الأردن يعيش شهوراً فاصلة بمواجهة الهموم الداخلية والإقليمية

بانتظار تعديل وزاري على خلفية الخشية من التشويش الأمني

ممارسات إسرائيل في الضغة الغربية مصدر قلق بالغ للأردن (آ ب)
ممارسات إسرائيل في الضغة الغربية مصدر قلق بالغ للأردن (آ ب)
TT
20

الأردن يعيش شهوراً فاصلة بمواجهة الهموم الداخلية والإقليمية

ممارسات إسرائيل في الضغة الغربية مصدر قلق بالغ للأردن (آ ب)
ممارسات إسرائيل في الضغة الغربية مصدر قلق بالغ للأردن (آ ب)

لا يخلو تاريخ الأردن القريب من تحديات مصيرية هدّدت أمنه واستقراره، وسعت للتشويش على استقرار نظامه السياسي. فجملة التحديات التي فرضتها جغرافيا المملكة وتاريخها معاً صارت العناوين ذات الأولوية في مناقشة المصالح الأردنية في المدى المنظور. جولة على هذه التحديات تُمكّن المراقبين من تقدير الموقف الأردني وتعقيداته؛ فعلى جبهة الأردن الغربية عانت البلاد من حالة الطوارئ العسكرية على مدى السنوات والعقود الماضية بفعل الاحتلال الإسرائيلي، والتعامل مع نكبة هجرة الفلسطينيين عام 1948، ونكسة حزيران من عام 1967 التي تسبّبت بهجرة الفلسطينيين الثانية. والحال ليست بأفضل على الجبهة الشمالية مع سوريا، فخلال سنوات الحرب الماضية كانت الجبهة الشمالية ملفاً أمنياً - عسكرياً ساخناً، كما استقبل عبرها نحو مليون لاجئ سوري. وتستمر محاولات عصابات تجارة المخدّرات والسلاح في تهديد الأمن على الحدود في مشهد متكرّر دفع الأردن للقصف بالطائرات عدداً من مصانع المخدرات في الجنوب السوري، التي كانت تابعة لميليشيات محسوبة على «حزب الله» اللبناني وإيران و«الفرقة الرابعة» في الجيش السوري بقيادة ماهر الأسد. وأخيراً لا آخراً، على الشرق هناك الحدود البرية الطويلة مع العراق، وفي آخر 22 سنة ظلت هذه الحدود عنوان تهديد لأمن الأردن، كما حصل في أحداث تفجير الفنادق في العاصمة عمّان عام 2005، بالإضافة إلى محاولات أخرى أُحبطت قبل استكمال أهدافها.

في سياق التحديات المصيرية أمنياً وسياسياً، فإن الأردن تعامل مع ملف الحرب على غزة أو ما يُعرف بـ«طوفان الأقصى» منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023 على أنه تهديد لمصير القضية الفلسطينية.

وأمام توسع الاعتداءات الوحشية لدولة الاحتلال، برزت للعلن خططها لإفراغ غزة من السكان ودفعهم بسلاح الجوع والخوف إلى الخروج منها. واليوم، ثمة تقديرات رسمية محلية ترى أن ما تقوم به إسرائيل هو «محاكاة تجريبية» لما قد يكون عليه الحال في الضفة الغربية مستقبلاً.

إذ أمام ما تشهده مناطق الضفة من اعتداءات وانتهاكات ومصادرات للأراضي، قد تكون الفرصة سانحة لحكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية في «فرض واقع جديد» على الأرض. وهذا، بالطبع، لن يكون في صالح تسوية عادلة قد تسمح بإعلان قيام دولة فلسطين على ترابها الوطني بناءً على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967. وبالتالي، يجد الأردن نفسه أمام مصدر قلق مضاعف.

طبول الحرب تُضعف صوت الاعتدال

في الأخبار هذه الساعات والأيام، تستدعي الولايات المتحدة أساطيلها في البحار، وتعزّز من جاهزية استخدام ترسانتها من الأسلحة في مواجهة نظام طهران، وهذا أمر بات متوقعاً بعد ما جرى من تحطيم القدرات العسكرية لوكلاء إيران في المنطقة. الواقع أن الحظ لم يخدم الإسرائيليين في منحهم المبرّرات للتعسّف في القضاء على حركة «حماس» في غزة.

