الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات
TT

الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

مع مضينا باتجاه عالم يقوم على الاتصالات المترابطة والتنقُّل الذكي من المهم للجهات المعنية بمجال التنقُّل والمواصلات الدفع باتجاه توفير حلول مبتكَرة، تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية الهائلة التي تشهدها المدن. فالعدد المتكاثر من الناس يرتبط بالأعداد الكبيرة للمركبات الموجودة على الطرقات، التي تُقدَّر حالياً بنحو 1.2 مليار مركبة يومياً. وعند اقتران هذا مع البنية التحتية التقليدية للمواصَلات، تنتج عن ذلك بيئة مدنية مكتظّة جداً، الأمر الذي يُبرِز الحاجة لحلول نقل مستدامة وقابلة للتعديل وفق الطلب. وبينما تواجه هذا الشيء تحدّيات لوجستية، إلا أنه في الوقت ذاته يفتح المجال أيضاً أمام انبثاق فرص بارزة للأعمال.

منعطف بارز

ضمن هذا السياق، يستطيع الأفرقاء المعنيون بقطاع التنقُّل والمواصَلات الاستفادة من الحاجة الاقتصادية والتوجّهات السائدة في الأسواق للتركيز على مسارات استراتيجية باتجاه تحقيق مستقبل التنقُّل المنشود، وذلك كجزء من محافظهم المقبلة.

ومع اقترابنا من بداية عام 2024، فإننا نصل إلى منعطف بارز في الثورة بمجال المواصَلات، ويدفع بهذا الاتجاه التبنّي القوي للمركبات الكهربائية (EV) والمركبات ذاتية القيادة (AV) وتقنيات الاتصال المتطوّرة، التي ستستمر بصياغة التوجّهات في قطاع السيارات على مدى السنوات المقبلة. من جهة أخرى، يتوجّب على التقنيات الموجودة في المجموعة المقبلة من المركبات، التي نتوقّع رؤيتها على الطرقات، ألا تُعنى بمعالَجة مشكلة الازدحام المروري فقط، بل أيضاً تلبية المتطلّبات الملحّة فيما يتعلّق بإحداث أثر مناخي إيجابي واعتماد عمليات مستدامة فعلياً.

أنظمة أكثر ذكاء

ونشير إلى أن المستقبل القريب سيشهد تحوُّلاً إلى أنظمة أكثر ذكاءً وترابُطاً من ناحية الاتصالات، التي من شأنها أن تغيّر طريقة التنقُّل في المدن، وتفتح آفاقاً جديدة أمام الابتكار والاستثمار في الجيل المقبل من أساليب المواصَلات المتطوّرة.

أحد التوجُّهات البارزة ضمن هذا المجال يقوم على تعزيز سُبُل الاتصالات وتوسعة نطاق قدراتها عبر تقنية إنترنت الأشياء (IoT). وأمر مهم يجب تسليط الضوء عليه هو أن العملاء صاروا يتوقّعون التكامل السلس بين مختلف الخصائص والوظائف، أكانت تتعلّق بالترفيه أم الصيانة المنزلية أم التعليم، وغير هذا الكثير – ويُترجَم هذا عبر ما يتوقّعونه من المركبات التي يقودونها. وتناغماً مع هذا المشهد البارز بقطاع التنقُّل، تظهر الحاجة لمركبات حديثة تعمل وكأنها هواتف ذكية على عجلات. فالعميل في العصر الحالي لا يُقدِّر عنصر التكامل فقط، بل يسعى أيضاً لمزيد من التطوّرات في التقنيات، وهو ما يُرسي الأرضية الصلبة لمجموعة الخيارات المطروحة في مجال التنقُّل، التي تكون متميّزة بالاتصال من أساسها.

هذا الاتجاه مثبَت عبر تقارير بارزة من قطاعات الأعمال، مثل دراسات ماكينزي الأخيرة التي تشير إلى أن السيارات المتصِلة تشكّل عنصراً حيوياً ضمن مستقبل قطاع السيارات. فنحو 55 في المائة من المسؤولين بقطاع السيارات يعتبِرون أن السيارات المتصِلة – المركبات التي تستخدم الاتصالات والخصائص الرقمية لتوفير تجربة تنقُّل معزَّزة ومعرَّفة برمجياً – هي واحدة من توجّهين اثنين بارزين يصوغان مستقبل هذا القطاع، بحيث تأتي مباشرة بعد التحوُّل الكهربائي.

