ميكروبات الأمعاء وتأثيراتها على الصحة العقلية

التكامل بين العلاجات التقليدية والتغذوية يحقق تحسنها

	المحور الجرثومي المعوي العصبي يربط بين الجهاز العصبي المركزي والأمعاء
المحور الجرثومي المعوي العصبي يربط بين الجهاز العصبي المركزي والأمعاء
TT

ميكروبات الأمعاء وتأثيراتها على الصحة العقلية

	المحور الجرثومي المعوي العصبي يربط بين الجهاز العصبي المركزي والأمعاء
المحور الجرثومي المعوي العصبي يربط بين الجهاز العصبي المركزي والأمعاء

تعدّ ميكروبات الأمعاء جزءاً أساسياً من النظام البيئي البشري إذ يوجد في الجهاز الهضمي ما يزيد على 1000 نوع من البكتيريا.

تعايش وتفاعل

هذه البكتيريا لا تعيش فقط في توازن دقيق، بل يتفاعل أيضاً بعضها مع بعض، ومع خلايا المضيف (الإنسان) بطرق معقدة. وعلى سبيل المثال، فإن بعض بكتيريا الأمعاء ينتج الأحماض الدهنية القصيرة؛ مثل البوتيرات، التي تعدّ ضمن السلسلة الغذائية للخلايا المبطنة للأمعاء، ولها تأثيرات مضادة للالتهابات.

ميكروبات الأمعاء - أو الميكروبيوم المعوي - تتكون من تريليونات من البكتيريا والفطريات والفيروسات والبروتوزوا التي تعيش في الجهاز الهضمي. وتلعب هذه الميكروبات دوراً حيوياً في هضم الطعام، وإنتاج الفيتامينات، وتعزيز نظام المناعة. بالإضافة إلى ذلك، تفرز ميكروبات الأمعاء مواد كيميائية يمكن أن تؤثر على الدماغ.

وفي العقود الأخيرة، ازداد الاهتمام بالصحة العقلية بشكل ملحوظ، حيث أصبح من الواضح أن الصحة العقلية والصحة الجسدية مترابطتان بشكل وثيق. وواحد من أهم الاكتشافات في هذا المجال هو العلاقة بين ميكروبات الأمعاء والصحة العقلية.

وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن توازن ميكروبات الأمعاء يمكن أن يكون له تأثير كبير على وظائف الدماغ والمزاج والسلوكيات.

الصحة العقلية

تعد الصحة العقلية أحد أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، وتشمل: الاضطرابات النفسية، بشكل رئيسي، والقلق والاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب واضطراب طيف التوحد (ASD) والفصام واضطرابات الأكل. وفي عام 2019، قُدر عدد الأفراد الذين يعانون من الاضطرابات النفسية بما يقارب 970 مليوناً (National Library of Medicine (NLM)).

ويمكن أن تؤثر الاضطرابات النفسية على الدراسة والعمل والحياة الطبيعية للمرضى، وتؤدي إلى الانتحار في المواقف الشديدة. علاوة على ذلك، يمكنها أن تؤثر على الحياة الطبيعية لأفراد أسرة المريض. وحديثاً، برزت الاضطرابات النفسية بوصفها مصدر قلق كبيراً على الصحة العامة في جميع أنحاء العالم، وتؤدي أيضاً إلى عبء طبي كبير وخسارة اقتصادية.

ميكروبات الأمعاء

من ناحية أخرى، فإن الكائنات الحية الدقيقة في الأمعاء ومستقلباتها لها تأثير كبير على الحفاظ على الصحة العامة للمضيف؛ إذ تم الإبلاغ عن أن خلل التنسج البكتيري في الأمعاء يرتبط بحدوث وتطور كثير من الأمراض الأيضية المزمنة، مثل السمنة ومرض السكري والسرطانات، علاوة على ربط الكائنات الحية الدقيقة في الأمعاء بالصحة العقلية، التي حظيت باهتمام مزداد في السنوات الأخيرة.