إلا أن ضرب «حماس» شكّل سبباً لدخول «حزب الله» الحرب، التي أدت في النتيجة، إلى خسارته أبرز قياداته. وعلى الرغم من غياب تقديرات مؤكدة حول حجم إضعاف قدراته العسكرية، فلا شك في أنها تراجعت كثيراً، بينما تكفّلت واشنطن بملف ضرب قدرات الميليشيات الحوثية في اليمن الموالية هي الأخرى لطهران.

من جانب آخر، بدا أن سوريا كانت ضربة حظ مجانية لإسرائيل؛ إذ لم يكن أكثر المتفائلين من اليمين المتطرف الإسرائيلي أن يتخيّل السقوط - بل الانهيار - السريع للنظام السوري السابق، حليف طهران الموثوق، ليلة السابع من ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وضربة الحظ هذه سمحت لسلطات تل أبيب اليمينية المتطرفة أن «تفرض واقعاً بديلاً» في الجنوب السوري من خلال الوجود العسكري الإسرائيلي، واستمالة أطراف للدخول في لعبة تقسيم سوريا لصالح توسيع رقعة الاحتلال الإسرائيلي.

تغيير الجغرافيا السورية

مخاطر الوجود العسكري الإسرائيلي في الجنوب السوري تعني بالنسبة للأردن تغييراً واضحاً للجغرافيا السورية، ووجوداً عسكرياً غير شرعي لدولة الاحتلال على حدوده الشمالية.

لهذا الأمر حسابات أمنية أردنية قد تدفع بخيارات عسكرية ليست سهلة، لا سيما في ظل عودة محتملة للفوضى إلى الجنوب السوري... لكن هذه المرة ليس لمناهضة نظام بشار الأسد، بل لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي لأراض عربية، واستدعاء محتمل خطر لنشاط خلايا تنظيمات إرهابية.

في ضوء ذلك، فُتح الباب أمام طرح أفكار تتعلّق بدخول عسكري أردني للسيطرة على ما هو أبعد من «المنطقة العازلة» على الحدود كدفاعات متقدمة للحدود الأردنية، ومنع تدفق كتل بشرية طلباً للجوء.

ثم إنه على الرغم من الانفتاح الرسمي الأردني «السريع» على النظام السوري الجديد، فإن الإجابة الشافية عن سؤال السرعة في الترحيب بالرئيس السوري الجديد أحمد الشرع لم تتوافر حتى الآن. والحقيقة أن ملامح المرحلة الانتقالية في سوريا لا تزال غامضة. هذا، ومع أن ثمّة مصلحة أكيدة في استدامة حيوية المصالح الأردنية، فإن الغموض العام للصورة قد يؤثر أيضاً على مستوى الثقة بإدارة علاقات عمّان الدبلوماسية على المستوى الإقليمي وسط أجواء التوتر والاضطراب.

وعليه، تبقى الأسئلة مطروحة حيال قدرات النظام السوري الجديد بقيادة الشرع في فرض سيطرته على كامل الأراضي السورية، وضمانه وحدة سوريا وتماسكها، ومستوى الرضى الشعبي العام عن الإدارة الجديدة، في انتظار الإجابات الصلبة في الآتي من الأيام، وسط المساعي الإسرائيلية المريبة الهادفة إلى تقسيم سوريا لـ«دويلات» عرقية وطائفية يسمح لحكام تل أبيب بالارتياح ومزيد من القضم.

الضفة الغربية والقدس

بلا شك، تُشكل الضفة الغربية والقدس ملفاً مهماً بالنسبة للأردن؛ إذ احتلت القوات الإسرائيلية تلك المناطق عام 1967 عندما كانت تحت السيادة الأردنية. ومن ثم، ظل هاجس استعادة هذه الأراضي المحتلة عبر تسوية سياسية من القضايا التي تعدّها عمّان في صدارة أولوياتها ضمن معادلة مصالحها الاستراتيجية.

غير أن الأردن لا يريد اليوم استعادة هذه الأراضي المحتلة كي تكون تحت سيادته، بل يريدها دولة للفلسطينيين. ذلك أنه بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة تتحرّر عمّان من مسؤوليتها التاريخية تجاه مشاركتها في «حرب يونيو/حزيران» عام 1967، واحتلال إسرائيل لتلك الأراضي، ولكن مع بقاء ملف الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس شأناً أردنياً بقبولين عربي وفلسطيني.

