من المتوقع في أي لحظة، وربما خلال الفاصل الزمني بين كتابة هذه السطور ونشرها، أن يعلّق الممثل والمنتج روبرت دي نيرو على إرسال الرئيس الأميركي دونالد ترمب الحرس الوطني لمواجهة المظاهرات في لوس أنجليس، تلك التي اندلعت رفضاً لقرار الرئيس بإعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى المكسيك أو إلى أي بلد لاتيني قدموا منه.
دي نيرو المعارض
عدّ ترمب أن المسألة تمثّل «تحريراً» للوس أنجليس من «الغزاة»، من دون أن يوضح ما ينتظر المدن الأخرى التي استقبلت مهاجرين من أصول لاتينية، في ولايات مثل تكساس، وأريزونا، ونيو مكسيكو، ونيويورك، معقل دي نيرو.
دي نيرو (81 عاماً) لا يتردد في التعبير عن آرائه المعارضة لقرارات ترمب، وعندما يُجاهر بمواقفه، لا يختبئ خلف كلمات ملطّفة أو مموَّهة. ففي مهرجان «كان» قبل أقل من شهر، وخلال حفل تكريمه، تحدّث عن سياسات الرئيس الأميركي، رافضاً الاكتفاء بالشكر والثناء، بل وجّه المناسبة الفنية نحو موقف سياسي صريح، قائلاً: «في بلدي، نُناضل من أجل الديمقراطية التي عددناها يوماً أمراً مُسلّماً به (...) لهذا السبب؛ يُنظر إلى الفنانين بوصفهم تهديداً من قِبل الأوتوقراطيين والفاشيين. رئيسنا الجاهل نصَّب نفسه رئيساً لمركز جون كينيدي الثقافي، وقطع عنه الدعم المالي المخصص للفنون والمؤسسات الإنسانية والتعليمية».
لم يَصدر عن ترمب أي رد فعل على ما قاله دي نيرو في «كان»، وربما لن يُبدي اهتماماً في حال قرر الممثل، ورئيس مهرجان «ترايبيكا»، إصدار تعليق جديد عن الوضع في لوس أنجليس.
موقع وسطي
على مدى اليومين الماضيين، باءت محاولاتي لتأمين لقاء مع دي نيرو بالفشل؛ إذ قيل لي إنه مشغول جداً، وإن جدول أعماله مزدحم «لدرجة أنه بالكاد يجد وقتاً للنوم». البديل كان مواصلة متابعة الأفلام؛ بحثاً عن جديد أو جيِّد يُرضي شغف الناقد في الاكتشاف.
خلال ذلك، يتّضح للمتابع أن المهرجان، الممتد حتى الـ15 من الشهر الحالي، وما يتضمنه من برامج ونشاطات، يشبه سيركاً سينمائياً: تدخل هنا لحضور فيلم معين، ومن ثَمَّ تنتقل إلى مكان آخر، حيث يُقدِّم منتج أو مخرج (مثل مارتن سكورسيزي، الذي يحضر لدعم صديقه دي نيرو) جلسة «ماستر كلاس» (Masterclass)، وفي خيمة ثالثة تُعقد لقاءات مع المعنيين بسينما «مؤثرات الواقع»، وهي التقنيات التي تجعلك تعيش الخيال بنفسك.
وقد انتقل «كان» مؤخراً إلى هذه التوجهات في إطار تطوير اهتماماته، ويقوم «ترايبيكا» بدوره في الأمر نفسه.
تُبنى المقارنة بين المهرجانين أساساً على الكثافة العددية، رغم اختلاف النِسب: مدينة «كان» لا يتجاوز عدد سكانها 800 ألف شخص، لكن هذا العدد يتضاعف إلى نحو مليون ونصف المليون أثناء المهرجان.
في المقابل، يشهد مهرجان «ترايبيكا» أيضاً حضوراً غزيراً، لكن الأرقام لا تتجاوز 200 إلى 300 ألف زائر.
