برامج رمضان على الشاشة اللبنانية الصغيرة تعود إلى عقد الستينات

«تلفزيون لبنان» افتتحها... و«المستقبل» استحدث الموجة

زافين قيوميجيان (الشرق الأوسط)
زافين قيوميجيان (الشرق الأوسط)
TT

برامج رمضان على الشاشة اللبنانية الصغيرة تعود إلى عقد الستينات

زافين قيوميجيان (الشرق الأوسط)
زافين قيوميجيان (الشرق الأوسط)

تحافظ الشاشة الصغيرة على مكانتها عند المشاهد العربي عامة، واللبناني خاصة، في موسم رمضان، فتستعيد بريقها، ويتحلق أفراد الأسرة حولها.

اللحظات التي يمضيها الأب والأم مع أولادهما يتابعون خلالها مسلسلاً أو برنامجاً رمضانياً، لها قيمة إضافية، محببة إلى قلوبهم، وتولّد بينهم متعة الحوار.

الجلسة أمام الشاشة تجمعهم من جديد، وتشكل نوعاً من لقاء ينتظرونه من عام إلى آخر، فيتسامرون ويتبادلون التعليقات حول المحتوى البصري الذي يتابعونه.

هذه السنة شهدت الشاشات المحلية اللبنانية تنافساً في برمجتها الرمضانية، وحاولت كل محطة أن تقدم الأفضل لمتابعيها، واختارت للشهر الفضيل برامج ترفيهية وأعمالاً درامية من الصف الأول كي يتعلق المشاهد بشاشتها. ولكن متى انخرطت الشاشة الصغيرة في أجواء رمضان؟ ومن هي المحطة التلفزيونية التي استحدثت برمجة خاصة به؟

شعار تلفزيون لبنان (الشرق الأوسط)

«تلفزيون لبنان» أول محطة واكبته

يُعد «تلفزيون لبنان» أول محطة بثت المحتوى البصري في لبنان، ومن الأوائل في العالم العربي.

أسّست المحطة على يد وسام عز الدين بالشراكة مع شركة «طومسون» الفرنسية المنتجة للتلفزيونات. وبمساعدة دوري شمعون، نجل الرئيس كميل شمعون، استحصلوا على رخصة للبث عام 1957، إلا أنه بسبب أحداث عام 1958 في لبنان، تأخر التنفيذ إلى العام التالي 1959. وشيّد المبنى الخاص بالمحطة الوليدة في محلة تلة الخياط بالعاصمة بيروت.

في أوائل الستينات أخذت هذه المحطة على عاتقها مواكبة الشهر الفضيل. وسبق للإعلامي زافين قيوميجيان أن أصدر سلسلة كتب عن تاريخ «تلفزيون لبنان» وأهم حقباته، خاصة أن هذه المحطة كانت أول محطة تلفزيونية عمل فيها مع بداية مشواره الإعلامي.

في حديث لـ«الشرق الأوسط» يتذكّر زافين تلك الحقبة من خلال أبحاث ودراسات قام بها، ويقول: «البرمجة الرمضانية استهلت، مع ما كان معروفاً يومها بـ(تلفزيون لبنان والمشرق) في الحازمية و(تلفزيون لبنان) في تلة الخياط قبل أن يتوحّدا. وكان نجم تلك الحقبة الرمضانية الفنان يوسف شامل، مؤلف وبطل برنامج (الدني هيك). وتخلّل تلك الفترة برامج أخرى رمضانية، بينها برنامج الحكواتي مع (أبو العبد البيروتي)، إلا أنها لم تلق النجاح المنتظر؛ إذ ظهرت كعادات وتقاليد جديدة على اللبنانيين، سيما وأن انتشار جهاز التلفزيون كان لا يزال خجولاً».

ويتابع زافين قيومبجيان: «في الثمانينات استحدثت مصر برامج رمضانية مشهورة بينها (فوازير رمضان) لنيللي وشريهان. ومن باب الاتفاق التعاوني بين (تلفزيون لبنان) و(الاتحاد العربي للتلفزيون) دخلت هذه الموجة الشاشة اللبنانية، وحققت يومها نجاحاً ملحوظاً... وخصوصاً أن (تلفزيون لبنان) راح يواكبها بمسابقات رمضانية تخول المشاهد ربح الجوائز».

