ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية
TT

ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

لطالما اعتمد اقتصاد المملكة العربية السعودية بشكل رئيسي على النقد، وهذا نابع من ثقافة غنية بالأسواق المحلية التقليدية والمساومات. إلا أن هذا التفضيل، الذي عززه انعدام الثقة في الأنظمة المصرفية والافتقار إلى الأطر التنظيمية للمعاملات عبر الإنترنت، يتغير بسرعة. ففي الوقت الحاضر، ورغم أن ثلثي سكان المملكة تقلّ أعمارهم عن 35 عاماً، وتحتلّ المملكة المرتبة الثالثة عالمياً في استخدام الهواتف الذكية، فإن المملكة تشهد تحولاً سريعاً في تفضيلات الدفع. ولا يقتصر هذا التغيير على إعادة تشكيل سلوك المستهلك فحسب، بل هو أيضاً عنصر محوري في السرد الأوسع للتحول الرقمي، مما يمهّد الطريق لنظام أكثر كفاءة للتجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية.

وفي مجتمع كانت التقاليد الثقافية تحدد فيه تفضيل المعاملات النقدية، تحتضن المملكة الآن الثورة الرقمية. ويتجلى هذا التحول في الطريقة التي يتكيف بها المستهلكون والتجار بسرعة مع الأنشطة المالية عبر الإنترنت. فقبل جائحة كورونا، كان الدفع عند التسليم الطريقة المفضلة لمعاملات التجارة الإلكترونية. أما اليوم، فقد تسارع اعتماد الدفع الرقمي بشكل كبير مع وجود عدد كبير من الشباب الذين يمتلكون مهارات رقمية كبيرة، بالإضافة إلى تأثير جائحة كورونا.

الدفع الرقمي

في عام 2020، على سبيل المثال، ارتفعت معاملات الدفع الرقمي في المملكة بنسبة 75 في المائة، فيما شهدت عمليات السحب النقدي من أجهزة الصراف الآلي انخفاضاً كبيراً. والواقع أن هذا التحول نحو المدفوعات الرقمية ليس مسألة راحة فقط أو استجابة للاتجاهات العالمية. إنها خطوة استراتيجية تتماشى مع «رؤية المملكة العربية السعودية 2030»، التي تهدف إلى تسريع الاقتصاد الرقمي وزيادة المعاملات غير النقدية. وقد أدّت المبادرات الحكومية، مثل إطلاق نظام سداد، والجهود التي يبذلها البنك المركزي السعودي (ساما) لتنظيم وتوحيد قطاع الدفع الرقمي، إلى تبسيط الدفع الإلكتروني وتعزيز الثقة بين المستخدمين. وكان لهذا الإطار التنظيمي دور حاسم في تشجيع اعتماد خدمات الدفع عبر الإنترنت، وجعل المعاملات الرقمية أكثر أماناً وموثوقية.

تطبيقات الدفع

يعتبر قطاع التجارة الإلكترونية في المملكة العربية السعودية، والمتوقع أن يتجاوز 13.2 مليار دولار أميركي بحلول عام 2025، مستفيداً مباشراً من هذا الاتجاه نحو الدفع الرقمي. ومع تزايد راحة المستهلكين في الدفع عبر الإنترنت، ارتفع الطلب على التجارة الإلكترونية، كما حدث خلال الفترة من 2019 إلى 2020 حيث شهد التسوق عبر الإنترنت زيادة بنسبة 60 في المائة.

وقد أدى ظهور تطبيقات الدفع المحمولة مثل Apple Pay وGoogle Pay والعديد من التطبيقات المحلية إلى تسهيل هذا التحول، مما جعل الدفع عبر الهواتف الذكية أكثر راحة من أي وقت مضى. هذه الراحة المتزايدة في المعاملات الرقمية لا تعزز فقط راحة المستهلك، وإنما تدفع إلى توسيع قطاع التجارة الإلكترونية، مما يستلزم اتباع نهج مبتكر في مجال الخدمات اللوجيستية لمواكبة هذا النمو.