وتم الإبلاغ عن أن الكائنات الحية الدقيقة في الأمعاء يمكن أن تؤثر على الدماغ والصحة العقلية بعدة طرق؛ مثل العصب الحائر (Vagus nerve)، والتنظيم الميكروبي للإشارات المناعية العصبية، واستقلاب التربتوفان بوساطة الكائنات الحية الدقيقة، والتحكم الميكروبي في وظيفة الغدد الصماء العصبية، والإنتاج الميكروبي للمركبات العصبية النشطة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للميكروبات المعوية إنتاج وتنظيم الناقلات العصبية، مثل السيروتونين والدوبامين والغلوتامات، التي تلعب أدواراً مهمة في الأنشطة العصبية والمناعية في الدماغ.

المحور الجرثومي المعوي العصبي

المحور الجرثومي المعوي العصبي (Gut-Brain Axis) هو نظام التواصل بين الأمعاء والدماغ، وهو يشمل إشارات عصبية، وهرمونات، وجزيئات مناعية تنتقل بين الجهاز العصبي المركزي والأمعاء. إن الدور الرئيسي لهذا المحور هو تنظيم وظائف الجهاز الهضمي، وحديثاً، تشير الأبحاث إلى أن له دوراً أكبر في التأثير على الحالة المزاجية والسلوك.

ويعمل المحور الجرثومي المعوي العصبي قناة اتصال بين الأمعاء والدماغ، تنقل الإشارات عبر العصب الحائر (Vagus nerve) من الأمعاء إلى الدماغ والعكس. بالإضافة إلى هذا العصب الحائر، تلعب الهرمونات والإشارات الكيميائية التي تفرزها ميكروبات الأمعاء دوراً مهماً في هذه العملية.

على سبيل المثال، تنتج البكتيريا نواقل عصبية مثل حمض غاما أمينوبوتيريك (Gamma-aminobutyric acid (GABA))، وهو حمض أميني يعمل ناقلاً عصبياً له تأثير مهدئ ومثبط أساسي للجهاز العصبي المركزي (CNS)، (GABA)، يقلل من قدرة الخلية العصبية على استقبال، أو إنشاء، أو إرسال رسائل كيميائية إلى الخلايا العصبية الأخرى.

تأثيرات ميكروبات الأمعاء على الصحة العقلية

• الإنتاج الكيميائي العصبي. ميكروبات الأمعاء قادرة على إنتاج واستهلاك كثير من النواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين، التي ترتبط بالحالة المزاجية. فالبنسبة للسيروتونين، على سبيل المثال، يتم إنتاج 90 في المائة منه في الأمعاء، ويعدّ من النواقل العصبية الأساسية التي تساعد في تنظيم المزاج والشعور بالسعادة. أما الدوبامين فإنه من جهته، يلعب دوراً في الشعور بالمكافأة والتحفيز. بالتالي، فإن أي خلل في إنتاج هذه النواقل العصبية يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات عقلية.

السيروتونين والدوبامين ليسا الوحيدين اللذين يتأثران بميكروبات الأمعاء، بل هناك أيضاً «نور أدرينالين» و«أسيتيل كولين» و«غابا». فهذه النواقل تلعب دوراً في تنظيم النوم، والشهية، والمزاج والطاقة العامة. ومعروف أن «غابا» يساعد في تهدئة الجهاز العصبي وتقليل القلق.

• التفاعل مع الجهاز المناعي. ميكروبات الأمعاء تلعب دوراً في تنظيم الجهاز المناعي، ويمكن للالتهابات المزمنة الناجمة عن عدم توازن الميكروبات أن تؤثر سلباً على الدماغ وتسهم في تطور اضطرابات مثل الاكتئاب والقلق. وتشير الأبحاث إلى أن الالتهابات المزمنة تؤدي إلى إفراز مواد كيميائية مثل السيتوكينات التي يمكن أن تعبر الحاجز الدموي الدماغي وتؤثر على وظائف الدماغ. ويتم التفاعل بين ميكروبات الأمعاء والجهاز المناعي عبر إشارات كيميائية معقدة. لذا تساعد الميكروبات الجيدة في تطوير وتنظيم الجهاز المناعي، ما يمنع الالتهابات المزمنة التي يمكن أن تؤثر سلباً على الدماغ.

