ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية
TT

ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

لطالما اعتمد اقتصاد المملكة العربية السعودية بشكل رئيسي على النقد، وهذا نابع من ثقافة غنية بالأسواق المحلية التقليدية والمساومات. إلا أن هذا التفضيل، الذي عززه انعدام الثقة في الأنظمة المصرفية والافتقار إلى الأطر التنظيمية للمعاملات عبر الإنترنت، يتغير بسرعة. ففي الوقت الحاضر، ورغم أن ثلثي سكان المملكة تقلّ أعمارهم عن 35 عاماً، وتحتلّ المملكة المرتبة الثالثة عالمياً في استخدام الهواتف الذكية، فإن المملكة تشهد تحولاً سريعاً في تفضيلات الدفع. ولا يقتصر هذا التغيير على إعادة تشكيل سلوك المستهلك فحسب، بل هو أيضاً عنصر محوري في السرد الأوسع للتحول الرقمي، مما يمهّد الطريق لنظام أكثر كفاءة للتجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية.

وفي مجتمع كانت التقاليد الثقافية تحدد فيه تفضيل المعاملات النقدية، تحتضن المملكة الآن الثورة الرقمية. ويتجلى هذا التحول في الطريقة التي يتكيف بها المستهلكون والتجار بسرعة مع الأنشطة المالية عبر الإنترنت. فقبل جائحة كورونا، كان الدفع عند التسليم الطريقة المفضلة لمعاملات التجارة الإلكترونية. أما اليوم، فقد تسارع اعتماد الدفع الرقمي بشكل كبير مع وجود عدد كبير من الشباب الذين يمتلكون مهارات رقمية كبيرة، بالإضافة إلى تأثير جائحة كورونا.

الدفع الرقمي

في عام 2020، على سبيل المثال، ارتفعت معاملات الدفع الرقمي في المملكة بنسبة 75 في المائة، فيما شهدت عمليات السحب النقدي من أجهزة الصراف الآلي انخفاضاً كبيراً. والواقع أن هذا التحول نحو المدفوعات الرقمية ليس مسألة راحة فقط أو استجابة للاتجاهات العالمية. إنها خطوة استراتيجية تتماشى مع «رؤية المملكة العربية السعودية 2030»، التي تهدف إلى تسريع الاقتصاد الرقمي وزيادة المعاملات غير النقدية. وقد أدّت المبادرات الحكومية، مثل إطلاق نظام سداد، والجهود التي يبذلها البنك المركزي السعودي (ساما) لتنظيم وتوحيد قطاع الدفع الرقمي، إلى تبسيط الدفع الإلكتروني وتعزيز الثقة بين المستخدمين. وكان لهذا الإطار التنظيمي دور حاسم في تشجيع اعتماد خدمات الدفع عبر الإنترنت، وجعل المعاملات الرقمية أكثر أماناً وموثوقية.

تطبيقات الدفع

يعتبر قطاع التجارة الإلكترونية في المملكة العربية السعودية، والمتوقع أن يتجاوز 13.2 مليار دولار أميركي بحلول عام 2025، مستفيداً مباشراً من هذا الاتجاه نحو الدفع الرقمي. ومع تزايد راحة المستهلكين في الدفع عبر الإنترنت، ارتفع الطلب على التجارة الإلكترونية، كما حدث خلال الفترة من 2019 إلى 2020 حيث شهد التسوق عبر الإنترنت زيادة بنسبة 60 في المائة.

وقد أدى ظهور تطبيقات الدفع المحمولة مثل Apple Pay وGoogle Pay والعديد من التطبيقات المحلية إلى تسهيل هذا التحول، مما جعل الدفع عبر الهواتف الذكية أكثر راحة من أي وقت مضى. هذه الراحة المتزايدة في المعاملات الرقمية لا تعزز فقط راحة المستهلك، وإنما تدفع إلى توسيع قطاع التجارة الإلكترونية، مما يستلزم اتباع نهج مبتكر في مجال الخدمات اللوجيستية لمواكبة هذا النمو.