كما أن التطور السريع في طرق الدفع داخل المملكة العربية السعودية ليس مجرد اتجاه رائج، بل هو تحول يعيد تشكيل التجارة الإلكترونية وقطاع الخدمات اللوجيستية، خاصة في مجال توصيل الطلبات. فتقليل التعامل النقدي يؤدي إلى تبسيط عملية التسليم، وتقليل الأخطاء وتعزيز الكفاءة، ويدعم في الوقت نفسه أهداف الاستدامة البيئية عن طريق تقليل استخدام الورق وتحسين مسارات التسليم، مما يؤدي إلى تقليل استهلاك الوقود والبصمة الكربونية.

من جهة أخرى، يؤدي النمو في المدفوعات الرقمية إلى زيادة الطلب على خدمات التوصيل، مما يجعل إدارة نقاط التسليم المتعددة وتحسين مسارات التوصيل مسألة بالغة الأهمية. ولعلّ أبرز التحديات التي واجهتها المملكة العربية السعودية تقليدياً في خدمات التوصيل كان غياب نظام واضح وموحد لعناوين التسليم. فغياب الرموز البريدية والعناوين الدقيقة يؤدي غالباً إلى الاعتماد على المكالمات الهاتفية والوصف التفصيلي من قبل العملاء، مما يزيد من التعقيد ويسبب تأخيراً محتملاً في عمليات التوصيل.

للتغلب على التحديات في توصيل الطلبات، تتجه شركات الخدمات اللوجيستية الرائدة في المملكة العربية السعودية بشكل متزايد إلى تبني التقنيات المبتكرة.

إنترنت الأشياء

بالفعل، يتم استخدام نظام تحديد المواقع العالمي وأنظمة إنترنت الأشياء، وأنظمة إدارة النقل المتقدم إلى تحقيق رؤية فورية وأذكى في توصيل الطلبات. ولا تعزز هذه التقنيات تخطيط الطريق وكفاءة التوصيل فحسب، وإنما تضمن أيضاً تلبية الطلب المتزايد على التجارة الإلكترونية باستخدام حلول لوجيستية متطورة بالقدر نفسه. ويعتبر دمج هذه التقنيات بمثابة شهادة على التزام الصناعة بالتغلب على التحديات الجوهرية في التوصيل، لا سيما في سياق المشهد الرقمي سريع التطور.

وبالنظر إلى المستقبل، فإن الاستخدام المحتمل للطائرات من دون طيار والمركبات ذاتية القيادة هو أيضاً وسيلة رائعة لتعزيز خدمات التوصيل. يمكن لهذه الحلول المتطورة أن تُحدث ثورة في كفاءة وسرعة عمليات التوصيل، خاصة في المناطق التي يصعب الوصول إليها أو خلال أوقات الذروة.

في غضون ذلك، شرع البريد السعودي في تنفيذ برنامج طموح - نظام العنوان الوطني - لتوفير عنوان لكل مقرّ عمل أو إقامة. يحصل الأفراد أو الشركات الذين يسجلون عناوينهم على رمز قصير مكوّن من 8 خانات (4 أحرف و4 أرقام)، مما يوفر نظام عناوين موحداً وشاملاً لجميع المناطق والمدن والقرى في المملكة العربية السعودية، بدقة تصل إلى متر مربع واحد، مما يساعد على تجنب تأخر التوصيل. ويتمثل التحدي الآن في تشجيع تجار التجزئة الإلكترونية على تضمين «العنوان القصير» الجديد في طلبات عملائهم لاعتماد المسألة بشكل أسرع وأكثر توحيداً.

رغم التحديات، تقوم الشركات في المملكة العربية السعودية بتوسيع شبكاتها المحلية واستكشاف أدوات التوصيل حسب الطلب، مما يسمح للعملاء بتحديد أوقات التسليم ومواقعه. ومع ذلك، فإن الحفاظ على التوازن بين جودة الخدمة وإدارة التكاليف يظل تحدياً مستمراً وأساسياً في هذا القطاع.

حلول مبتكرة

نتوقع في المستقبل أن يصبح التآزر بين وسائل الدفع عبر الإنترنت والتجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية أكثر تكاملاً وتطوراً. ومن المتوقع أن يؤدي انتشار وسائل الدفع الرقمية إلى زيادة أنشطة التجارة الإلكترونية، مما يستلزم حلولاً لوجيستية مبتكرة. ولا يقتصر هذا التطور على تعزيز الأنظمة الحالية فحسب؛ وإنما أيضاً خلق فرص وتحديات جديدة في المشهد اللوجيستي.

