تمّ إنشاء «مشروع هاواي للاستكشاف الفضائي التناظري والمحاكاة» (HI - SEAS) في قبة بيضاء صغيرة على طول منحدر بركان كبير يعرف بـ«مونا لوا». وقد اعتادت هذه المنشأة أثناء عملها إيواء 6 أشخاص في وقت واحد وعلى مدار عام كامل. وكان هؤلاء يتناولون الوجبات المثلّجة والمجففة، ويستحمون خلال 30 ثانية فقط لضمان عدم هدر المياه، ويرتدون بِزّات فضائية في كلّ مرة يغادرون فيها القبّة.
ولاستنساخ ومحاكاة فجوة الاتصالات بين كوكبي الأرض والمريخ، كانوا ينتظرون 20 دقيقة لوصول رسائلهم الإلكترونية إلى أفراد عائلاتهم، و20 دقيقة أخرى لتلقي الإجابة. وأحياناً، عندما يغرقون في النوم، ويطغى الصمت على آذانهم، كانوا يصدّقون فعلاً أنّهم على المريخ.
ولكن في فبراير (شباط) من العام الماضي، اضطربت الأمور. فقد كانت البعثة السادسة والأخيرة في يومها الرابع فقط عندما تمّ نقل أحد أفرادها على حمّالة إلى المستشفى. وكشفت التحقيقات التي خرجت إلى النور في يونيو (حزيران)، عن حدوث انقطاع للطاقة في المنشأة أدّى إلى بعض المشكلات التي انتهت بتعرّض أحد النزلاء لصعقة كهربائية، تمّ نتيجتها إخلاء سائر أفراد الطاقم.
في ذلك الوقت، دارت نقاشات حول إعادة الشخص المصاب الذي عولج وأخرج من المستشفى في اليوم نفسه إلى القبّة، إلا إنّ مشاركاً آخر من الطاقم شعر بأن الظروف ليست آمنة للاستمرار وقرر الانسحاب. لهذا السبب، ولأنّ بعثة محاكاة المريخ لا يمكن أن تستمرّ بطاقم يقلّ عدد أفراده عن 3، تمّ تعليق البرنامج بكامله.
ولكنّ المنشأة الواقعة على منحدر بركان «مونا لوا» لم تُترك؛ ففي الوقت الذي كان فيه مسؤولون من جامعة هاواي و«ناسا» يحققون في الحادثة، كان رائد الأعمال الهولندي الذي بنى القبّة يفكّر في كيفية استخدامها.
وقد شهد شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي اختباراً لأوّل محاكاة على سطح القمر. أمّا المحاكاة الحقيقية، فستستغرق بضعة أسابيع. ويعتزم هانك روجرز، رجل الأعمال الهولندي، اجتذاب مقترحات للبحوث من علماء في جميع أنحاء العالم.
ولكنّ التعديل لا يعني أن المحاكاة المريخية انتهت؛ إذ تؤكد كيم بينستد، من جامعة هاواي ومسؤولة التحقيق في مشروع «HI - SEAS» على تنظيم بعثة سابعة يوماً ما.
يذكر أنّ بينستد هي من تحدثت أولاً في موضوع بناء هذه القبة مع روجرز على البركان.
- محاكاة قمرية
بعد الحادثة، راجعت «ناسا» منحة بينستد. تخضع برامج البحث البشري للمراجعات كلّ عام، ولكنّ هذا المشروع تحديداً كان «ضخماً»، لذا تطلّب طرح أسئلة أكثر.
في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حصلت بينستد على تصريح رسمي لاستكمال بحثها، حتى إنّها حصلت على تمويل، دون أن تصدر «ناسا» بحقها أي لوم أو إجراءات عقابية. ولكنّ الوقت داهم برنامج «HI - SEAS»، لأن أي محاكاة كان يجب أن تحدث قبل حلول هذا العام. وهي تتوقع أن يكون فريقها قادراً على البدء ببعثة أخرى مدتها 8 أشهر، ليقوم بتحليل للبيانات بعدها. ولن تحصل على نتائج قبل نحو السنتين.
ولكن المحاكاة القمرية البديلة لن تكون مختلفة كثيراً عن المحاكاة المريخية، لأنّ أفراد الطاقم سيكونون مضطرين خلالها للالتزام بالمنشأة بمختلف نظمها، كالطاقة والمياه والطعام والحمام الخاص. كما أنّهم سيحتاجون إلى ارتداء البِزّات الخاصة قبل مغادرة القبة، إلى جانب عملهم على استكشاف أرض «مونا لوا» الصخرية الحمراء التي تشكّلت من الحمم البركانية القديمة.
- القمر بدلاً من المريخ
التغيير هذه المرّة سيكون في المجال البحثي. فقد كانت المحاكاة المريخية تهدف إلى دراسة سلوك الناس في الفترات الطويلة والبعثات المتجهة إلى الفضاء العميق، باتصال متواضع أو معدوم مع الأرض. وأعطى الباحثون خلالها توجيهات للمشاركين بارتداء أجهزة لمراقبة أعضائهم الحيوية وحركاتهم ونومهم، ثمّ تعبئة استمارة حول سلوكهم الشخصي وتفاعلاتهم مع الآخرين، والكتابة تعبيراً عن مشاعرهم بشكل أسبوعي.
