تمثل أمراض القلب والأوعية الدموية السبب الرئيسي للوفاة المبكرة على مستوى الولايات المتحدة، بجانب تسببها في خسارة أكثر من 150 مليار دولار سنوياً من الإنتاجية. وبفضل عقود من الجهود البحثية، أصبحت لدينا اليوم معرفة كبيرة بخصوص العوامل التي تجعل الأفراد أكثر عرضة لأمراض الشرايين التاجية؛ أكثر أنماط أمراض القلب شيوعاً، والسبب الجذري وراء معظم النوبات القلبية.
تحليل جيني شخصي
ورغم ذلك، فإن الأطباء لا يزالون عاجزين عن توقع حدوث النوبات القلبية بدقة كبيرة. وفي الواقع، فإن بعض الأشخاص الذين يبدون عرضة للنوبات القلبية لا يعايشونها مطلقاً، بينما يصاب آخرون بأمراض قلبية رغم عدم وجود مخاطر واضحة بخصوصهم.
والتساؤل هنا: هل يمكن أن يساعد «التحليل الجيني الشخصي (genetic profiling)؟ ربما؛ طبقاً لبيان صادر عن «الجمعية الأميركية للقلب» عام 2022 حول إمكانات وتحديات هذا التحليل.
وبالاعتماد على عينة صغيرة من الدم أو اللعاب، تتولى مثل هذه الاختبارات تحليل ملايين المتحورات الشائعة في الحمض النووي، بهدف بناء ما تعرف باسم «نقاط المخاطر الجينية المتعددة (polygenic risk score)».
يمكن ألا يكون لديك أي من هذه المتحورات، أو ربما تكون لديك نسخة أو نسختين من أي متحور جيني، التي يمكن لكل منها زيادة أو تقليص مخاطرة الإصابة بأمراض الشرايين التاجية.
في هذا السياق، أوضح الدكتور نيكولاس مارستون؛ الطبيب المختص في طب القلب الوقائي بـ«مستشفى بريغهام آند ويمينز» التابع لجامعة هارفارد، أنه «منذ 10 سنوات، كان هناك ما بين 20 أو 30 متحوراً معروفاً فقط تؤثر على مرض الشريان التاجي».
يذكر أن العلماء يكتشفون المتحورات عبر مقارنة الشفرات الجينية لدى أشخاص لا يعانون من أمراض الشرايين التاجية بأخرى تخص أشخاصاً مرضى.
وتحدث كثير من هذه المتحورات في الجينات المعروف عنها أنها تؤثر على أمراض القلب، مثل تلك المرتبطة بالكوليسترول وضغط الدم وتجلطه. وأضاف الدكتور مارستون أنه ثمة متحورات أخرى لم نفهمها بالقدر الكافي بعد، وتمثل أهدافاً جيدة للجهود البحثية مستقبلاً، الأمر الذي ربما يعزز جهود اكتشاف عقاقير جديدة.
الأدلة المتوفرة حالياً
تعكس درجة المخاطر المرتبطة بجينات متعددة، مجمل تأثير جميع المتحورات معاً، ويجري التعبير عنها في صورة نسبة مئوية. ومع ذلك، فإن النتيجة المرتفعة (مثلاً، 95 في المائة) لا تعني بالضرورة وجود احتمالية بنسبة 95 في المائة للإصابة بالمرض، وإنما تعني أنه من بين 100 فرد، فإن نتيجتك أعلى من نتائج 95 فرداً، وفي نفس مستوى نتائج أو أقل من خمسة.
حتى الآن، توحي الأبحاث المعتمدة على درجات مخاطر الجينات المتعددة المرتبطة بأمراض الشرايين التاجية، بأنها قد تحقق تحسينات متواضعة على صعيد توقع المخاطر لدى الأفراد في منتصف العمر أو أصغر. في بعض الحالات، يمكن أن تعين النتيجة الأطباء على اتخاذ قرار بخصوص ما إذا كان ينبغي اتباع نهج أكثر أو أقل قوة لدى وصف عقاقير مخفضة للكوليسترول، مثل الـ«ستاتين»، وفق ما ذكر الدكتور مارستون.