كما أن التطور السريع في طرق الدفع داخل المملكة العربية السعودية ليس مجرد اتجاه رائج، بل هو تحول يعيد تشكيل التجارة الإلكترونية وقطاع الخدمات اللوجيستية، خاصة في مجال توصيل الطلبات. فتقليل التعامل النقدي يؤدي إلى تبسيط عملية التسليم، وتقليل الأخطاء وتعزيز الكفاءة، ويدعم في الوقت نفسه أهداف الاستدامة البيئية عن طريق تقليل استخدام الورق وتحسين مسارات التسليم، مما يؤدي إلى تقليل استهلاك الوقود والبصمة الكربونية.

من جهة أخرى، يؤدي النمو في المدفوعات الرقمية إلى زيادة الطلب على خدمات التوصيل، مما يجعل إدارة نقاط التسليم المتعددة وتحسين مسارات التوصيل مسألة بالغة الأهمية. ولعلّ أبرز التحديات التي واجهتها المملكة العربية السعودية تقليدياً في خدمات التوصيل كان غياب نظام واضح وموحد لعناوين التسليم. فغياب الرموز البريدية والعناوين الدقيقة يؤدي غالباً إلى الاعتماد على المكالمات الهاتفية والوصف التفصيلي من قبل العملاء، مما يزيد من التعقيد ويسبب تأخيراً محتملاً في عمليات التوصيل.

للتغلب على التحديات في توصيل الطلبات، تتجه شركات الخدمات اللوجيستية الرائدة في المملكة العربية السعودية بشكل متزايد إلى تبني التقنيات المبتكرة.

إنترنت الأشياء

بالفعل، يتم استخدام نظام تحديد المواقع العالمي وأنظمة إنترنت الأشياء، وأنظمة إدارة النقل المتقدم إلى تحقيق رؤية فورية وأذكى في توصيل الطلبات. ولا تعزز هذه التقنيات تخطيط الطريق وكفاءة التوصيل فحسب، وإنما تضمن أيضاً تلبية الطلب المتزايد على التجارة الإلكترونية باستخدام حلول لوجيستية متطورة بالقدر نفسه. ويعتبر دمج هذه التقنيات بمثابة شهادة على التزام الصناعة بالتغلب على التحديات الجوهرية في التوصيل، لا سيما في سياق المشهد الرقمي سريع التطور.

وبالنظر إلى المستقبل، فإن الاستخدام المحتمل للطائرات من دون طيار والمركبات ذاتية القيادة هو أيضاً وسيلة رائعة لتعزيز خدمات التوصيل. يمكن لهذه الحلول المتطورة أن تُحدث ثورة في كفاءة وسرعة عمليات التوصيل، خاصة في المناطق التي يصعب الوصول إليها أو خلال أوقات الذروة.

في غضون ذلك، شرع البريد السعودي في تنفيذ برنامج طموح - نظام العنوان الوطني - لتوفير عنوان لكل مقرّ عمل أو إقامة. يحصل الأفراد أو الشركات الذين يسجلون عناوينهم على رمز قصير مكوّن من 8 خانات (4 أحرف و4 أرقام)، مما يوفر نظام عناوين موحداً وشاملاً لجميع المناطق والمدن والقرى في المملكة العربية السعودية، بدقة تصل إلى متر مربع واحد، مما يساعد على تجنب تأخر التوصيل. ويتمثل التحدي الآن في تشجيع تجار التجزئة الإلكترونية على تضمين «العنوان القصير» الجديد في طلبات عملائهم لاعتماد المسألة بشكل أسرع وأكثر توحيداً.

رغم التحديات، تقوم الشركات في المملكة العربية السعودية بتوسيع شبكاتها المحلية واستكشاف أدوات التوصيل حسب الطلب، مما يسمح للعملاء بتحديد أوقات التسليم ومواقعه. ومع ذلك، فإن الحفاظ على التوازن بين جودة الخدمة وإدارة التكاليف يظل تحدياً مستمراً وأساسياً في هذا القطاع.