في الختام، يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية. وسوف نشهد في المستقبل تزايداً في المعاملات الرقمية السلسة والحلول اللوجيستية الفعالة، مما يعزز نمو قطاع التجارة الإلكترونية ويساهم في تحقيق الأهداف الاقتصادية الأوسع للمملكة. ومع استمرار المملكة العربية السعودية في تبني التحول الرقمي، فإن مستقبل التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية لا يبدو واعداً فحسب، بل هو أيضاً جزء أساسي من النمو الاقتصادي والتنويع في البلاد.


مقالات ذات صلة

الصادرات غير النفطية السعودية تنهي عام 2024 على ارتفاع بـ13.1%

الاقتصاد عبرت من ميناء الملك عبد العزيز 29.2 % من إجمالي الواردات (واس)

الصادرات غير النفطية السعودية تنهي عام 2024 على ارتفاع بـ13.1%

سجَّلت الصادرات غير النفطية في السعودية (شاملة إعادة التصدير) ارتفاعاً بنسبة 13.1 في المائة، مقارنة بعام 2023.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد من أعمال القمة العالمية للذكاء الاصطناعي (واس)

نمو متسارع في سوق الذكاء الاصطناعي بالسعودية وسط دعم حكومي واستثمارات ضخمة

تجذب السعودية استثمارات كبرى شركات الذكاء الاصطناعي، وتعزز الكفاءات المحلية، وتطلق مشروعات رقمية استراتيجية، ضمن جهودها للتحول الرقمي وتحقيق «رؤية 2030».

عبير حمدي (الرياض)
خاص عقارات سكنية وتجارية في العاصمة السعودية الرياض (رويترز)

خاص عقارات الرياض تشهد ركوداً ترقباً لمفاعيل إجراءات الحد من ارتفاع الأسعار

تعيش السوق العقارية في السعودية راهناً حالة من الترقب فرضتها قرارات غير مسبوقة تهدف إلى زيادة حجم المعروض، وإعادة التوازن إليها من أجل معالجة ارتفاع الأسعار.

محمد المطيري (الرياض)
الخليج ولي العهد الأمير محمد بن سلمان (واس)

ولي العهد السعودي يتبرّع بمليار ريال لدعم سكن المواطنين

قدّم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تبرعاً بمبلغ مليار ريال على نفقته الخاصة لمؤسسة الإسكان التنموي الأهلية (سكن) ممثلة بمنصة «جود الإسكان»،

«الشرق الأوسط» ( الرياض)
الاقتصاد الحقيل: نعمل لضخ 70 ألف وحدة سكنية جديدة بالرياض بأسعار تبدأ من 66 ألف دولار

الحقيل: نعمل لضخ 70 ألف وحدة سكنية جديدة بالرياض بأسعار تبدأ من 66 ألف دولار

تعزز السعودية تملك المواطنين المساكن بدعم من القيادة، وتحقق إنجازات مبكرة في «رؤية 2030»، وتعمل لضخ 60 - 70 ألف وحدة سكنية جديدة في الرياض بـ66 مألف دولار.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

خيارات «داعش» في سوريا... والاستثمار في «خيبات الجهاديين»

«داعش» يستعيد نشاطه في سوريا ويهدد استقرار المنطقة (أرشيفية- أ ف ب)
«داعش» يستعيد نشاطه في سوريا ويهدد استقرار المنطقة (أرشيفية- أ ف ب)
TT

خيارات «داعش» في سوريا... والاستثمار في «خيبات الجهاديين»

«داعش» يستعيد نشاطه في سوريا ويهدد استقرار المنطقة (أرشيفية- أ ف ب)
«داعش» يستعيد نشاطه في سوريا ويهدد استقرار المنطقة (أرشيفية- أ ف ب)

على رغم خسارته آخر معاقله في الباغوز القريبة من الحدود العراقية بريف دير الزور في مارس (آذار) 2019، ظل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يشكل تهديداً جدياً لأمن سوريا واستقرارها عبر «مجموعات متنقلة» تنشط عبر البادية السورية. ومع سقوط النظام السوري في ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان متوقعاً أن يعيد التنظيم رسم استراتيجياته والتكيّف مع الواقع الأمني الجديد.

