قبل شهرين فقط من بدء الانتخابات البرلمانية الهندية، خطَتْ بريانكا غاندي فادرا، ممثلة الجيل الخامس لعائلة نهرو - غاندي السياسية الشهيرة في الهند، خطوتها الأولى نحو قلب ساحة السلطة، في كبرى ديمقراطيات العالم.
بعد أكثر من عقدين من التكهنات والتخمينات والتوقعات، حازت بريانكا منصب السكرتير العام لحزب المؤتمر الوطني الهندي المعارض، والمسؤول الأول عن حملة الحزب الانتخابية في ولاية أوتار براديش، الولاية الأكثر سكاناً والأعظم أهمية في المشهد الانتخابي الهندي الكبير. كيف لا وأوتار براديش ترسل وحدها 80 نائباً برلمانياً إلى مجلس النواب الهندي الاتحادي، وعليها يعتمد حزب المؤتمر القابع حالياً في مقاعد المعارضة للإطاحة برئيس الوزراء اليميني المتشدد الحالي ناريندرا مودي عن منصبه؟!
ولقد وصف رشيد كيدواي، المعلق السياسي ومؤلف السيرة الذاتية لوالدة بريانكا وأرملة رئيس الوزراء الراحل راجيف غاندي، ذات الأصول الإيطالية، انضمام بريانكا جدياً ورسمياً إلى المعركة السياسية بـ«تغيير كبير في قواعد اللعبة الانتخابية».
بريانكا غاندي، البالغة 47 سنة من عمرها، التي تولّى والدها راجيف غاندي، ووالدته التي هي جدتها إنديرا غاندي، ووالد إنديرا (وجد راجيف) جواهر لال نهرو رئاسة وزراء الهند، ستعمل في هذه المرحلة من حياتها السياسية تحت قيادة شقيقها راهول غاندي، الذي يترأس راهناً حزب المؤتمر الذي هيمن على السلطة لعقود كثيرة منذ استقلال البلاد، غير أنه يقود المعارضة لحكم اليمين القومي الهندوسي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بريانكا لم تخض المعترك الانتخابي بنفسها، في انتخابات عام 2014 الماضية، إلا أنها زادت انخراطها العمل الحزبي. وأصبحت مِن واضعي استراتيجيات الحزب في الغرف الخلفية دعماً لشقيقها الأكبر راهول، الذي تسلم مقاليد رئاسة الحزب بعدما تراجعت والدتهما سونيا غاندي عن اعتلاء خشبة المسرح السياسي اعتباراً من عام 2017.
موقفا الأسرة والحزب
قرار بريانكا غاندي دخول الحلبة السياسية صدر في الواقع عن شقيقها راهول، وكان قد لقي في بداية الأمر معارضة من أمها سونيا غاندي، الرئيسة السابقة لحزب المؤتمر. غير أن الأم عادت ووافقت في نهاية المطاف، بينما أعرب راهول (48 سنة) عن «سروره البالغ» لمشاركة شقيقته «القديرة والدؤوبة للغاية» في العمل السياسي برفقته. أما بالنسبة إلى ناشطي الحزب، فإنهم كانوا دائماً ينظرون إليها على أنها سياسية بالمولد والفطرة، وتتمتع بالقدرة على استمالة قلوب الناس إليها لجاذبيتها الأخاذة. والأهم من ذلك، أنهم يرون فيها نسخة حديثة من جدّتها رئيسة الوزراء السابقة أنديرا غاندي، إذ يجمع بينهما شبه كبير، لا سيما من حيث اختيارها لملابسها، بل حتى أسلوبها في التصرف والحركة.
وحقاً، في مختلف الأوقات، مراراً وتكراراً، اتخذت بريانكا مواقف صلبة ليس من أجل عائلتها فحسب، وإنما لمصلحة الحزب الذي تنتمي إليه. ولسنوات عملت بلا كلل أو ملل على مساعدة والدتها في معاركها الانتخابية، وتنظيم الحملات وكتابة خطبها السياسية. وفي الوقت عينه، كانت بريانكا أيضاً الأخت الحنون التي نظمت الحملات لصالح شقيقها الأكبر.
