وصف المخرج الأرجنتيني، إيفان فوند، السينما بأنها «مساحة للتجربة والدهشة تعيدنا إلى الطفولة»، وعدَّ عرض فيلمه «الرسالة» في مهرجان برلين السينمائي الدولي (أقيم من 13 إلى 23 فبراير «شباط» الماضي) وحصوله على جائزة الدب الفضي، تجربة استثنائية بالنسبة له.
وقال فوند لـ«الشرق الأوسط» إن «هذه المشاركة لم تكن مجرد فرصة لعرض الفيلم أمام جمهور جديد، بل كانت أيضاً لحظة فارقة في مسيرتي بصفتي مخرجاً؛ حيث أتاح لي المهرجان التواصل المباشر مع الجمهور والنقاد من مختلف الثقافات، ورؤية الجمهور يتفاعل مع العمل، ويتأثر بتفاصيله العاطفية لا تُقدّر بثمن».
ولم تقتصر فرحة فوند على مجرد المشاركة، بل تعززت بفوز الفيلم بجائزة الدب الفضي من لجنة التحكيم، وهو «إنجاز» رآه تكريماً ليس فقط له بصفته مخرجاً، بل أيضاً لكل فريق العمل الذي أسهم في تقديم الفيلم، وفق قوله. موضحاً أن «الجائزة تُثبت أن السينما التي تستكشف الأحاسيس الإنسانية العميقة لا تزال تجد صداها لدى الجمهور والنقاد على حد سواء».
وتدور أحداث فيلم «الرسالة» في الريف الأرجنتيني القاسي؛ حيث تعيش الطفلة «أنيكا»، التي تمتلك قدرة فريدة على التواصل مع الحيوانات، سواء الحية أو النافقة. لكن هذه الهبة، بدلاً من أن تكون نعمة، تتحول إلى وسيلة للاستغلال من قِبَل البالغين المحيطين بها. فمريم، المرأة التي تدَّعي رعايتها، تتعامل معها بوصفها أداة لتحقيق الربح، فتقوم بترجمة رسائلها الغامضة إلى أصحاب الحيوانات، في حين يتولى شريكها روجر التفاوض على الأتعاب.
ويجوب الثلاثي الطرق الريفية في شاحنتهم الصغيرة، متنقلين من قرية إلى أخرى؛ حيث يبحث الناس عن أي بصيص من الأمل في كلمات الفتاة التي تبدو كأنها تصل إلى ما وراء الإدراك البشري، فتبدو حياة أنيكا أشبه بسجن متنقل؛ حيث تُطلب منها إجابات لا تملكها، وتتحول موهبتها إلى عبء ثقيل.
ورغم ذلك، لا تبدي الفتاة مقاومة، بل تنغمس في الدور الذي فُرض عليها، وكأنها تؤمن بواقعها الخاص. في لحظات تواصلها مع الحيوانات تتلاشى الخطوط الفاصلة بين الحقيقة والوهم، ويصبح المشاهد متردداً بين الإيمان بقدرتها الفعلية أو كونها مجرد ضحية لوهم جماعي تتغذى عليه تجارة المشعوذين.
ويتميز الفيلم بأسلوبه البصري الفريد؛ حيث اختار فوند التصوير بالأبيض والأسود، ما منح العمل طابعاً زمنياً غامضاً، إذ لا تبدو القصة مرتبطة بحقبة زمنية محددة. كما اعتمد على الصمت أكثر من الحوار.
ويؤكد فوند أن «هناك تشابهاً جوهرياً بين السينما والطفولة، فكلاهما مساحة للتجربة والدهشة. الطفولة هي تلك المرحلة التي يكون فيها العالم مليئاً بالمفاجآت؛ حيث يمكن لكل شيء أن يكون مختلفاً عما نتصوره، وهو أيضاً جوهر السينما، فهي تمنح الفرصة لنرى الواقع من زاوية جديدة».
وأضاف فوند أن «هذا التناقض بين الخيال والواقع هو ما جعله مهتماً بطرح القصة، من خلال عيون طفلة تحاول فهم العالم من حولها»، لافتاً إلى أن الفيلم لا يقتصر على الجانب الخيالي فحسب، بل يطرح أيضاً تساؤلات حول مفهوم العائلة، فالعلاقات في «الرسالة» لا تُبنى على الروابط البيولوجية فقط، بل تعتمد على الرفقة والدعم، وفق المخرج.
ويقول فوند إن «العائلة ليست مجرد علاقة دم، بل هي الأشخاص الذين يكونون معك في رحلتك، فالشخصيات في الفيلم ليست مرتبطة وراثياً، لكنها تخلق نوعاً من العائلة عبر التجربة المشتركة»، مشيراً إلى أن «أنيكا»، رغم صغر سنها، تمر بلحظة جوهرية عندما تدرك أنها لم تعد مجرد طفلة تعتمد على الآخرين، بل أصبحت قادرة على تقديم العزاء للبالغين، في تحول درامي يعكس كيف يمكن للأطفال أن يكونوا أكثر وعياً ونضجاً مما يعتقده الكبار.
لم تكن رحلة صناعة الفيلم خالية من التحديات، فقد واجه فوند صعوبات تتعلق بالتصوير مع الأطفال والحيوانات في آنٍ واحد، وهي من أكثر العناصر تعقيداً في صناعة السينما، حسبما يؤكد المخرج الأرجنتيني، قائلاً: «التعامل مع الحيوانات كان تحدياً؛ لأنها لا تتبع تعليمات مثل البشر، وكان علينا انتظار اللحظات المناسبة لتسجيل المشاهد المطلوبة».
وتطرق إلى التحديات المالية، مع اعتماد الفيلم على أسلوب بصري وتجريبي يتطلب تمويلاً مستقراً لضمان تحقيق الرؤية الفنية المطلوبة، لافتاً إلى أن «أفلام مثل هذه، التي لا تعتمد على حبكة تقليدية، تواجه دائماً صعوبة في التمويل، لكنه كان محظوظاً بفريق إنتاج دعم الفكرة وآمن بها منذ البداية.
ويرى فوند أن «الفيلم لا يقدم إجابات سهلة، بل يترك المشاهد في حالة تأمل مستمرة»، مشيراً إلى أنه لم يرغب في فرض تفسير واحد على الجمهور، بل أراد أن يختبر كل شخص الفيلم بطريقته الخاصة، عادّاً أن السينما يجب أن تكون فضاءً لطرح الأسئلة وليس لإعطاء الحلول، وهو ما انعكس في النهاية المفتوحة للعمل.