حلول مبتكرة

نتوقع في المستقبل أن يصبح التآزر بين وسائل الدفع عبر الإنترنت والتجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية أكثر تكاملاً وتطوراً. ومن المتوقع أن يؤدي انتشار وسائل الدفع الرقمية إلى زيادة أنشطة التجارة الإلكترونية، مما يستلزم حلولاً لوجيستية مبتكرة. ولا يقتصر هذا التطور على تعزيز الأنظمة الحالية فحسب؛ وإنما أيضاً خلق فرص وتحديات جديدة في المشهد اللوجيستي.

في الختام، يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية. وسوف نشهد في المستقبل تزايداً في المعاملات الرقمية السلسة والحلول اللوجيستية الفعالة، مما يعزز نمو قطاع التجارة الإلكترونية ويساهم في تحقيق الأهداف الاقتصادية الأوسع للمملكة. ومع استمرار المملكة العربية السعودية في تبني التحول الرقمي، فإن مستقبل التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية لا يبدو واعداً فحسب، بل هو أيضاً جزء أساسي من النمو الاقتصادي والتنويع في البلاد.


مقالات ذات صلة

«الشركة السعودية للكهرباء وجنرال إلكتريك ڤيرنوڤا» تحققان إنجازاً جديداً

عالم الاعمال «الشركة السعودية للكهرباء وجنرال إلكتريك ڤيرنوڤا» تحققان إنجازاً جديداً

«الشركة السعودية للكهرباء وجنرال إلكتريك ڤيرنوڤا» تحققان إنجازاً جديداً

أعلنت «جنرال إلكتريك ڤيرنوڤا» والشركة السعودية للكهرباء عن إنجاز أول عملية صيانة لتوربينات غازية من قبل فريق من المهندسين والمتخصصين السعوديين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان (واس)

محمد بن سلمان... تحولات غير مسبوقة وإصلاحات وإنجازات عالمية

في الذكرى الثامنة لتولي الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد، يجدد السعوديون مشاعر الولاء لقائد استثنائي حوّل التحديات إلى فرص واعدة وجعل الطموحات واقعاً.

بندر مسلم (الرياض) ليث الخريّف (الرياض)
الاقتصاد سيارة كهربائية من «تسلا» (أ.ب)

«تسلا» تعلن رسمياً افتتاح مقرها الرسمي بالسعودية في 10 أبريل

أعلنت شركة «تسلا» افتتاح مقرها الرسمي بالسعودية في العاشر من أبريل (نيسان) المقبل.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
خاص القصر الأحمر في العاصمة الرياض (مجموعة بوتيك) play-circle 02:00

خاص السعودية تحوّل قصورها ومقراتها التاريخية إلى فنادق راقية بمعايير عالمية

السعودية تحوّل قصورها التاريخية إلى فنادق فاخرة عبر «بوتيك»، مقدمة ضيافة راقية تعكس التراث والثقافة، وسط ازدهار قطاع السياحة واستثمارات ضخمة تدعم «رؤية 2030».

عبير حمدي (الرياض)
الاقتصاد المهندس أحمد الراجحي وزير الموارد البشرية لدى افتتاحه أعمال المؤتمر في نسخته الماضية (واس)

الرياض تستضيف المؤتمر الدولي السابع للسلامة والصحة المهنية مايو المقبل

تستضيف الرياض المؤتمر الدولي للسلامة والصحة المهنية (GOSH7)، خلال الفترة من 4 وحتى 6 مايو المقبل، بحضور نخبة من القادة في المجال من الحكومات والقطاع الخاص.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

هدنة 10 سنوات والتخلي عن حكم غزة... عرض حماس «الملحّ» بعد حرب 7 أكتوبر

أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)
أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)
TT

هدنة 10 سنوات والتخلي عن حكم غزة... عرض حماس «الملحّ» بعد حرب 7 أكتوبر

أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)
أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)

