برامج رمضان على الشاشة اللبنانية الصغيرة تعود إلى عقد الستينات

«تلفزيون لبنان» افتتحها... و«المستقبل» استحدث الموجة

زافين قيوميجيان (الشرق الأوسط)
زافين قيوميجيان (الشرق الأوسط)
TT

برامج رمضان على الشاشة اللبنانية الصغيرة تعود إلى عقد الستينات

زافين قيوميجيان (الشرق الأوسط)
زافين قيوميجيان (الشرق الأوسط)

تحافظ الشاشة الصغيرة على مكانتها عند المشاهد العربي عامة، واللبناني خاصة، في موسم رمضان، فتستعيد بريقها، ويتحلق أفراد الأسرة حولها.

اللحظات التي يمضيها الأب والأم مع أولادهما يتابعون خلالها مسلسلاً أو برنامجاً رمضانياً، لها قيمة إضافية، محببة إلى قلوبهم، وتولّد بينهم متعة الحوار.

الجلسة أمام الشاشة تجمعهم من جديد، وتشكل نوعاً من لقاء ينتظرونه من عام إلى آخر، فيتسامرون ويتبادلون التعليقات حول المحتوى البصري الذي يتابعونه.

هذه السنة شهدت الشاشات المحلية اللبنانية تنافساً في برمجتها الرمضانية، وحاولت كل محطة أن تقدم الأفضل لمتابعيها، واختارت للشهر الفضيل برامج ترفيهية وأعمالاً درامية من الصف الأول كي يتعلق المشاهد بشاشتها. ولكن متى انخرطت الشاشة الصغيرة في أجواء رمضان؟ ومن هي المحطة التلفزيونية التي استحدثت برمجة خاصة به؟

شعار تلفزيون لبنان (الشرق الأوسط)

«تلفزيون لبنان» أول محطة واكبته

يُعد «تلفزيون لبنان» أول محطة بثت المحتوى البصري في لبنان، ومن الأوائل في العالم العربي.

أسّست المحطة على يد وسام عز الدين بالشراكة مع شركة «طومسون» الفرنسية المنتجة للتلفزيونات. وبمساعدة دوري شمعون، نجل الرئيس كميل شمعون، استحصلوا على رخصة للبث عام 1957، إلا أنه بسبب أحداث عام 1958 في لبنان، تأخر التنفيذ إلى العام التالي 1959. وشيّد المبنى الخاص بالمحطة الوليدة في محلة تلة الخياط بالعاصمة بيروت.

في أوائل الستينات أخذت هذه المحطة على عاتقها مواكبة الشهر الفضيل. وسبق للإعلامي زافين قيوميجيان أن أصدر سلسلة كتب عن تاريخ «تلفزيون لبنان» وأهم حقباته، خاصة أن هذه المحطة كانت أول محطة تلفزيونية عمل فيها مع بداية مشواره الإعلامي.

في حديث لـ«الشرق الأوسط» يتذكّر زافين تلك الحقبة من خلال أبحاث ودراسات قام بها، ويقول: «البرمجة الرمضانية استهلت، مع ما كان معروفاً يومها بـ(تلفزيون لبنان والمشرق) في الحازمية و(تلفزيون لبنان) في تلة الخياط قبل أن يتوحّدا. وكان نجم تلك الحقبة الرمضانية الفنان يوسف شامل، مؤلف وبطل برنامج (الدني هيك). وتخلّل تلك الفترة برامج أخرى رمضانية، بينها برنامج الحكواتي مع (أبو العبد البيروتي)، إلا أنها لم تلق النجاح المنتظر؛ إذ ظهرت كعادات وتقاليد جديدة على اللبنانيين، سيما وأن انتشار جهاز التلفزيون كان لا يزال خجولاً».