ولم تفلح الحملات العسكرية التي شنّها النظام السابق بدعم جوي روسي، والحملات التي شنتها «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) بدعم من طيران التحالف الدولي في القضاء على التنظيم وتهديداته. كما أن سياسات الولايات المتحدة التي ركزت على منع ظهور التنظيم أو عودته إلى المدن مجدداً حققت نجاحات نسبية في إضعاف قدرات التنظيم العسكرية والقضاء على معظم قيادات الصفوف الأولى والثانية فيه، لكن التنظيم لا يزال يشكل تهديداً بشكل ما، وقد يستثمر في الأوضاع الأمنية «الهشة» في سوريا، ومع الانسحاب الأميركي المرتقب.

ولعل أحدث وأبرز تهديد للتنظيم هو البيان المصور الذي أصدره «داعش» في 20 أبريل (نيسان) 2025، مهدداً الرئيس أحمد الشرع، ومحذراً إياه من الانضمام إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب، بعد طلب رسمي أميركي لمشاركة سوريا الجديدة في جهود مكافحة التنظيم وتفرعاته.

الرئيس السوري أحمد الشرع وعقيلته لطيفة الدروبي يستقبلان مجموعة من الأطفال السوريين في قصر الشعب بدمشق أول أيام عيد الفطر (أ.ف.ب)

ومنذ سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر 2024، رصدت «الشرق الأوسط» تصاعداً لافتاً في خطاب «داعش» الإعلامي عبر مجلة «النبأ»، التي بدأت في شن حملات تحريضية ضد الإدارة السورية الجديدة ورئيسها أحمد الشرع. ركزت هذه الحملات على مهاجمة سعي الحكومة الجديدة لبناء علاقات مع الدول العربية والمجتمع الدولي، عادّةً ذلك «خيانة» لتضحيات السوريين وتنازلاً عن مبدأ «تحكيم الشريعة» الذي لطالما تحدثت به «جبهة النصرة» بقيادة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في مرحلة ما، وهو الشعار نفسه الذي يرفعه التنظيم ذريعةً لوجوده، ولكسب المزيد من الأنصار والمؤيدين.

سلسلة ضربات موجعة

لكن واقعياً، وعلى رغم هذا التصعيد الإعلامي، فقد شهد الميدان العسكري تغيراً ملحوظاً؛ إذ اختفى تقريباً النشاط المسلح للتنظيم في البادية، وهو ما أثار تساؤلات عن طبيعة المرحلة المقبلة في استراتيجية التنظيم، لكن لا يخفى أيضاً إن «داعش»، ومنذ ديسمبر الماضي، تلقى سلسلة من الضربات الأمنية المؤثرة؛ ففي 11 ديسمبر، ومباشرة بعد استلامها زمام الأمور في سوريا عقب سقوط نظم بشار الأسد، أعلنت الحكومة السورية الجديدة بقيادة الشرع إحباط مخطط لاستهداف مقام السيدة زينب جنوب دمشق واعتقال خلية تابعة للتنظيم.

وفي 16 من الشهر نفسه، نفذت القيادة المركزية الأميركية غارات جوية قتلت 12 عنصراً من «داعش»، وبعد هذا بثلاثة أيام فقط، قُتل قيادي آخر للتنظيم في دير الزور فيما يعتقد أنه بتنسيق مع الإدارة الجديدة.

وفي 23 ديسمبر، استهدفت غارة أميركية شاحنة أسلحة تابعة للتنظيم، ثم في يناير (كانون الثاني) 2025، دعمت الولايات المتحدة عملية لـ«قسد» أدت إلى اعتقال زعيم خلية هجومية. وفي 16 فبراير (شباط) 2025، اعتقلت السلطات السورية الجديدة أبو الحارث العراقي، المتهم بالتخطيط لهجمات إرهابية داخل العاصمة دمشق.

بعض المراقبين يرجعون السكون الذي يقابل به التنظيم هذه العمليات النوعية، إلى استراتيجية جديدة يتبعها وتقوم على تخفيف الظهور العلني لتقليل الضغط الأمني عليه، وإعادة ترتيب صفوفه بعيداً من الأنظار. كذلك، يبدو التنظيم حريصاً الآن على إعطاء انطباع بأنه غير نشط؛ ما يمنحه فرصة لإعادة بناء خلاياه بهدوء في المدن والقرى بعيداً من رقابة الأجهزة الأمنية المتمركزة في المدن.