على سبيل المثال، يسأل رجل يبلغ 35 عاماً وتوفي أبوه بسبب نوبة قلبية في سن الـ45، ما الذي يمكنه عمله للهروب من هذا المصير، خصوصاً أن أرقام مستويات الكوليسترول تبدو جيدة. في الواقع، لا تناسب الحاسبات المعيارية للمخاطرة الأفراد فوق الـ40. وعليه؛ فإن درجة مخاطر الجينات المتعددة يمكن أن تعين الطبيب في تحديد ما إذا كان ومتى ينبغي للرجل تناول أدوية الـ«ستاتين».
بجانب أدوية الـ«ستاتين (statin)»، ثمة عقاقير أخرى مخفضة للكوليسترول متاحة، مثل «أليروكوماب alirocumab (بارولنت Praluent) و«إيفولوكوماب evolocumab (ريباثا Repatha)». وينبغي الانتباه الى أن هذه العقاقير باهظة الثمن، ولا يغطيها التأمين دوماً. وعليه، فليس من المنطقي وصفها للجميع. وعبر الدكتور مارستون عن اعتقاده بأن درجة المخاطر الجينية المتعددة يمكنها المساعدة في تحديد أي من الناجين من النوبات القلبية يمكنه جني أكبر قدر من الاستفادة من هذه العقاقير.
رصد المتحورات في الجينات المرتبطة بأمراض القلب مثل تلك المرتبطة بالكوليسترول وضغط الدم وتجلطه
درجات المخاطر الجينية المتعددة
في الوقت الراهن، يمكن للأفراد التعرف على نتائجهم من خلال المشاركة في دراسة بحثية، مثل دراسة «شبكة السجلات الطبية وعلوم الجينوم». كما يجري علماء ببعض المستشفيات التابعة لجامعة هارفارد، و9 مؤسسات أخرى بمختلف أرجاء البلاد، دراسات حول دور المخاطر الجينية في الحالات الطبية المرتبطة بالقلب، وكذلك السرطان وأمراض أخرى.
بجانب ذلك، توفر حفنة من الشركات التي تتعامل مباشرة مع المستهلك، اختبارات تتيح نتائج تتعلق بصحة القلب والأوعية الدموية مقابل 250 دولاراً.
من جهته، أوصى الدكتور مارستون كثيراً من مرضاه بإجراء الاختبار، وهم مضطرون لسداد تكلفته من مالهم الخاص، نظراً إلى أنه خارج التغطية التأمينية.
تتمثل عقبة أخرى في أن النتائج تعتمد بصورة أساسية على أشخاص ينتمون لأصول أوروبية، مما يعني أنها ربما لا تكون جديرة بالثقة فيما يخص أشخاصاً من أعراق أخرى مختلفة. ومع ذلك، ثمة جهود تجرى في الوقت الحاضر لتوسيع دائرة تنوع هذا الاختبار.
فيما يتعلق بالأشخاص الأكبر سناً، لا تبدو درجات المخاطر الجينية المتعدد المتعلقة بأمراض القلب مفيدة. ببلوغ سن الـ70، تكون عقود من عادات معينة مرتبطة بأسلوب الحياة قد صاغت بالفعل مستوى المخاطر لديك، بينما تصبح العوامل الجينية أقل أهمية. عن ذلك، قال الدكتور مارستون: «في نهاية الأمر؛ إننا نرغب في نتائج يمكن العمل على أساسها. لذلك، لن نرى استيعاباً كبيراً لاستخدام نتائج مخاطر الجينات المتعددة حتى تثبت لنفسها دوراً في صناعة القرار الطبي».
* «رسالة هارفارد للقلب» - خدمات «تريبيون ميديا»