ويتابع زافين قيومبجيان: «في الثمانينات استحدثت مصر برامج رمضانية مشهورة بينها (فوازير رمضان) لنيللي وشريهان. ومن باب الاتفاق التعاوني بين (تلفزيون لبنان) و(الاتحاد العربي للتلفزيون) دخلت هذه الموجة الشاشة اللبنانية، وحققت يومها نجاحاً ملحوظاً... وخصوصاً أن (تلفزيون لبنان) راح يواكبها بمسابقات رمضانية تخول المشاهد ربح الجوائز».

وبحسب زافين، لحقت بهذه المرحلة الدراما الرمضانية. وشهدت الشاشة اللبنانية عروضاً لمسلسلات مشهورة في تلك الحقبة كـ«رأفت الهجّان» و«ليالي الحلمية». واختتم بالقول: «بقي الأمر على ما هو عليه حتى التسعينات عند بزوغ فجر تلفزيون «المستقبل».

جابر: «المستقبل» أول من نظم برمجة رمضانية

شكلت ولادة تلفزيون «المستقبل» علامة فارقة في عالم الإعلام المرئي اللبناني منذ انطلاقتها في عام 1993؛ إذ كان أول قناة فضائية لبنانية تبث بالعربية. ووقف وراء تأسيس هذا الصرح الإعلامي رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. وحقاً، استطاع من خلاله نقل الإعلام المرئي اللبناني إلى مستوى رفيع، ووفّر له انتشاراً واسعاً طال أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا والبلدان العربية.

الإعلامي علي جابر، عميد معهد الاتصالات في الجامعة الأميركية بدبي ومدير مجموعة «إم بي سي»، كلفه الرئيس الراحل الحريري يومها، بإدارة قناة «المستقبل»، فتولى هذه المهمة منذ عام 1992 لغاية 2003. وعلى يد جابر ولدت البرمجة الرمضانية المنظمة على شاشة لبنانية.

علي جابر (الشرق الأوسط)

في لقاء مع «الشرق الأوسط» شرح جابر: «(المستقبل) كان سباقاً في أمور كثيرة استحدثها على الشاشة الصغيرة، ثم لحقت به باقي محطات التلفزة. وهنا يعود الفضل للرئيس الراحل الحريري الذي أراد (المستقبل) منبراً إعلامياً متوهجاً. ورغب بالفعل من خلاله أن يغيّر صورة لبنان الحرب، ويعيده بلد الازدهار. كان الحريري مدركاً أهمية الشهر الفضيل عند اللبنانيين بجميع أطيافهم، فأوكلني يومها بإدارة المحطة، وطلب مني تنظيم برمجة خاصة برمضان».

من هذا المنطلق، حشد جابر حوله فريقاً علمياً مبدعاً من طلابه في الجامعة، فحقق أول خطوة إلى الأمام مع نبض شبابي جديد، «ما كان قد انخرط بعد ببرمجة التلفزيون التقليدي» كما يقول. ومع هؤلاء الطلاب، وضع جابر خطة لرمضان بعدما درس طبيعة المتلقي، وأخذ بعين الاعتبار أقسام يوم كامل من أيام الشهر الكريم. وأوضح: «لقد فكرنا بأن ما يجب عرضه على الشاشة من برامج رمضانية قبل الإفطار لا تشبه ما بعده».

وسار جابر بخطته العلمية هذه معرّجاً أيضاً على فترة الأمسيات عند اللبناني التي تختتم بالسحور، فوقف على أهواء وأذواق ومتطلبات الشارع كي يقدم المحتوى الذي يليق بهذا الشهر.

خيم رمضان من بيروت إلى العالم

لقد كان أول من فكّر بـ«الخيمة الرمضانية»، وبإيعاز من الراحل رفيق الحريري، النائب السابق سليم دياب. وحقاً استقدم الأقمشة المصرية الحمراء السميكة والمزخرفة لتغطي جدرانها، وراح تلفزيون «المستقبل» ينقل أجواء الساهرين فيها عبر شاشته مباشرة. وكان اللبنانيون من مختلف المناطق يقصدونها عند الإفطار أو السحور.