لم تكن مجرد مزاعم أو بالونات اختبار أطلقها في مقابلات مع وسائل إعلام عبرية مطلع الشهر الحالي تلك التصريحات المفاجئة التي صدرت عن المفاوض الأميركي السابق لشؤون الرهائن آدم بوهلر، إذ قال إن حركة «حماس» اقترحت تبادل جميع الأسرى وهدنة من 5 إلى 10 سنوات تتخلى فيها عن سلاحها، وتكون الولايات المتحدة ودول أخرى ضامنة ألا تشكل الحركة تهديداً عسكرياً لإسرائيل، وألا تشارك في السياسة مستقبلاً، وضامنة أيضاً لعدم وجود أنفاق.

فقد أكدت مصادر داخل حركة «حماس» لـ«الشرق الأوسط» أن قيادة الحركة طرحت بالفعل هذه الفكرة، وليس لعشر سنوات فحسب، بل مع احتمال تمديدها أكثر من ذلك.

وشرح مصدر مسؤول أن الحركة منفتحة على هذا الخيار منذ قبل الحرب، وليس بعدها، لا بل إن الفكرة كانت مطروحة في سنوات سابقة، لكن إسرائيل هي من كانت ترفضها.

وأعادت المصادر التأكيد على أن قيادة الحركة لم تلتزم لأي طرف بأنها ستقبل بنزع سلاحها، وعدت هذا الأمر شأناً فلسطينياً، وأنه فقط يمكن ذلك في حالة واحدة، ضمن مسار سياسي واضح يسمح بإقامة دولة فلسطينية.

موقف تاريخي متكرّر

قبل نحو عام ونصف العام من اغتيال الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة «حماس»، في الثاني والعشرين من مارس (آذار) 2004، ظهر ياسين أمام منزله في حي الصبرة جنوب مدينة غزة، مؤكداً أن حركته منفتحة على هدنة لمدة 10 سنوات أو أكثر، شريطة انسحاب إسرائيل من كل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، والإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين، وعدم التدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي.

مسلحو «حماس» يسلمون رهينة إسرائيلية إلى أعضاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر ضمن اتفاق الهدنة (رويترز)

جاءت تصريحات ياسين لتؤكد جدلاً حول تصريحات سابقة له، تعود إلى عام 1997، عندما عاد إلى قطاع غزة عام بعد إطلاق سراحه من السجون الإسرائيلية إلى الأردن، وأكد خلالها استعداد حركته لهدنة تستمر عدة سنوات مع إسرائيل بعد هجمات «انتحارية» نفذتها حركته في داخل المدن الإسرائيلية.

وطرح ياسين لم يكن رأياً شخصياً، فقد تبنى عبد العزيز الرنتيسي الذي قاد «حماس» لنحو شهر بعد اغتيال ياسين، قبل أن تغتاله إسرائيل في أبريل (نيسان) 2004، النهج نفسه، وأكد موافقة حركته على هدنة طويلة الأمد تمتد لعشر سنوات، حتى أنه صرح بذلك لوكالة «رويترز» في السادس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 2004، أي قبل اغتياله، واغتيال أحمد ياسين، وفي خضم سلسلة هجمات كانت تقودها الحركة من جانب، وأخرى تنفذها إسرائيل ضد قيادات الحركة في الضفة وغزة من جانب آخر.

ولم تتخل «حماس» عن الفكرة حتى بعدما تغيرت واشتد عودها وحكمت قطاع غزة الذي سيطرت عليه في عام 2007 بعد اشتباكات داخلية دامية مع السلطة الفلسطينية.

وتظهر تصريحات لقادة الحركة، بينهم رئيسا المكتب السياسي السابقان، خالد مشعل، وإسماعيل هنية، موافقة حركتهم على هدنة طويلة الأمد، تقابلها إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وعدم الاعتراف بإسرائيل.

