أثر الاحتلال الأميركي في طبيعة السرد الروائي العراقي

روائيون لم يجدوا فضاءً للاشتباك مع الواقع الملتبس سوى التأطير اللامنطقي واللاواقعي

أثر الاحتلال الأميركي في طبيعة السرد الروائي العراقي
TT

أثر الاحتلال الأميركي في طبيعة السرد الروائي العراقي

أثر الاحتلال الأميركي في طبيعة السرد الروائي العراقي

يبرهن الدكتور سمير الخليل، أستاذ النقد الأدبي الحديث في الجامعة المستنصرية ببغداد، في كتابه النقدي الجديد «روايات ما بعد الكولونيالية - اليانكي: التحولات الفنية والفكرية والثقافية» الصادر عام 2023، على أنه ناقد متمرس وجاد، ويدرك شروط الممارسة النقدية الحداثية. فقد عرفنا عنه في سلسلة مؤلفاته النقدية حرصه على الجمع بين النقد النظري والتطبيقي في اشتغالاته النقدية، وتركيزه بشكل خاص على المظاهر السوسيو - ثقافية، التي تحملها النصوص الروائية، ولذا فقد رأيناه خلال السنوات الأخيرة ينحاز إلى مفهوم «النقد الثقافي»، وهو مدرسة نقدية أسس لها في نقدنا العربي الدكتور عبد الله الغذامي من خلال كتبه وأطروحاته المختلفة. وذهب الدكتور سمير الخليل لاحقاً أبعد من ذلك عندما أقدم على مغامرة كبيرة تتمثل في إعداد معجم خاص بـ«النقد الثقافي» هو «دليل مصطلحات النقد الثقافي» عام 2016، كما قدم أطروحة مهمة تتعلق بمخرجات النقد الثقافي في كتابه «الرواية سرداً ثقافياً» عام 2020، وسبق له أن نشر مجموعة كبيرة من الدراسات والكتب النقدية التي تتخذ من «النقد الثقافي» مرشداً لها؛ منها: «النقد الثقافي من النص الأدبي إلى الخطاب» عام 2013، و«فضاءات النقد الثقافي» عام 2014، و«دراسات ثقافية: الجسد الأنثوي... الآخر... السرد الثقافي» عام 2018، و«الشعر والتمثلات الثقافية» عام 2021... وغيرها.

ينفي الكتاب الصورة المضللة التي حاول البعض إشاعتها باتهام المثقف العراقي بـ«السلبية تجاه هذا الاحتلال أو الترحيب به»

وقد عمد المؤلف إلى تطبيق مفاهيم «النقد ما بعد الكولونيالي» التي تسعى إلى فحص النصوص الأدبية والثقافية التي أنتجت في بلدان كانت واقعة في الماضي تحت هيمنة الكولونيالية وبشكل خاص ما تسمى «الامبراطورية»؛ إشارة إلى السيطرة البريطانية على كثير من بلدان العالم الثالث في آسيا وأفريقيا. لكنه في كتابه هذا عمد إلى فحص وقراءة النصوص الأدبية الحديثة التي كتبها روائيون عراقيون لمواجهة الاحتلال الأميركي (اليانكي) للعراق بعد عام 2003 حصراً.

ويحدد الناقد في «المقدمة» التي استهل بها كتابه النقدي هذا برنامجه النقدي بالقول:

«وهاجس قراءتنا هو رصد ديناميكية الرواية الآن في العراق وتمثيلها السردي لموضوعات نحسبها تجسيداً لمفاهيم ما بعد الكولونيالية الأميركية (اليانكية)، والكيفية التي ضمت استراتيجية جديدة... وتوظيف واعٍ من الروائيين، وبتقنيات يتحول فيها النص، عبر المتخيل السردي، إلى حقيقة إبداعية لا تحيل إلى بديل آخر غير الواقع الذي انبثقت منه وتفرعت عنه» (ص 6).

ونوه الناقد بأنه قصد بعنوانه الفرعي للكتاب: «التحولات الفنية والفكرية والثقافية» المنحى النقدي لدراسة أثر الاحتلال الأميركي العسكري في طبيعة السرد الروائي، وما أحدثه من تحولات في الرواية العراقية، وتأكيد أن «الكولونيالية اليانكية» قد أفرزت تأثيرات واضحة في الرواية على مختلف المستويات الفنية السردية والثقافية والاجتماعية.