هذا التبدُّل لا يَعِدُ بتخفيض التكاليف فحسب، بل يُمكِنه أيضاً توليد مصادر إيرادات جديدة لصالح المنخرطين به وذلك ضمن نطاق واسع من النظام الإيكولوجي العام لقطاع التنقُّل. وتتميّز الاتصالات بكونها تترافق مع فرصة تخصيص تجربة القيادة لفئات مختلفة من العملاء، وتلبية متطلّباتهم المحدَّدة كما يظهر من خلال دراسة سابقة لدى ماكينزي، بالإضافة للتمكُّن من التعامل مع مجموعة تحدّيات فيما يتعلّق بالسلامة والاتصال والترفيه.

لكن لأجل تحقيق المنافع التي توفرها الاتصالات وجعلها واقعاً فعلياً، ينبغي تخطّي مختلف المعوّقات المحتمَلة، وهذا يشمل بشكل أساسي التأكُّد من اعتماد توجّه موحَّد مدعوم من مختلف الأفرقاء، بمن فيهم الجهات الناظمة والعملاء وموفرو خدمات الاتصال والمعنيون بقطاع التنقُّل وغيرهم من الجهات الأخرى. وتَكمُن النقطة الأساس في تسهيل سُبُل الاتصال والتأكّد من أن الخيارات المستقبلية المتلاحقة التي يتم توفيرها تتوافق مع الاحتياجات المحدَّدة للعملاء، وأن تتمحور حول ثلاثة أبعاد مختلفة هي: البُنية التحتية، إدارة المعرفة، والتعاوُن.

1. بناء بُنية تحتية متينة لاتصالات معزَّزة

ترتكز استراتيجية التنقُّل الملائمة للمستقبل على عنصر أساسي هو البُنية التحتية التي يتم التخطيط لها بعناية. فخارج نطاق المكوّنات الحسّية كمحطّات شحن المركبات الكهربائية على سبيل المثال لا الحصر، تتجه الحكومات والهيئات الناظمة للاستثمار في البُنية التحتية الرقمية المنيعة. بناءً عليه، تُعتبَر الرؤية الواضحة فيما يتعلّق بالتحوُّل الرقمي أمراً ضرورياً جداً لتمكين الاتصال السلس بين المركبة والبُنية التحتية، وكذلك بين المركبة والمركبة. ضمن هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أن العديد من المدن قد استثمرت بشكل مزداد في العلاقة الرمزية بين قطاع التنقُّل والبنية التحتية للاتصالات، مما يساعد في جعل تجارب السائقين متناغمة أكثر مع المستقبل المقبل. وكنقطة إثبات لهذا الشيء، نتطلّع إلى ما يجري في دبي، التي تعمل باتجاه تحقيق الاستراتيجية الوطنية للتنقُّل الذكي لدولة الإمارات العربية المتحدة. وهذا الأمر سيستمر في السنوات المقبلة، وذلك لضمان تلبية الطلبات المتزايدة على أنظمة التنقُّل الذكية.

وبالنظر للمستقبل، فمن المرجَّح أن تأخذ مخطَّطات البنية التحتية بعين الاعتبار قابلية التعديل لجهة الحجم والتكيُّف، والقدرة على استيعاب التقنيات البارزة مثل تقنية اتصالات «5G» بهدف إرسال البيانات في الوقت الفعلي وضمان توافر بيئة آمنة للمركبات المتصِلة.

ارتفعت صادرات السيارات الصديقة للبيئة في كوريا الجنوبية خلال الأشهر الـ11 الأولى من عام 2023 بنسبة 32.5 في المائة وذلك بفضل الطلب العالمي القوي على السيارات الكهربائية (رويترز)

ومع اعتماد البُنية التحتية العامّة على الابتكار، فإن المطلوب هو الالتزام والاستثمار من القطاع الخاص لتعزيز الفرص والإمكانات أكثر. وأحد الأمثلة على الابتكار بهذا المجال هو التزام شركة «جنرال موتورز» بتوفير سُبل اتصال متطوّرة جداً تترافق مع السلامة والحلول الترفيهية عبر تقنية «أونستار». وتتميّز «أونستار» بكونها تُرسي معايير جديدة، إذ إنها توفر خدمة الاتصال ضمن مركبات علامات «شيفروليه»، «جي إم سي» و«كاديلاك» التجارية، بالإضافة للارتقاء بخدمات السلامة والأمن الموجودة فيها. وفي ظل توافرها حالياً في كل من الإمارات العربية المتحدة والكويت والمملكة العربية السعودية - مع خطط لمزيد من التوسّع في المنطقة - فإنها تُحدِث بالفعل ثورة في تجربة القيادة عبر توفير مستويات عالية من الملاءمة وراحة البال والخصائص الذكية المتاحة عبر الاتصالات، التي تشهد دوماً ابتكارات مستمرّة نحو الأفضل.