وبحسب زافين، لحقت بهذه المرحلة الدراما الرمضانية. وشهدت الشاشة اللبنانية عروضاً لمسلسلات مشهورة في تلك الحقبة كـ«رأفت الهجّان» و«ليالي الحلمية». واختتم بالقول: «بقي الأمر على ما هو عليه حتى التسعينات عند بزوغ فجر تلفزيون «المستقبل».

جابر: «المستقبل» أول من نظم برمجة رمضانية

شكلت ولادة تلفزيون «المستقبل» علامة فارقة في عالم الإعلام المرئي اللبناني منذ انطلاقتها في عام 1993؛ إذ كان أول قناة فضائية لبنانية تبث بالعربية. ووقف وراء تأسيس هذا الصرح الإعلامي رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. وحقاً، استطاع من خلاله نقل الإعلام المرئي اللبناني إلى مستوى رفيع، ووفّر له انتشاراً واسعاً طال أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا والبلدان العربية.

الإعلامي علي جابر، عميد معهد الاتصالات في الجامعة الأميركية بدبي ومدير مجموعة «إم بي سي»، كلفه الرئيس الراحل الحريري يومها، بإدارة قناة «المستقبل»، فتولى هذه المهمة منذ عام 1992 لغاية 2003. وعلى يد جابر ولدت البرمجة الرمضانية المنظمة على شاشة لبنانية.

علي جابر (الشرق الأوسط)

في لقاء مع «الشرق الأوسط» شرح جابر: «(المستقبل) كان سباقاً في أمور كثيرة استحدثها على الشاشة الصغيرة، ثم لحقت به باقي محطات التلفزة. وهنا يعود الفضل للرئيس الراحل الحريري الذي أراد (المستقبل) منبراً إعلامياً متوهجاً. ورغب بالفعل من خلاله أن يغيّر صورة لبنان الحرب، ويعيده بلد الازدهار. كان الحريري مدركاً أهمية الشهر الفضيل عند اللبنانيين بجميع أطيافهم، فأوكلني يومها بإدارة المحطة، وطلب مني تنظيم برمجة خاصة برمضان».

من هذا المنطلق، حشد جابر حوله فريقاً علمياً مبدعاً من طلابه في الجامعة، فحقق أول خطوة إلى الأمام مع نبض شبابي جديد، «ما كان قد انخرط بعد ببرمجة التلفزيون التقليدي» كما يقول. ومع هؤلاء الطلاب، وضع جابر خطة لرمضان بعدما درس طبيعة المتلقي، وأخذ بعين الاعتبار أقسام يوم كامل من أيام الشهر الكريم. وأوضح: «لقد فكرنا بأن ما يجب عرضه على الشاشة من برامج رمضانية قبل الإفطار لا تشبه ما بعده».

وسار جابر بخطته العلمية هذه معرّجاً أيضاً على فترة الأمسيات عند اللبناني التي تختتم بالسحور، فوقف على أهواء وأذواق ومتطلبات الشارع كي يقدم المحتوى الذي يليق بهذا الشهر.

خيم رمضان من بيروت إلى العالم

لقد كان أول من فكّر بـ«الخيمة الرمضانية»، وبإيعاز من الراحل رفيق الحريري، النائب السابق سليم دياب. وحقاً استقدم الأقمشة المصرية الحمراء السميكة والمزخرفة لتغطي جدرانها، وراح تلفزيون «المستقبل» ينقل أجواء الساهرين فيها عبر شاشته مباشرة. وكان اللبنانيون من مختلف المناطق يقصدونها عند الإفطار أو السحور.

وبعدها توسّعت الظاهرة على يد رجل الأعمال بشارة نمّور، الذي وضع حجر الأساس لمجموعة خيم من هذا النوع في منطقة الأونيسكو ببيروت عُرفت بـ«خيام الهنا». وصارت عنواناً مشهوراً للبنانيين المقيمين والمغتربين وحتى للسياح العرب، يرتادونها من كل حدب وصوب، وتحولت إلى ملتقى اللبنانيين مع أهاليهم في السعودية، وأي بلد اغترابي آخر، فيتصلون مباشرة بأولادهم ويوجهون إليهم التحية وتنقلها شاشة «المستقبل» مباشرة على الهواء.