ففي قراءته النقدية لرواية أحمد خلف «الذئاب على الأبواب» الصادرة عام 2018، يؤشر الناقد إلى كثير من العلامات السيميائية لمرحلة ما بعد الاحتلال وتشظي الواقع، وضياع الإنسان، المتمثلة في ظاهرة الجثث المجهولة والموت اليومي المجاني. ولذا؛ تكتسب الرواية سماتها الواقعية وتحولها إلى وثيقة تاريخية ومدوّنة لرصد الأحداث المفصلية والمنعطفات الكبيرة. ويتوقف الناقد أمام دلالة قرار البطل حمل السلاح لمواجهة العدو الذي يترصده، بوصفه يمثل لحظة التنوير الأخيرة، والشفرة المتوهجة في خاتمة الرواية.

ويشخص الناقد في رواية «سيدات زحل» للروائية لطفية الدليمي تتبعاً لآركيولوجيا الخراب وانكفاء الوقائع منذ عصور بعيدة وحتى عصر الاحتلال الأميركي الكابوسي، وفضلاً عن ذلك؛ نجحت الرواية في رصد يوميات الحرب والعنف، والقهر السياسي والاجتماعي، وممارسات قتل النساء، كما استطاعت المؤلفة عبر هذه المدوّنة السردية تقديم تاريخ للخراب، والاستبسال للخلاص منه.

ويستقصي الناقد مظاهر «النقد ما بعد الكولونيالي» في رواية «عمتي زهاوي» للروائي خضير فليح الزيدي، فيلاحظ أن النتاج الروائي في مرحلة ما بعد الاحتلال يكشف وبيسر عن هيمنة الخطاب الغرائبي وتجلياته العجائبية وأشكال الفانتازيا، ذلك أن الروائي في حقبة ما بعد الاحتلال لم يجد فضاءً للاشتباك مع الواقع الملتبس سوى التأطير اللامنطقي واللاواقعي، لرصد التغيرات الراديكالية التي عصفت بالحياة بكل ميادينها ومفاصلها، ومنها مظاهر الانقلاب التراتبي والقيمي، وظهور قيم ومستحدثات جديدة وغريبة، وصعود نسق طبقي جديد. ويرى الخليل أن رفض العمة «زهاوي» تصميم عمارة السجون الأميركية يمثل موقفاً رافضاً لمشاريع الاحتلال. ويسترعي الناقد الانتباه إلى دلالة التحالف بين الفكر الفقهي وبين الغرب الأميركي بوصفه محاولة لاستثمار القوى الغريبة الجديدة الفكر الديني في استراتيجيات الغزو بصيغته العسكرية أو الفكرية، كما يتجلى ذلك في التحالف بين فكر «الشيخ زريق التونسي» الديني وفكر الأميركي «يوهان» الإباحي.

ويكشف الناقد في قراءته رواية «نبوءة فرعون» للروائية ميسلون هادي عن نزعة الرواية لإدانة النظام الدكتاتوري الصدامي، وكذلك إدانة وتعرية الاستبداد الاحتلالي بكل ضراوته وشراسته، وتشير الرواية إلى أن الحياة أصبحت بحاجة إلى طبيب، لكن مصير الناس وضياعهم وسط البركان الاحتلالي (اليانكي) الأميركي يضع المصير المحتوم لابتلاع هذا الحلم أو النبوءة التي تتحول إلى كابوس.

ونوه الناقد بأن رواية «تذكرة إلى الجحيم» للروائي عباس لطيف تجسد واقع ما بعد الاحتلال، وبأنها استطاعت التشابك مع إفرازاته، وتصوير حياة الإنسان والمجتمع وطبيعة الصراعات السيكولوجية والمظاهر الشاذة. ولذا؛ فالرواية فككت الواقع برؤية استبطانية، وقدمت مظاهر التردي، والانكفاء القيمي، وتفكيك الأواصر الإنسانية، ذلك أن هذا الواقع لم يكن إلا تعبيراً عن دوافع ومحركات ناجمة عن الاحتلال الأميركي، وصعود الطبقات غير المؤهلة لتأسيس قيم جديدة.