جدير بالذكر أنه يقيم في مناطق الضفة الغربية حالياً نحو 450 ألف مواطن يحملون أرقاماً وطنية أردنية (الجنسية)، وهؤلاء تهدد إسرائيل بإخراجهم ودفعهم نحو الضفة الشرقية. لذا رأى الأردن أن التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية يشكّل تهديداً مباشراً لمصالحه الاستراتيجية. ويهمّه كثيراً منع أي خطط تهجير تستهدف الفلسطينيين ودفعهم خارج بلدهم الأصلي.

في الواقع، تدعم عمّان «السلطة الوطنية الفلسطينية» التي جاءت نتيجة «اتفاق أوسلو» الذي وقعه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق الراحل إسحق رابين. وعلى الرغم من إضعاف السلطة وتقويض حكمها في الضفة والقطاع، ما زال الأردن يعلن دعمه لها بمختلف المجالات.

ثم إن السلطات الأردنية تُدرك أن إسرائيل تتعمد «فرض أمر واقع» في مناطق الضفة الغربية عبر مصادرة المزيد من الأراضي، والتوسّع الاستيطاني الذي يهدّد الحياة اليومية للفلسطينيين. وينعكس هذا سلباً على أي فرص لتسوية عادلة تعود بموجبها الحقوق الفلسطينية إلى أصحابها الشرعيين. بيد أن الممارسات والاعتداءات المتكررة التي تنفّذها دولة الاحتلال يعدّها الأردن تهديداً لمصالحه، لا سيما وسط الدعوات اليمينية الإسرائيلية المستمرة في أن يكون الأردن «وطناً بديلاً» للفلسطينيين. وهكذا، تؤثر الضفة الغربية والتطورات المتسارعة على المزاج العام في الشارع الأردني، وتنعكس ردود الفعل شعبياً على شكل «متوالية» مسيرات ومظاهرات تتقدمها «جماعة الإخوان المسلمين» - غير المرخّصة في البلاد - وذراعها السياسية حزب «جبهة العمل الإسلامي»، الذي يمثله في مجلس النواب الحالي 31 نائباً.

موقف «الإسلاميين»

هذا، وتستثمر «الجماعة» من منبر دعم القضية الفلسطينية في معارضة السياسة الرسمية الداعية لتسوية سياسة لحل القضية الفلسطينية. وفي حين ترفض عمّان رسمياً أن تكون الأراضي الأردنية منطلقاً لأي عمليات عسكرية تستهدف الحدود الغربية، في حين تستمر دعوات الحركة الإسلامية لمناصرة الشعب الفلسطيني سبباً في صدارة «جماعة الإخوان» للشارع الأردني، والتي يجد فيها محللون أنها أداة يستخدمها النواب الإسلاميون للضغط على الحكومات، وحصد مزيد من الشعبية عبر الخطاب الديني. ويعكس أداء نواب الحركة الصورة الحقيقية لصراع الكواليس مع السلطات الرسمية.

هشاشة اقتصادية والشأن الداخلي

راهناً، يعاني الأردن من أزمات اقتصادية متراكمة، وسط ارتفاع ملحوظ في أرقام الفقر والبطالة وتضخم المديونية العامة. وبطبيعة الحال، فإن الاقتصاد الأردني مرتبط بأزمات المنطقة، ولم يخلُ عقد من تاريخ المملكة من أزمات اقتصادية تسبّبت بها الحروب والأحداث لـ«دول الجوار»؛ كالعراق وسوريا، ناهيك من احتلال الضفة الغربية.

وفي حين تبحث الحكومات عن معالجات لأزمات اقتصادية متراكمة، فإن الاتّكال على المساعدات الخارجية خلّف آثاره السلبية على هندسة موازنات المالية العامة. وأهم تلك المساعدات هي المساعدات الأميركية التي تُقدر بنحو 1.5 مليار دينار، موزعة بين مشاريع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) ومساعدات عسكرية للجيش الأردني.

وصحيح أن الأردن تسلم حصته من المنحة الأميركية لعام 2025، لكن تجميد عمل مشاريع الـ(USAID) في المملكة أدى إلى توقف رواتب أكثر من 20 ألف أردني من العاملين في تلك المشاريع. وقد يكون استمرار تجميد جانب من تلك المشاريع سبباً في مفاقمة الأزمة الاقتصادية للمواطن، وضغطاً إضافياً على الحكومة من أجل توفير البدائل للمتعطلين عن العمل.