هذا، وكان عدد من الفنانين يسهمون في إحياء الحفلات الغنائية والموسيقية فيها، بينهم نانسي عجرم التي نالت أول قسطها من الشهرة عبر الشاشة المذكورة من خلال برنامج المواهب «نجوم المستقبل». وبعد «خيام الهنا» توسّعت هذه الظاهرة أكثر لتشمل مطاعم ومقاهي فنادق وغيرها، كما ذاع صيتها في العالم العربي فراحت بلدان عدة بدورها تقيم خيامها.

تطور برامج رمضان على الشاشة اللبنانية

وفق أرشيف «تلفزيون لبنان»، فإن باقة برامج رمضانية كانت تلون شاشته منذ الستينات وصولاً إلى أوائل التسعينات. ولعل أشهرها «جحا» و«مسحّر رمضان» و«مع إسماعيل ياسين». وكانت كلها برامج تلفزيونية من إنتاجه، ويشارك فيها فنانون معروفون كدريد لحام وشوشو وإسماعيل ياسين وغيرهم. وكان رئيس إدارة التلفزيون، يومذاك، الجنرال سليمان نوفل، قد أخذ على عاتقه تلوين شاشته بها. أما المسلسلات فكانت تتألف من «هو وهي» و«عريس الهنا» و«أبواب المدينة» و«باكيزة وزغلول».

وأما تلفزيون «المستقبل» فكان من أوائل مسلسلاته المعروضة «الحفار» و«إخوة في التراب». وكانت هذه تعرض بعد الإفطار، ويسبقها برامج روحانية تتألف من الصلاة والدعاء. وبعد المسلسلات يُصار إلى نقل أجواء الخيم الرمضانية. وهي برمجة عمل عليها علي جابر كي تواكب يوماً رمضانياً كاملاً.

ومن ناحيته، فإن تلفزيون «إل بي سي» انخرط في هذه الموجة منذ عام 1987. وكانت الباكورة باقة من برامج دينية كـ«صدق الله ورسوله»، و«على هامش السياق»، لتتطوّر بعدها لعروض فوازير رمضان لشيريهان وبرنامج «ألف ليلة وليلة». وفي عام 1996 أنتجت المحطة مسلسلاً درامياً خاصاً برمضان هو «تجارة عن تراض». وفي عام 1997 أطلقت برامج الألعاب مع طوني خليفة «بتخسر إذا ما بتلعب».

وقبله كان ميشال قزّي، المذيع التلفزيوني على قناة «المستقبل»، قد حقق شهرة واسعة في مواسم رمضان في لبنان والعالم العربي. وجاء ذلك على خلفية تقديمه برامج الألعاب والجوائز «ميشو شو». وتأثر المشاهد في تلك الفترة بعبارات كان يرددها مثل: «إلك» و«وينك»، فغدت متداولة بشكل ملحوظ.

يُعد «تلفزيون لبنان» أول محطة بثت المحتوى البصري في لبنان ومن الأوائل في العالم العربي

شري: «المستقبل» كان السبّاق رمضانياً

اشتهرت المذيعة التلفزيونية يمنى شري وجهاً محبوباً في قناة «المستقبل». وخلال مواسم رمضان استطاعت يمنى أن تكسب شعبية كبرى من خلال إجرائها حوارات في الخيم الرمضانية. كذاك كانت لها تجارب عدة في عالم التقديم في تلك المواسم. وخلال لقاء مع «الشرق الأوسط» قالت يمنى شري: «كل ما نراه اليوم على محطات التلفزة سبق أن قدمه تلفزيون (المستقبل) على شاشته. فالفريق العامل فيه كان مبدعاً وصاحب أفكار. وأنا أحتفظ بذكريات كثيرة عن فترة شهر رمضان... إذ قدمت برامج مختلفة على مدى سنوات طويلة بينها «طل القمر»، و«ليل وقمر ونجوم وسهر»، و«جولة يمنى في العالم العربي».