ويرى أن رواية «رقص السناجب»، وهي أيضاً للروائي عباس لطيف، وفقت في أن تميط اللثام عن ارتباط مظاهر الخراب بالاحتلال الأميركي بكل إفرازاته.

ويعد الناقد رواية «طشاري» للروائية إنعام كجه جي أنموذجاً لإدانة النزعة الكولونيالية اليانكية؛ إذْ تمركزت الدلالات حول إفرازات النزعة اليانكية ما بعد الكولونيالية. فالهيمنة الاحتلالية بنسختها الأميركية قد وضعت لمسات القبح والتشظي للإنسان العراقي على مستوى تفتت الهوية والكينونة الإنسانية. وأكدت الرواية أن النزعة الكولونيالية الأميركية تمثل أحد تمظهرات العولمة المتوحشة والنيوليبرالية واستراتيجيات الصدمة وتفكيك الأوطان.

ولاحظ الناقد أن الروائية إنعام عبد الكريم في روايتها «الصمت» قد استثمرت واقع (أو مفردة) الاحتلال الإنجليزي للعراق للترميز إلى الاحتلال الأميركي، حيث إن طقوس الاحتلال وإفرازاته هي نفسها؛ لأن اشتراطات الاحتلال الأميركي ومقدماته تنبئ عن نتائج وظواهر تعيد نفسها.

ووثقت رواية «قيامة بغداد» للروائية عالية طالب، من جهة أخرى، الجانب المأساوي من جهة المرأة العراقية في خضم حرب السنوات الثماني، كما جسدت الجانب الثقافي والإعلامي بعد الاحتلال، وما حدث من إفرازات وسلبيات وظواهر تعكس طبيعة تناقضات المرحلة وظهور الخلل والارتكاس.

وتؤرخ رواية «دع القنفذ ينقلب على ظهره» للروائي خضير فليح الزيدي لمرحلة الحصار والحروب والانقلابات، وصولاً إلى مرحلة الاحتلال وإفرازاتها، والترهيب وظواهر الموت والخطف والعنف والإقصاء وانشطار البنية السوسيولوجية وتخلخل المنظومة الأخلاقية والقيمية عموماً.

ويرى الناقد أن رواية «تراتيل شرقية» للروائي سلام حربة تكشف عن تداعيات ما بعد الاحتلال الكولونيالي؛ ومنها التحالف بين الإرهاب والاحتلال من جهة وبين الشرائح الطفيلية والاحتلال من جهة أخرى. فقد عمدت الرواية إلى توثيق مرحلة الإرهاب ومظاهره، ومنها التحالف الضمني بين الاحتلال وإفرازاته وبين تشكل ظاهرة الإرهاب وارتباطها بالفكر التكفيري.

إن قراءة متأنية وموضوعية لكتاب الأستاذ الدكتور سمير الخليل عن روايات ما بعد الكولونيالية اليانكية في الأدب العراقي تكشف عن طبيعة الجهد الاستقصائي الكبير الذي بذله الناقد للحفر داخل أنفاق البنى السردية للوصول إلى الدلالات المخفية والمنظورة المتعقلة بمحور الدراسة، فضلاً عن الكشف عن الأنساق الثقافية المغيبة المقترنة بتمظهرات البعد ما بعد الكولونيالي في الروايات قيد الدراسة. وبذا يمثل هذا الكتاب جهداً استقصائياً رائداً يغني «النظرية ما بعد الكولونيالية» من خلال رصد جانب جديد يختلف عن «كولونيالية الإمبراطورية البريطانية»، ونعني به «الكولونيالية الأميركية اليانكية» عبر احتلالها العراق عام 2003.

