تحلو في لبنان تسميته بـ«فنجان الشَّفَّة» اختزالاً لكونه لا يسعُ كثيراً ويَفرَغ محتواه، وهو القهوة، بأمرِ الشفتين بعد رشفتين أو ثلاث. في الذاكرة، يتّخذ شكلَه التقليدي الراسخ، بانفلاش اللون الأحمر على خلفيةٍ بيضاء وبعض الأخضر. الأجدادُ والآباء جعلوه المفضَّل، وثمة مَن لم تكتمل صباحاتهم بغيابه، إذ ظلَّت القهوة بلذّةٍ أقل دونَه. أدرك اللبناني جورج أنطونيوس الصلة بين النكهة والفنجان، فأسَّس شركة تُصنِّعه عوض استيراده من الصين. ولإضافة مساحة فنّية، أتاح لرسامين سَكْب لمساتهم على أحجام الفناجين الكبيرة، لإحالتها على الجمال ولفتِ النظر.
أطلق مبادرة «لو صالون دو فنجان» ليتجاوز ذلك القالب المُجوَّف كونَه وسيطاً بين القهوة ومُرتشفها. بتحميله «وظيفة» فنّية، يؤكد جورج أنطونيوس حضورَه على شكلٍ آخر، وضمن حيِّز خاص، يتخطّى «الصيْنية» التي تستضيفه أو الموضِع حيث يحلُّ بعد الجلي. هو هنا عملٌ فنّي له فسحته المرئية دائماً والقادرة على الجذب. لا يُترَك لـ«صُبحية» فقط أو للجَمْعة والدردشات. حضوره أبعد من «استعمال».
لأنطونيوس خلفية في التسويق والإعلان، عمل في الطباعة ومن خبرة هذا المجال والإيمان بأهمية حفظ التراث، انطلق. يُخبر «الشرق الأوسط» بأنه أسَّس شركة «كوكليكو» في بيروت عام 2020 لصون التراث الثقافي الشرقي والترويج له بأسلوب عصري يعيد تصوُّر التصاميم التقليدية. ومن مفردة «Coquelicot» الفرنسية، ومعناها زهرة الحقل، استوحى الاسم والمعنى. أراد شركته رمزاً للنهوض، كما تختزل أفكاره الإصرار اللبناني على الأمل. بإثارة الحنين وإشعال الذاكرة، صنَّع فناجين القهوة بأشكالها التقليدية المُكرَّسة منذ الحقبة العثمانية، على أرض وطنه، فلا يُحصَر حضورها في منازل اللبنانيين باحتمال واحد هو الاستيراد من الصين. تصبح متاحة بأيدٍ محلّية وروح فخورة. ثم أضاف إلى ما صنَّعه لمسة فنانين لتأكيد الخصوصية.
13 فناناً زيّنوا فناجين «كوكليكو» برسوم وألوان. والفنجان المُتحوِّل مادةً للتشكيل، يصل إلى أياديهم بقياس كبير، على عكس ضآلة الحجم مما حفظته الذاكرة. يقول جورج أنطونيوس: «تُترك للفنان ممارسة حرّية أسلوبه، فيَمنح الفنجان رؤيته للشكل واللون. في الذاكرة، اتّخذ (فنجان الشَّفَّة) شكلاً تقليدياً واحداً مثَّلته زهرة التوليب الحاضرة في التراث العثماني بوصفها رمزاً للضيافة. لونُها الأيقوني هو الأحمر، لكنّ الأزرق والأخضر حاضران. هذا ما كوّنته الذاكرة اللبنانية حول الفنجان على مستوى الصورة والانطباع. مبادرة (لو صالون دو فنجان) تُبقي القالب وإنما تُخضعه لتشكيل آخر. يصبح وسيطاً فنّياً لاختبار الأساليب، ولكلّ فنان نظرته إلى الشكل الأجمل».
من المجموع، تتواصل التحضيرات لمعرض يضمّ القِطع، وهي هنا الفناجين الفنّية؛ يجري الاستعداد له. لا يشاء جورج أنطونيوس إلغاء الفنجان المستورد من الصين أو نسف مساره، وإنما جَعْل الفنجان اللبناني بديلاً متاحاً: «الموديلات تُشبهنا أكثر. ولن تكون شكلاً واحداً أو رسمة ثابتة. بعضٌ أضاف وروده لتحلَّ مكان زهرة التوليب الشهيرة. وبعضٌ اختار التجريد وتَرْك العين تُفسِّر المشهد. رسومٌ أخرى دافئة ومَرِحة. لمساتٌ لم يشهدها الفنجان من قبل. لم نُقيّد الفنانين بثيمة واحدة أو نفرض عليهم رؤية. أفسحنا المجال لرسم ديناميكي مستقل. كأنه معرضٌ جماعي يُميِّز كلَّ مُشاركٍ بهويته وأسلوبه».
القِطع المُنجَزة فريدة بأعداد محدودة، تتماشى غايتها التسويقية مع قيمتها الجمالية... بمجرّد صبِّ الفنجان بقالب ضخم، مقارنةً بحجمه المألوف، وألوانٍ مختلفة، ونقله من استعماله الكلاسيكي، بحيث هو وسيلة لرشف القهوة، إلى استعمالات عدّة، كأنْ يتحوَّل وعاءً لنبتة أو قالباً لشمعة. وبهذا يجمع الاثنين: مكانته العريقة في الذاكرة بوصفه جزءاً من التراث اللبناني، والانطباع الفنّي صانع التميُّز والفرادة.
في لبنان، متى حضر، جرَّ الأحاديث وجمَّل اللمَّة. يُطلق على «فنجان الشَّفَّة» تسمية «Conversational starter». يُحرِّض على البوح؛ وبعضٌ يفضّله على شكل استفاضة في تناول ما يتجاوز النفس إلى الآخرين. لكنه يجمع؛ وإنْ كثُر ما يُفرِّق. العبارة الشهيرة «منحلّها عَ فنجان قهوة»، الدالة على تسوية بعد خلاف، أو صُلح بعد عراك، يفهم كلُّ لبنانيّ ما تعنيه.