يمنى شري (الشرق الأوسط)

وتتابع يمنى كلامها فتذكر أن «فترة النقل المباشر من (خيام الهنا) كانت تحمل الفرح والطاقة الإيجابية للبنانيين الخارجين لتوهم من مرحلة حرب طويلة، فيزحفون بالآلاف إلى تلك الخيم ليسهروا فيها ويوجهون التحيات إلى أهاليهم وأقاربهم في المهجر. وكنت أخصص هذا الموسم بأزياء ومحتوى يلائمان المناسبة. وهكذا، كانت المشهدية برمّتها جميلة فيها الكثير من راحة البال والأمان. ولا أنسى هنا أبداً استضافتي للفنان الكبير سيد مكاوي في واحدة من الحلقات الرمضانية التي كنت أقدمها... كان النجوم من لبنان والعالم العربي توّاقين للظهور على هذه الشاشة لشهرتها الواسعة».


مقالات ذات صلة

سامر البرقاوي لـ«الشرق الأوسط»: هاجسي فكريّ قبل أن يكون إنتاجياً

يوميات الشرق وحدها الثقة بمَن يعمل معهم تُخفّف الحِمْل (صور المخرج)

سامر البرقاوي لـ«الشرق الأوسط»: هاجسي فكريّ قبل أن يكون إنتاجياً

ينظر المخرج السوري سامر البرقاوي إلى ما قدَّم برضا، ولا يفسح المجال لغصّة من نوع «ماذا لو أنجرتُ بغير هذا الشكل في الماضي؟»... يطرح أسئلة المستقبل.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق تعبُ مصطفى المصطفى تجاه أن يكون الدور حقيقياً تسبَّب في نجاحه (صور الفنان)

مصطفى المصطفى: ننجح حين نؤدّي الدور لا وجهات نظرنا

اكتسبت الشخصية خصوصية حين وضعها النصّ في معترك صراع الديوك. بمهارة، حضن الديك ومنحه الدفء. صوَّره مخلوقاً له وجوده، ومنحه حيّزاً خاصاً ضمن المشهد.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق كاميرا السوري أحمد الحرك تألّقت في «تاج» وتحلم برونالدو

كاميرا السوري أحمد الحرك تألّقت في «تاج» وتحلم برونالدو

بين الوجوه ما يُنجِح الصورة من المحاولة الأولى، وبينها غير المهيّأ للتصوير. يتدخّل أحمد الحرك لالتقاط الإحساس الصحيح والملامح المطلوبة.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق الفنان المصري دياب حمل السلاح من أجل «مليحة» (الشرق الأوسط)

دياب: لن أجامل أحداً في اختيار أدواري

أكد الفنان المصري دياب أنه وافق على مسلسل «مليحة» ليكون بطولته الأولى في الدراما التلفزيونية من دون قراءة السيناريو، وذكر أنه تعلّم حمل السلاح من أجل الدور.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق استلهمت الكثير من نجمي العمل بسام كوسا وتيم حسن (إنستغرام)

فايا يونان لـ«الشرق الأوسط»: الشهرة بمثابة عوارض جانبية لا تؤثر عليّ

تابعت فايا يونان دورها على الشاشة الصغيرة في مسلسل «تاج» طيلة شهر رمضان. فكانت تنتظر موعد عرضه كغيرها من مشاهديه.

فيفيان حداد (بيروت)

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
TT

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)

قبل 861 عاماً، نهضت كاتدرائية «نوتردام دو باريس» في قلب العاصمة الفرنسية. ومع مرور العقود والعصور تحوّلت إلى رمز لباريس، لا بل لفرنسا. ورغم الثورات والحروب بقيت «نوتردام» صامدة حيث هي، في قلب باريس وحارسة نهر السين الذي يغسل قدميها. إلا أن المأساة حلّت في شهر أبريل (نيسان) من عام 2019، عندما اندلع حريق هائل، التهمت نيرانه أقساماً رئيسة من الكاتدرائية التي انهار سقفها وتهاوى «سهمها»، وكان سقوطه مدوياً.

منظر للنافذة الوردية الجنوبية لكاتدرائية نوتردام دو باريس(رويترز)

حريق «نوتردام» كارثة وطنية

وكارثة «نوتردام» تحوّلت إلى مأساة وطنية، إذ كان يكفي النظر إلى آلاف الباريسيين والفرنسيين والسياح الذين تسمّروا على ضفتي نهر السين ليشهدوا المأساة الجارية أمام عيونهم. لكن اللافت كانت السرعة التي قررت فيها السلطات المدنية والكنسية مباشرة عملية الترميم، وسريعاً جدّاً، أطلقت حملة تبرعات.

