ثلاثة مفاتيح لاستقرار لبنان في 2024

الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)
الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)
TT

ثلاثة مفاتيح لاستقرار لبنان في 2024

الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)
الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)

تشعّبت الانتماءات والولاءات والخسارة واحدة: الوطن والدولة.

لكن بدايةً وقبل أي إشعار آخر، تبقى غزة، ليس كمساحة بل كشعب فلسطيني يئنّ موتاً ووجعاً وجوعاً وعوزاً تحت وابل الآلة الإسرائيلية التي تحترف القتل وتتقن الغطرسة. إنها لحظة الوقوف تهيباً أمام هول المأساة التي ذهب ضحيتها عشرات آلاف القتلى والمصابين من المدنيين. إنها لحظة اختبار المجتمع الدولي المدعو فوراً إلى وقف جريمة الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تُرتكب بحق المدنيين الفلسطينيين، أطفالاً ونساءً وشيوخاً، لا بل ضد الدولة الفلسطينية بالذات.

وهي لحظة اختبار الأمة الفلسطينية المدعوة إلى انبثاق مرجعية وطنية، جامعة محررة ومتحررة، يكون التزامها المجرّد بالقضية، وولاؤها المطلق لفلسطين من دون إشراك. إنها المرجعية المرجوة التي تفرض نفسها حكماً كمُحاور مأذون يمثل حصراً الحق الفلسطيني. هذا هو المدخل الطبيعي لوقف المأساة وعودة الحق إلى أصحابه، وخلاف ذلك لن يكون سوى مُدّعي سلطة، أيّاً كانت إنجازاته وبطولاته، فاقد الثقة الوطنية والدولية، وبالتالي فاقد الفاعلية لارتباطه فئوياً وجهوياً، ولربما وطنياً بما هو أبعد من فلسطين.

المطلوب الآن وبإلحاح لمنع هذه السردية القاتلة للقضية الفلسطينية، وقف الانقسامات في القيادة إيذاناً لتأمين وحدة المرجعية ووحدة الشعب، وإسقاط الـ«إيغو» لضمان انتصار القضية، وإلا تصبح إسرائيل المستفيد الأول والأخير، العائمة على بحر الخلافات الفلسطينية والدم الفلسطيني، والقادرة على إعاقة أي دعم عربي إقليمي ودولي.

والتصريحات الأخيرة للقادة في إسرائيل أصبحت واضحة لجهة رفضها قيام دولة فلسطين بالمطلق. هذه هي الفرصة السانحة وقد تكون الأخيرة للسلطة الفلسطينية وللمجلس الوطني الفلسطيني للالتئام والتحرر من القيود وجمع الشمل الفلسطيني والضغط باتجاه دولة فلسطينية مستقلة تسترجع أبناءها - كل أبنائها - من الشتات كما فعلت إسرائيل منذ قيامها في عام 1948...

أما بعد...

لعلّ تجارب التاريخ واضحة لجهة تفكك بعض الدول والكيانات. إن مشكلة بعض العالم الغربي في الماضي، والعربي في الماضي والحاضر هي مشكلة غموض في الانتماء وعدم ثبات في الولاء لمفهوم الوطن والدولة.

ومهما تلوّن الانتماء يبقى انتماءً سواء للشخص أو للحزب أو للطائفة أو للمذهب أو للآيديولوجية المستوردة أو المستوطنة، على حساب الانتماء للوطن الجامع داخلياً والمعترف به دولياً. الانتماء - الولاء للدولة العادلة والمسؤولة يبقى جامعاً، مشتركاً، موحَّداً وموحِدّاً، يبقى حوكمة لا تحكّماً، يبقى تكريساً لمرجعية السلطة ومركزيتها وحصانتها. أما الانتماء - الولاء للحزب أو للشخص أو للطائفة أو للخارج، فيغدو مثقلاً بمتفرعات قاتلة ليس أقلها تعطيل مفهوم المواطنة المنزّهة واستبدال نزعة التبعية على أشكالها به، والالتزام بعقيدة مستوردة أو مستحدثة، والاستزلام لشخص يسهم أتباعه في تأليهه.

