نوستالجيا تعض الذاكرة

أهمية السينما لا تقتصر على الإمتاع والمؤانسة، ولا تتوقف عند خلق عالم افتراضي، موازٍ للعالم الأرضي الواقعي، قادر على أن يسرقنا لحظات من أوحال واقعنا وإشكالاته، بل أيضاً، في قدرتها على تسجيل وتوثيق الواقع الإنساني وأحداثه في كل العالم، بتفكيكها وبإعادة تركيبها بتفسيرات جديدة، وتقديمها في رؤية فنية، متماسكة منطقياً، ومقنعة عقلياً، وممتعة جمالياً، تجعل المشاهدين يعيدون التفكير في العديد من المسائل والقضايا، من زوايا جديدة.
عشاق الفن السابع (السينما) عموماً، ومحبو المخرج الأميركي كوينتن تارنتينو خصوصاً، كانوا على موعد هذا الشهر مع إطلاق شريطه الأخير «كان ياما كان في هوليوود»، الذي حشد فيه نخبة هائلة من نجوم السينما العالميين. تارنتينو، سبق له أن صرح بأنه لا ينوي إخراج أكثر من عشرة أفلام. والشريط الأخير، هو التاسع، أي ما قبل العاشر – النهائي. ساعتان وخمس وأربعون دقيقة من الحنين النوستالجي مكرّسة من تارنتينو كرسالة حب إلى هوليوود، مدينته التي نشأ فيها، وإلى الشخصيات التي عرفها وعاصرها في ذلك المكان والزمان، وأيضاً إلى عقد الستينات من القرن الماضي، وتحديداً، تجسداته كما ظهرت في تفاصيل عالم تلك المدينة المسماة هوليوود، مركز الإنتاج السينمائي العالمي وقِبلته، وحيث يتجاور الواقع والخيال، ويتداخلان في حوارات لا تنتهي، على مقربة من تاريخ تزاحمت صفحاته بأسماء نجوم ومشاهير، وموهوبين، وصعاليك، ومدمنين، ومحبطين، وممثلين فاشلين، ومجرمين وقتلة.
السؤال الذي انبثق في ذهني، عقب مشاهدة الفيلم، لماذا الستينات، تحديداً؟ وهل في ذلك العقد الزماني، حقاً، ما يثير شهية الحنين النوستالجي فينا، نحن المتفرجين، كما أثاره في المخرج تارنتينو؟!
الذين عاشوا، تلك الفترة الزمنية، ليس في بلاد الغرب الأوروبي فقط، بل حتى في بلدان ما يسمى العالم الثالث، ربما ما زالوا يتذكرون تفاصيل موجاته التي غمرت مياهها ما كان سائداً قبلها، على المستويات كافة، من وقائع كوارث حرب فيتنام، الموحلة بالدم والخراب، إلى مظاهرات الطلاب في مدن أوروبا، خصوصاً في فرنسا، مروراً بوصول أول إنسان إلى سطح القمر، وانتشار موسيقى الروك آند رول، وموسيقى آلان ديلون، ثم صعود نجم فرقة الخنافس في سماء الكون، وموضة شعر الخنافس، وبناطيل تشارلستون، وظهور الحركة الهيبية وانتشار تعاطي الماريغوانا، وما ساد الحركة الأدبية من موجات جديدة في الرؤى والأساليب، وما ظهر على خشبات المسارح العالمية من عروض، ثم التحرر الذي عرفته العلاقات الإنسانية... إلخ. لكن مقابل ذلك، انتهى ذلك العقد بوجود الرئيس ريتشارد نيكسون متربعاً على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، والرئيس جورج بومبيدو يجول في أروقة قصر الإليزيه بباريس، وهارولد ويلسون زعيم حزب العمال يدخّن غليونه في 10 داوننغ ستريت. ثلاثة عواجيز يقودون العالم الغربي. الصين، وقتذاك، أكبر دولة في العالم سكانياً، ما زالت، كصدفة، منغلقة على نفسها، تقرأ وتعيد كتاب ماو الأحمر، وكان جدار برلين يقسم ألمانيا إلى اثنتين، شرقية وغربية، ولم يجد الطلاب جدوى من استمرارهم في المظاهرات فعادوا إلى مدرجات صالات المحاضرات في جامعاتهم، وصار العالم كأنه قد ملّ من الستينات، وفي حاجة ماسّة إلى الخروج منها، ومعانقة العقد الآخر، الواقف، لدى الباب، في انتظار أول سانحة للدخول، وفرض حضوره.
«كان ياما كان في هوليوود»، لم يحمل في تفاصيله ما يشير إلى تلك الأحداث، بل، حسب وجهة نظري، كان موجهاً إلى تسليط الضوء على ما سيحدث من جريمة مروعة كانت تتجمع خيوطها، في مكان ليس بعيداً، عن مقر إقامة الممثلة شارون تيت وزوجها المخرج رومان بولانسكي، على يد هيبيين يقيمون في مزرعة، كانت تُستخدم استديو لتصوير أفلام رعاة البقر، ثم تعرضت للهجران، وصارت ملجأ لهم، بقيادة زعيمهم تشارلز مانسون. بعد أشهر قليلة، ترتكب تلك المجموعة واحدة من أشد الجرائم بقتلها الممثلة شارون تيت وهي حامل، ومَن كان بصحبتها. أضف إلى ذلك، أن الشريط لم ينتهِ قبل أن يضع عليه تارنتينو علامته المميزة، خلال المشاهد الأخيرة من الشريط، وما احتوته من وحشية عنف دموي.
البعض رأى أن النوستالجيا إلى تلك الحقبة الزمنية لا تضيف شيئاً، وليست أكثر من رؤية رجعية، خصوصاً في تناول تعامله مع الإثنيات والمرأة. البعض الآخر لم يرَ في الشريط بناءً درامياً متماسكاً قائماً على بناء قصصي معقد، بل اكتفى بتقديم للعلامات البارزة في ذلك العقد وموسيقاه.
لكني من خلال متابعتي، لم أقرأ أو أشاهد تعليقاً للمخرج تارنتينو على تلك الانتقادات. لكنه، بالتأكيد، صفّى حسابه الفني والوجداني مع تلك الحقبة الزمنية، موثقاً عبر شريط سينمائي ممتع، ليس من السهل نسيان تفاصيله، وعذوبته. وليس أمام محبي فنه وأفلامه سوى الانتظار، على أمل مشاهدة شريطه العاشر، والنهائي.