رافقت الصحافة منذ نشأتها الرواية، وأصبحت هناك علاقة تأثير وتـأثر ما بين السرد الصحافي والروائي، كما اختلطت حدود الخيال بينهما في أحيان كثيرة، ما جعل البحث عن الحقيقة الصحافية مفتوحاً على براح التأويل والواقع معاً. تحت هذه المظلة يمكن النظر إلى خبر اعتذار مجلة «دير شبيغل» الألمانية عن اختلاق أحد أشهر صحافييها لقصص وشخصيات من وحي خياله، مثيرا وجهاً من العلاقات الملتبسة بين الصحافة والأدب، وبين الواقع والخيال.
فقد كان أكثر من 300 من أهم الأدباء في تاريخ البشرية يوماً ما صحافيين من بينهم: إدغار آلان بو، وتشارلز ديكنز، وثاكراي، وبرنارد شو، ودانييل ديفو، وجورج أورويل، وهمينغواي، وفرانك باوم، وإتش جي ويلز، وألدوس هوكسلي، ومارك توين... وغيرهم، وربما يصبح كلاس ريلوتيوس (33 عاماً) واحداً من أشهر الأدباء الألمان بعدما أقر بأنه اختلق قصصاً وشخصيات في أكثر من 14 قصة صحافية نُشرت في النسخ الإلكترونية والورقية للمجلة الأسبوعية، التي تعد من أهم المطبوعات الألمانية، بل وحاز جوائز صحافية عنها.
قُدِّر عدد المقالات التي لفقها ريلوتيوس بـ14، بينها واحدة عن يمني أمضى 14 عاماً في معتقل غوانتانامو سيئ السمعة، دون أي سبب وجيه، وآخر عن لاعب كرة القدم الأميركية كولن كابرنيك الذي آثر الركوع عند بث النشيد الوطني خلال المباريات تنديداً بأعمال العنف عنصرية الطابع، وغيرها.
هذه الواقعة تحيلنا إلى دراسة مهمة قدمها دوغ أندروود بعنوان «الصحافة والرواية: الحقيقة والخيال» (1700 - 2000) الصادرة عن جامعة كامبردج وعرّبها مصطفى محمود في كتاب صدر عن المركز القومي للترجمة في مصر، رصد خلالها بدايات الصحافة في العالم والتي كانت «صحافة أدبية»، مؤكداً أن القصة والصحافة والرواية والأدب الشعبي وأدب الرحلات والمتابعة الصحافية والتاريخ السردي هي أشكال أدبية غير منفصلة، بل هي عناصر متكاملة من السجل المكتوب الذي تولدت عنه الصحافة الحديثة. لافتاً إلى أن رموز الأدب العالمي تركت خبراتهم في الصحافة انطباعاً قوياً عليهم، وكان لها تأثير على تطوير خيالهم وفلسفتهم الأدبية، واستعانوا برصيد الشخصيات المخزونة، موضحاً أهمية الصحافة في تطوير الرواية الإنجليزية والأميركية.
فإذا نظرنا إلى رواية «روبنسون كروزو» لديفو فقد اعترف في تصريحات صحافية بأنه مزج فيها الحقيقة بالخيال واستعان خلالها بشخصيات التقاها في أثناء عمله الصحافي، بل ويشير مؤلف كتاب «الرواية والخيال» إلى أن الصحف الإنجليزية في عصر ديفو كانت أقل صدقاً، وكانت حكايات الصحف تُنشر مجهولة الاسم أو بأسماء مستعارة، وتمتلئ بالأكاذيب، ونادراً ما كانت السلطات تكتشف هوية الكاتب المزعوم لتلقي القبض عليه بتهمة تزييف الحقائق.
أما الصحافي والروائي البريطاني بوزويل، فقد كتب مزيجاً من الحقيقة والخيال في مقالات عن «الجثث المجمدة لإعادة الحياة لها في المستقبل»، و«الإفلاس في اسكتلندا»، و«وحشية قانون العقوبات في الإنجليزية»، وعشرات المقالات عن «محاكمات الإعدام» كتبها في صحيفة «لندن ماغازين LONDON MAGAZINE» تحت عنوان «مريض الوهم» في الفترة من 1777 إلى 1783 والتي استعان بها في ما بعد في نشر روايته «حياة جونسون». ورغم اعتبار تلك المقالات أنها نموذج للموضوعية التي يجب تحتذيه الآن وكالات الأنباء والصحف العالمية من مصداقية ومهنية في نقل الخبر والوقائع، فإنه بعد عشرات السنين أكد الباحثون أن مقالات جيمس بوزويل كان بها الكثير من الاختلاق والجوانب الذاتية وغير الموضوعية.
من جانبهم يتشكك علماء النفس عامةً في قدرة العقل البشري على النقل من الواقع مباشرةً دون إضفاء جوانب ذاتية على ما يكتبه الإنسان. ويشير إلى تشارلز ديكينز الذي عمل صحافياً برلمانياً وسياسياً لصحيفة «ميرور أوف بارمنت» عام 1831، فإنه أيضاً كان يكتب اسكتشات لشخصيات واقعية مثيرة للاهتمام لصحيفة «لندن مورننغ كرونيكل» جمعها في كتاب في ما بعد باسم «استكتشات بوز»، وهو الاسم المستعار الذي استخدمه ليمهر به تلك الاسكتشات في الصحيفة، رصد خلالها الشخصيات المضطربة والمتصدعة التي كان يصادفها خلال تجواله في شوارع لندن، وكان ذلك قبل أن يبدأ كتابة الروايات، وبالفعل اتجه في ما بعد إلى نشر روايته الخالدة «أوقات عصيبة» مسلسلة في مجلة «هاوسهولد ووردز».
