مسلم من قومية الأورومو وأمه مسيحية من قومية الأمهرا.
وكانت حياة أحمد شاقة، إذ عاش في منزل يخلو من مستلزمات الحياة العصرية، كمياه شرب نظيفة وكهرباء. وتقول التقارير إنه كان ينام على حصير حتى كبُر، إلا أن اليافع الإثيوبي الطّموح لم يستسلم، بل واصل الكفاح حتى أصبح رئيسا لوزراء إحدى كبريات دول أفريقيا، وفي خلفية أحلامه تخليص الأجيال الجديدة من الفقر الذي يعده عدو إثيوبيا الأول.
الطموح العلمي
لم تَحُل النشأة الرقيقة دون طموح آبي أحمد العلمي والأكاديمي، ولم تكفِه المناصب العسكرية التي أوكلت له، فواصل جهوده من أجل التعلم، وتأهيل نفسه أكاديمياً. وبالفعل، حصل على درجة البكالوريوس في هندسة الكومبيوتر من كلية «ميكرولينك لتكنولوجيا المعلومات» بأديس أبابا عام 2001، ثم الدبلوم في تطبيقات تشفير المعلومات عام 2005 من جامعة بريتوريا بدولة جنوب أفريقيا. ثم حصل على ماجستير في التغيير والتحوّل من جامعة غرينيتش البريطانية 2011، وماجستير آخر في إدارة الأعمال 2013. وأخيراً، نال درجة الدكتوراه من معهد دراسات السلام والأمن بجامعة أديس أبابا 2017 عن أطروحة بعنوان «النزاعات المحلية في البلاد». ومن ثم، تأهل للعمل رئيسا لمجلس إدارة جامعة جيما، وبنك أروميا للتمويل الأصغر، وشبكة أوروميا للإذاعة.
منذ مرحلة المراهقة كان أحمد مهموماً بالأوضاع في بلاده. وهو ما دفعه للانخراط في الكفاح المسلح ضد ديكتاتور إثيوبيا الشهير منغستو هايلي ماريام. وبالفعل، انتمى لـ«الجبهة الديمقراطية لشعب الأورومو» وقاتل في صفوفها نظام منغستو، الذي اشتهرت قواته باسم «الديرغ»، حتى سقوط حكمه عام 1991، ضمن تحالف «الجبهة الثورية الديمقراطية الإثيوبية».
عام 2010 أصبح أحمد عضوا في اللجنة المركزية للتحالف الذي أسقط نظام «الديرغ» الذي قاده الراحل ملس زيناوي، مؤسّس الدولة الإثيوبية الحديثة وأول رئيس لوزرائها. وضم هذا التحالف المعروف بـ«الجبهة الديمقراطية الشعبية الثورية الإثيوبية» يومذاك، كتل «الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية» و«المنظمة الديمقراطية لشعوب الأورومو» و«جبهة تحرير التيغراي» و«حركة الأمهرا الوطنية الديمقراطية». كذلك، انخرط أحمد في الجهاز الأمني لـ«الجبهة». وبعد سقوط نظام «الديرغ» في1991 التحق رسمياً بالجيش الإثيوبي، وانضم بعدها إلى وحدة الاستخبارات والاتصالات العسكرية وأسهم في تأسيس هذه الوحدة المهمة فيه. ثم تدرّج فيها حتى وصل إلى رتبة عقيد عام 2007.
غادر أحمد الاستخبارات عام 2010، وبدأ عمله السياسي عضواً بحزب الأورومو الديمقراطي، ثم انتخب نائباً في البرلمان الإثيوبي عام 2010، وأعيد انتخابه 2015. وبعد ذلك، عيّن وزيرا للعلوم والتكنولوجيا بالحكومة الفيدرالية بين 2016 إلى 2017. كما كان مسؤولاً عن مكتب التنمية والتخطيط العمراني بإقليم أوروميا، وترقى لنائب رئيس إقليم أوروميا بنهاية 2016.
وفي العام نفسه استقال رئيس الوزراء هيلا مريام ديسالين من منصبه فجأة إثر الاحتجاجات المناهضة لحكومته في إقليم أمهرا، وقمعتها السلطات التابعة له بعنف، ووجد انتقاداً محلياً وإقليمياً واسعاً، اضطر التحالف الحاكم تبعاً له لتعيين آبي أحمد رئيسا للوزراء في 2 أبريل (نيسان) 2018.
اختياره رئيساً للوزراء
قدّم رئيس الوزراء السابق هايلي ماريام ديسالين استقالته من الوزارة ورئاسة الائتلاف الحاكم، وقال إن الهدف من الاستقالة تعزيز الجهود لوضع حلول لمشاكل بلاده، متحملا بشكل غير مباشر المسؤولية عن الاضطرابات التي شهدتها إثيوبيا وراح ضحيتها عدد من القتلى ونزوح آخرين.