مع هذا، لا ترحم المعارضة البرلمانية في انتقاداتها، بل تنطلق من مهاجمة السياسات الاقتصادية نحو التشكيك بالمواقف الرسمية. ولم تُنصف المعارضة البرلمانية التي يتقدمها نواب الحركة الإسلامية الجهود الأردنية في دعم سكان قطاع غزة بالغذاء والدواء إبان شهور العدوان الإسرائيلي غير المسبوق على القطاع بهدف جعله غير قابل للعيش فيه، وبالتالي تهجير الغزيين في رحلة ثالثة بعد عامي 1948 و1967.

عملية البحر الميت

يوم 8 أكتوبر من العام الماضي، تسلل مسلحان من الأردن عبر الحدود جنوبي البحر الميت إلى الأراضي المحتلة في محاولة استهداف جنود إسرائيليين. لكن الشابين قتلا قبل تنفيذ العملية ضد الجنود، وتحفظت حينذاك المصادر الرسمية عن التعليق. لكن حزب «جبهة العمل الإسلامي» بارك العملية، معتبراً إياها «عملية بطولية نفذها اثنان من شباب الحركة الإسلامية في منطقة البحر الميت على الحدود الأردنية - الفلسطينية».

الحادثة المفاجئة والغامضة وغير المسبوقة التي لم يعلن الجانب الأردني عن أي تفاصيل متعلقة بها، فتحت على تحقيقات موسّعة مع عدد من شباب الحركة الخاضعين للتحقيقات الأمنية، ومن المنتظر إحالة ملف القضية إلى محكمة أمن الدولة (قضاء عسكري) بعد انتهاء التحقيقات خلال الشهر الحالي، وفق مصادر تكلمت إلى «الشرق الأوسط».

لكن يتوقع الآن أن تفتح هذه القضية على مواجهة رسمية مباشرة مع «الجماعة» و«جبهة العمل»، بينما يتحضّر رسميّون لتلك المواجهة بملف تحقيقي موسّع واعترافات مباشرة قد تغيّر قواعد اللعبة بين الحركة الإسلامية والسلطات. وهذا، في وقت تشعر فيه «الجماعة» بنشوة حصد الشعبية بعد تفوقها في الانتخابات النيابية الماضية وحصولها على نحو 500 ألف صوت على مستوى مقاعد القائمة العامة المخصّصة للأحزاب.


مقالات ذات صلة

الحكومة الأردنية: العمل من أجل فلسطين لا يكون باستهداف الاستقرار الوطني

المشرق العربي وزير الاتصال الحكومي المتحدث باسم الحكومة الأردنية محمد المومني (حسابه عبر منصة «إكس») play-circle

الحكومة الأردنية: العمل من أجل فلسطين لا يكون باستهداف الاستقرار الوطني

قال المتحدث باسم الحكومة الأردنية محمد المومني، إن «العمل من أجل فلسطين لا يكون باستهداف الاستقرار الوطني»، وإنما يكون بالوقوف خلف القيادة الأردنية والجيش.

«الشرق الأوسط» (عمان)
تحليل إخباري مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)

تحليل إخباري هل ينتهي حلم «الإخوان» بعودة نشاطهم في مصر؟

أكد مصدر مصري مسؤول أن «تنظيم الإخوان انتهى في البلاد، ولا سبيل لعودتهم، وكل ما يثار من أحاديث عن مصالحة معهم لا أساس لها في الواقع».

هشام المياني (القاهرة )
خاص مصدر أردني لـ«الشرق الأوسط»: سياسات احتواء «الحركة الإسلامية» لم تعد مطروحة play-circle 02:57

خاص مصدر أردني لـ«الشرق الأوسط»: سياسات احتواء «الحركة الإسلامية» لم تعد مطروحة

قالت مصادر أردنية رفيعة المستوى لـ«الشرق الأوسط» إن «السياسات التي اعتمدتها حكومات ومسؤولون أمنيون سابقون لـ(احتواء أو استرضاء) الحركة الإسلامية لم تعد مطروحة».

