«بالسابع»: الرحم مرآة للعالم الخارجي وتاريخ مُبكر للأذى

مسرحية لجو الخوري تسرد سيرة أوجاع تبدأ من «النقطة صفر»

في مسرحية جو الخوري تتحوّل الرحم إلى خشبة (مسرح المونو)
في مسرحية جو الخوري تتحوّل الرحم إلى خشبة (مسرح المونو)
TT

«بالسابع»: الرحم مرآة للعالم الخارجي وتاريخ مُبكر للأذى

في مسرحية جو الخوري تتحوّل الرحم إلى خشبة (مسرح المونو)
في مسرحية جو الخوري تتحوّل الرحم إلى خشبة (مسرح المونو)

في مسرحية «بالسابع»، يخرج الجنين من صمته ليحكي. يُمنَح صوتاً، فيعترض ويُدين ويشهد. إنّه ذاك الكائن الغامض، المُعلَّق بين احتمالَي الحياة والعدم؛ الضئيل حدّ التلاشي، والمُحمَّل منذ اللحظة الأولى بإرثٍ نفسي لا يد له فيه. في هذا العمل الذي كتبه وأدّاه اللبناني جو الخوري، تتحوّل الرحم إلى خشبة مسرح، والجنين إلى بطل تراجيدي يرى كلّ شيء ولا يراه أحد.

على خشبة «المونو» البيروتية، قدَّم الخوري عرضه لـ4 ليالٍ، على أن يعود إلى المسرح في 7 و8 يوليو (تموز) المقبل. بدا العرض انغماساً في طبقات الوعي الأولى. مشهدية بانورامية تبدأ من نقطة التكوين، وتُمعِن في الاقتراب عبر عدسة «زوم إنْ» إلى ذلك الكيان النابض في الظلمة. هناك، حيث لا ضوء سوى نبض الأم، تتكشَّف تفاصيل الألم.

الجنين بطل تراجيدي يرى كلّ شيء ولا يراه أحد (مسرح المونو)

الجنين في «بالسابع» ليس بريئاً تماماً. إنّه ضحية... يُدرك ما لا يُدركه كثيرون. يستشعر الخوف من تقلُّبات مزاج الأم، من عنف الأب، من صراخ الوجود، من اختيارات لم يُستَشر فيها، ومصائر كُتبت له قبل أن يُكتب له اسمه. فالمسرحية تقول إنّ الحياة تبدأ قبل الحياة. وإنّ الضرر لا يحتاج إلى ولادة كي يتسرَّب إلى النفس، وإنما يكفي أن تُنبتك الصدفة في أحشاء مضطربة.

الخيط السردي الذي يربط الداخل بالعالم الخارجي، شبيه بحبل السرّة: مرئيّ، لكنه هشّ... متين بما يكفي ليُغذّي، وضعيف بما يكفي ليخنق. الخيط هذا هو ما يشدّ العرض نحو اتّساقه ويمنعه من الانهيار أو التراخي. فمن رحم الأم، نرى الأم ذاتها تتبدَّل بين مشهد وآخر: في البدء خفيفة الظلّ، وفي الختام متآكلة ببطء. بين ضحكتها الأولى وارتباكها الأخير، تنعكس ارتجاجات العالم الخارجي على الكائن المُنغلق في داخله.

إخراج ميراي بانوسيان البديع يخلق توازياً بين الصورة والصوت (مسرح المونو)

في 50 دقيقة، يحكي العرض عن اشتباك عنيف بين الحلم والواقع، بين ما نريده وما يُفرَض علينا، وما يُدفَع من أثمانٍ بين الاثنين. فالعقدة النفسية لا تولد من حدث، وإنما من تراكم خفيّ لزلزال داخلي لا يراه أحد. «بالسابع» يُلخِّص مقولة «الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون». حتى قبل أن ينبت لهم ضرس.

أما الطبقة الثانية من العمل، فتتكشَّف من خلال إدخال قضية العنف الأسري. الجنين يتجاوز كونه مرآةً لهرمونات أمّ وذكورة أب، ليتراءى شاهداً على عنفٍ ممتدّ، على تدخّلات لا ترحم، على اختيارات تُسلَب منه وهو لم ينبض بعد. تتنازع حياته قوى متصارعة، تتشاجر على جنسه واسمه ومستقبله وهو بالكاد ينبض.

يخرج الجنين من صمته ويُمنَح صوتاً (مسرح المونو)

هنا، تبرز الأم بوصفها الحاضرة الغائبة؛ البطلة المكلومة. لا نراها، لكننا نسمعها. صوتها يتسرَّب من الظلال، ليحكي عن الحِمْل الثقيل الذي تضعه الأعراف على أكتاف النساء. البطولة ليست في ولادة الجنين وحدها. هي في احتمال فكرة الولادة ذاتها؛ منذ اللحظة الأولى التي تبدأ فيها المرأة التفاوض مع جسدها والعالم. فالضغط الاجتماعي يبدأ قبل أن يُعقَد القران، قبل أن تُنطَق كلمة «نعم». منذ أن تُزرَع في الذاكرة صورة عن «امرأة صالحة» و«أمّ مثالية» و«زوجة كاملة»، تبدأ معركة الإنهاك. العلاقة بالرجل ليست مسألة خاصة، وإنما ميدان تُراقَب فيه المرأة وتُحاسب عليه بصمت. وهكذا، تكون الرحم فضاء تتراكم فيه كل هذه الأثقال، ومنه يبدأ الجنين تلقُّف التصدّعات.

