من الحديث عن قاتل مجنون إلى تناول سنوات من حياة برتولت بريخت، ومن البحث في حياة مقفرة في منغوليا إلى مشكلات النمو في مجتمع أوروبي معاصر، تتوالى أفلام مهرجان برلين السينمائي في دورته الـ69 التي انطلقت في السابع وتنتهي في السابع عشر من هذا الشهر.
التنوع طبيعي وتلقائي كذلك المستويات التي توفرها مواهب المخرجين الواقفين وراء الكاميرا. لكن جميع المخرجين يبدون ملتزمين بدفع التحديات إلى أعلى مستوى لها. كل يريد إنجاز ما يمكن له أن يدخل إطار الفوز وما بعده. والبعض يحقّق ذلك سريعاً مثل فيلم «بمباركة الله» للفرنسي فرنسوا أوزون الذي يتعرّض حالياً لدعوى قضائية من قبل محامي الأب الكاثوليكي فيليب باربارين المتهم بجريمة التحرش الجنسي بعشرات الأولاد إلى حين الكشف عنه في العام 2015 وتقديمه للمحكمة التي لا تزال تنظر في أمره والتي ستصدر قرارها في السابع من الشهر المقبل.
آلام في الدّاخل
ليس اختيار المخرج إنجاز فيلم عن الواقعة وبطلها في الوقت الذي تكاد تصل المحكمة إلى نهايتها من قبيل الصدفة. ما يحاول المخرج أوزون فعله هو إطلاق الفيلم في الصّالات الفرنسية قبل صدور الحكم (الموعد المحدّد لإطلاقه هو في 20 من الشهر الحالي)، بينما يدفع محامو المتهم لإصدار قرار يمنع عرض الفيلم قبل ذلك التاريخ.
الدّافع عند أوزون تجاري شبه وحيد. هذه هي فرصته لتسجيل حضوره مرّة أخرى ولتوفير فيلم تجاري ناجح ربما أكثر من النجاح الذي يمكن تحقيقه لو أنّ الموزعين والمنتجين اختاروا توقيتا آخر لعرض الفيلم.
«بفضل الله» (By the Grace of God)، يختلف عن أفلام أوزون السّابقة من حيث توليه ناصية التعرض لوضع قائم. هذا لم يقم به أوزون من قبل. لكنّه يختلف أيضاً من حيث أسلوبه. الفيلم رشيق المظهر وأنيق، لكنّه لا يحمل ما اعتادت أفلام المخرج حمله من تحديات في تشكيل الصورة، وبالتالي المشاهد وكيفية ربطه الأحداث ببعضها البعض. على العكس، هو حديث مباشر في جوهره عن ثلاثة أصدقاء بالغين يراجعون في زمن الفيلم، تعرضهم للتحرش الجنسي من قِـبل راعي الكنيسة برنار بريينات. ما يذكرونه ليس واقعياً فقط نظراً لكيفية طرحه ومعالجته في حوارات مكثّفة، بل هو واقعي بالنسبة للتجارب المؤلمة التي ما زالت آثارها تقض مضاجع الضحايا.
هذه الآلام لا تظهر على محيا أي منهم بل تعيش في داخله. والفيلم يبادر لتقديم شخصية أحدهم، ألكسندر (ميلفيل بوبو) الذي يبلغ 40 سنة، ولديه عائلة يعيش وإياها في مدينة ليون حيث جرت الأحداث في الفيلم وفي الواقع. يقرّر ألكسندر الكشف عمّا دار، وربما لا يزال يدور، في خفاء الكنيسة. لكنّ شكواه بادئ الأمر لا تحقّق المرجو منها. هذا ما يقوده إلى عمل مشترك مع الرجلين الآخرين جيل (إريك كارافاكا) وإيمانويل (سوان أرلو).
يستخرج أوزون أداءً جيّداً من ممثليه. الجرح الذي لا يندمل مشغول على تبيانه بشفافية ورقّة، لكن تلك الرّقة لا تمنع من إظهار جانبها الخشن. على عكس «سبوتلايت» لتوم مكارثي، الفيلم الذي كان في بال معظم من قابلهم أوزون خلال بحثه قبل التصوير، ليس «بفضل الله» الفيلم الصارخ برسالته. هذا يحوّله إلى عمل هادئ النبرة على الرّغم مما يصرّح به ويتبناه.