يمكن أيضاً إجراء مقارنة مع مهرجان «تورونتو»، (ما زالت المدينة كندية)، وهو مهرجان منفتح على نشاطات وسهرات وأفلام متواصلة، وهو حتى اليوم، الملاذ الأفضل بين مهرجانات أميركا الشمالية.
الهجرة في فيلمين
مشكلات المهاجرين إلى الولايات المتحدة؛ طمعاً في تحقيق «الحلم الأميركي الكبير»، أو انتقالاً إلى واقع يُفترض به أن يكون أفضل من الواقع الذي جاء المهاجر منه، تتوزَّع في عدد متزايد من الأفلام ومنذ عقود عدّة. عشرات الأفلام كل سنة تدق باب النظر إلى مشكلة اللجوء إما مباشرة أو بطريقة غير مباشرة.
يُعرض منذ 10 أيام فيلم «كاراتيه كِيد: أساطير» (Karate Kid: Legends)، وهو فيلم أكشن يعتمد على سلسلة من الأفلام التي حملت هذا العنوان من عام 1986 وإلى اليوم. يتضمن قصة أم وابنها القادمَين من الصين للعيش في أميركا. تُصرّ الأم على إبعاد ابنها عن المتاعب (ولو أن المتاعب هي التي تقترب منه)، وتحذّره من التحدث بالصينية أو ممارسة فنون قتالها اليدوية.
«كاراتيه كِيد» يُعالج قضية التعددية الثقافية في المجتمع الأميركي بشكل غير مباشر.
أما فيلم «روزميد» (Rosemead) للمخرج إريك لِين (صيني الأصل، يعمل غالباً مديرَ تصوير)، فهو من النماذج المباشرة التي تتناول قضايا الهجرة والعنف. تدور القصة حول أم صينية تُحذّر ابنها من اللجوء إلى العنف، لكن هذه المرة ليست الحبكة الجانبية، بل محور الفيلم الأساسي.
تلعب دور الأم الممثلة لوسي ليو، في أداء درامي مختلف عن أدوارها السابقة مقاتلة شرقية. تعيش الأرملة إيرين تشان مأزقاً حياتياً بعد وفاة زوجها، وتسعى لتجنيب ابنها، الذي بلغ سن المراهقة، الوقوع في براثن الحي المليء بالعصابات والعنف في منطقة «روزميد» بشرق لوس أنجليس، وهي منطقة تحوي خليطاً من المهاجرين اللاتينيين والآسيويين، وتُعد مسرحاً جاهزاً لتبرير تدخل ترمب الأمني، كما قد يراه بعضهم.
الغشاوة
يبدأ الفيلم بلقطة سينمائية مُتقنة، يستند فيها المخرج إلى خلفيّته مديرَ تصوير ماهراً، تُظهر عائلة تُغنِّي وتضحك داخل غرفة فندق، تُشكّل تمهيداً لزمن ماضٍ أفضل كانت البطلة تعيشه. مع الانتقال إلى الحاضر، نجد إيرين امرأة تحمل عبء الحياة وهمومها، وتسعى لحماية ابنها من واقع قاسٍ ومجتمع يُعاملها بتعالٍ وجهل.
من أسباب قلقها ملاحظتها انطواء ابنها وتأثُّره الشديد بمشاهد العنف على الشاشة الصغيرة، مثل حوادث إطلاق النار في المدارس. تتمنَّى ألا تتحقق مخاوفها، وتغلف نفسها بحالة من «الغشاوة» كآلية إنكار. لكنها تصحو حين يُلقى القبض على ابنها بعدما تعرَّض للخطر أثناء تجوُّله وسط طريق مزدحم. ومع ذلك، لا تتوقف معاناتها؛ إذ تُظهِر الفحوص الطبية إصابتها بالسرطان.
للفيلم مشكلاته الخاصّة. كما في حالات كثيرة مشابهة يمكن للمشاهد أن يرى الأحداث قبل وقوعها. هذا ناتج من إخراج يعتقد أن عليه تفسير كل شيء. من ناحية أخرى تحضر المآسي بوضوح على الشاشة ناشدة التعاطف. ما كان ينقصه هو تعمّق أقوى في الوضع الذي يعرضه ويشكو منه.