رحيل جون سينغلتون منتقد عنف أحياء «الغيتو»

أفلامه الأولى أقرب إلى شخصيته

آيس كيوب (يساراً) وكوبا غودينغ (في الوسط) في «أولاد الجيرة» - (في الإطار) المخرج جون سينغلتون
آيس كيوب (يساراً) وكوبا غودينغ (في الوسط) في «أولاد الجيرة» - (في الإطار) المخرج جون سينغلتون
TT

رحيل جون سينغلتون منتقد عنف أحياء «الغيتو»

آيس كيوب (يساراً) وكوبا غودينغ (في الوسط) في «أولاد الجيرة» - (في الإطار) المخرج جون سينغلتون
آيس كيوب (يساراً) وكوبا غودينغ (في الوسط) في «أولاد الجيرة» - (في الإطار) المخرج جون سينغلتون

عندما شاهد جون سينغلتون، المخرج الذي رحل الأسبوع الماضي عن 51 سنة فيلم سبايك لي «She‪’‬s Gotta Have it» (أول أفلام سبايك لي، 1986) كان يبلغ الثانية والعشرين من العمر. ذلك الفيلم دفعه دفعاً لأن يصبح مخرجاً. وبعد عام واحد أتمّ بالفعل تحقيق أول فيلم له وهو «Boyz N the Hood - أولاد الجيرة» هو عنوان الحياة في «ساوث سنترال» الحي الشهير في لوس أنجليس حيث يتحوّل الحي إلى سجن مغلق على من فيه وقلعة لا يمكن اقتحامها ممّن هم خارجها.
حي يسكنه، في النسبة الغالبة، أفرو - أميركيون ومشكلاتهم الناتجة عن الفقر والمحاولات البائسة للتغلب عليه عبر الجريمة والاتجار بالممنوعات. الحياة في هذا الحي، حسب الفيلم، تبدو ممنوعة في حد ذاتها. يكتنز الفيلم الكثير من مشاهد العنف لكي يؤكد ذلك، لكنه ليس العنف الذي ينجزه المخرج لأجل رفع رصيد فيلمه بين المشاهدين بل لعكس الواقع الذي يعرضه. سيناريو سينغلتون كُتب عن معرفة موزعاً فيه شخصيات تدرك واقعها وتحاول صد الإغراءات السهلة بالتحوّل من حياديين حيناً وواعظين حيناً إلى مشاركين في الجريمة معظم الأحيان.
وهناك الكثير من الأزمات تحت سقف الواقع الاجتماعي الذي يعاني منه أبناء الحي. في أكثر من مشهد تساؤلات حول دكاكين بيع المشروبات الكحولية المنتشرة «عند كل زاوية شارع» وحول العنف المستشري بين أوساط سكانه، ولماذا ينتشر السلاح غير القانوني وينتشر معه القتل حيث يفتك السود بالسود ويصير لزاماً على شاب مثل بطل الفيلم كوبا غودينغ جونيور أن يبرهن على أنه بات رجلاً بالفعل عبر ارتكاب جريمة قتل؟
في هذا الفيلم الأول له عرف أهمية اختيار الممثلين المناسبين والجيدين أيضاً: إلى جانب غودينغ جونيور في شخص الشاب الضائع، هناك لورنس فيشبورن في دور أبيه، وأنجيلا باسيت في دور الأم، ودور رائع للممثل (الذي لم يلقَ حظاً يناسب قيمته في رأي هذا الناقد) آيس كيوب في دور الصديق الذي يعرف حقيقة ما يدور في «الغيتو».