قفازات الموت
المشكلة عويصة أكثر بالنسبة لفيلم «القّفاز الذّهبي» لفاتح أكين المأخوذ بدوره من وقائع حقيقية متصلة بتصرفات جنسية غير سوية، لكنّها مختلفة في طبيعتها كما في منطلقاتها النفسية. الأحداث تقع في السبعينات في مدينة هامبورغ (آنذاك)، وبطلها اسمه فريتز هونكا وردت حكايته في كتاب حديث العهد وضعه هانز سترانك. آنذاك كانت ألمانيا ما زالت منقسمة لاثنتين ومن يعتقد أن البؤس كان حكراً على القسم الشرقي يطالعه هذا الفيلم بحقيقة مخالفة: شخصياته جميعاً (باستثناء شخصيات قليلة محدودة الظهور) تعاني من وضع معيشي وعاطفي محبط ومن قهر نفسي. مجموعة من الرجال والنساء السكارى الذين يملأون بطونهم بشراهة.
فريتز يتآلف جيداً مع هذا المجتمع. هو أحد أفراده. يؤم حانة باسم «القفاز الذّهبي» «ذا غولدن غلاف» يشرب فيه ويستدرج نساءه إلى شقته الوسخة في الطابق العلوي من بناية متواضعة حيث يزاول معهن الشرب من ثم يكرههن على ممارسة الجنس معه. بما أنّه عاجز جنسياً عن الفعل فإنّ البديل لذلك هو قتلهن. والفيلم يبدأ بقتل أولى ضحاياه (من أربع ضحايا) من ثم محاولة التخلص منها بتقطيع أطرافها وحملها إلى بناء مهجور ورميها فيه.
هذا مجهد بالنسبة إليه. في المرّات التالية سيقطع الجثث ويحشرها في فتحة في جدار دارته ويغلقها ببعض الطين. لكن الرائحة ستنتشر بلا هوادة وكل امرأة تدخل الشقة تشكو منها وجوابه أنّ الرائحة آتية من عند جيرانه اليونانيين لكثرة طبخهم طعامهم الخاص.
سريعاً ما يذكر الفيلم بوحوش الرعب من شخصيات الأفلام الألمانية والأميركية الصامتة. أو تلك الناطقة في الثلاثينات. في الواقع اللقطة الأولى لوجه فريتز، كما يؤديه جيداً يوناس داسلر)، تشبه رسماً في مجلة كوميكس للراشدين. عينان محدقتان وشعر أسود يغطي نصف وجهه ولهاث وحشي يسكن أعماقه ويتبدى في ملامحه. لكن الوجه ليس الوحيد الذي يجعل الفيلم يبدو منتمياً، ولو إلى حد، بأفلام وشخوص الأمس. هناك التصميم الدّاخلي للمكان والسلم الداخلي الضيق الذي يوصل لغرفة فريتز. شيء من السينما التعبيرية الألمانية ينفجر أمامنا في المشهد الأول ثم يعود أكثر من مرّة.
بعد جريمته الثالثة، يقرّر فريتز الاستقامة. يجد عملاً كحارس في مؤسسة تمنحه مكتباً في طابق تحت الأرض. يتوقف عن الشّرب ويبدو كما لو أنّه وضع نفسه في سلك مختلف. لكن لهاث الدّاخل ومكوّنات النّفس الشّريرة لا تبقى مكبوتة لفترة طويلة. هناك خادمة المكان المتزوّجة من رجل تعمل لسد نفقاته (صورة سلبية وداكنة أخرى لوضع معيشي ينضح بالأسى) التي يهاجمها بغية اغتصابها. يفشل في ذلك والتجربة تعود به إلى مزاولة ما كان يقوم به ولو لمرّة أخيرة.
ما بين الوضع النفسي الجانح لفريتز والإحباط الذي تعيشه الشخصيات الأخرى، خصوصاً من مرتادي الحانة، والروتين الذي يزاوله القاتل جاذباً إليه نساء متقدمات في السن ومتعبات من الحياة (ترفض النساء الجميلات حتى قبول دعوته للشرب ما يجعله مضطرا لاستدراج نساء فوق الخمسين، مترنحات وبدينات وبائسات). يعيش فريتز روتيناً خاليا من الإنسانية. فاتح أكين يجيد منح الفيلم كل ذلك التجسيد ويخاطر كثيراً في اختياراته. فالفيلم بشع كبطله، لكنّه واقعي المناخ لدرجة أنّه يثير الرّعب في دواخل المشاهد كما فعل، وعلى سبيل المثال فقط، فيلم جون ماكنوتون «هنري: صورة قاتل متسلسل» (Henry: Portrait of a Serial Killer) قبل أكثر من ثلاثين سنة.