تغيير في التكتيك

وخلال سنوات، طوّر «داعش» أساليب قتاله التكتيكية بالاعتماد على هجمات ليلية خاطفة ينفذها أفراد معدودون ضمن «مجموعات صغيرة متنقلة» تضم ما بين ثلاثة إلى خمسة أشخاص سرعان ما ينسحبون إلى مواقع انطلاقهم؛ ما يصعّب تتبعهم ويقلّل من فرص استهدافهم. هذه التكتيكات جعلت التنظيم يحتفظ بحضور نشط دون الحاجة إلى قواعد دائمة أو مراكز قيادية مكشوفة؛ الأمر الذي أربك جهود القضاء عليه لعقود.

عراقيات أمام «مخيم الجدعة» جنوب الموصل عام 2024 بعد نقلهن من مخيمات لعوائل «داعش» شمال شرقي سوريا (إكس)

وفي مناطق سيطرة «قسد»، تبنى التنظيم نمطاً آخر من العمل، مستغلاً التوترات العشائرية والخلافات المحلية.

مصادر عشائرية تحدثت لـ«الشرق الأوسط» وكشفت عن أن بعض الهجمات التي استهدفت «قوات سوريا الديمقراطية» نُفذت من قِبل أفراد عشائر محليين، لا يرتبطون تنظيمياً بـ«داعش» بشكل رسمي، ولكنهم تحركوا وفق تكتيك التنظيم للمناورة الأمنية والتخفي؛ ما زاد من صعوبة كشف هوية الفاعلين الحقيقيين، وأضفى طابعاً منظّماً على أعمال فردية متفرقة، وهذا يعني أن التنظيم يجد في هذه البيئة فرصة لزيادة نشاطه ووجوده، مستغلاً غضب المجتمع العشائري على قوات «قسد».

خبرة إدلب والاستراتيجية الشاملة

في السياق، صرح مسؤول في الأمن العام السوري لـ«الشرق الأوسط»، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، قائلاً: «نحن خبرنا (داعش) جيداً في إدلب وتمكنا سابقاً من تفكيك خلاياه، حتى في أوقات كان التنظيم أقوى مادياً وأمنياً، بينما كنا نحن أضعف من اليوم. لكننا الآن أكثر جاهزية وخبرة».

تركيا والأردن وسوريا والعراق سيتخذون خطوات نحو مكافحة تنظيم «داعش» (رويترز)

وأكد المسؤول أن الحكومة السورية الجديدة تعتمد «استراتيجية أمنية شاملة تقوم على إعادة بناء الأجهزة الأمنية وتنسيق عملها للكشف المبكر عن الخلايا النائمة، تعزيز التعاون مع دول الجوار لضبط الحدود ومنع عبور المقاتلين، ومواجهة خطاب التنظيم المتطرف عبر حملات توعية مجتمعية ومراقبة النشاط الإلكتروني، وتفكيك البيئات الحاضنة عبر تحسين الخدمات الأساسية، ومكافحة الفساد، وتوسيع برامج التنمية المحلية».

وأضاف المصدر الأمني، أنه لا يستبعد «استهداف التنظيم شخصيات مدنية أو أمنية بارزة عبر عمليات سريعة، مثل تفجير عبوات ناسفة صغيرة، أو تنفيذ عمليات اغتيال انتقائية»، مؤكداً أن «التنظيم في داخل المدن قد يعتمد الخلايا النائمة لتنفيذ مثل هذه العمليات، كما أنه من الممكن له أن يستغل الأحياء العشوائية والمناطق غير المنظمة مخابئ مؤقتة؛ ما يفرض تحديات إضافية على الأجهزة الأمنية».

تحريض ضد الإدارة الجديدة

رأى الباحث في مركز «أبعاد»، عرابي عرابي، أن التنظيم يمر الآن «في مرحلة الإنهاك والاستنزاف، ويحاول تأسيس خلايا صغيرة لضرب الاستقرار الأمني دون أن يسعى للسيطرة على مناطق جغرافية كما كان في السابق»، وأوضح عرابي لـ«الشرق الأوسط» أن التنظيم «يواجه شحاً في الموارد المالية والكوادر البشرية، بالإضافة إلى ضغط إقليمي متزايد بفضل تحسن التعاون الأمني بين سوريا والعراق». لكن، وبحسب عرابي: «سيحاول تنظيم (داعش) استغلال حالات السخط داخل صفوف الفصائل المسلحة الأخرى، خصوصاً بين المقاتلين من ذوي الخلفيات الجهادية الذين قد يشعرون بخيبة أمل تجاه خطاب الحكومة السورية الجديدة الذي يبتعد عن الطرح الإسلامي».