أما الروائي الأميركي إدغار ألان بو، فقد عمل صحافياً في بداياته لكنه كان دائماً ما يصرح باستنكاره للابتذال في مهنة الصحافة، وكتب ذات مرة مقالاً جريئاً بعنوان: «كيف تكتب مقالة لبلاكوود؟»، مشيراً فيها إلى أن المجلة تتطلب كتابة روائية بشكل تعليمي مزيف معجون بالإثارة الحسية، وفقا لما يذكره أندروود في كتابه.
يذهب أندروود إلى أن تقلبات الحياة الاجتماعية والاقتصادية الأميركية في القرن التاسع عشر أدت إلى فرض نوع من الواقعية على الكتابة الصحافية أدى إلى تراجع الأسلوب البلاغي في الصحافة، وبالتالي الفصل الجوهري بين الصحافة والأدب المتخيل والكتابة الهزلية، ووضعت الأسس المهنية والأخلاقية للصحافة بشكلها المعاصر الذي تطور خلال القرن العشرين. يقول الروائي البريطاني الأميركي هنري جيمس: «الصحافة هي كلب حراسة الحضارة... وتصادف أنْ وُجد كلب الحراسة في حالة مزمنة من داء الكلب»، معبراً عن نفوره من السطحية وتلفيق المواد الصحافية في أواخر القرن الـ19.
تمر القرون ولا يزال السجال قائماً حول موضوعية الصحافة ما بين اتهامات بتصفية الحسابات والإشكاليات الأخلاقية والممارسات الصحافية الاحترافية.
حول هذه الإشكالية، تقول الدكتورة ليلى عبد المجيد، أستاذة الصحافة والإعلام بجامعة القاهرة، لـ«الشرق الأوسط» إن «مهنة الصحافة تستوجب أن يكون الصحافي أميناً وصادقاً وموضوعياً قدر الإمكان»، لافتة إلى أن «الصحافي أحياناً يصبح غير موضوعي من دون وعي؛ حيث تتحكم خلفياته الاجتماعية والثقافية والفكرية والاقتصادية في كتابته قصة أو تقريراً أو تحقيقاً ما، لكن في كل الأحوال على الصحافي أن يكون دقيقاً، ويعلم أن ما يكتبه خصوصاً في الصحافة الورقية سيتحول إلى وثيقة تاريخية وشاهد على من كتبها سواء أكان منافقاً أو مزوراً أو مبالغاً... فالصحافة شاهد على العصر... وهي جزء من التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للدول».
وتشير إلى أن «واقعة صحافي (دير شبيغل) حدثت من قبل في عدد من الصحف العالمية والعربية وبعض الصحافيين حازوا جوائز مهمة رغم أن قصصهم كانت مفبركة ومزورة، وهو أمر وارد خصوصاً مع افتقار الصحافيين للمعايير المهنية والأخلاقية»، مؤكدة أن «الصحافة مهنة قد ترفع الصحافي إلى عنان السماء خصوصاً إذا ما راعى ضميره المهني وكان حريصاً على ثقة القراء».
وتتفق عبد المجيد، المتخصصة في تاريخ الصحافة العربية، مع أن «بدايات مهنة الكتابة الأدبية هي التي ولّدت الصحافة الورقية وامتهنها في البداية الأدباء»، وتذهب إلى أن بدايات الصحافة العربية تميزت بالقدرة اللغوية والإبداعية وكان السائد فيها الزخرف والجناس والطباق واللغة الشعرية؛ ولكن كانت تلك مرحلة تاريخية «مرحلة صحافة الرأي والأدب» قبل أن تتحول الصحافة لتصبح «صحافة خبر».
وتذهب عبد المجيد إلى أن «الصحافي عليه أن يستخدم لغة الواقع مبتعداً عن الخيال وإلا فهو صحافي كسول لا يقوم بواجبه المهني، مؤكدة أن الصحافة العالمية الآن يشوبها الكثير من اللا مهنية، حيث يستخدم الكثير من وكالات الأنباء عناوين ملونة، كما يُدخل الصحافي آراءه بشكل مغرض ويستخلص استنتاجات وفقاً لميوله أو لتوجهات مؤسسته السياسية، وفي كثير من الأحيان تدفع المؤسسات الإعلامية الصحافيين إلى التزييف ولا تكشف عن ذلك». وتؤكد عبد المجيد أنه «بمرور الوقت يتكشف كل شيء كما حدث في صحيفة (الغارديان) عقب ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 في مصر، حيث اكتشفنا أن الصحافي لفق قصصاً عن الثوار في ميدان التحرير».
السرد الصحافي والروائي... علاقة ملتبسة بين لغة الواقع وشطح الخيال
مطالبات بوضع حد لاختلاق القصص من دون التخلي عن القدرات الإبداعية
السرد الصحافي والروائي... علاقة ملتبسة بين لغة الواقع وشطح الخيال
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة