«أد أسترا»، للمخرج الجيد جيمس غراي المعروض حالياً في كل مكان، يجب ألا يؤخذ كمجرد فيلم خيال علمي يتعامل والفضاء. إنه خيالي - علمي - فضائي مع فكر نيّر ورسالة بارعة وإخراج متين. ليس الفيلم الذي يستهوي جمهور «ستار وورز» وسواه وليس الفيلم الذي يكتفي بتصوير معارك فضائية تهيمن على الفيلم وأسبابه وأهدافه.
كذلك هو ليس فيلماً عن وحوش الفضاء التي تهبط الأرض أو تهاجم المركبات الفضائية التي تجرؤ على غزو الكواكب الأخرى والمجرّات. إنه، رغم ما سبق، مغامرة مثيرة لكنها تنتمي إلى أفلام من نوع «بين النجوم» (Interstelar) و«جاذبية» (Gravity) أكثر منه «غريب» (Alien) أو «ستار ترك». هذا مع لمسة من فيلم ستانلي كوبريك «2001: أوديسا الفضاء».
قلب الظلام
تأتي هذه اللمسة في موقعين. أولهما ذلك الجو الغامض لرحلة بعيدة في الفضاء يُطرح فيها المستقبل على غير ما يطرح عادة في الأفلام الأخرى. هنا، كما في فيلم ستانلي كوبريك، المستقبل هو امتداد للحاضر وليس وضعاً مستقبلياً منفصلاً عنه.
الموقع الثاني هو ذلك المشهد الذي ظهر في «أوديسا الفضاء» وشوهد في «جاذبية» لألفونسو كوارون (كما في بضعة أفلام أخرى) لشخص يستودع نفسه في الفضاء الخارجي، حيث لا نهاية. يقطع حبل النجاة مع المركبة والأمان الذي تمثله ويترك نفسه يهيم في ظلمة الفضاء كما لو أنه جسد ضئيل ودخيل على فضاء شاسع حيث سيبقى فيه إلى الأبد. هل يمكن للأجواء الخارجية الحفاظ على مكوّنات الميّت فلا يندثر جسمه بل يبقى هائماً إلى الأبد؟
يأتي هذا المشهد المفعم بالتأملات قرب نهاية الفيلم عندما ينجح روي ماكبرايد (براد بت) في إقناع والده بالخروج من قمرته التي حبس فيها نفسه لنحو ثلاثين سنة (بحساب الأرض) للعودة معه إلى الأرض. لكن الأب (تومي لي جونز) لا يستطيع أن يرى نفسه وقد عاد إلى حيث عاش قبل ذلك. يقطع «الكابلات» التي توصله بابنه ويودعه. هذه المرّة لن يكون موت الأب إشاعة كما في مطلع الفيلم بل أصبح واقعاً يحدث أمام عيني الابن الدامعتين.
كما أن هناك موقعين نرى فيهما رائد فضاء ينتهي إلى مجرد نطفة تطفو في الظلام، هناك موقعان آخران نجد بطل الفيلم روي وهو يسقط من علو شاهق. الأول مع بداية الفيلم والثاني هي في الفيلم كله.
تلك الأولى فعلية. الرحلة التي كان يقوم بها تتعرض لاضطراب كان يمكن أن تتحطم فيها المركبة ومن عليها (إذ يعمل قائداً لمركبة تجارية) لولا أنه ينجح في السيطرة عليها وإنقاذ نفسه والركاب. الثانية لا يوجد هناك من ينقذه لأنها سقطة معنوية وليست فعلية. سقطة رجل أدّى به البحث إلى متاهة ولم يبق أمامه سوى الهبوط فيها.
وهذه السقطة هي نتيجة مهمّة بحث طُلبت منه. والده، يقول له قادة عسكريون وعلماء، ما زال حيّاً على عكس ما كان يعتقد. هناك إشارات صادرة من موقعه قرب كوكب نبتون تؤكد إلى ذلك. مهمته أن ينفذ إلى هناك ويتأكد.
روي لا يعتقد أن والده حي يرزق، لكنه سوف يكتشف ذلك لاحقاً وبعد رحلة نجد مثيلاً لها في «الرؤيا الآن» (Apocalypse Now) تحفة فرنسيس فورد كوبولا. هنا نجد أصداء أخرى مع ذلك الفيلم ومع المصدر الروائي الذي تم لكوبولا استلهامه والمكوّن من رواية جوزيف كونراد الضخمة «قلب الظلام».