• الحاجز الدموي الدماغي. الحاجز الدموي الدماغي (Blood-Brain Barrier) هو حاجز فيزيولوجي وهيكل واقٍ يمنع المواد الضارة في الدم من الوصول إلى الدماغ. وتشير الدراسات إلى أن الميكروبات تلعب دوراً في الحفاظ على سلامة هذا الحاجز، وأن أي تدهور في الحاجز الدموي الدماغي يمكن أن يؤدي إلى تسرب المواد الضارة إلى الدماغ، ما يسهم في تطور الأمراض العقلية مثل الاكتئاب والقلق.

دراسات وأدلة علمية

• دراسات الحيوان. أظهرت الدراسات التي أجريت على الفئران أن تغيير ميكروبات الأمعاء يمكن أن يغير سلوك الفئران. على سبيل المثال، الفئران التي خضعت لنقل ميكروبات من فئران مكتئبة أظهرت سلوكيات مشابهة للاكتئاب. وتعزز هذه الدراسات الرأي بأن ميكروبات الأمعاء تلعب دوراً مباشراً في التأثير على السلوك والحالة المزاجية.

• دراسات الإنسان. أظهرت الدراسات التي أجريت على البشر أن الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات عقلية مثل الاكتئاب، لديهم تنوع ميكروبي أقل في أمعائهم. بالإضافة إلى ذلك، فإن الدراسات السريرية أظهرت أن تناول البروبيوتيك يمكن أن يحسن الحالة المزاجية ويقلل من مستوى القلق والاكتئاب. على سبيل المثال، من تلك الدراسات دراسة أجريت على طلاب جامعيين أظهرت أن تناول البروبيوتيك لمدة 6 أسابيع أدى إلى تحسين الحالة المزاجية وتقليل التوتر.

وقد أصبحت تأثيرات المنتجات الطبيعية ضد الاضطرابات العقلية نقطة بحثية ساخنة في مجالات علوم الأغذية والتغذية وعلم النفس والطب النفسي في السنوات الأخيرة، كما أظهرت الدراسات أن بعض البروبيوتيك والمنتجات الطبيعية له أدوار حيوية في إدارة الاضطرابات العقلية من خلال تعديل الكائنات الحية الدقيقة في الأمعاء.

وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أن تناول كميات كبيرة من الخضار والفواكه والألياف ارتبط بشكل إيجابي بالصحة العقلية لدى مجتمع يبلغ 502494 من البالغين في منتصف العمر. كما أظهرت دراسة أخرى أجريت على 482 مشاركاً أن النظام الغذائي الغني بالتريبتوفان كان مرتبطاً سلباً بالاكتئاب، ويمكن أن يحسن الإدراك الاجتماعي.

• دراسة متعددة العوامل؛ أظهرت أن لميكروبات الأمعاء تأثيراً إيجابياً في الحفاظ على الصحة العقلية من خلال إنتاج الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة وتنظيم الأحماض الأمينية. لذلك، يمكن أن تكون طريقة محتملة لاستهداف ميكروبات الأمعاء للوقاية من الاضطرابات النفسية وعلاجها.

تطبيقات علاجية

• البروبيوتيك والبريبايوتيك: البروبيوتيك (probiotics) هي مكملات تحتوي على بكتيريا حية مفيدة يمكن أن تعزز توازن الميكروبات في الأمعاء. أما البريبايوتيك (prebiotics) فهي ألياف غذائية تغذي البكتيريا الجيدة. وكلاهما أظهر فاعلية في تحسين الحالة المزاجية وخفض مستوى القلق. ويمكن أن تشمل البروبيوتيك بكتيريا مثل «Lactobacillus» و«Bifidobacterium»، التي تعدّ مفيدة لصحة الأمعاء.