- أربعة أفلام مميزة
كان ذلك الفيلم برهان بدوره عن مولد مخرج جيد يواكب في أعماله النقد الاجتماعي والسياسي ذاته الذي أولاه سبايك لي في أفلامه الأولى (على الأخص) مثل «حمى الغابة» و«افعل الشيء الصحيح - Do the Right Thing». وبعده حافظ سينغلتون على هذا المنوال من العلاقة الإنسانية الحميمة مع واقع يائس ينبع مع جذور الحياة في الأحياء الفقيرة حيث تصبح الجريمة ومسبباتها درباً لحياة قصيرة الأجل. ما تغير في فيلمه الثاني «عدالة شعرية» هو تركيز الفيلم على الردود المتاحة على ذلك الوضع من خلال معالجة المرء لمشكلاته بإدراك وبمشاعر إنسانية.
بعده (سنة 1995) أنجز فيلمه الثالث «تعليم أعلى» وفيه جال مجدداً في صفحات الموضوع الاجتماعي. هذه المرّة انتقل بموضوعه إلى الكليات وبذلك دخل في نطاق العلاقات البيضاء - السوداء. وزّع شخصياته لتكون نماذج من كل لون وتوجُّه، وأدان رجال البوليس لمعاملتهم القاسية حيال السود والمحتملة حيال البيض، وأدان كذلك النظرة الفوقية للبيض على أساس أنهم أصحاب «اللون الأرقى».
لكن لا «عدالة شعرية» ولا «تعليم أعلى» حققا من النجاح، النقدي والجماهيري، ما حققه فيلمه الأول. من ناحيته، وجد العديد من النقاد أنفسهم أمام فيلمين يحتويان على رسائل ومضامين وعظية مباشرة وفي مواجهة عناصر جذب فنية سادت الفيلم الأول بواقعيته وبكيفية معالجته للموضوع بمقاربة إنسانية. جماهيرياً، كان هناك شبه بين هذين الفيلمين وأعمال أخرى سبقتهما ولم يتبدَّ أحدهما كفيلم لا بد من مشاهدته.
في فيلمه الرابع «روزوود» ارتأي سينغلتون العودة إلى سنة 1923 نابشاً حكاية حقيقية وقعت في تلك البلدة الجنوبية عندما ثار السود على البيض بعدما تم اتهام رجل أسود باغتصاب امرأة بيضاء وتم شنقه رغم براءته. هنا خدم الفيلم منوال صاحبه في التعرض للعلاقات الاجتماعية العنصرية لكن في إطار فيلم لا يخلو من العناصر التقليدية للفيلم الهوليوودي. على ذلك، هو فيلم جيد وصادق في دعواه كما هي عادة المخرج في معالجاته.
للأسف، أفلام جون سينغلتون اللاحقة (ستة) لم تكن بالمستوى ذاته الذي تلتقي عنده أفلامه الأربعة الأولى. وهو صرّح قبل سنوات قائلاً: «أنا أعرف ذلك لكن تقييمي لكل أفلامي لا بد أنه يختلف أحياناً عن تقديم الجمهور لها. البعض يري أن أفلامي اللاحقة أفضل من السابقة وهذا شأنه».
هذه المرحلة الجديدة بدأت بفيلم «شافت» (2000) الذي كان إعادة صنع لفيلم أفضل أنجزه (الأفرو - أميركي أيضاً) غوردون باركس سنة 1971 بفاعلية أفضل... «بايبي بوي» (2001) عاد فيه إلى الأحياء الصعبة بتأثير أقل (ولو بقدرة واقعية غير منهزمة) لكنه اختار الإسهام في سلسلة «سريع وهائج - Fast and Furious» ذات الوله التجاري البحت. صحيح أن النتيجة الإجمالية لم تكن برداءة أفلام أخرى من السلسلة لكنها لم تكن مواكبة لما بدأه من اهتمامات.
سينغلتون عاد بعده إلى حكايات الحارة السوداء في «أربعة أشقاء» (2005) مطعّماً حكايته هذه المرّة بمزيج من التعاون بين الفرقاء البيض والسود. لا بأس به كفيلم مستقل عن أعماله الأولى كذلك حال فيلمه الأخير «احتجاز»: بوليسي حول شاب أبيض (تايلور لوتنر) يجد نفسه عُرضة للقتل عندما يبدأ بالبحث عن تاريخ حياته.
ورد هذا الفيلم سنة 2011 وبقي عمل سينغلتون الأخير إلى حين وفاته في التاسع والعشرين من أبريل (نيسان) هذا العام.


مقالات ذات صلة

الفساد والابتزاز في «صيفي»... تحديات تقديم القضايا الحساسة على الشاشة

يوميات الشرق «صيفي» فيلم سعودي مرشح لجائزة مسابقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي للأفلام الطويلة

الفساد والابتزاز في «صيفي»... تحديات تقديم القضايا الحساسة على الشاشة

تعود أحداث فيلم «صيفي» الذي عُرض ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الرابعة، إلى فترة أواخر التسعينات.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق المخرج محمد سامي في جلسة حوارية خلال خامس أيام «البحر الأحمر» (غيتي)

محمد سامي: السينما تحتاج إلى إبهار بصري يُنافس التلفزيون

تعلَّم محمد سامي من الأخطاء وعمل بوعي على تطوير جميع عناصر الإنتاج، من الصورة إلى الكتابة، ما أسهم في تقديم تجربة درامية تلفزيونية قريبة من الشكل السينمائي.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين رئيس في مشهد من فيلم «الفستان الأبيض» (الشركة المنتجة)