السينوغرافيا رفعت التجربة إلى مرتبة بصرية مؤثّرة. الضوء والظلّ يتداخلان، مثل امتداد للروح. إخراج ميراي بانوسيان البديع يخلق توازياً بين الصورة والصوت، فيتماهى السرد مع الخشبة، ويغدو العرض كائناً واحداً لا يعرف الانفصال.

الجنين بطل تراجيدي يرى كلّ شيء ولا يراه أحد (مسرح المونو)

جو الخوري على الخشبة كأنه يسبح في مائه. يتحرّك بحرّية، يُطعّم الأداء بمرارة ساخرة، لكنه في الوقت عينه يحتاج إلى مزيد من الغوص في أدواته التمثيلية. أن يكون النصّ صلباً والسينوغرافيا مُساندة، لا يُعفيان الممثل من مسؤولية التقمُّص الكامل. فلا يزال الخوري أحياناً يُشبه نفسه أكثر مما يُشبه شخصياته.

الجنين في «بالسابع» ضحية... يُدرك ما لا يُدركه كثيرون (مسرح المونو)

المخاض ذروة المسرحية؛ لا الولادة. ذاك العبور الجلجلي، حيث الألم يولِّد الإدراك، وتكون الصرخة الأولى صدى لمصالحة مستحيلة بين الموت والبدء. يولد الإنسان نتيجة صراع وجودي، وما إن يمدّ الجنين يده إلى موته الأول، حتى يُفتح له باب الحياة. وهكذا، مَن يولد لا يُمنَح فقط حقّ الوجود، وإنما يُجبَر على حَمْله، فلا تعود الولادة خلاصاً، بل بداية تورُّط.


مقالات ذات صلة

طارق تميم... من الكوميديا إلى أدوار الشرّ والتحدّي مستمر

يوميات الشرق من مسلسل «الخطيئة الأخيرة» في دور الشرير (إنستغرام الفنان)

طارق تميم... من الكوميديا إلى أدوار الشرّ والتحدّي مستمر

طارق تميم يُجسّد تحولاً لافتاً في مسيرته الفنية، منتقلاً من الكوميديا إلى أدوار الشرّ باحتراف، مع حفاظه على شغفه العميق بالمسرح.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق تقدم الفرق السعودية رقصات من التراث الوطني (هيئة المسرح والفنون الأدائية)

الفنون السعودية الأدائية تبرز في مهرجان أفينيون بفرنسا

تحل الفنون السعودية ضيفاً على مهرجان أفينيون الثقافي بفرنسا لتقدم للجمهور العالمي مجموعة مختارة من الفنون الأدائية والمسرحية.

يوميات الشرق كركلا يبهر بمشهديات من قوس قزح (مسرح كركلا)

«ألف ليلة وليلة» لفرقة كركلا إلى «مسرح البولشوي» في موسكو

عقد وزير الثقافة اللبناني غسان سلامة والمايسترو عبد الحليم كركلا والمخرج إيفان كركلا مؤتمراً صحافياً مشتركاً في مقر المكتبة الوطنية ببيروت.

سوسن الأبطح (بيروت)
يوميات الشرق عروض المهرجان وفعالياته امتدت للمحافظات (المهرجان القومي للمسرح المصري)

35 عرضاً للمنافسة في المهرجان القومي للمسرح المصري

 يشارك 35 عرضاً في المهرجان القومي للمسرح المصري خلال دورته الـ18 المقرر انطلاقها في 20 يوليو (تموز) الحالي.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق احتفاء كبير بعودة الفخراني للمسرح (وزارة الثقافة المصرية)

يحيى الفخراني يستعيد تألقه المسرحي تحت عباءة «الملك لير»

استعاد الفنان المصري يحيى الفخراني تألقه المسرحي عبر عرض «الملك لير» الذي تم افتتاحه مساء الثلاثاء.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

شراكة «صندوق الاستثمارات» و«فورمولا إي» تُعزز مستقبل النقل المستدام

جانب من ورشة العمل التي عُقدت في مدينة جدة غرب السعودية (الشرق الأوسط)
جانب من ورشة العمل التي عُقدت في مدينة جدة غرب السعودية (الشرق الأوسط)
TT

شراكة «صندوق الاستثمارات» و«فورمولا إي» تُعزز مستقبل النقل المستدام

جانب من ورشة العمل التي عُقدت في مدينة جدة غرب السعودية (الشرق الأوسط)
جانب من ورشة العمل التي عُقدت في مدينة جدة غرب السعودية (الشرق الأوسط)

أعلن «صندوق الاستثمارات العامة» السعودي، بالشراكة مع بطولة «فورمولا إي»، عن تجاوز البرنامج التعليمي الناتج عن الشراكة مستهدفه العالمي، بعد أن وصل إلى أكثر من 50 ألف طالب من مختلف دول العالم، قبل نهاية عام 2025، وهو الموعد الذي كان محدداً سابقاً لتحقيق هذا الإنجاز.