وبعدها توسّعت الظاهرة على يد رجل الأعمال بشارة نمّور، الذي وضع حجر الأساس لمجموعة خيم من هذا النوع في منطقة الأونيسكو ببيروت عُرفت بـ«خيام الهنا». وصارت عنواناً مشهوراً للبنانيين المقيمين والمغتربين وحتى للسياح العرب، يرتادونها من كل حدب وصوب، وتحولت إلى ملتقى اللبنانيين مع أهاليهم في السعودية، وأي بلد اغترابي آخر، فيتصلون مباشرة بأولادهم ويوجهون إليهم التحية وتنقلها شاشة «المستقبل» مباشرة على الهواء.

هذا، وكان عدد من الفنانين يسهمون في إحياء الحفلات الغنائية والموسيقية فيها، بينهم نانسي عجرم التي نالت أول قسطها من الشهرة عبر الشاشة المذكورة من خلال برنامج المواهب «نجوم المستقبل». وبعد «خيام الهنا» توسّعت هذه الظاهرة أكثر لتشمل مطاعم ومقاهي فنادق وغيرها، كما ذاع صيتها في العالم العربي فراحت بلدان عدة بدورها تقيم خيامها.

تطور برامج رمضان على الشاشة اللبنانية

وفق أرشيف «تلفزيون لبنان»، فإن باقة برامج رمضانية كانت تلون شاشته منذ الستينات وصولاً إلى أوائل التسعينات. ولعل أشهرها «جحا» و«مسحّر رمضان» و«مع إسماعيل ياسين». وكانت كلها برامج تلفزيونية من إنتاجه، ويشارك فيها فنانون معروفون كدريد لحام وشوشو وإسماعيل ياسين وغيرهم. وكان رئيس إدارة التلفزيون، يومذاك، الجنرال سليمان نوفل، قد أخذ على عاتقه تلوين شاشته بها. أما المسلسلات فكانت تتألف من «هو وهي» و«عريس الهنا» و«أبواب المدينة» و«باكيزة وزغلول».

وأما تلفزيون «المستقبل» فكان من أوائل مسلسلاته المعروضة «الحفار» و«إخوة في التراب». وكانت هذه تعرض بعد الإفطار، ويسبقها برامج روحانية تتألف من الصلاة والدعاء. وبعد المسلسلات يُصار إلى نقل أجواء الخيم الرمضانية. وهي برمجة عمل عليها علي جابر كي تواكب يوماً رمضانياً كاملاً.

ومن ناحيته، فإن تلفزيون «إل بي سي» انخرط في هذه الموجة منذ عام 1987. وكانت الباكورة باقة من برامج دينية كـ«صدق الله ورسوله»، و«على هامش السياق»، لتتطوّر بعدها لعروض فوازير رمضان لشيريهان وبرنامج «ألف ليلة وليلة». وفي عام 1996 أنتجت المحطة مسلسلاً درامياً خاصاً برمضان هو «تجارة عن تراض». وفي عام 1997 أطلقت برامج الألعاب مع طوني خليفة «بتخسر إذا ما بتلعب».

وقبله كان ميشال قزّي، المذيع التلفزيوني على قناة «المستقبل»، قد حقق شهرة واسعة في مواسم رمضان في لبنان والعالم العربي. وجاء ذلك على خلفية تقديمه برامج الألعاب والجوائز «ميشو شو». وتأثر المشاهد في تلك الفترة بعبارات كان يرددها مثل: «إلك» و«وينك»، فغدت متداولة بشكل ملحوظ.