وعام 1999، وإثر انبهار قادة حزب المؤتمر بالحملات التي نظمتها بريانكا دعماً لشقيقها ووالدتها في دائرتيهما الانتخابيتين البرلمانيتين أميثي (التي يمثلها راهول) وراي باريلي (التي تمثلها سونيا غاندي) - وهما في أوتار براديش - ناشد قادة حزب المؤتمر والدتها إشراكها في الانتخابات البرلمانية. غير أن رد أسرة غاندي يومذاك كان بالرفض. وكرّر قادة الحزب مناشدتهم الأسرة عام 2004 ليحصلوا على الرد ذاته. لكن القادة لم ييأسوا، فواصلوا الطلب فقط ليحصلوا على النتيجة نفسها، وما كانت بريانكا، وسط كل ذلك، تتدخّل... مفضّلة تكريس جهدها لتنظيم الحملات لصالح أسرتها.
في أي حال، تُعدّ بريانكا غاندي من أبرع مَن نظموا الحملات الانتخابية. ومن حيث الشخصية الكاريزمية الرائعة التي تتمتع بها، فإنها تتفوق على شقيقها راهول بمراحل. ذلك أنها تتمتع بقدرة طبيعية فذّة في قياس نبض الجماهير. ولا شك في أن العملة السياسية الحزبية معنية أساساً بحسن التواصل مع الجماهير والإعراب الصادق عن آمالهم وأحلامهم.
حياتها الشخصية
تحظى بريانكا غاندي، كما يقول عارفوها، بشخصية «كاريزمية» مع قدر كبير من الألمعية وسرعة البديهة، بجانب المهارات الخطابية الرائعة، وإتقانها الاستثنائي للغة الهندية الذي يضفي عليها سمات من سحر الشخصية فضلاً عن الذكاء الحاد. وهنا يعلّق يقول الخبير السياسي البروفسور رام بهادور فيرما قائلاً: «دائما ما تذكّرنا بريانكا بجدّتها أنديرا. فلديها المزاج نفسه، الصورة الشخصية نفسها، والتوثّب المقدام نفسه... إنها ليست دفاعية كشقيقها راهول، وتتكلّم اللغة الهندية بطلاقة استثنائية».
وحول التماثل الجسدي العجيب مع جدّتها الزعيمة اللامعة الراحلة، الذي يدفع الناس إلى المقارنة بينهما، قالت بريانكا ذات مرة، بروح ممازحة: «إنها ليست سمة أتفرد بها... الحقيقة أننا متشابهتان كثيراً. هي تجيد قيادة الناس، أما أنا فهدفي رعاية الأطفال».
إلى ذلك، تُعد بريانكا مصورة فوتوغرافية ممتازة، إذ انجذبت إلى عشق التصوير الفوتوغرافي منذ نعومة أظفارها، عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها حين استلهمت تلك المزية من اهتمام والدها الكبير بالتصوير الفوتوغرافي. ولقد نظمت معرضاً لصورها الفوتوغرافية، وشاركت في تأليف كتاب تحت عنوان «محمية رانثامبور: عالم النمور»، الذي يضم كثيراً من الصور التي التقطتها بنفسها في محمية النمور الوطنية في الهند.
وكتبت بريانكا في الكتاب: «إنني أعشق الأدغال. فهناك قدر كبير من العجز عن التنبؤ مع انتظار عنصر المفاجأة في كل خطوة. هذا أمر رائع للغاية؛ فالمرء لا يعرف أبداً أين ومتى سيصادف الحياة الحقيقية التي ينبغي عليها أن يعيشها. الأدغال مفعمة بالحياة الوحشية والجامحة. وكل شيء خاضع لتعريفه الوجودي. والحيوانات أبدا كما هي على سجيتها وطبيعتها الرائقة الصافية».