لم تكن إقامة الدولة الفلسطينية ضمن رؤية «حماس» التي كانت تطرح على الدوام تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وتهاجم السلطة الفلسطينية التي وقعت اتفاقية أوسلو «الخيانية»، قبل أن تحول الحركة الأقوال إلى أفعال، وتغير عام 2017 ميثاقها الذي كان ينص على إقامة دولة فلسطينية على حدود 1948، معلنةً التزامها بإقامة دولة على حدود 1967. وأكد الميثاق على التخلي عن باقي الأراضي الفلسطينية، وضمان عودة اللاجئين للأراضي التي هجروا منها، وأنه لا تخلٍ عن المقاومة المسلّحة واعتبارها مشروعة، إلى جانب التأكيد على عدم اعتراف الحركة بإسرائيل، وهو الموقف الذي عاد وتبناه إسماعيل هنية بشكل أكبر خلال توليه منصب رئيس وزراء حكومة «حماس» ورئاسة مكتبها السياسي لسنوات.

 

فلسطينيون في سوق أُقيمت في الهواء الطلق قرب أنقاض المباني التي دمرتها الضربات الإسرائيلية وسط هدنة مؤقتة في مخيم النصيرات بقطاع غزة (رويترز)

براغماتية العرض

حسب مصادر في الحركة، فإن البراغماتية التي أظهرتها «حماس» عندما غيّرت الميثاق وقبلت بدولة فلسطينية كانت جزءاً من رؤية الحركة ضرورة إقامة هدنة طويلة.

ولكن على الرغم من أن أي جولة من المفاوضات بين إسرائيل وحماس لم تصل إلى هدنة طويلة، ولكن إلى هدن مفتوحة، كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن المسألة كانت على طاولة المفاوضات فعلاً.

وكان ضابط كبير في جهاز الموساد الإسرائيلي كشف لـ«القناة 13» العبرية، في ديسمبر (كانون الأول) 2013، خلال برنامج تناول الكواليس التي سبقت محاولة اغتيال خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» آنذاك، في الأردن عام 1997، وهي التي أفضت في النهاية للإفراج عن الشيخ ياسين، أنه التقى بصفته مسؤولاً عن العلاقات مع الأردن، العاهل الأردني حينها الملك حسين، الذي نقل له طرحاً من «حماس» بالتوصل لهدنة طويلة الأمد تستمر 10 سنوات، توقف فيها الحركة هجماتها التفجيرية العنيفة في تلك الحقبة داخل المدن الإسرائيلية، لكن تل أبيب لم تأخذ ذلك على محمل الجد، وتجاهلت الرسالة التي علم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو آنذاك، بعد أيام من مصادقته على قرار تنفيذ العملية ضد مشعل.

وحسب الرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي، أفرايم هليفي، في مقابلة سابقة مع «القناة 12»، فإن إسرائيل رفضت، قبل 7 سنوات من اغتيال ياسين، اقتراحاً بإعلان هدنة مع الحركة لمدة 30 عاماً، كان عرضه ياسين بنفسه عبر وساطة الأردن وجهات أخرى، وهو ما لم تؤكده الحركة أو أي مصادر أخرى.

فلسطينيون يتفقدون موقع غارة إسرائيلية على مرفأ الصيادين بدير البلح وسط قطاع غزة يوم السبت (أ.ف.ب)

ويبدو أن طرح «حماس» الذي لم يلق قبولاً جعل الحركة تطمع في تثبيته عبر مفاوضات مباشرة، وهو ما يفسر تصريح موسى أبو مرزوق حين كان نائباً لمشعل في رئاسة المكتب السياسي لحركة «حماس»، بعد حرب عام 2014 مقترحاً إجراء مفاوضات مع إسرائيل.

وظهر أبو مرزوق، وهو يقول في تصريحات متلفزة لفضائية «القدس» رداً على سؤال حول إمكانية إجراء «حماس» مفاوضات مع إسرائيل: «من الناحية الشرعية، لا غبار على مفاوضة الاحتلال، فكما تفاوضه بالسلاح تفاوضه بالكلام. أعتقد إذا بقي الحال على ما هو عليه فلا مانع من ذلك، لأنه أصبح شبه مطلب شعبي عند كل الناس، وقد تجد (حماس) نفسها مضطرة لهذا السلوك».