لماذا لا تصمد «أفلام المهرجانات» المصرية في دور العرض؟

رغم تباين ردود الفعل النقدية حول عدد من الأفلام التي تشارك في المهرجانات السينمائية، التي تُعلي الجانب الفني على التجاري، فإن غالبيتها لا تصمد في دور العرض.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق الفنانة الأردنية ركين سعد (الشرق الأوسط)

الفنانة الأردنية ركين سعد: السينما السعودية تكشف عن مواهب واعدة

أكدت الفنانة الأردنية ركين سعد أن سيناريو فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو»، الذي عُرض بمهرجان البحر الأحمر السينمائي، استحوذ عليها بمجرد قراءته.

انتصار دردير (جدة )
يوميات الشرق إيني إيدو ترى أنّ السينما توحّد الشعوب (البحر الأحمر)

نجمة «نوليوود» إيني إيدو لـ«الشرق الأوسط»: السينما توحّدنا وفخورة بالانفتاح السعودي

إيني إيدو التي تستعدّ حالياً لتصوير فيلمها الجديد مع طاقم نيجيري بالكامل، تبدو متفائلة حيال مستقبل السينما في بلادها، وهي صناعة تكاد تبلغ الأعوام الـ40.

إيمان الخطاف (جدة)

هوليوود ترغب في صحافيين أقل بالمهرجانات

جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)
جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)
TT

هوليوود ترغب في صحافيين أقل بالمهرجانات

جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)
جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)

عاش نقادُ وصحافيو السينما المنتمون «لجمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» (كنت من بينهم لقرابة 20 سنة) نعمة دامت لأكثر من 40 عاماً، منذ تأسيسها تحديداً في السنوات الممتدة من التسعينات وحتى بُعيد منتصف العشرية الثانية من العقد الحالي؛ خلال هذه الفترة تمتع المنتمون إليها بمزايا لم تتوفّر لأي جمعية أو مؤسسة صحافية أخرى.

لقاءات صحافية مع الممثلين والمنتجين والمخرجين طوال العام (بمعدل 3-4 مقابلات في الأسبوع).

هذه المقابلات كانت تتم بسهولة يُحسد عليها الأعضاء: شركات التوزيع والإنتاج تدعو المنتسبين إلى القيام بها. ما على الأعضاء الراغبين سوى الموافقة وتسجيل حضورهم إلكترونياً.

هذا إلى جانب دعوات لحضور تصوير الأفلام الكبيرة التي كانت متاحة أيضاً، كذلك حضور الجمعية الحفلات في أفضل وأغلى الفنادق، وحضور عروض الأفلام التي بدورها كانت توازي عدد اللقاءات.

عبر خطّة وُضعت ونُفّذت بنجاح، أُغلقت هذه الفوائد الجمّة وحُوّلت الجائزة السنوية التي كانت الجمعية تمنحها باسم «غولدن غلوبز» لمؤسسة تجارية لها مصالح مختلفة. اليوم لا تمثّل «جمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» إلّا قدراً محدوداً من نشاطاتها السابقة بعدما فُكّكت وخلعت أضراسها.

نيكول كيدمان في لقطة من «بايبي غيرل» (24A)

مفاجأة هوليوودية

ما حدث للجمعية يبدو اليوم تمهيداً لقطع العلاقة الفعلية بين السينمائيين والإعلام على نحو شائع. بعضنا نجا من حالة اللامبالاة لتوفير المقابلات بسبب معرفة سابقة ووطيدة مع المؤسسات الإعلامية المكلّفة بإدارة هذه المقابلات، لكن معظم الآخرين باتوا يشهدون تقليداً جديداً انطلق من مهرجان «ڤينيسيا» العام الحالي وامتد ليشمل مهرجانات أخرى.

فخلال إقامة مهرجان «ڤينيسيا» في الشهر التاسع من العام الحالي، فُوجئ عدد كبير من الصحافيين برفض مَنحِهم المقابلات التي اعتادوا القيام بها في رحاب هذه المناسبة. أُبلغوا باللجوء إلى المؤتمرات الصحافية الرّسمية علماً بأن هذه لا تمنح الصحافيين أي ميزة شخصية ولا تمنح الصحافي ميزة مهنية ما. هذا ما ترك الصحافيين في حالة غضب وإحباط.