ذلك الفيلم منسي اليوم، لكنّه كان وقتها مشبعا بتفاصيل الواقع لدرجة أثارت حوله ما سيثيره فيلم فاتح أكين من ردود فعل حين يحين موعد عرض الفيلم. الفارق سيكمن في أن للمخرج أكين اسما سيساعد على تداول الفيلم لفترة زمنية أطول.
حياتي عذاب
الشّخصيات ذات الخلفيات المؤثرة على واقعها المعيش يستمر مع فيلم هانز بيتر مولاند الجديد «لسرقة الجياد» (Out Stealing Horses). من هذه الزاوية هو أقرب، في بحثه، من فيلم فرنسوا أوزون، حيث الماضي يتقدّم مباشرة ليحتل المقدّمة، بينما «القّفاز الذّهبي» يوحي بالماضي، لكنّه مهتم بالحاضر أكثر. في كل الحالات هي أفلام عن جراح مزمنة تقض المضاجع وتأزم حاضر شخصياتها.
«لسرقة الجياد» (والترجمة الأكمل حسب الفيلم هي خارجون بصدد سرقة الجياد) يعرفنا بالرجل السويدي تروند (ستيلان سكارسغارد) بعد سنوات طويلة على انتقاله من السويد إلى النرويج منزوياً في بيت في البرية. في مطلع الفيلم يؤكد لنا أنّه سعيد بوحدته. لا يرغب تروند في أحد ولا تنتابه نوبات الرّغبة في الخروج من البيت والوحدة والمحيط المباشر لهما إلى مجتمع البلدة الذي هو - بدوره - منزوياً في إحدى أصقاع النرويج.
لكنّ تروند لا يزال يعيش الماضي في أشكال متعددة. إذ يفتتح المخرج فيلمه قبل أشهر قليلة من سنة 2000 ينتقل بعد ذلك إلى العام 1953 عندما كان تروند لا يزال صبياً في الـ15من عمره. يسترجع ذكرياته مع أبيه وما يوازيها من ذكريات مع صديقه جون الذي يعاني من حادثة إطلاقه النار على شقيقته وقتلها عندما كان صغيراً. هذا ما يعني أنّه علينا الانتقال مع الفيلم إلى 1948، وكل ذلك في سلسلة من مشاهد الاسترجاع (فلاش باك) التي تبدو ملاذا طبيعياً لفيلم يود، كالكتاب الذي يقتبسه، القيام بجردة حساب بين حاضر تروند وماضيه.
الحكايات متشعبة بما يكفي لخلق فيلم منفصل لكل منها. الوتيرة متقطعة وربط خيوط ما نراه بعضه ببعض يأخذ شكلاً موسعاً كافياً لأن يتطلب مشاهدة ثانية فقط لتسجيل التواريخ والإمعان في مسار شخصياته. لكن كل ما عدا ذلك، من الضروري الإشارة إلى أنّ كل مشهد محسوب بدقة تصويراً وحركة ممثل والإخراج الكامل.
للأسف يمكن إدراج الفيلم في دائرة مغلقة من أحداث بؤس تراجيدية تقع من مطلعه لنهايته: البطل يعيش وحيداً بعد وفاة زوجته منذ ثلاث سنوات. في مطلع الفيلم ينجو من حادثة سيارة كانت أن تصطدم بشاحنة. في ذكرياته مقتل فتاة صغيرة. وسقوط متكرّر عن صهوة الحصان واقتراب من الموت غرقاً واصطدام جذع شجرة هاو بساق أحد جيران والد تروند. وإذا ما أضفنا مشهداً لقنص الجنود النازيين لأحد الهاربين وأن مقتل زوجة تروند في حادث سيارة كان سببها تروند نفسه، فإنّ النّاتج طبقات من الأحداث المأسوية لمدة ساعتين.