يُعد «تلفزيون لبنان» أول محطة بثت المحتوى البصري في لبنان ومن الأوائل في العالم العربي

شري: «المستقبل» كان السبّاق رمضانياً

اشتهرت المذيعة التلفزيونية يمنى شري وجهاً محبوباً في قناة «المستقبل». وخلال مواسم رمضان استطاعت يمنى أن تكسب شعبية كبرى من خلال إجرائها حوارات في الخيم الرمضانية. كذاك كانت لها تجارب عدة في عالم التقديم في تلك المواسم. وخلال لقاء مع «الشرق الأوسط» قالت يمنى شري: «كل ما نراه اليوم على محطات التلفزة سبق أن قدمه تلفزيون (المستقبل) على شاشته. فالفريق العامل فيه كان مبدعاً وصاحب أفكار. وأنا أحتفظ بذكريات كثيرة عن فترة شهر رمضان... إذ قدمت برامج مختلفة على مدى سنوات طويلة بينها «طل القمر»، و«ليل وقمر ونجوم وسهر»، و«جولة يمنى في العالم العربي».

يمنى شري (الشرق الأوسط)

وتتابع يمنى كلامها فتذكر أن «فترة النقل المباشر من (خيام الهنا) كانت تحمل الفرح والطاقة الإيجابية للبنانيين الخارجين لتوهم من مرحلة حرب طويلة، فيزحفون بالآلاف إلى تلك الخيم ليسهروا فيها ويوجهون التحيات إلى أهاليهم وأقاربهم في المهجر. وكنت أخصص هذا الموسم بأزياء ومحتوى يلائمان المناسبة. وهكذا، كانت المشهدية برمّتها جميلة فيها الكثير من راحة البال والأمان. ولا أنسى هنا أبداً استضافتي للفنان الكبير سيد مكاوي في واحدة من الحلقات الرمضانية التي كنت أقدمها... كان النجوم من لبنان والعالم العربي توّاقين للظهور على هذه الشاشة لشهرتها الواسعة».


مقالات ذات صلة

سامر البرقاوي لـ«الشرق الأوسط»: هاجسي فكريّ قبل أن يكون إنتاجياً

يوميات الشرق وحدها الثقة بمَن يعمل معهم تُخفّف الحِمْل (صور المخرج)

سامر البرقاوي لـ«الشرق الأوسط»: هاجسي فكريّ قبل أن يكون إنتاجياً

ينظر المخرج السوري سامر البرقاوي إلى ما قدَّم برضا، ولا يفسح المجال لغصّة من نوع «ماذا لو أنجرتُ بغير هذا الشكل في الماضي؟»... يطرح أسئلة المستقبل.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق تعبُ مصطفى المصطفى تجاه أن يكون الدور حقيقياً تسبَّب في نجاحه (صور الفنان)

مصطفى المصطفى: ننجح حين نؤدّي الدور لا وجهات نظرنا

اكتسبت الشخصية خصوصية حين وضعها النصّ في معترك صراع الديوك. بمهارة، حضن الديك ومنحه الدفء. صوَّره مخلوقاً له وجوده، ومنحه حيّزاً خاصاً ضمن المشهد.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق كاميرا السوري أحمد الحرك تألّقت في «تاج» وتحلم برونالدو

كاميرا السوري أحمد الحرك تألّقت في «تاج» وتحلم برونالدو

بين الوجوه ما يُنجِح الصورة من المحاولة الأولى، وبينها غير المهيّأ للتصوير. يتدخّل أحمد الحرك لالتقاط الإحساس الصحيح والملامح المطلوبة.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق الفنان المصري دياب حمل السلاح من أجل «مليحة» (الشرق الأوسط)

دياب: لن أجامل أحداً في اختيار أدواري

أكد الفنان المصري دياب أنه وافق على مسلسل «مليحة» ليكون بطولته الأولى في الدراما التلفزيونية من دون قراءة السيناريو، وذكر أنه تعلّم حمل السلاح من أجل الدور.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق استلهمت الكثير من نجمي العمل بسام كوسا وتيم حسن (إنستغرام)

فايا يونان لـ«الشرق الأوسط»: الشهرة بمثابة عوارض جانبية لا تؤثر عليّ

تابعت فايا يونان دورها على الشاشة الصغيرة في مسلسل «تاج» طيلة شهر رمضان. فكانت تنتظر موعد عرضه كغيرها من مشاهديه.

فيفيان حداد (بيروت)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.