إن انتماء كهذا يبقى مفتقراً إلى الصدقية والفاعلية ولا يَثْبُت ولا يدوم، بل هو مصدر ضرر حضاري وإنساني أكيد. وأنا أكتب كرئيس سابق لحزب، وكابن لمؤسس حزب، فإذا لم يكن الحزب للوطن يصبح عبئاً على الوطن، يصبح فاعلاً في الوطن لكن على الوطن.

إن العقائد الغريبة والتحزّب الرخيص والانقياد الأعمى لا تولّد مجتمعةً وفرادى سوى الموت البطيء للمجتمعات والدول

إن العقائد الغريبة والتحزّب الرخيص والانقياد الأعمى لا تولّد مجتمعةً وفرادى سوى الموت البطيء للمجتمعات والدول. وتجربة الإخوان المسلمين في الزمن الحديث لا تزال ماثلة لجهة الخلافات والانقسامات والحروب التي ولدتها وورثتها، وكذلك الفاشية والنازية والشيوعية التي أرست مفهوم الولاء لحزب، بل لشخص أمثال موسوليني وهتلر وستالين، الأمر الذي استدركه الديكتاتور فرنكو، فأجاز ولو متأخراً الانتقال من نظامه الاستبدادي إلى الشرعية الوطنية التاريخية المتمثلة بالملكية الإسبانية، فاستقرّت إسبانيا حتى اليوم. وينسحب الأمر ولو بشكل مختلف على المواجهة بين الرأسمالية والشيوعية التي ولدت الحروب الباردة والساخنة، والحروب بالمباشر أو بالواسطة (proxy war).

وفي العالمين العربي والخارجي، كم من شعارات وشعبويات أطلقتها بعض الأنظمة، ظاهرها جذّاب وواقعها كذّاب، ترويجها توحيدي وفعلها تقسيمي، دعايتها تنموية، ورعايتها خارجية، وحقيقتها طائفية تدميرية أدّت فيما أدّت إليه إلى شرذمة العالم العربي قبل أن يستفيق بعضه لاحقاً ويقرر ركوب الحضارة والحداثة من الباب الواسع. والعينات كثيرة، من البعث الاشتراكي في الظاهر، الممذهب في الواقع، سنيّاً في العراق وعلوياً في سوريا، إلى الحالة الحوثية في اليمن.

الرئيس حافظ الأسد مودعاً الرئيس أمين الجميل في مطار دمشق (أرشيفية)

أكتب منطلِقاً من التجربة اللبنانية، هذا الوطن الذي دفع غالياً كلفة جنوحه وانتمائه المتعدد، وفاتورة الأنماط الغريبة المستوردة إليه أو المستوطنة فيه، فوقعت أحياناً بعض الفئات اللبنانية في فخّها، على حساب الاستقرار والسلام اللبنانيين.

ففي عام 1958، هزّت الناصرية مشروع الوحدة في لبنان، فاهتز التوازن الداخلي. وفي عام 1969، أسهم اتفاق القاهرة في اقتسام السيادة بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وسنة 1975، كشر مشروع التوطين عن أنيابه فكانت الحرب وكانت المقاومة اللبنانية. وفي عام 1989، شكل اتفاق الطائف نوعاً من ترميم ناقص للبنيان لم تكتمل أعمدته بسبب تعدد الولاءات التي استفاد منها نظام الوصاية السائد في حينه، وعبّد الطريق لتيار الثورة الإيرانية التي استطاعت أن تحدث خرقاً في البيئة اللبنانية، لا سيما فيما يتعلّق بمفهوم الولاء للوطن.

أفضى تعدد ولاءات اللبنانيين في أفضل تقدير إلى استحداث أنظمة دخيلة على الديمقراطيات وغريبة عنها، وعرقلت حسن سير المؤسسات كنظام الشغور الرئاسي والحكومي وفراغ المؤسسات

إن تعدد ولاءات اللبنانيين أفضى في أفضل تقدير إلى استحداث أنظمة دخيلة على الديمقراطيات وغريبة عنها، وعرقلت حسن سير المؤسسات كنظام الشغور الرئاسي والحكومي وفراغ المؤسسات، بحيث لا ينتخب رئيس إلا بعد مفاوضات خارجية تفضي إلى تسويات داخلية، ولا تؤلف حكومات إلا باستشارات تنحو إلى أبعد من النص الدستوري، ولا يعيّن ناطور إلا ضمن تفاهمات مسبقة.