• النظام الغذائي. يلعب دوراً كبيراً في صحة الميكروبات. فالأطعمة الغنية بالألياف والمخمرة مثل الزبادي والخضراوات الورقية يمكن أن تعزز صحة الميكروبيوم. الأطعمة المعالجة والسكرية يمكن أن تؤدي إلى اختلال في توازن الميكروبات وزيادة الالتهابات.

• العلاجات النفسية والدوائية. بعض العلاجات النفسية مثل العلاج السلوكي المعرفي، بالإضافة إلى الأدوية النفسية، قد يكون أكثر فاعلية عند استخدامه مع استراتيجيات تستهدف تحسين صحة الميكروبات. إذ تشير الأبحاث إلى أن التداخل بين العلاج النفسي وتحسين صحة الأمعاء يمكن أن يؤدي إلى نتائج أفضل في علاج الاكتئاب والقلق.

وأخيراً، ورغم التقدم الكبير في فهم العلاقة بين ميكروبات الأمعاء والصحة العقلية، لا تزال هناك تحديات؛ من بينها التنوع الكبير في الميكروبيوم بين الأفراد، ما يجعل من الصعب تطوير علاجات شاملة. ومع ذلك، فإن هذا المجال يوفر فرصاً كبيرة لتطوير علاجات جديدة وشخصية تستهدف تحسين الصحة العقلية من خلال توازن ميكروبات الأمعاء.

إن العلاقة بين ميكروبات الأمعاء والصحة العقلية هي مجال ناشئ ومثير للاهتمام في البحث العلمي. والفهم الأفضل لهذه العلاقة يمكن أن يؤدي إلى طرق جديدة لتعزيز الصحة العقلية من خلال العناية بصحة الأمعاء. ومن خلال التكامل بين العلاجات التقليدية والتغذية والعناية بالميكروبات، يمكن تحقيق تقدم كبير في علاج وتحسين الصحة العقلية.

• استشاري طب المجتمع


مقالات ذات صلة

نصف حالات «الخرف» يمكن الوقاية منها أو تأخيرها... كيف؟

صحتك يحاول العديد من كبار السن تجربة استراتيجيات لتجنب «الخرف» (رويترز)

نصف حالات «الخرف» يمكن الوقاية منها أو تأخيرها... كيف؟

أظهر مسح شمل 1563 شخصاً بالغاً أن ثلاثة أرباع البالغين الذين تبلغ أعمارهم 40 عاماً أو أكثر يشعرون بالقلق بشأن تدهور صحة أدمغتهم في المستقبل.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك مصاب بالسكتة القلبية (رويترز)

الضوضاء قد تزيد من خطر الإصابة بنوبة قلبية

حذر أطباء من أضرار الضوضاء على صحة الإنسان حيث إنها قد تزيد من خطر الإصابة بنوبة قلبية بحسب وكالة «يونايتد برس إنترناشيونال» الأميركية للأنباء

«الشرق الأوسط» (واشنطن )
صحتك هناك تزايد مستمر في الأمراض التي تسببها لدغات البعوض (رويترز)

تتسبب في أمراض «قاتلة»... كيف تحمي نفسك من لدغات البعوض؟

رصدت الولايات المتحدة تزايداً مستمراً في الأمراض التي تسببها لدغات البعوض. ومؤخراً، توفي أحد سكان نيوهامشير الأميركية بسبب مرض نادر، ولكنه خطير ينقله البعوض.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق الصداع النصفي يتميز بنوبات متكررة من الألم الشديد بالرأس (جامعة كاليفورنيا)

دواء لإيقاف الصداع النصفي قبل بدء الألم

أظهرت دراسة أميركية، أن تناول دواء يسمى «أوبروجيبانت» (Ubrogepant) عند ظهور العلامات الأولى للصداع النصفي، يمكنه إيقاف الصداع قبل بدء ألم الرأس.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
صحتك دراسة: النوم في عطلة نهاية الأسبوع قد يقلل من خطر الإصابة بأمراض القلب (رويترز)