من ناحية أخرى، نادراً ما تتحدث بريانكا غاندي عن حياتها الشخصية. ولكن صورتها لم تخبُ قطّ عن أعين الجماهير. وبالتالي، لاقت بعض التدخلات والانتقادات في شؤونها الشخصية، سواء كان ذلك لاختيارها لملابسها، أو لزواجها في سن الثانية والعشرين من رجل الأعمال الهندي روبرت فادرا الذي تصدرت أخباره مختلف وسائل الإعلام بسبب نمط حياته الباذخ، أو لمزاعم الفساد التي تلاحقه بسبب صفقات الأراضي التي يبرمها. ولقد وقفت بريانكا، رغم كل ذلك، بجانب زوجها، ووصفته في غير مناسبة بأنه من أطهر الناس الذين قابلتهم في حياتها.
سمات شخصية
من سمات بريانكا البارزة صراحتها الكبيرة وسرعة غضبها. ولقد تحوّلت إلى اعتناق الديانة البوذية بحثاً عن صفاء النفس وجلاء الروح، ومحاولة للفرار من آثار الصدمات المروّعة والمآسي الكثيرة التي حلَّت بأسرتها. وظلت تمارس التأمل البوذي العميق لأكثر من 11 سنة، كما استكملت دراستها العليا بحصولها على درجة الماجستير في الدراسات البوذية عام 2010. مع الإشارة إلى أنها أكملت دراستها في إحدى المدارس الكاثوليكية، وبعدها التحقت بإحدى كليات جامعة دلهي وتخرّجت فيها بدرجة البكالوريوس في علم النفس.
ومن أبرز صفات شخصيتها العامة أسلوبها الخاص في ارتداء ملابسها. سواء كان «الساري» الهندي التقليدي أو مختارات من الملابس الغربية الأنيقة، لا سيما في نزهاتها المسائية في منطقة لوتشينز بالعاصمة دلهي. ولقد ورثت أزياء «الساري» الخاصة بجدتها الراحلة أنديرا غاندي. وبعيداً عن الزي الهندي التقليدي، كانت دائماً ترتدي ساعة المعصم الخاصة بجدتها، التي كانت بالأصل من مقتنيات الزعيم الراحل جواهر لال نهرو.
وتتخير بريانكا من الملابس الغربية كل ما يروق لها بكل سهولة. وفي يوليو (تموز) 2008، أبهرت متابعي عالم الأزياء والموضة بما ارتدته أثناء استماعها لخطاب شقيقها راهول في البرلمان الهندي. إذ كانت ترتدي قميصاً أبيض اللون مع سروال أسود داكن وحزام أسود عريض وأقراط لؤلؤية بسيطة.
كثيرون يعتقدون أن بريانكا شخصية سياسية اجتماعية ومنطلقة وعلى سجيتها. إلا أنها في واقع الأمر شخصية تعشق الخصوصية للغاية، وفي بعض الأحيان تظهر في هدوء كبير في مركز «سانتوشتي» للتسوق أو «خان ماركت» في نيودلهي لشراء بعض الملابس القطنية الأنيقة. وهي تفضّل الخروج في نزهات برفقة أطفالها، لا سيما، في ملاذات الحياة البرية الخلابة مثل محمية رانثامبور أو كوربيت، أو البلدان الأجنبية مثل سنغافورة حيث يمكنهم الانطلاق والتسوق بالحد الأدنى من المرافقة الأمنية.
