هل يعني الهدوء الظاهري الذي تبدو عليه معظم النساء اللواتي نصادفهن في حياتنا اليومية أنهن سعيدات، أو على الأقل هل ينفي تعرضهن لمأساة تجعلهن بحاجة إلى إطلاق صرخة مدوية؟ وإلى أي مدى تضع أحكامنا على المرأة من خلال مظهرها الخارجي ضغوطاً عليها وتُشعرها أنه لا يوجد من يهتم بجوهرها أو معاناتها الصامتة؟ وهل نلومها بعد كل ذلك إذا قررت أن تخدعنا بمظهر زائف لأنها تعرف يقينا أننا لن نتقبلها إلا عبر هذا الزيف؟
تطاردك مثل هذه التساؤلات وعلامات الاستفهام الملحة فور إسدال الستار على مسرحية «جسم وأسنان وشعر مستعار» التي تُعرض حالياً ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري، الممتدة فعالياته حتى 6 أغسطس (آب) الحالي.

يتناول العمل أزمات المرأة غير المنظورة وآلامها المكتومة، وفق عدد من الثنائيات منها الجسد والروح، المظهر والجوهر، الظاهر والباطن، من خلال 4 شخصيات يشتبكن في حديث حميم يبدو أشبه بصرخة يطلقنها تعبيراً عما يعتريهن من مرارة وإحساس بالاختناق تجاه الآخر والعالم؛ حتى لو جاءت تلك الصرخة أحياناً على هيئة بوح خافت أو «مونولوج»، وكأنه همسة أخيرة صادرة عن إنسان فقد الأمل في الوجود.
مؤلف ومخرج العرض، مازن الغرباوي، قال إن «الفكرة التي كانت تلحّ عليّ وأدت إلى ميلاد العمل تتعلّق بالتغيرات الحادة التي تنتاب الجسد الإنساني، وتغيّره من حال إلى حال وإلى أي حد قد تحمل تحديات نفسية عاصفة تهز صاحبها بقوة»، وأشار في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «أراد أن يختبر إلى أي حد يمكن لمثل هذه التغيرات التي هي ملمح إنساني بالأساس أن تعكس طبيعة المجتمع وثقافته».

تشكّل أحاديث النساء الأربع مجمل ما تمر به حواء من صراع درامي إزاء تمزقها الداخلي بين رغبتها في أن تكون تلقائية عفوية متصالحة مع نفسها، وكونها محاصَرة في وسط اجتماعي يريد منها أن تطابق صورة متخيلة تقوم على المظهر الجميل البراق، حتى لو كان ذلك عبر مفردات زائفة؛ مثل: الشعر المستعار، والأسنان المستعارة، والجسم الذي يستعين بكل شيء ليبدو على غير حقيقته.
يتسم العرض بالجرأة، فهو على مستوى المضمون يتبنّى رؤية تنحاز بقوة إلى المرأة، مفادها أن النساء ضحايا لمجتمع يصر على أن يحصرهن في زاوية واحدة عنوانها العريض المظهر السطحي الخارجي. كما أنه على مستوى «الشكل» يحطّم الأطر التقليدية، فلا توجد قصة بالمعنى المألوف، وإنما حالة من البوح الذي يتصاعد درامياً، حسب الحالة النفسية والمزاجية لكل ممثلة، مقترناً بالتعبير الجسدي الذي يعكس ما يعتري صاحبته من لحظات ألم ممتدة.
وتبدو الأجواء العامة للعرض ذات طابع قاتم، شبه سوداوي، يتوافق مع المضمون الفكري، ويتجلى ذلك من خلال الأزياء السوداء للممثلات والإضاءة الخافتة ومفردات الديكور البسيطة، مثل الأبواب الصماء التي تُوحي وكأننا في سجن أو حالة من الحصار. ورغم هذا الطابع الذي لا يبدو متفائلاً للغاية، تحمل النهابة «انفراجة ما» توحي ببصيص من الأمل حين يغمر الضوء وجوه البطلات وسط الظلام وكأنهن صرن أفضل بعد إطلاق العنان للحكايات المؤلمة التي طال حبسها في صدورهن.
وتمتد الجرأة لتشمل العنوان الذي بدا غريباً، غير مألوف، مع مسحة من المغامرة، فقد ينجذب إليه المتلقي بقوة أو ينفر منه بشدة؛ إذ يعكس رفض صناع العمل السير مع التيار في اختيار مسمى يعزف على وتر السائد أو المضمون.

الممثلات الأربع، نغم صالح، ونهال فهمي، وعلياء هاشم، وعزة حسن، أجدن في التعبير عن حالة التمزق الداخلي للمرأة حين تتظاهر بالقوة كقناع يُخفي ضعفها الداخلي أو يكتنفها الضعف في التعبير عن نفسها أو تشعر بالصدمة إزاء حالة «اللامنطق» التي تسود العالم.
وجاءت الاستعانة بأشعار الراحل أمل دنقل (1940- 1983) ضمن حوارات نجمات العرض، سواء مع أنفسهن أو مع المتلقي، متسقة للغاية ومتناغمة مع فكرة البوح، من خلال مقاطع قوية من قصائده تعزف على وتر الجراح الخفية للأرواح العطشى للتحرر والانطلاق، وهو ما علّق عليه مازن الغرباوي قائلاً: «أمل دنقل بالنسبة لي رمز كبير وحكاية وطن، وتُعدّ قصائده سجلاً حافلاً لانفعالات شتى ومشاعر صادقة في رقتها وعذوبتها وأيضاً في غضبها وجموحها».