كل من فيلم كوبولا وفيلم جيمس غراي عن رحلة تبعاً لمهمّة يحيط بها قدر كبير من الغموض. في فيلم كوبولا (1979) تتم الرحلة عبر قارب في نهر داكن. القارب يتوقف عند محطات عدة قبل وصوله إلى نهاية رحلته. تلك المحطات هي نوافذ الرحلة على وقائع مصاحبة. وكوبولا يقدمها، تشكيلياً، كما لو أنها لا تنتمي مطلقاً إلى عالمنا الحاضر (آنذاك) ولو أنها تنتمي بالفعل.
كل من الفيلمين يحتويان على تعليق صوتي (فويس أوفر) لبطلي الفيلم. تعليق يشرح دواخل نفس متعبة وصدى بحث في المتاهة الوجودية التي اسمها الحياة. بذلك الرحلة بقدر ما تجوب مساحات جغرافية (أرضية وفضائية) واسعة، هي رحلة داخل الذات.
أكثر من ذلك، إلقاء براد بت في تلك التعليقات الصوتية يشابه إلقاء مارتن شين في ذلك الفيلم الذي يرفض أن يغيب عن البال كما شبيه بنبرة التعليق الصوتي في فيلم ترنس مالك «شجرة الحياة» الذي لعب بطولته براد بت لجانب شون بن وجسيكا شستين.
براد بت مكشوفاً
محطات فيلم جيمس غراي في «أد أسترا» هي بدورها نوافذ على خطوط موازية لكنها ليست بالحجم ذاته والنوع نفسه. هنا يمزج المخرج المسائل الوجدانية والعقلية مع ضرورة لمشاهد مثيرة للدهشة (وأحياناً للرعب) لا بد منها. قراصنة فوق سطح المريخ وقرد تجارب ينقلب إلى التوحش وموت لأكثر من فرد يحاول روي استيعابه بمفرداته المحدودة من التعبير.
إذ إن الكثير من الأفكار الواردة تتعامل مع أفكار روي صوتاً، فإن الناحية البصرية عليها أن تكون رفيقاً مسانداً. في هذا الأمر نجد براد بت تحت الخوذة يمثل مواقف صعبة بتعابير عينيه وبمساعدة تلك المواقف التي يلج فيها مرحلة غامضة بعد مرحلة غامضة مرّت عليه. يبدو عليه التعب من الجهد الذي يبذله ملاحظاً ومفكراً. لكن صوته لا يخيب. ينضح بالأسئلة من دون علامات استفهام. أفكار وجودية الطابع ليس فقط كتلك التي طرحها مارتن شين في «القيامة الآن»، بل كتلك التي طرحها فيلم «شجرة الحياة» لترنس مالك أيضاً.
يقدم المخرج براد بت عارياً من خلفيته المعهودة. قبل أشهر شاهدناه في فيلم كونتِن تارنتينو أقرب إلى صورته المعمول بها: وسيم، لطيف، محنك، يفهم لغة الشارع ويجيد القتال. هنا هو في شخصية أعمق. شخصية رجل ليس لديه أي متكأ يستند إليه ولا أي ملجأ يحميه. رجل في مواجهة نموذجية مع متاهات حياته.
في كل هذه الأفلام المذكورة أعلاه هناك رحلات وأبحاث ومحاولات فهم لما يحدث على الأرض. هذه هي إحدى أهم قيم هذا الفيلم الضمنية. جيمس غراي يفضل أن يفكر في الحاضر ويطبقه على المستقبل عوض أن يبتكر مستقبلاً منفصلاً. صحيح أن هذا الفيلم يتحدث عن سنوات ليست بعيدة مقبلة لكن سواه وظّف ذلك لابتكار رؤاه (بمساعدة التقنيات المتوفرة)، بينما تعامل غراي (ومن قبله كوارون وكوبريك في فيلميهما الفضائيين) مع الحاضر مطبوعاً على نسخة من المستقبل.
ما يثير للاهتمام في عمقه سياسي: هل هناك مستقبل للأرض؟ ما معنى هذا البحث في التاريخ لثلاثين سنة مضت؟ ولماذا يتبدى البحث كمعاناة وليس كانتصار علمي؟ لمَ هذا المشاق؟ والأهم لماذا يفضل الأب الموت في الفضاء على العودة إلى الأرض؟
إنه فيلم روحاني ووجداني. رحلة في فضاء شاسع وأخرى في نفس محبوسة داخل صدر الباحث. عن وحدة هذا الرجل التي تزداد مع كل سنة ضوئية يخوضها في قلب ذلك الظلام الشاسع.