وجاء الإعلان خلال ورشة العمل المدرسية الأخيرة التي أقيمت في أكاديمية «هامرسميث» في العاصمة البريطانية لندن، أمس، لتختتم مرحلة أولى ناجحة من البرنامج، واستهدف تمكين الطلاب من الفئة العمرية بين 8 و18 عاماً في مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات، مع التركيز على مفاهيم الاستدامة ومجالات التنقل الكهربائي المستقبلي.

ويُعد برنامج «قوة الدفع» ثمرة التعاون بين «صندوق الاستثمارات العامة» و«فورمولا إي»، في إطار شراكة «E360» التي تجمع كذلك «إكستريم إي» و«إي 1»، بهدف دعم الابتكار في رياضة المحركات الكهربائية وتعزيز دورها في بناء مستقبل أكثر استدامة لقطاع النقل.

وشمل البرنامج ورش عمل حضورية وتجارب تفاعلية أُقيمت في مدارس السعودية، والولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المتحدة، إلى جانب محتوى رقمي متقدم يتيح للطلاب والمعلمين التفاعل عن بُعد، من خلال منصة تعليمية رقمية تحتوي على نماذج عملية لموضوعات مثل الاقتصاد الدائري، وتلوث الهواء، وحماية المحيطات، والفرص المهنية في رياضة المحركات الكهربائية.

ويأتي تحقيق البرنامج هدفه الطموح بتعليم أكثر من 50 ألف طالب حول العالم، ليعكس التزام الصندوق بتطوير الكفاءات الوطنية ونقل وتوطين

الطلاب المشاركون في أكاديمية «هامرسميث» في العاصمة البريطانية لندن (الشرق الأوسط)

المعرفة في المملكة، من خلال الاستثمار في المهارات المستقبلية والقطاعات الواعدة، وعلى رأسها التنقل المستدام والطاقة المتجددة.

وكان محمد الصياد، مدير إدارة الهوية المؤسسية في «صندوق الاستثمارات العامة»، قال في وقت سابق إن «البرنامج يعكس رؤية الصندوق في تمكين الجيل الجديد وتحفيزه نحو الابتكار، عبر توفير بيئة تعليمية تفاعلية تصقل المهارات الفنية في مجالات مستقبلية حيوية». وأضاف: «نحن ملتزمون عبر شراكتنا مع (E360) بتحقيق أثر مستدام، يعزز ريادة المملكة في مجالات التنقل النظيف، ويواكب التحول العالمي نحو حلول ذكية ومستدامة».

من جهته، قال أليخاندرو أجاج، المؤسس ورئيس مجلس إدارة «فورمولا إي» و«إكستريم إي» و«إي 1»: «نجح البرنامج في تجسيد دور الشراكة بين (فورمولا إي) و(صندوق الاستثمارات العامة) في دعم التحول نحو مستقبل مستدام. ويسعدنا أن نرى هذا التأثير الإيجابي الملموس على مستوى آلاف الطلاب حول العالم».

ويعتمد البرنامج على منهجيات تعليمية حديثة تناسب مختلف الأعمار، بدءاً من إعداد العروض والأبحاث العلمية، وصولاً إلى تصميم حلول عملية للتحديات التي تواجه قطاع التنقل المستدام. ويركز على تطوير مهارات التفكير النقدي، والعمل الجماعي، والابتكار التكنولوجي، بما يدعم توجهات الصندوق في تحفيز اقتصاد قائم على المعرفة.

وبحسب المعلومات الصادرة، فإن البرنامج يعد مثالاً على كيفية دمج التعليم بالترفيه والتقنية؛ إذ تم استثمار رياضة السيارات الكهربائية كمنصة لاختبار وتطوير تقنيات المحركات النظيفة، وتعزيز الوعي البيئي لدى الأجيال الجديدة، في وقت تتصدر فيه هذه الرياضة مشهد الابتكار العالمي في أنظمة النقل المستقبلية.

ويمثل تجاوز البرنامج مستهدفه العالمي الموعد المحدد، مؤشراً على نجاحه وتأثيره الواسع، وسط توقعات باستمرار توسعه ليشمل فئات جديدة ومناطق إضافية، مما يعزز مكانة المملكة بوصفها محوراً عالمياً لرياضات المستقبل، ووجهة رائدة في تطوير حلول التنقل المستدام.