وبحسب عرابي، يعتمد التنظيم على «خطاب تحريضي» متزايد يصور الإدارة الجديدة «خائنةً لدماء السوريين»، مستغلاً قضايا مثل «تأخر العدالة الانتقالية، والشعور بالتهميش الإداري أو الإقصاء السياسي، كما يعمل على بث دعايته عبر قنوات (تلغرام) وشبكات إعلامية سرية».

ولم تستثن هذه الحملات التي تبادلتها مجموعات عبر وسائل التواصل الجانب الشخصي للرئيس الشرع لتحسب ضده تفاصيل كثيرة، بدءاً بمظهره ولباسه والصورة العامة التي يسعى إلى تصديرها للخارج عن حاكم سوريا الجديدة، لا سيما تلك التي جمعته بزوجته في لقاء أنطاليا الأخير.

وتواجه الحكومة السورية الانتقالية تحديات كبيرة في تحقيق الاستقرار الأمني والاقتصادي في البلاد مع واقع معقد يشير إلى انقسامات داخلية وتوترات مع قوات «قسد» في شمال شرقي سوريا ومع بقايا النظام السابق في مناطق الساحل، بالإضافة إلى علاقة شائكة بأبناء الطائفة الدرزية.

في الوقت نفسه، تحاول الإدارة اكتساب شرعية «دولية» وعربية وإرساء أسس حكم فعلي، فحتى الآن لم تعترف الولايات المتحدة «رسمياً»، ولا تزال غالبية العقوبات الدولية مفروضة على سوريا، في حين اتخذت دعوة الرئيس الشرع إلى القمة العربية المقبلة في بغداد مفاوضات دبلوماسية عدّة قبل أن يتم توجيهها بشكل رسمي.

وفي ظل هذه التعقيدات، لا شك في أن تنظيم كـ«داعش» سوف يستغل حالة عدم الاستقرار والفراغ الأمني مع افتقار الحكومة الجديدة إلى قوات كافية لتأمين البادية السورية والمناطق النائية. ويوفّر العنف الطائفي المستمر والعداوات في أجزاء مختلفة من البلاد بيئة مواتية لعمل التنظيم خاصة مع تلكؤ الإجراءات الحكومية في تحقيق العدالة الانتقالية لإنصاف ذوي ضحايا النظام السابق؛ ما يدفع التنظيم إلى أن يقدم نفسه على أنه «البديل» الأفضل من الحكومة للقصاص من المتورطين بالدم السوري، وهذا ما تفصح عنه أدبيات التنظيم وخطابه الإعلامي في الأسابيع الأخيرة، بحسب أكثر من موقع إلكتروني تابع له.

قافلة من النساء من عوائل «داعش» خلال معركة الباغوز (أ.ف.ب)

وما يزيد المخاوف أكثر من التجنيد المحتمل بين صفوفه، هو التركيز على إطلاق سراح السجناء من قياداته ومقاتليه ويجاورون بضعة آلاف محتجزين لا يزالون تحت إشراف قوات «قسد» ومصيرهم يخضع لشد وجذب.

لذلك؛ قد تكون مواجهة التنظيم واحدة من أكبر التحديات العلنية والضمنية المطروحة على الحكومة الجديدة؛ لما يتطلبه الأمر من موازنة بين ما تفرضه شروط إدارة دولة من سيطرة على كامل التراب السوري، وتخفيف الانقسامات المجتمعية والصعوبات الاقتصادية من جهة والعمل على تبديد انتشار آيديولوجيا التنظيم وإلحاق المقاتلين والبيئة الحاضنة له بالتغيير الجذري الذي طرأ على «هيئة تحرير الشام» نفسها. وذلك لا يتم إلا بالتنسيق مع الدول الفاعلة لتبادل المعلومات الاستخباراتية وتعطيل القدرات المالية للتنظيم والحد من عمليات التجنيد، إضافة إلى دعم المجتمع الدولي لجهود تحقيق الاستقرار في سوريا.