مجابهة التحديات
أما على صعيد تحديات الحياة، فليست مجابهة التحديات من الأمور الجديدة على حياة بريانكا غاندي. كانت بريانكا في الثانية عشرة من عمرها عندما اغتيلت جدتها أنديرا، رئيسة الوزراء السابقة، على أيدي حرّاسها الشخصيين في نيودلهي يوم 13 أكتوبر (تشرين الأول) 1984. وبالفعل، أحدث اغتيال أنديرا غاندي صدعاً كبيراً في الأسرة. وبسبب المخاوف الأمنية الكبيرة، نقل حفيداها - الطفلان يومذاك - راهول وبريانكا، سريعاً من المدرسة لاستكمال التعليم في المنزل. وكان يُسمح لهما بزيارة الأصدقاء مرة واحدة فقط كل أسبوع.
ثم شهدت الأسرة مأساة أخرى كان يخبئها القدر. ففي 21 من مايو (أيار) 1991، اغتيل والدها راجيف غاندي – الذي خلّف أمه إنديرا في رئاسة الحكومة - بتفجير انتحاري في جنوب الهند من تنفيذ تنظيم «نمور تاميل إيلام» التاميلي المتمرد، وهزّ مقتله أركان العائلة.
كانت تلك من أصعب المراحل قاطبة التي مرّت على حياة بريانكا، إذ كان عليها الصمود لأنها كانت تعتني بوالدتها المكلومة سونيا غاندي. وكان شقيقها راهول غاندي يواصل دراسته، آنذاك، في الولايات المتحدة الأميركية. ولذا، تولّت بريانكا مسؤولية الموقف برمّته بقوة وصرامة منقطعة النظير. وسافرت إلى مدينة تشيناي (مدراس سابقاً) برفقة والدتها، وأحضرت جثمان والدها إلى دلهي. وما كان سهلاً قطّ على طفل أن يتلقى جثمان والده وهو لا يزال يؤهل نفسه لما ستهاجمه به الحياة. ولكن بريانكا صمدت في وجه تلك الظروف تماماً.
وفي مقابلة عن تلك التجربة، قالت بريانكا: «كان والدي صديقي المفضل، وقوة الاستقرار والصمود في حياتي»، وتابعت أنه عندما كانت في طفولتها كانت تشعر في كل مرة يغادر فيها المنزل بأنه لن يعود أبداً، واستطردت: «لقد حاولنا الاتفاق نفسياً مع رحيله عن حياتنا وخسارتنا المريرة له».
بعدها، في عام 2008، سافرت بريانكا إلى سجن فيلوري المركزي بولاية تاميل نادو بجنوب الهند (حيث اغتيل والدها) لمقابلة ناليني سريهاران، إحدى النسوة اللواتي خططن لجريمة الاغتيال. وكان قد صدر حكم الإعدام على ناليني، ثم خُفف الحكم إلى السجن مدى الحياة إثر التماس رفعته السيدة سونيا غاندي إلى حكومة البلاد.
وقالت بريانكا مفسرة سبب تلك الزيارة: «كانت زيارة تلك السيدة هي أسلوبي الخاص للتصالح مع العنف والخسارة التي عانيتُ منهما في حياتي. لقد غفرتُ لها ما صنعت بحقي، لم أكن أرغب في مواصلة الحياة مع مشاعر الغضب والعنف والكراهية وأسمح لمثل هذه الأشياء المُزرية بالتغلب على حياتي وتدميرها».
هل تكون المنقذ؟
اليوم يصف بعض الإعلاميين في الهند بريانكا غاندي بأنها «براهماسترا» حزب المؤتمر، والكلمة تعني «سلاح الإلهام الأخير» وفقاً للفلسفة الهندوسية، وهو السلاح الذي يتعذر على الجميع مهاجمته والتغلب على قوته.
كثيرون يتوقعون أن تحدث بريانكا تغييراً ضخماً في الحزب العريق، ولكن من السابق لأوانه كثيراً القول إن كانت ستلعب دور المنقذ. وفي المقابل، يتفق معارضوها على أن اختيارها لمعترك سياسي وانتخابي صعب وعسير مثل ولاية أوتار براديش، وفي مثل هذه الحقبة الحاسمة والحساسة، يدل على عزيمتها وصمودها وجرأتها الراسخة.