محمد خير الرواشدة (عمّان)
خاص عناصر من قوات الأمن الأردنية تقف أمام مقر للحركة الإسلامية في عمّان يوم الأربعاء (رويترز) play-circle 02:57

خاص الأردن يضع «الإخوان» تحت طائلة الحل والحظر

بعد ثمانين عاماً من الاحتواء ثم الصدام، وضعت السلطات الأردنية جماعة «الإخوان المسلمين» تحت طائلة الحل والحظر، وباتت «غير مشروعة».

محمد خير الرواشدة (عمّان)
الخليج ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لدى استقباله العاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين في جدة (واس) play-circle 00:13

ولي العهد السعودي والعاهل الأردني يبحثان تطورات المنطقة

بحث ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بن الحسين، الموضوعات على الساحتين العربية والإسلامية.

«الشرق الأوسط» (جدة)

سياسات مصر السكانية تحقّق اختراقاً نادراً

مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)
مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)
TT
20

سياسات مصر السكانية تحقّق اختراقاً نادراً

مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)
مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)

بعد نحو ستة عقود من الجهود والمساعي الحثيثة لمواجهة الأزمة السكانية، يبدو أن سياسات مصر في هذا الصدد بدأت تؤتي ثمارها، محققة اختراقاً نادراً يتمثل بتراجع معدل المواليد؛ ما ينبئ بإمكانية الوصول إلى المستهدفات بحلول عام 2030. جاء هذا الاختراق مقترناً بما أعلنه نائب رئيس الوزراء المصري ووزير الصحة الدكتور خالد عبد الغفار، أخيراً، عن «تسجيل أقل معدل نمو سكاني في البلاد خلال الربع الأول من العام الحالي، مقارنة بالربع الأول من 2024 وكذلك عام 2023، في استمرار لانخفاض معدلات الزيادة السكانية على مستوى ربوع البلاد». وهو ما عدَّه وزير الصحة «إنجازاً يعكس نجاح الجهود الحكومية المبذولة لتحقيق التوازن بين النمو السكاني والتنمية المستدامة».

وزير الصحة المصري في جولة داخل أحد المستشفيات (أرشيفية - وزارة الصحة المصرية)
وزير الصحة المصري في جولة داخل أحد المستشفيات (أرشيفية - وزارة الصحة المصرية)

تراجع نمو معدل المواليد لا يعني بالضرورة تراجع عدد السكان أو ثباته. وفيما يخص مصر، فإنها لم تصل بعد إلى نسبة التوازن المستهدفة، التي يتساوى فيها معدل المواليد مع معدل الوفيات أو ما يعرف بـ«السكون السكاني».

ووفق ما أعلنه وزير الصحة المصري، الدكتور خالد عبد الغفار، بلغ عدد السكان في أول يناير (كانون الثاني) 2023 نحو 104.4 مليون نسمة، وارتفع إلى 107.2 مليون نسمة في أول يناير 2025؛ ما يعني أن متوسط معدل النمو السنوي خلال تلك الفترة بلغ نحو 1.34 في المائة، مقارنة بمعدل 1.4 في المائة عام 2024، و1.6 في المائة خلال عام 2023، مشيراً إلى أن ذلك يعكس «تحولاً إيجابياً نتيجة للسياسات السكانية التي تنفذها الدولة».

عدد سكان مصر بلغ عام 1897 نحو 9.7 مليون نسمة، لكنه تزايد تدريجياً حتى أضحت قضية الزيادة السكانية واحدة من القضايا المدرجة على أجندة الدولة المصرية منذ الستينات من القرن الماضي. وبالفعل، أسّس «المجلس الأعلى لتنظيم الأسرة» عام 1965. وفي منتصف الثمانينات أُسّس «المجلس القومي للسكان». ومن ثم تواصلت الجهود للحد من الزيادة السكانية، وكان الحدث الأبرز عام 1994 استضافة مصر مؤتمراً دولياً عن السكان والتنمية، لتتخذ الجهود منحًى آخر أكثر كثافةً ترافق مع حملات إعلامية بشعارات لافتة من قبيل «قبل ما نزيد مولود نتأكد أن حقه علينا موجود».

مؤشر إيجابي

لعقود طويلة دفعت الزيادة السكانية إلى اختناق المدن المصرية، والتهمت موارد الدولة وجهود التنمية، وسط شكاوى حكومية مستمرة من نقص الموارد الكافية للزيادة السكانية.