دراسة: النوم نهاية الأسبوع قد يقلل خطر الإصابة بأمراض القلب

كشفت دراسة حديثة أن الحصول على ساعات نوم إضافية خلال عطلة نهاية الأسبوع يمكن أن يسهم في تقليل خطر الإصابة بأمراض القلب بنسبة تصل إلى 20 في المائة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

الفضول يطور التوصيلات العصبية في دماغ الأطفال

الفضول يطور التوصيلات العصبية في دماغ  الأطفال
TT

الفضول يطور التوصيلات العصبية في دماغ الأطفال

الفضول يطور التوصيلات العصبية في دماغ  الأطفال

على الرغم من حالة الاختلاف والجدل بين العلماء حول وجود تعريف علمي محدد في علم النفس يفسر معنى الفضول «curiosity» عند البالغين، فإن معظمهم اتفقوا على أن الفضول في الأطفال مختلف عنه في الكبار. ويُعدّ نوعاً من الرغبة الدائمة في التعلم واكتساب الخبرات المختلفة، خصوصاً في مراحل الطفولة الأولى. وهناك عديد من الدراسات التي أوضّحت ضرورة الربط بين تعريف الفضول (حب الاطلاع) وتفسيره بشكل مختلف تبعاً لكل فئة عمرية، وخلفية ثقافية، وحسب سياق بيئة معينة.

فضول الطفولة استكشاف

غالبية الدراسات تعاملت مع الفضول في الطفولة كما لو كان نوعاً من البحث عن معلومات معينة (يمكن أن تكون غير ضرورية)؛ نتيجة لغريزة داخلية ترغب دائماً في المعرفة، خصوصاً في المراحل المبكرة من العمر، لأن كل مفردات الحياة مهما كانت بسيطة تكون بمثابة اكتشاف جديد. وبذلك يكون الفضول المحرك الرئيسي لنمو الطفل الإدراكي والفكري؛ مما يؤدي إلى تطور التوصيلات العصبية «brain synapses» المسؤولة عن التفكير والتفاعل.

ويلعب الفضول دوراً أساسياً في تطوير القدرات الخاصة بالتعلم؛ مثل الذاكرة البعيدة «long-term memory» في المخ، والتفكير النقدي لدى الأطفال. وعلى المدى القصير كلما ازداد فضول الطفل كان أداؤه أفضل بشكل ملحوظ على المستوى الفكري بداية من مرحلة ما قبل الدراسة، مروراً بدخول المدرسة وحتى التخرج فيها.

وبعد البلوغ على المدى الطويل، ثبت أن هذه الصفة (الفضول) تعمل على تحسين قدرات الأفراد على جمع المعلومات، والإدراك، والتقييم بشكل عام.

اكتساب المعرفة

وجد العلماء أن الفضول يدعم ما يُسمى «التعليم العرضي (incidental learning)»؛ لأنه يعزز الاهتمام المدفوع بالفضول بموضوع معين، والاحتفاظ بالمعلومات التي ربما تكون بغير ذات صلة في وقت حدوثها، لكن يمكن أن تصبح مفيدة لاحقاً، مما يساعد على إنشاء شبكة متشعبة لاكتساب المعرفة. وعلى سبيل المثال فإن الفضول في التعرف على طبيعة حيوان أليف يساعد الطفل على التخلص من الخوف منه، واللعب معه.

وخلافاً لتصور الآباء، يجب تشجيع الفضول عند الأطفال بدلاً من تثبيطه، خصوصاً في مراحل الطفولة المبكرة (بالطبع مع حماية الأطفال من المخاطر العضوية التي يمكن أن تصيبهم نتيجة لتجربة كل شيء مختلف مثل اللعب في الأجهزة الكهربائية). وحتى الحوادث البسيطة التي تحدث للطفل نتيجة لبحثه المستمر عن مختلف الأشياء تكون نوعاً من الخبرة الحياتية تحميه من المخاطر مستقبلاً.