وفي كلمة متلفزة له، سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى شد أزر مواطنيه، مؤكداً أن إعادة بناء الكاتدرائية و«إرجاعها أجمل مما كانت» ستبدأ من غير تأخير. وأعلن تأسيس هيئة تشرف عليها، وأوكل المهمة إلى الجنرال جان لويس جورجولين، رئيس أركان القوات المسلحة السابق. وبدأت التبرعات بالوصول.

وإذا احتاجت الكاتدرائية لقرنين لاكتمال بنائها، فإن ترميمها جرى خلال 5 سنوات، الأمر الذي يعد إنجازاً استثنائياً لأنه تحول إلى قضية وطنية، لا بل عالمية بالنظر للتعبئة الشعبية الفرنسية والتعاطف الدولي، بحيث تحوّلت الكاتدرائية إلى رابطة تجمع الشعوب.

وتبين الأرقام التي نشرت حديثاً أن التبرعات تدفقت من 340 ألف شخص، من 150 دولة، قدّموا 846 مليون يورو، إلا أن القسم الأكبر منها جاء من كبار الممولين والشركات الفرنسية، ومن بينهم من أسهم بـ200 مليون يورو. ومن بين الأجانب المتبرعين، هناك 50 ألف أميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وكان أحد الأسباب التي دفعته للمجيء إلى فرنسا؛ البلد الأول الذي يزوره بعد إعادة انتخابه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

متطوعون يضعون برنامج الحفل على المقاعد قبل الحفل (أ.ف.ب)

منذ ما يزيد على الشهر، تحوّلت الكاتدرائية إلى موضوع إلزامي في كل الوسائل الإعلامية. وخلال الأسبوع الحالي، حفلت الصحف والمجلات وقنوات التلفزة والإذاعات ببرامج خاصة تروي تاريخ الكاتدرائية والأحداث الرئيسة التي عاشتها في تاريخها الطويل.

وللدلالة على الأهمية التي احتلتها في الوعي الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية زارها 7 مرات للاطلاع على التقدم الذي حققه المهنيون والحرفيون في إعادة البناء والترميم. وإذا كانت الكاتدرائية تجتذب قبل 2012 ما لا يقل عن 12 مليون زائر كل عام، فإن توقعات المشرفين عليها تشير إلى أن العدد سيصل العام المقبل إلى 15 مليوناً من كل أنحاء العالم.

المواطنون والسياح ينتظرون إفساح المجال للوصول الى ساحة الكاتدرائية (أ.ف.ب)

باريس «عاصمة العالم»

خلال هذين اليومين، تحوّلت باريس إلى «عاصمة العالم»، ليس فقط لأن قصر الإليزيه وجّه دعوات لعشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين حضر منهم نحو الخمسين، ولكن أيضاً لأن الاحتفالية حظيت بنقل مباشر إلى مئات الملايين عبر العالم.

وقادة الدول الذين قدّموا إلى «عاصمة النور» جاءوا إليها من القارات الخمس. وبسبب هذا الجمع الدولي، فإن شرطة العاصمة ووزارة الداخلية عمدتا إلى تشكيل طوق أمني محكم لتجنب أي إخلال بالأمن، خصوصاً أن سلطاتها دأبت على التحذير من أعمال قد تكون ذات طابع إرهابي. وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب قد حظي بالاهتمام الأكبر، ليس لأنه من المؤمنين المواظبين، بل لأنه يُمثل بلداً له تأثيره على مجريات العالم.

لكن في المقابل، تأسف الفرنسيون لأن البابا فرنسيس اعتذر عن تلبية الدعوة. والمثير للدهشة أنه سيقوم بزيارة جزيرة كورسيكا المتوسطية الواقعة على بُعد رمية حجر من شاطئ مدينة نيس اللازوردية، في 15 الشهر الحالي. والمدهش أيضاً أنه منذ أن أصبح خليفة القديس بطرس في روما، «المدينة الخالدة»، فإنه زار فرنسا مرتين، ثانيها كانت لمدينة مرسيليا الساحلية. بيد أنه لم يأتِ إلى باريس إطلاقاً. ووفق مصادر واسعة الاطلاع، فإن قرار البابا أحدث خيبة على المستويين الديني والرسمي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث تاريخي رئيس، وهو أن بابا روما بيوس السابع، قدم إلى باريس يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1804، لتتويج نابليون الأول إمبراطوراً.