وسبق أن حذّر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مراراً من النمو السكاني، وعدّه «أكبر خطر يواجه مصر في تاريخها». وفي سبتمبر (أيلول) 2023، أثناء افتتاحه «المؤتمر العالمي الأول للسكان والصحة والتنمية»، قال: «يجب أن يتم تنظيم الإنجاب، وإن لم يتم تنظيمه، فإنه يمكن أن يتسبّب في (كارثة) للبلد».

وأشار السيسي إلى مخاطر النمو السكاني على جهود التنمية، فقال في نهاية عام 2022 إن «النمو السكاني سيأكل البلد». وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2021 قال إن «استمرار النمو بالمعدلات الحالية يعرقل جهود التنمية». وما يذكر أنه عام 2017 عدَّ السيسي «الإرهاب والزيادة السكانية أكبر خطرين يواجهان البلاد».

الآن يبدو أن التحذيرات والجهود بدأت تؤتي ثمارها. ورأى الدكتور مجدي خالد، المدير السابق لصندوق الأمم المتحدة للسكان وعضو «اللجنة الاستشارية العليا» لتنظيم الأسرة بوزارة الصحة المصرية، في انخفاض معدل المواليد «نتاجاً للسياسات التي تضمنتها الاستراتيجية القومية للسكان». وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «هذا الانخفاض ليس مفاجئاً ولا عشوائياً، وهو مستمر منذ ثلاث سنوات إثر تدخلات فاعلة تمت خلال السنوات العشر الأخيرة».

وبينما اتفق مقرّر المجلس القومي للسكان السابق، الدكتور عاطف الشيتاني، مع هذا الرأي، فإنه رأى خلال حوار مع «الشرق الأوسط» تراجع معدل المواليد إشارة جيدة وثمرة لجهود مستمرة منذ الستينات، وأردف: «هناك حقائق عدة لا بد من التعامل معها في هذا المجال في إطار خطة استراتيجية لمواجهة الأزمة بنهاية عام 2030».

وأوضح الشيتاني أن «الدولة تسعى للوصول لمرحلة التوازن السكاني، أي زيادة سكانية صفر، بتساوي معدل الوفيات ومعدل المواليد»، مشيراً إلى أن معدل المواليد حالياً يقترب من مليونين سنوياً، في حين يبلغ معدل الوفيات 600 ألف سنوياً.

وفي يناير الماضي، أعلن «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء» في مصر أنه «للمرة الأولى منذ عام 2007 لم تتجاوز أعداد المواليد حاجز المليونين»، لافتاً إلى أن عدد المواليد خلال عام 2024 بلغ مليوناً و968 ألف مولود، مقارنة بمليونين و45 ألف مولود عام 2023، في حين بلغ عدد الوفيات 610 آلاف شخص خلال عام 2024، مقارنة بـ583 ألفاً خلال عام 2023.

هذا، وساهمت الحملات المستمرة في انخفاض معدل المواليد سنوياً، قبل أن يعود للارتفاع عام 2014؛ ما دفع إلى تكثيف الجهود مرة أخرى، وفق الشيتاني الذي يرى أن «حركة السكان وسلوكهم الإنجابي لا يمكن تعديلهما في يوم وليلة، فهما مؤشران ثقيلان يحتاجان إلى عقود من الجهد».

وعقب أحداث عام 2011 في مصر، قفز معدل المواليد عام 2012 إلى نحو 32 مولوداً لكل ألف مواطن، وشهد عام 2014 أكبر معدل للمواليد 2014، وبلغ مليونين و720 ألف مولود، قبل أن يعاود الرقم الانخفاض تدريجياً في الأعوام التالية، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

الحذر مطلوب

مع هذا، ورغم أن انخفاض معدل المواليد مؤشر إيجابي، يطالب الشيتاني بالحذر في التعامل مع الأرقام ربع السنوية، وانتظار البيانات الرسمية لنهاية العام، لا سيما وأن معدل المواليد موسمي وربما يزيد في فصل الصيف. ويشرح: «هناك مؤشرات أخرى لا بد من وضعها في الحسبان، من بينها معدل الإنجاب. والدولة تسعى لمعدل إنجاب بمتوسط طفلين لكل سيدة بحلول 2028، في حين يصل المعدل الحالي إلى 2.8 طفل لكل سيدة».