تبلور هذا الموقف عندما حضرت أنجلينا جولي المهرجان الإيطالي تبعاً لعرض أحد فيلمين جديدين لها العام الحالي، هو «ماريا» والآخر هو («Without Blood» الذي أخرجته وأنتجته وشهد عرضه الأول في مهرجان «تورونتو» هذه السنة). غالبية طلبات الصحافة لمقابلاتها رُفضت بالمطلق ومن دون الكشف عن سبب حقيقي واحد (قيل لبعضهم إن الممثلة ممتنعة لكن لاحقاً تبيّن أن ذلك ليس صحيحاً).

دانيال غريغ في «كوير» (24A)

الأمر نفسه حدث مع دانيال كريغ الذي طار من مهرجان لآخر هذا العام دعماً لفيلمه الجديد «Queer». بدءاً بـ«ڤينيسيا»، حيث أقيم العرض العالمي الأول لهذا الفيلم. وجد الراغبون في مقابلة كريغ الباب موصداً أمامهم من دون سبب مقبول. كما تكرر الوضع نفسه عند عرض فيلم «Babygirl» من بطولة نيكول كيدمان حيث اضطر معظم الصحافيين للاكتفاء بنقل ما صرّحت به في الندوة التي أقيمت لها.

لكن الحقيقة في هذه المسألة هي أن شركات الإنتاج والتوزيع هي التي طلبت من مندوبيها المسؤولين عن تنظيم العلاقة مع الإعلاميين ورفض منح غالبية الصحافيين أي مقابلات مع نجوم أفلامهم في موقف غير واضح بعد، ولو أن مسألة تحديد النفقات قد تكون أحد الأسباب.

نتيجة ذلك وجّه نحو 50 صحافياً رسالة احتجاج لمدير مهرجان «ڤينيسيا» ألبرتو باربيرا الذي أصدر بياناً قال فيه إنه على اتصال مع شركات هوليوود لحلّ هذه الأزمة. وكذلك كانت ردّة فعل عدد آخر من مديري المهرجانات الأوروبية الذين يَرون أن حصول الصحافيين على المقابلات حقٌ مكتسب وضروري للمهرجان نفسه.

لا تمثّل «جمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» إلّا قدراً محدوداً من نشاطاتها السابقة

امتعاض

ما بدأ في «ڤينيسيا» تكرّر، بعد نحو شهر، في مهرجان «سان سيباستيان» عندما حضر الممثل جوني دَب المهرجان الإسباني لترويج فيلمه الجديد (Modi‪:‬ Three Days on the Wings of Madness) «مودي: ثلاثة أيام على جناح الجنون»، حيث حُدّد عدد الصحافيين الذين يستطيعون إجراء مقابلات منفردة، كما قُلّصت مدّة المقابلة بحدود 10 دقائق كحد أقصى هي بالكاد تكفي للخروج بحديث يستحق النشر.

نتيجة القرار هذه دفعت عدداً من الصحافيين للخروج من قاعة المؤتمرات الصحافية حال دخول جوني دَب في رسالة واضحة للشركة المنتجة. بعض الأنباء التي وردت من هناك أن الممثل تساءل ممتعضاً عن السبب في وقت هو في حاجة ماسة لترويج فيلمه الذي أخرجه.

مديرو المهرجانات يَنفون مسؤولياتهم عن هذا الوضع ويتواصلون حالياً مع هوليوود لحل المسألة. الاختبار المقبل هو مهرجان «برلين» الذي سيُقام في الشهر الثاني من 2025.

المديرة الجديدة للمهرجان، تريشيا تاتل تؤيد الصحافيين في موقفهم. تقول في اتصال مع مجلة «سكرين» البريطانية: «الصحافيون مهمّون جداً لمهرجان برلين. هم عادة شغوفو سينما يغطون عدداً كبيراً من الأفلام».

يحدث كل ذلك في وقت تعرّضت فيه الصحافة الورقية شرقاً وغرباً، التي كانت المساحة المفضّلة للنشاطات الثقافية كافة، إلى حالة غريبة مفادها كثرة المواقع الإلكترونية وقلّة عدد تلك ذات الاهتمامات الثقافية ومن يعمل على تغطيتها. في السابق، على سبيل المثال، كان الصحافيون السّاعون لإجراء المقابلات أقل عدداً من صحافيي المواقع السريعة الحاليين الذين يجرون وراء المقابلات نفسها في مواقع أغلبها ليس ذا قيمة.

الحل المناسب، كما يرى بعض مسؤولي هوليوود اليوم، هو في تحديد عدد الصحافيين المشتركين في المهرجانات. أمر لن ترضى به تلك المهرجانات لاعتمادها عليهم لترويج نشاطاتها المختلفة.