أمّا في المحاكاة القمرية، فإن المشاركين سيكونون «باحثين» وليسوا فئراناً للتجارب؛ إذ إنّهم سيقومون باختبارات علمية وسيختبرون تقنية جديدة مخصصة للحياة على سطح القمر، بالنيابة عن الباحثين الذين سيزوّدونهم بالتعليمات اللازمة بعيداً عن «مونا لوا». وكما على المحطة الفضائية الدولية، فستدور الطواقم في قلب القبة وخارجها، بحسب متطلبات التجارب على طول الرحلة.
ولكن هذه المرّة، لن تكون هناك حاجة لبعض الإجراءات الوقائية التي كانت معتمدة؛ ففي المحاكاة المريخية، وفي الأيام الممطرة والغائمة التي كانت تحول دون شحن البطاريات الشمسية التي تزود المنشأة بالطاقة، كان على أفراد الطاقم أن يرتدوا بِزّاتهم والخروج لتشغيل المولّد الكهربائي الذي يعمل بوقود البروبان. أمّا الآن، فسيتمّ التحويل من البطاريات الشمسية إلى المولّد الاحتياطي بشكل أوتوماتيكي أو عبر مركز التحكم بالبعثة الموجود في مزرعة روجرز في «بيغ آيسلاند».
تقول ميكاييلا موسيلوفا؛ عالمة أحياء فلكية من سلوفاكيا، وبدأت عملها للتو في مشروع المحاكاة القمرية في حديث نقله موقع «أتلانتك أونلاين»: «إننا نحاول أن نحرص على عدم حدوث أخطار أو مشكلات كما حدث في المرة الماضية».
وتشرف ميكاييلا موسيلوفا على مهمة جديدة انطلقت في 20 فبراير من هذا العام لعمليات محاكاة امتدت أسبوعين لاختبار المعدات عند العمل في ظروف القمر أو المريخ. ويشارك فريق من 6 أفراد في المهمة ضمن «المبادرة القمرية الأوروبية» لوكالة الفضاء الأوروبية وجامعة أمستردام بالتعاون مع «مشروع هاواي». وكما نظرائهم الذين شاركوا في المحاكاة المريخية، ترك المشاركون في المشروع القمري وحدهم في البركان خلال البعثة، ولكنّهم اتصلوا بشكل أكبر مع العالم الخارجي، لأن القبّة ستتخلّص من معظم وسائل منع الاتصال، إلى جانب تقليص تأخير الاتصال من 20 دقيقة إلى 3 ثوان.
- بث تلفزيوني
وقد نشر روجرز كاميرات في الأماكن المشتركة في المنشأة، ويدرس الفريق ما إذا كان يجب تشغيلها طوال الوقت أم فقط في حالات الطوارئ. ولكنّ روجرز يفكّر جدياً في بثّ البعثة مباشرة للناس على شكل تلفزيون الواقع.
وقال رجل الأعمال الهولندي: «لم نستطع القيام بهذا الأمر خلال بعثات (ناسا) لأن تركيب الكاميرات حول المركبة كان يعد استباحة للخصوصية، ولكننا هنا لا ندير فندقاً لشهر العسل. نحن نشغّل محطة فضائية».
تأتي خطط روجرز في فترة حيوية على صعيد الاستكشاف القمري؛ ففي ظلّ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يركز البرنامج الفضائي الأميركي بشكل كبير على تطوير التقنيات القمرية، حيث قال جيم بريدينستين، مدير «ناسا»، إن الوكالة الفضائية سترسل مركبات فضائية آلية إلى القمر هذا العام، على أن تلحقها برواد فضاء بشر خلال 10 سنوات. أمّا الوكالة الفضائية الهندية، فتخطط لوضع مركبة سيارة ومسبار على سطح القمر في الربيع. وبدورها، ترغب روسيا في إرسال أوّل روادها الفضائيين إلى سطح القمر عام 2030، مع خطط لبناء محطة دائمة هناك. كما أعلنت الوكالة الفضائية الأوروبية التي تضمّ 22 دولة، في أكتوبر الماضي أنّها ستسعى إلى بناء سطح قمر صناعي على شكل منشأة في مدينة كولون الألمانية، ومهمته تدريب رواد فضائيين على بعثات مستقبلية. وتعمل الشركات التجارية من دول مختلفة على تقديم طروحات لإرسال بعثات قمرية بوتيرة سريعة لم يرَ العالم مثلها منذ برنامج «أبولو».
وتقول بينستد: «إن عزلة موقع (HI - SEAS) هي أكثر ما يجعله مناسباً للمحاكاة الفضائية، إلى جانب غياب التحفيز البصري والحياة خارج المنشأة. وهذه الأمور جميعها تعدّ عوامل مشتركة بين القمر والمريخ».