وثار مواطنون من الأورومو، الذين يمثلون أكبر قوميات إثيوبيا تعداداً، على خطط لتوسيع العاصمة أديس أبابا باعتبارها على حساب إقليمهم الذي تقع فيه العاصمة، إضافة إلى ما وصفوه بالتلكؤ في إطلاق سراح معتقلين سياسيين ينتمون لقوميتهم. وبالفعل، أغلقوا الطرقات حول أديس أبابا وسدوا الطرقات البرية، وأوقفوا وسائط النقل العام عن العمل، وعندما واجهتهم الأجهزة الأمنية بعنف، سقطت أعداد من المحتجين قتلى.
استمر ديسالين في تأدية مهام منصبه لتسيير الأعمال منذ فبراير (شباط) 2018 حتى تعيين رئيس البرلمان والائتلاف الحاكم آبي أحمد رئيساً بديلاً في أبريل من العام ذاته. ويوم الخميس 29 مارس (آذار) 2018، صادق مجلس نواب الشعب الإثيوبي على تعيينه رئيساً للوزراء بغالبية مطلقة، ليجلس «الأربعيني» الإصلاحي منذ ذلك الوقت في موقع السياسي والتنفيذي الأول في البلاد المكتظة بالسكان والمتعددة القوميات، ويبلغ عدد سكانها نحو 100 مليون نسمة.
مصالحات داخلية
على صعيد ثانٍ، منذ يومه الأول في الحكم، شرع آبي أحمد في عقد مصالحات بينية بين شعوب وقوميات إثيوبيا، زار خلالها أقاليم إثيوبيا المتعددة. وكانت البداية في إقليم «الصومال الإثيوبي»، وأنهى نزاعا بين سكان الإقليم وسكان إقليم «أوروميا» المجاور قتل فيه المئات. ثم انتقل إلى معقل معارضة الأورومو وعمل على تهدئة الشباب الثائر، وبعد ذلك زار مدينة مقلي، حاضرة إقليم التيغراي، وطمأن السكان على حفظ مصالحهم القومية. ثم انتقل إلى مدينة غوندر، حاضرة إقليم الأمهرا، التي شهدت أعمال عنف ضد التيغراي، وأفلح في إطفاء فتيل التوتر المستمر منذ سنوات هناك. وأيضاً، أنهى رئيس الحكومة الشاب في زيارة لمدينة أواسا، العاصمة الإدارية لإقليم «أقوام الجنوب والقوميات والشعوب» أزمة قبلية في الإقليم الذي تقطنه أكثر من 56 قومية من أصل 80 قومية إثيوبية، وأنهت زيارته أعمال العنف المندلعة هناك.
وإثر نجاحه في المصالحات القبلية والسياسية، شرع أحمد في تهدئة الخلافات الدينية، بالتوفيق بين المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ولجنة تحكيم المسلمين بإثيوبيا، وتحقيق المصالحة بين الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية في أديس أبابا، والكنيسية الأرثوذكسية في الولايات المتحدة الأميركية، وعودة بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في إثيوبيا إبونا مركوريوس إلى بلاده، بعد منفى دام 27 سنة.
المحارب... صانع السلام
في يونيو (حزيران) 2018 أعلن آبي أحمد، بعد أن أجرى سلسلة إصلاحات داخلية غير مسبوقة، رغبته في إنهاء النزاع الحدودي المتطاول والمستمر منذ عام 1998 مع جارته إريتريا، مؤكداً استعداد بلاده لتنفيذ اتفاق السلام الموقع بين البلدين في عام 2000، واستعدادها لقبول قرارات لجنة التحكيم الدولية بشأن الحدود المشتركة.
نشبت الحرب بين إثيوبيا وإريتريا في مايو (أيار) 1998، على خلفية نزاع حدودي على بضع مئات من الكيلومترات من الأراضي الصحراوية، بعد أن اتهمت إريتريا «جارتها» الكبرى إثيوبيا بتغيير خط الحدود البالغ طولها نحو ألف كيلومتر، والتي لم تخطط منذ استقلال إريتريا عن الإمبراطورية الإثيوبية تسعينات القرن الماضي، فيما اتهمت إثيوبيا إريتريا بأنها انتهكت أراضيها بغزوها للمنطقة المشهورة بـ«مثلث بادمي»، وبعد أن فشلت المفاوضات بين البلدين شنّت إثيوبيا هجوماً واسعاً اخترقت فيه الخطوط الإريترية.
لكن وساطة جزائرية أفلحت في إنهاء النزاع الدامي بين الطرفين، فوقّعا اتفاق سلام في يناير (كانون الثاني) 2000 بالعاصمة الجزائر، وتوقفت حرب أسفرت عن سقوط نحو ثمانين ألف قتيل. ونص «اتفاق الجزائر» على إقامة «منطقة أمنية» مؤقتة فاصلة بعرض 25 كيلومتراً على طول الحدود، تحت مراقبة من الأمم المتحدة، وقضت لجنة تحكيم دولية بأحقية إريتريا في المناطق المتنازعة، بيد أن إثيوبيا رغم اعترافها بالقرار، لكنها ماطلت في تنفيذ بنوده.