2. المعايير ونقل المعرفة

إن المستقبل المتصِل يزدهر بالاعتماد على معايير تتميّز بكونها غير مقيَّدة ومقبولة دولياً، ليس فيما يتعلّق بالبرمجيات فقط، بل فيما يخصّ الأجهزة والمعدّات أيضاً. فالدور المحوري الذي تلعبه وظيفة نقل المعلومات في تعزيز الاتصالات خلال السنوات المقبلة لا يُمكِن أبداً التقليل من شأنه. ولقد رأينا حتى اليوم تطوّرات بارزة باتجاه تعزيز مفهوم التشغيل التبادلي، الأمر الذي يساهم بمنع ابتكار تقنيات تتصف بكونها محصورة وتعيق الابتكار الإضافي. وبالتالي، فإن إدارة المعرفة من هذه الناحية لا تشجّع فقط على تعزيز الكفاءة أكثر، بل تسرّع أيضاً عمليات التطوير عبر تفادي الازدواجية غير اللازمة ضمن الجهود المبذولة بواسطة مختلف الجهات المعنية بهذا المجال.

أما بالنسبة للعميل، فإن الاتصال المحسَّن يُترجَم إلى ميّزة مهمة تتمثّل بالإدارة الشاملة للمركبة – مع المنفعة الإضافية التي تقوم على تخصيص النتائج بحيث تتوافق مع السلوكيات الفريدة للسائق نفسه. وبحالة «أونستار» فإن هذا يظهر بشكل التنبيهات التشخيصية، التقارير الشهرية، إشعارات الصيانة وتحديثات البرمجيات عبر الأثير، وهو ما يُمكِّن المستخدمين أكثر عبر منحهم المزيد من السيطرة والفهم الإضافي لمركباتهم، مما يضمن التمتُّع بتجربة قيادة سلسة. ويجري تخصيص هذه التحديثات وفق الاستخدام المفرَد، بحيث يتم تسليط الضوء على مكامن التحسُّن لدى كل سائق على حِدَة، وهو ما يُمكِن الاستفادة منه والارتقاء به لإعداد عقليات قيادة تكون أكثر إدراكاً في المستقبل.

3. تعاوُن على نطاق شامل

من المُمكِن دفع عملية تطوّر قطاع التنقُّل المتصِل بشكل أفضل عبر تعزيز توافق متطلّبات الخدمات العامّة مع المعلومات والمعارف العميقة الذي يتمتّع بها القطاع الخاص. بالتالي، ومن خلال المناسَبات والفعاليات التجارية والمنصّات الحوارية التبادُلية، فإن الحكومات وهيئات التنظيم المدني وشركات التقنية ومصنِّعي السيارات وغيرهم من الأفرقاء المعنيين سيستمرّون بالتلاقي والتعاوُن مما يوجد بيئة تفضي إلى مزيد من الابتكار.

والتعاوُن لا ينحصر فقط بالحوار، بل بالشراكات الاستراتيجية أيضاً ووضع السياسات التنظيمية الجديدة التي من شأنها أن تحفّز على مزيد من التبنّي لهذا التوجّه بين أوساط كل الجهات المعنية. ومن المهم التأكيد على أن الشراكات بين القطاعين العام والخاص تلعب دوراً محورياً في تطوير قطاع التنقُّل الذكي، وهي تُنشئ مسارات مخصَّصة تتيح التعامل الفعّال مع أي تحدّيات معيَّنة وفريدة من نوعها قد تواجهها المجتمَعات.

وفي ظل مضيّنا باتجاه عالم يقوم على الاتصالات المترابطة والتنقُّل الذكي، من المهم جداً للجهات المعنية بمجال التنقُّل والمواصلات أن تعي أهمية الجهود التعاونية المشترَكة في الدفع باتجاه توفير حلول مبتكَرة.

وعبر التبنّي العام للتوجُّهات السائدة في قطاع السيارات إضافة لخيارات العملاء المفضَّلة، فإننا نستطيع الدخول في عصر جديد يتميّز بكونه ذكياً ويستجيب بديناميكية للاحتياجات المتطوّرة لعالمنا الذي يتميّز بكونه أكثر اتصالاً من قبل.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف
خاص رئيس الاحتياطي الفدراسي في مؤتمر صحافي 13 ديسمبر (أ.ف.ب)

خاص 2024... سنة معقّدة ومحورية للاقتصاد العالمي

الانخفاضات المتوقعة في معدلات الفائدة من قبل المصارف المركزية الرئيسية في يونيو (حزيران) 2024 تأتي مصحوبة بجوانب من عدم اليقين.

سمير عساف

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.