تمثّل مسرحية «أبو الزوس» للمخرجة لينا خوري عودة مفرحة للمسرح اللبناني الأصيل. تلتقي في العمل جميع العناصر الفنية المطلوبة لتقديم مسرحية متكاملة، تعكس تعقيدات مجتمع نعيش فيه بعيداً عن السطحية. وهي بمثابة خلطة ذكية تعتمدها خوري لإيصال الرسالة مع ضحكة. تطرح ثيمات وجودية عدة ضمن نمط مسرحي فلسفي وبسيط في آن واحد.
تدور موضوعاتها حول أسئلة لا تزال الإجابات عنها متفاوتة، محورها الحرية والقلق من الغد. تمزج خوري بين الحقيقة والخيال. وبين العبثي والملحمي، السطحي والعميق. النص اقتبسته خوري عن مسرحية «God» للكاتب والسينمائي وودي آلن. وقد كتبها في السبعينات لتحمل طبقات إنسانية وفكرية لا تزال تحاكي مجتمعنا حتى يومنا هذا.
وعلى مسرح غلبنكيان في الجامعة اللبنانية الأميركية تألّق 24 ممثلاً بين محترف وطالب، جميعهم من خريجي الجامعة المذكورة من قسم الفنون. في حين تركت بصمة التقنيين وتصميم الأزياء والديكور والماكياج أثرها على العمل ككل؛ فصنعوا بإبداعهم حالة الإبهار التي تتمتع بها المسرحية.
كما يعود ريع التذاكر لدعم صندوق المنح الدراسية لطلاب الفنون الأدائية في الجامعة. والجدير بذكره أن جميع المشاركين فيها يعملون مجاناً من دون تقاضي أجر.
لبننت خوري العمل ليتلاءم مع المجتمع المحلي. حافظت على خطوطه الرئيسية. ولكنها حقنته بجرعات اجتماعية وسياسية بأسلوب خلّاق. يدور موضوعها حول كاتب وممثل يحاولان إيجاد خاتمة لمسرحيتهما. أما أحداثها فتجري في أيام الإغريق، وتقدم على مسرح تطبعه تلك الحقبة. وتأتي خشبة «غلبنكيان» لتترجم هذه الأجواء من خلال هندسته المعمارية المستوحاة من مسارح أثينا القديمة.
تعلّق لينا خوري لـ«الشرق الأوسط»: «فكرة هذه المسرحية تراودني منذ وقت طويل. وكانت عملية إنتاجها هي التي تؤخر ولادتها؛ فالعمل مكلف ويحتاج إلى ميزانية عالية. وكوني أستاذة في جامعة (إل آي يو) فكّرت في التقليد السنوي الذي كنا نتبعه منذ 6 سنوات، ويقضي بتقديم أستاذ معين عملاً مسرحياً من إخراجه مشروعاً للتخرج. وتتألف جميع عناصره من طلابه ومعهم ممثلون محترفون من خريجي الجامعة. فكّرت في إعادة هذا التقليد إلى الحياة بعد توقف فرضته أزمات متلاحقة شهدها لبنان. ووُلد العمل ليعيد الخط المسرحي الأصيل الذي نفتقده منذ زمن. وهناك 5 أجيال من طلاب الجامعة تتعاون ليبصر النور».
يشارك في العمل كل من الممثلين طارق تميم، وطلال الجردي، وسني عبد الباقي، ووفاء حلاوي، وفيروز أبو حسن وغيرهم. كما يطل فيه نجوم في الإعلام والإخراج أمثال رياض قبيسي وإيلي حبيب.
في خلطة مسرحية جديدة، تُبنى على مشاركة تفاعلية مع الجمهور، تفاجئ الحضور بين وقت وآخر بدور يلعبه أحد منهم؛ يشارك في المسرحية ليخرج من الصالة على أثرها. توضح خوري: «المسرح من دون جمهور لا يحقق رسالته. وكوني أحب طرح الأسئلة، اخترت طريقة جديدة لأحدث الفرق. على الإنسان أن يفكر ويتساءل، وإلا فلا يمكنه أن يتطور. لذلك أدخل المتفرج مباشرة في موضوعات تلامسه في المسرحية. فالمسرح مرآة المجتمع وعليه تحريك أفراده. حين نمر على الأمور بخفّة تصبح حياتنا سطحية».
أكثر من رسالة توصلها خوري في عملها «أبو الزوس» تحضر فيها السياسة والاجتماع والفن، وضياع المواطن ما بين الوهم والحقيقة، وانخراطه في الفساد. عبارة «مفكرين حالن أحرار ولكنهم يتصرفون كما هو مطلوب منهم» تختصر وضع المواطن الذي يصدّق مزاعم زعيمه. وكذلك تتناول إهمال المسؤولين، وإيجاد الحلول على حساب المواطن. المثقفون والفنانون لا يفلتون من النقد؛ لأنهم يستحضرون فكر سقراط وصوت فيروز في صناعاتهم الباهتة.
هذه الطبقات الفكرية التي تحكي عن البطولات الوهمية والنهايات السعيدة المزيفة، تلونها خوري بقفشات كوميدية، كما تقدّم لفتة تكريمية ضمن المسرحية إلى الراحل زياد الرحباني، من خلال أداء جوقة الكورس المشارك في العمل أغنية له.
تحضّ لينا خوري مُشاهد المسرحية على دخول عالمها الفني وتفكيك ألغازه. تشغل فكره ومشاعره بعمل فني متكامل. فالمسرحية تدور أحداثها في العصر الذهبي للمسرح الأميركي، وتجري بين أثينا ونيويورك، التي استبدلت بها خوري بيروت، فجاءت حبكة العمل شبيهة بالواقع اللبناني الغارق في متاهات حياة معقدة. وتطرح السؤال عالياً: «هل وجودنا يحمل أي معنى؟ وما هو الوهمي من الحقيقي؟».
تعلّق خوري في سياق حديثها: «المسرحيات صار يغلب عليها الاستسهال. فلا فكر ولا احترافية في الأسلوب، والإخراج بلا صيغة إبداعية. في (أبو الزوس) حاولت تصحيح هذه الشوائب. البعض وصفني بـ(المجنونة)؛ كوني أقوم بعرض يلزمه الكثير من الجهد. لكن شغفي بالمسرح هو الذي يقودني نحو العمل المتكامل». وتختم: «أدعو الجميع إلى حضور المسرحية للاستمتاع بعمل غني بعناصره الفنية، وخوض رحلة حقيقية ومبتكرة».