فجأة وفي 8 يوليو (تموز) 2018، عقد رئيس الوزراء الإثيوبي لقاء وصف بأنه تاريخي مع الرئيس الإريتري آسياس أفورقي، وقعا فيه إعلاناً مشتركاً ينهي حالة الحرب. وفور توقيع الإعلان قام أفورقي بزيارة كبيرة إلى إثيوبيا بعد مقاطعة طويلة، أعيد خلالها فتح سفارتي البلدين، وأعقبها استئناف الرحلات الجوية، أعادا في سبتمبر (أيلول) 2018 فتح مركزين حدوديين مغلقين منذ عشرين سنة، بعدما وقعتا اتفاقية سلام برعاية المملكة العربية السعودية.
ولم يكتف آبي أحمد بتطبيع العلاقات بين بلاده وإريتريا، بل سعى لبث روح التعاون وإنهاء الخلافات المعقدة بين «دول القرن الأفريقي»، وشهدت العاصمة الإريترية أسمرا في سبتمبر 2018 قمة ثلاثية بين آبي أحمد وأفورقي والرئيس الصومالي عبد الله فرماجو، بعد قطيعة إريترية صومالية طالت 15 سنة، على خلفية اتهامات لإريتريا بدعم إرهابيي «الشباب الصومالي» المرتبط بتنظيم «القاعدة».
وبالنسبة للسودان، في 17 أغسطس الماضي، مهر آبي أحمد بتوقيعه شاهداً على وثائق الانتقال السودانية وتشمل «الإعلان السياسي، والوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية في السودان»، معلنا نهاية فترة عصيبة في تاريخ السودان. ولفتت دموع مبعوث ووسيط آبي أحمد ومستشاره للسودان السفير محمود درير لحظة التوقيع المبدئي على اتفاقية الشراكة بين العسكر والثوار السودانيين، أنظار العالم وشغلت وسائل الإعلام.
وفي 7 يونيو 2019 زار الزعيم الإثيوبي السودان لحث الأطراف للعودة للتفاوض مجدداً ضمن جهوده للمصالحة في السودان، ليقنع «قوى الحرية والتغيير» و«المجلس العسكري الانتقالي» بالعودة للتفاوض بعد «صدمة فض الاعتصام»، وتكوين هياكل السلطة الانتقالية بشكلها الحالي باعتبارها جزءاً من المبادرة الإثيوبية للتوافق السوداني.
ومع توقيع الوثائق الحاكمة للفترة الانتقالية في السودان، نجح آبي أحمد في منع انزلاق البلد ذي الروابط القومية مع بلاده في الفوضى.
حكومة نصفها من النساء
وفي مجال المنجزات، أيضاً، تعد الوزارة الثانية التي شكلها آبي أحمد في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، هي الأولى من نوعها في التاريخ الإثيوبي، التي «تشغل» النساء نصف حقائبها (10 حقائب وزارية من جملة الوزارات البالغة 20 وزارة للنساء). وقال أحمد في كلمته عن إعلان الحكومة «المرأة ستساعد في محاربة الفساد لأنها أكثر كفاءة، وأقل فساداً من الرجل».
وحقيقة الأمر، لم يكلف أحمد نساءه بـ«الوزارات الهامشية»، أو تلك المتعلقة بالمرأة والطفل كما جرت العادة في دول العالم الثالث، بل سجل في تاريخ إثيوبيا أن السيدة عائشة محمد دونت بصفتها أول وزيرة للدفاع في البلاد، كما عين السيدة موفريات كامي وزيرة للسلام بعدما كانت تشغل منصب رئيسة البرلمان، وتشمل مهمتها الإشراف على الاستخبارات وجهاز الأمن والشرطة، وهو منصب كان حكراً على الرجال في إثيوبيا. ومما قاله أحمد، وهو يقدم وزارته الجديدة عن الحصة غير المسبوقة التي حظيت بها المرأة الإثيوبية، «وزيراتنا سيحطمن المقولة القديمة إن النساء لا يصلحن للقيادة»، وفقا لما نقلته وكالة «أسوشييتد برس» وقتها.
وفيما يبدو أنه اتساق مع رؤية أحمد، انتخب البرلمان الإثيوبي 25 أكتوبر 2018، السيدة سهلي - ورق زودي رئيسة للدولة بغالبية ساحقة، لتتقلد هي الأخرى لأول مرة المنصب الرفيع في تاريخ إثيوبيا الحديث، خليفة للرئيس السابق مولاتو تشيومي الذي تقدم هو الآخر باستقالة مفاجئة.

جائزة نوبل للسلام
وأخيراً، خارج حدود إثيوبيا هذه المرة، جاء التقدير الدولي الأكبر لآبي أحمد في حياته، يوم 11 أكتوبر الحالي.
في ذلك اليوم قرّرت «لجنة جائزة نوبل النرويجية» منح آبي أحمد «جائزة نوبل للسلام» عن عام 2019؛ «تقديراً لجهوده في تحقيق السلام والتعاون الدولي»، لا سيما مبادرته لحل النزاع الحدودي مع «الجارة» إريتريا. ونقلت وكالة الأنباء الألمانية عن أحمد قوله بعد إبلاغه بفوزه بالجائزة الكبيرة ذات المردود الأدبي الضخم: «يغمرني شعور بالامتنان والسعادة... إنها جائزة لأفريقيا ولإثيوبيا».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.