ويلفت الشيتاني إلى نتائج المسح السكاني الصحي لعام 2021، التي أظهرت أن معدل استخدام وسائل تنظيم الأسرة لا يتجاوز 67 في المائة، في حين المستهدف 74 في المائة، وذلك مع أن 20 في المائة من المواليد خلال السنوات الخمس السابقة للمسح الصحي كانوا «غير مخطط لهم». وهذا – وفق الشيتاني – يعني أن «هناك نقصاً في المعلومات، ثم إن الوصول لوسائل تنظيم الأسرة يتطلب جهوداً مكثفة في هذا الإطار».

في سياق موازٍ، بحسب دراسة الجدوى الاقتصادية لإنهاء الحاجة غير الملباة لتنظيم الأسرة في مصر، التي أطلقها «معهد التخطيط القومي» و«صندوق الأمم المتحدة للسكان» في أبريل (نيسان) 2024، تحتاج برامج تنظيم الأسرة إلى استثمار إجمالي قدره 11.1 مليار جنيه (الدولار يساوي 50.9 جنيه في البنوك المصرية)؛ وذلك لتقليل الحاجة غير الملباة لتنظيم الأسرة في مصر لتصل إلى 8.6 في المائة بحلول 2030 وتجنب مليون و400 حالة حمل غير مرغوب فيها.

هذا، ويهدف «البرنامج القومي لتنظيم الأسرة» إلى «تحقيق التنمية الاجتماعية الشاملة للأسر المستفيدة من برنامج (تكافُل) من خلال رفع وعي الأسر المستهدفة وتطوير عيادات تنظيم الأسرة بتكلفة 1.2 مليار جنيه، وتقديم خدمات ووسائل تنظيم الأسرة بالمدن والقرى على مستوى الجمهورية، خصوصاً المناطق النائية والمحرومة، ضمن مبادرة رئيس الجمهورية (حياة كريمة) لرفع معدلات استخدام وسائل تنظيم الأسرة وخفض معدلات الزيادة السكانية».

ويضاف إلى هذا «توقيع الكشف الطبي، وصرف وسائل تنظيم الأسرة وبخاصة الوسائل الطويلة المفعول، والأدوية بالمجان عن طريق اختصاصيي تنظيم الأسرة والنساء والتوليد في العيادات الثابتة والمتنقلة، والمراكز الحضرية، والمستشفيات العامة والمركزية ومراكز رعاية الأمومة والطفولة»، بحسب موقع الرئاسة المصرية.

من جهة أخرى، رغم المؤشرات الإيجابية، يؤكد المدير السابق لـ«صندوق الأمم المتحدة للسكان» أن «تحقيق المستهدفات يتطلب المزيد من الجهد ودراسة الأسباب التي دفعت إلى انخفاض معدل المواليد في محافظات معينة في حين يرتفع في أخرى، ومحاولة تكرار التجربة». وللعلم، سجلت محافظة بورسعيد (بشمال مصر) أدنى معدل نمو سكاني في البلاد بنسبة 0.61 في المائة؛ ما يجعلها أول محافظة تحقق «شبه سكون سكاني».

في المقابل، يمثل إقليم الوجه القبلي (صعيد مصر) أكبر نسبة مواليد؛ إذ بلغت 45 في المائة، مع أنه يشكل 39 في المائة من تعداد السكان، «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء» بداية العام الحالي. وبيّن «الجهاز» أن محافظات بورسعيد ودمياط والدقهلية والغربية والسويس كانت أقل المحافظات من حيث معدل المواليد لعامي 2024 و2023.

بنايات في القاهرة (تصوير عبد الفتاح فرج)
بنايات في القاهرة (تصوير عبد الفتاح فرج)

المرأة هي البطل

على الجانب الآخر صرّح الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي، لـ«الشرق الأوسط» بأن التراجع في معدلات المواليد «مرتبط بتغيرات مجتمعية تتعلق بزيادة مستوى التعليم، ونسب عمل المرأة، وتراجع سن الزواج، إضافة إلى تراجع الأوضاع الاقتصادية... وصحيح أن الدولة وضعت سياسات وخططاً ونظَّمت حملات إعلامية ووفرت وسائل تنظيم الأسرة، لكن العامل الفاعل والبطل في إحداث تغيير كان المرأة وزيادة وعيها العلمي والاقتصادي والمجتمعي».