وبقدر ما أسهم اتفاق الطائف الذي صار دستوراً في إطفاء النزاعات المسلحة، بقدر ما أرسى مشكلة في السياسة، خصوصاً لجهة الحاجة الدائمة إلى مرجعية خارجية، وربما مجموعة مرجعيات لإيجاد التوافق السياسي بين المؤسسات الدستورية الثلاث بفعل الخلاف على الأساسيات؛ مثل الولاء والكيان والهوية والنظام السياسي، وحمل كل طائفة مشروعاً للبنان يستدعي تدخلاً خارجياً، في أحسن الأحوال سياسياً، وفي الغالب عسكرياً، وفي الأغلب مزيجاً من السياسي والعسكري.

هذا ما يحدث اليوم بين اللجنة الخماسية الدولية التي تحاور الداخل اللبناني شكلاً وإيران أساساً، للوصول إلى مساحة مشتركة تتيح انتخاب رئيس للجمهورية. والدرس هنا يفيد بأنه ليس مهماً أن ينسحب التيار الناصري، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والجيشان السوري والإسرائيلي، والباسدران الإيراني من لبنان، بل أن ينسحب اللبنانيون من الخارج ومن التبعية له، وأن يرفضوا نظام الوصاية وتبعاتها على لبنان واللبنانيين.

إن لبنان يحتاج اليوم إلى معالجة ثلاثية الأبعاد لتأمين قيام الدولة واستقرارها:

الأولى تحويل حزب الله إلى مشروع سياسي، ما يفترض نزع سلاحه أسوة بحل الميليشيات التي سبق اعتمادها خلال مرحلة تطبيق اتفاق الطائف، واستبدال الفكر السياسي الذي يحكم حزب الله من منطق استملاك الدولة إلى ثقافة المشاركة النديّة والمتوازنة في الدولة.

الثانية منع توطين اللاجئين الفلسطينيين الذي تذكيه حروب إسرائيل؛ وآخرها الحرب في غزة من خلال تأمين حق العودة عملاً بالقرار الدولي رقم 194، وتوزيع فائض الفلسطينيين على الدول العربية.

الثالثة منع استقرار النازحين السوريين والعمل على إعادتهم إلى سوريا من خلال نقل المساعدات الأممية إلى الداخل السوري بدلاً من صرفها للسوريين في لبنان، كطُعم يبقيهم نزلاء إلى آجال غير مسماة.

تأسيساً على ما تقدّم، نبلغ النتيجة الأساسية وهي مزدوجة: فمن جهة تجب حماية الدين في مكانة جلّى بين المؤمن وربّه، خصوصاً أن التعددية الطائفية والمذهبية هي الغالبة في مجتمعاتنا، والامتناع من جهة ثانية عن «سوق» الله إلى معترك السياسة والاستثمار على اسمه لجني الأرباح السياسية.

ويحضرني هنا نوعان من استغلال الدين لمآرب الشخص أو الحزب؛ النوع الترهيبي والنوع الترغيبي، والاثنان يخدمان المرجعية السياسية بالقوة أو بالحسنى، بالعصا أو بالجزرة على حساب الدين والمجتمع والإنسان كهوية خالصة. الاثنان يُخضعان الإنسان مكرهاً أو مغرراً به، ويستخدمانه باسم الدين أو العقيدة لأغراض مخالفة لأبسط القيم الأساسية التي اعتدنا على تسميتها قيم الديمقراطية وقِيَم الجمهورية.

إن الدين ليس الحل السياسي، بل يصبح مشكلة في الانتماء، بل مشكلة في الوجود إذا أسيء استخدامه أو إذا قُبض عليه بالسياسة.

آن الأوان لسقوط الأنظمة غير الرشيدة...

آن الأوان لسيادة القانون وإعمال الحوكمة الرشيدة بكل مرافقها، وانتصار الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان ورفاهه...

آن الأوان لدسترة الأنظمة وأنسنة السياسة، وقد بدأت طلائعها تثمر ولا عودة إلى الوراء.

فتعالوا نصلح معاً ميثاق الحياة.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.