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن هذا الطرح، أي المفاوضات المباشرة مع إسرائيل حول اتفاق هدنة طويلة، كثيراً ما نُوقش داخل أطر الحركة المختلفة. وأشارت المصادر إلى أنه في بعض الفترات كان يتم طرح ذلك من قبل الوسطاء، كما في مفاوضات وقف إطلاق النار عام 2005، وعام 2014 بعد الحرب الإسرائيلية، ثم أعيد طرحه عام 2016، لكن من دون التوصل إلى أي نتائج.

وحسب المصادر، فإن سياسات الحركة وأفكارها ليست منغلقةً بل منفتحة وتطورت كثيراً مع الوقت.

فلسطينيون نازحون يسيرون عبر طريق موحل وسط الدمار في جباليا شمال قطاع غزة خلال الهدنة بين إسرائيل و«حماس» (أ.ف.ب)

الهدنة التي أصبحت ملحَّة

لكن إذا كانت رؤية الحركة تجاه هدنة طويلة ثبتت على ما هي عليه منذ عقود، فإن أسباب الهدنة ومسببات المطالبة بها تغيرت بعد السابع من أكتوبر 2023، فلا يمكن إخفاء حجم الضرر الذي تعرضت له الحركة في الحرب الحالية على قطاع غزة، وليس سراً أنها تلقت أكبر ضربة قاسية منذ تأسيسها على جميع الصعد.

وقال الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم إن حركة «حماس» تتميز بأنها حركة فتية ومتجددة في أفكارها، وقد غيَّرت سياساتها خلال حقبات زمنية مختلفة.

ويرى إبراهيم أن ذلك ميَّز «حماس» وجعلها متفوقة، لكن ذلك بقي صحيحاً حتى السابع من أكتوبر، عندما تغير كل شيء.

يؤكد إبراهيم على أن نتائج هجوم السابع من أكتوبر على الحركة نفسها وشعبيتها شكّلت عاملاً مهماً في قرارات الحركة المستقبلية على كافة الأصعدة.

وحسب إبراهيم، يمكن تلمس أول تأثير مهم في الحركة حتى الآن، وهو تنازلها عن حكم القطاع.

ولا تخفي «حماس»، وبشكل واضح، أنها ترغب في التخلي عن حكم غزة، في إطار المفاوضات الجارية حالياً، لكنها تشترط أن يكون ذلك ضمن وفاق وطني، وأن يتم إجراء انتخابات عامة فلسطينية في غضون عام، وهو أمر تنص عليه المبادرة المصرية التي تبنتها القمة العربية الأخيرة.

وإلى جانب التخلّي عن الحكم أعادت «حماس» طرح هدنة طويلة الأمد.

 

استراحة محارب ورصّ صفوف

قالت مصادر من داخل «حماس» إنه منذ طرح الشيخ أحمد ياسين هذه الفكرة، كانت تقوم بالأساس على وقف القتل، لكن اليوم هناك الكثير من الأهداف الأخرى وراء هذا الطرح، من بينها «أخذ نفس لإعادة ترتيب أوضاع الحركة بعد الحرب الحالية، وإجراء مراجعة شاملة، بما في ذلك العلاقة مع السلطة والفصائل وإسرائيل».

أفراد من حركة «حماس» في مخيم النصيرات مع بدء الهدنة مع إسرائيل (أ.ف.ب)

وأضافت المصادر: «ستحاول الحركة خلال ذلك التوصل لاتفاق وطني جامع مع جميع الفصائل لإعادة بناء منظمة التحرير والمجلس الوطني وانضمام الحركة إليهما».

وأقرت المصادر بأن «حماس» بعد الحرب الحالية بحاجة لتجديد دماء القيادة فيها، وكذلك العناصر المقاتلة، بعد أن فقدت الآلاف منهم في قطاع غزة.