ما سبق عوامل لم ينكرها المتخصصون في السكان، لكن الشيتاني وخالد يعتقدان أن إثبات دور العوامل المجتمعية من تعليم وأوضاع اقتصادية يحتاج إلى دراسات. وأكدا أن الحقائق تقول إن هناك سياسات حكومية لمكافحة الزيادة السكانية، وهناك تراجع في معدل المواليد بالأرقام، أي عوامل أخرى تحتاج لدراسة».

وكانت الدكتورة عبلة الألفي، نائب وزير الصحة لتنمية الأسرة والمشرفة على «المجلس القومي للسكان»، قد أكدت في تصريحات صحافية أخيراً أن «التراجع الحالي في معدل النمو السكاني جاء نتيجة لتحوّل ثقافي مستقر، وليس تأثيراً ظرفياً ناتجاً من ظروف اقتصادية».

حقائق

الفن والإعلام شاركا في المحاولات الحكومية للتوعية

> وسط تحذيرات متكررة من مخاطر الزيادة السكانية في مصر، وتزامناً مع جهود وسياسات حكومية لخفض معدل الولادات، لعب الإعلام دوراً مهماً، عبر حملات إعلانية وأعمال درامية ناقشت الظاهرة، وحاولت التحذير من مخاطرها، بعضها حفر طريقه في ذاكرة المصريين. وكانت أغنية «حسنين ومحمدين... زينة الشباب الاتنين» التي أدتها الفنانة فاطمة عيد في الثمانينات واحدة من أبرز الحملات الإعلامية في هذا الإطار، عبر التركيز على الفرق بين رجلين أحدهما أنجب 7 أطفال والآخر اكتفى بطفلين. أيضاً قدمت فاطمة عيد في الفترة نفسها إعلان «الست شلبية»، وهو إعلان رسوم متحرّكة يحث النساء على التوجه إلى عيادات تنظيم الأسرة. واعتمدت الحملات الإعلانية على نجوم الفن، وشاركت الفنانة كريمة مختار في إعلانات عدة لتوعية المرأة بأهمية تنظيم الأسرة خلال حقبتي الثمانينات والتسعينات. وتوالت بعد ذلك الحملات الإعلانية، التي ركّز بعضها على الرجل ودوره، كالحملة التي شارك فيها الفنان المصري أحمد ماهر ورفعت شعار «الراجل مش بس بكلمته... الراجل برعايته لبيته وأسرته». أو حملات ركزت على المرأة مثل «بالخلفة الكتير... يتهد حيلك وجوزك يروح لغيرك». وأخرى حاولت التأكيد على أهمية الصحة معتمدة شعار «مش بالكترة بنات وبنين... لاء بالصحة وبالتنظيم». وأخرى للترويج لوسائل تنظيم الأسرة «اسأل... استشير». ولم يقتصر الأمر على الإعلانات، بل امتد إلى الدراما التلفزيونية والسينمائية، وربما من أشهر تلك الأعمال فيلم «أفواه وأرانب» من بطولة فاتن حمامة ومحمود ياسين 1977، وفيلم «الحفيد» بطولة عبد المنعم مدبولي وكريمة مختار 1974. وتناولت بعض الأفلام تأثير زيادة الإنجاب على الأوضاع الاقتصادية، مثل فيلم «لا تسألني من أنا»، بطولة شادية عام 1984، وفيه باعت البطلة إحدى بناتها لتنفق على باقي أسرتها. وغيرها الكثير من الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي حاولت طرح القضية من زوايا عدة بشكل مباشر أو غير مباشر. وبينما حظيت بعض الأعمال الفنية سواء إعلانات أو دراما بإعجاب الجمهور، فإن أخرى لم تلق استحساناً، مثل إعلان «أبو شنب» عام 2019، الذي جسّد فيه الفنان المصري أكرم حسني شخصية صعيدية بصبغة كوميدية، في إطار حملة توعوية أطلقتها وزارة التضامن الاجتماعي لمكافحة الزيادة السكانية تحت عنوان «2 كفاية» واختارت لها شعار «السند مش في العدد». إذ أثارت الحملة يومذاك انتقادات عدّة، وعدّها البعض تشويهاً لمنطقة الصعيد (جنوب مصر).