وقد أوضحت الدراسات أن الفضول بشأن ظاهرة معينة بالضرورة يؤدي إلى التجريب، والذي بدوره يولد أسئلة جديدة تُعدّ نوعاً من الفضول أيضاً. وعلى سبيل المثال عند سقوط لعبة معينة من يد طفل، في اللحظة التي ينحني فيها شخص بالغ لالتقاط اللعبة يتملك الطفل الفضول بشأن معرفة عدد المرات التي سوف يقوم فيها الشخص بإعادتها له قبل أن يفقد الاهتمام أو يقوم بتعنيفه ونهيه عن ممارسة اللعبة، ما يدفعه لإسقاط اللعبة مرات عدة ليعرف رد الفعل.

وبالمثل يمكن أن يراقب الطفل فراشة لفترة معينة من الزمن، ويتساءل: لماذا كان جناحاها مطويَّين أو مفتوحَين؟ والكيفية التي تطير بها الفراشات، ولماذا تختلف ألوانها؟ مما يجعله يمد يده محاولاً الإمساك بها لاختبار رد فعلها.

وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة للفضول في الدراسة والعلوم الأكاديمية النظامية، فإن الفضول يمكن أن يتم توظيفه في البحث عن المعلومات المختلفة بشكل عام بوصفه نوعاً من الاستجابة لعدم اليقين. وهو بذلك يشبه التفكير النقدي الذي يعتمد على الحقائق العلمية المبنية على التجريب بديلاً عن المُسلمات الجاهزة، وهو ما يُسمى «التعلم النشط (active learning)»، وهذا النوع من التفكير يجعل الطفل قادراً على حل المشكلات في المستقبل، واتخاذ القرارات في الأمور المختلفة.

تعلّم المهارات

قال الباحثون إن تطور التفكير العلمي يرتبط بتطور الحواس الخمس، ولكن في الأطفال في الأغلب يتم تثبيط هذه الطريقة من التفكير من خلال النهي عن الفضول والتساؤلات المختلفة، مع العلم أن الأطفال حينما يطرحون أسئلة معينة غالباً ما تؤدي الإجابات التي يحصلون عليها إلى البحث عن مزيد من المعلومات. وتشير الأبحاث إلى أن الأطفال يمكنهم طرح الأسئلة بمعدل يزيد على 100 سؤال في الساعة، وعلى الرغم من أن هذا السلوك ممكن أن يثير غضب البالغين بالطبع، فإنه مفيد جداً من الناحية العلمية. وحسب «الرابطة الأميركية للتقدم العلمي (AAAS)» يُعدّ إلقاء الأسئلة من أهم أدوات التعلم.

يقوم الفضول في الأطفال بدور كبير في البحث عن معلومات معينة، وذلك لأن البالغين يتمتعون بكفاءة في تركيز انتباههم في موضوع معين. ولكن بالطبع هذا التحكم في الانتباه يأتي على حساب فقدان كثير مما يحدث حولهم ولا يرتبط باهتمامهم. وفي المقابل يتمتع الأطفال بمهارة أقل في تركيز انتباههم ولكنهم يميلون إلى استكشاف الأشياء أكثر مما يجعلهم يحصلون على كمية معلومات أكبر.

وعلى سبيل المثال، الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و9 سنوات حينما يدخلون متحفاً معيناً يكون الفضولُ الدافعَ لهم ليروا معظم التماثيل حتى لو لم يتمكّنوا من فهم تفاصيل هذه الأعمال.

ينصح الأطباء بضرورة استثمار فضول الأطفال في تعليمهم المهارات المختلفة، سواء ما يتعلق بالدراسة أو ما يتعلق بالمهارات الحياتية المختلفة، من خلال توفير البيئة التي تحتوي على أشياء تثير فضولهم، وطريقة تعليم تجعلهم يطرحون الأسئلة المختلفة حتى لو كانت متكررة لمعرفة المعلومة بدلاً من تلقينهم إجابات جاهزة.

• استشاري طب الأطفال