وأوضحت المصادر: «خلال الحرب استمرت الحركة في سد الفراغات، وفق الظروف الميدانية، وضمن عمل منظم اتبعته وفق ما تنص عليه اللوائح الداخلية في تولي المناصب، لكن ما زلنا بحاجة لضبط الوضع».

وتابعت: «الحركة تأثرت بشدة، وهي بحاجة حالياً لهدنة طويلة الأمد من أجل إعادة بناء نفسها».

وخلال فترة وقف إطلاق النار التي امتدت في مرحلتها الأولى لـ58 يوماً فعلياً قبل أن تستأنف إسرائيل ضرباتها بقوة، استغلت الحركة وقف إطلاق النار المؤقت لإعادة ترتيب صفوفها ومحاولة إعادة هيكلة التنظيم سياسياً وحكومياً وعسكرياً.

وكانت الحركة حاولت إظهار قوتها أثناء إجراء صفقات التبادل، وأرسلت رسائل تحدٍ لإسرائيل.

لكن إسرائيل ردت بضربات متتالية باغتيال القيادات القائمة على محاولة إعادة ترتيب صفوفها، منهم أعضاء مكتب سياسي مثل محمد الجماصي، وياسر حرب، أو شخصيات حكومية مثل عصام الدعاليس، أو عسكرية مثل أحمد شمالي نائب قائد «لواء غزة» في «كتائب القسام» الذي كان يقود إعادة هيكلة الكتائب، علماً بأن «حماس» تعتبر «القسام» درة التاج.

 

مقاتلون جدد

خلال سنوات مضت عملت الحركة على تخريج جيل جديد من المقاتلين وضمهم لصفوفها، خصوصاً الجيل الفلسطيني الصاعد من الشباب الذين كانت تسعى دوماً لاستقطابهم وتعمل على تدريبهم عسكرياً، وشارك عدد منهم في هجوم السابع من أكتوبر، فيما استخدم آخرون لسد الفراغ وقد أعيد تنشيطهم لكي يشاركوا في هجمات ضد القوات الإسرائيلية البرية، وهو ما حصل في مخيم جباليا وبلدتي بيت لاهيا وبيت حانون في الأشهر الأربعة الأخيرة قبل وقف إطلاق النار.

وكانت «الشرق الأوسط» انفردت بتقرير خاص عن نجاح «حماس» في تجنيد أولئك، ونشرت صوراً لمطوية وكتيب حول تعليمات إطلاق القذائف المضادة للدروع تجاه الآليات الإسرائيلية.

صورة ملتقطة 15 فبراير 2025 في خان يونس بقطاع غزة تُظهر مقاتلين من حركة «الجهاد الإسلامي» و«كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس» يقفون خلال تسليم 3 رهائن إسرائيليين لممثلي الصليب الأحمر (د.ب.أ)

وقال المحلل السياسي مصطفى إبراهيم: «بالتأكيد تسعى (حماس) بعد هذه الحرب الإسرائيلية الطاحنة لتجديد الدماء فيها بعدما فقدت الآلاف من قياداتها وعناصرها، وهذا سيكون أحد أهم أهداف الهدنة طويلة الأمد في حال تم التوصل لاتفاق بشأنها».

وفي حال نجحت الجهود الرامية للتوصل لوقف إطلاق نار دائم، وربما لسنوات طويلة، وهو أمر تنخرط به الولايات المتحدة، فإن السؤال الذي سيبقى مطروحاً، حول قدرة «حماس» على البقاء وعلى إعادة تشكيل نفسها في مواجهة إصرار إسرائيلي وقناعة فلسطينية رسمية وعربية على إخراج الحركة من المشهد.

لم تستطع إسرائيل بعد عقود من المواجهة وحرب دموية طاحنة مستمرة منذ أكثر من عام ونصف العام هزيمة الفكرة، وتريد هزيمة التنظيم نفسه، وهو أمر لن يحصل أغلب الظن بإعطاء الحركة سنوات طويلة من الراحة.