وتمثل لوحة الرسام الفرنسي الشهير لوي دافيد، التي خلد فيها تتويج بونابرت، ما قام به الأخير الذي لم ينتظر أن يضع البابا التاج على رأسه، بل أخذه بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، وكذلك فعل مع الإمبراطورة جوزفين.

احتفالية استثنائية

لم يساعد الطقس مساعدي الاحتفالية الذين خططوا لأن تكون من جزأين: الأول رسمي، ويجري في ساحة الكاتدرائية الأمامية؛ حيث يلقي الرئيس ماكرون خطابه المقدر من 15 دقيقة، وبعدها الانتقال إلى الداخل للجزء الديني. وكان مقدراً للمواطنين الـ40 ألفاً، إضافة إلى 1500 مدعو حظوا بالوجود داخل الكاتدرائية، أن يتابعوا الحدث من المنصات التي نصبت على ضفتي نهر السين، إلا أن الأمطار والعواصف التي ضربت باريس ومنطقتها أطاحت بالبرنامج الرئيس، إذ حصلت كل الاحتفالية بالداخل. بيد أن الأمطار لم تقض على شعور استثنائي بالوحدة والسلام غلب على الحاضرين، وسط عالم ينزف جراء تواصل الحروب، سواء أكان في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أم في مطارح أخرى من العالم المعذب. وجاءت لحظة الولوج إلى الكاتدرائية، بوصفها إحدى المحطات الفارقة، إذ تمت وفق بروتوكول يعود إلى مئات السنين. بدءاً من إعادة فتح أولريش لأبواب «نوتردام» الخشبية الكبيرة بشكل رمزي.

كاتدرائية «نوتردام» السبت وسط حراسة أمنية استعداداً لإعادة افتتاحها (إ.ب.ى)

وسيقوم بالنقر عليها 3 مرات بعصا مصنوعة من الخشب المتفحم الذي جرى إنقاذه من سقف الكاتدرائية الذي دمرته النيران، وسيعلن فتح الكاتدرائية للعبادة مرة أخرى. ونقل عن المسؤول عن الكاتدرائية القس أوليفييه ريبادو دوما أن «نوتردام»، التي هي ملك الدولة الفرنسية، ولكن تديرها الكنيسة الكاثوليكية «أكثر من مجرد نصب تذكاري فرنسي وكنز محبوب من التراث الثقافي العالم، لا بل هي أيضاً علامة على الأمل، لأن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح ممكناً»، مضيفاً أنها أيضاً «رمز رائع».

الأرغن الضخم يحتوي على 8 آلاف مزمار تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام (أ.ف.ب)

كذلك، فإن تشغيل الأرغن الضخم الذي تم تنظيفه وتحضيره للمناسبة الاستثنائية، تم كذلك وفق آلية دقيقة. ففي حين ترتفع المزامير والصلوات والترانيم، فإنه جرى إحياء الأرغن المدوي، الذي صمت وتدهورت أوضاعه بسبب الحريق. ويحتوي الأرغن على 8 آلاف مزمار، تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام. وقام 4 من العازفين بتقديم مجموعة من الألحان بعضها جاء مرتجلاً.

إلى جانب الشقين الرسمي والديني، حرص المنظمون على وجود شق يعكس الفرح؛ إذ أدت مجموعة من الفنانين الفرنسيين والأجانب لوحات جميلة جديرة بالمكان الذي برز بحلة جديدة بأحجاره المتأرجحة بين الأبيض والأشقر وزجاجه الملون، وإرثه الذي تم إنقاذه من النيران وأعيد إحياؤه.

وبعد عدة أيام، سيُعاد فتح الكاتدرائية أمام الزوار الذي سيتدفقوة بالآلاف على هذا المعلم الاستثنائي.

حقائق

846 مليون يورو

تدفقت التبرعات من 340 ألف شخص من 150 دولة قدموا 846 مليون يورو لإعادة ترميم نوتردام