وهذا الكتاب، من جهة أخرى، هو شهادة مهمة وأمينة عن موقف المثقف العراقي بشكل عام، والروائي بشكل خاص، تجاه الاحتلال الأميركي للعراق، وهو ينفي الصورة المضللة التي حاول البعض إشاعتها باتهام المثقف العراقي بالسلبية تجاه هذا الاحتلال، أو الترحيب به، ذلك أن هذا المثقف مارس منذ البداية سياسة الرفض والمقاومة والاحتجاج على هذا الوجود المتوحش، الذي أسس لسلسلة لا تنتهي من السياسات التي قادت إلى تدمير البنى التحتية للمجتمع وتشويه منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية واستبدال منظومة استهلاكية طفيلية بها، فضلاً عن خلق بؤر للعنف تهدف لتشويه الهوية الوطنية، وتُشَرْعِن لنظام المحاصصة الطائفية والإرهاب والفوضى والعنف... الذي يهدف إلى تفتيت المجتمع وطمس هويته الوطنية.


مقالات ذات صلة

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

ثقافة وفنون باقر جاسم محمد

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد»

فاضل ثامر
ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية

مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية

في العدد الجديد من مجلة «القافلة» لشهري يناير (كانون الثاني)، وفبراير (شباط) 2025، التي تصدر عن شركة «أرامكو السعودية»، تناولت الافتتاحية موضوع الأمثال الدارجة

«الشرق الأوسط» (الدمام)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
ثقافة وفنون صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة

شوقي بزيع

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

باقر جاسم محمد
باقر جاسم محمد
TT

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

باقر جاسم محمد
باقر جاسم محمد

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد» الذي أصبح إحدى أدوات التحليل والتفكيك والتشريح للعملية النقدية ذاتها.

وهناك حالياً، في المشهد النقدي والأكاديمي الحديث الكثير من المقاربات والمداخل والمناهج التي تناولت مفهوم «نقد النقد»، ونحن سنعمد في هذه القراءة إلى النظر لهذا المفهوم بوصفه خطاباً فلسفياً.

بدءاً، لا بد لنا ونحن نتحدث عن مفهوم «نقد النقد» (Metacriticism) من الوقوف قليلاً أمام مفهوم النقد ذاته قبل أن تستدرجنا البادئة «Meta» إلى معاينة مرآوية للذات أو الماهيات، أي الوصول إلى فضاء «نقد النقد» أو «ما وراء النقد».

أرسطو

من المعروف أن وظيفة النقد الأساسية هي محاولة وصف وتحليل وتقييم الأعمال والنصوص الإبداعية. وإذا ما كان النص الإبداعي يمثل لغة أولى، فإن النقد يمثل «لغة ثانية».

وكما يرى الناقد رينيه ويلبك في كتابه «مفاهيم نقدية»، فإن النقد الأدبي فنٌّ قائمٌ بذاته أو نوعٌ من الأنواع الأدبية، لكنه يشكك في كون النقد الأدبي فناً، ذلك أن هدف النقد هو المعرفة الفكرية وصولاً إلى معرفة منظمة تخص الأدب، أي إلى نظرية أدبية.

أما رولان بارت، من جهة أخرى، فيرى أن النقد خطابٌ حول خطاب، وهو قول ثانٍ أو لغة واصفة يمارس على قول أول.

ويخلص بارت إلى القول إنه إذا لم يكن النقد سوى قول واصف، فذاك معناه أن مهمة النقد ليست مطلقاً اكتشاف الحقائق، وإنما الصلاحيات فقط. ويحاول بارت من جهة أخرى الإعلاء من شأن العملية النقدية، ويضعها في مصاف العملية الإبداعية، فهو يذهب إلى اعتبار النقد إبداعاً، مؤكداً أن إمكانات النقد الراهنة تتمثل في أن الناقد قد أصبح كاتباً بمعنى الكلمة، وأن النقد غدا من الضروري أن يُقرأ ككتابة. ومن جهة أخرى يرى تودوروف أن النقد ليس ملحقاً سطحياً للأدب، وإنما هو قرينه الضروري.

أما وظيفة نقد النقد، التي حددتها إلى حد كبير البادئة «ميتا»، فهي تشير إلى حالة انعكاسية نحو الذات، أي نحو النقد نفسه، مما يجعل نقد النقد محاولةً لفهم آليات ومناهج وماهيات ومفاهيم العملية النقدية. فنقد النقد إذ يساعدنا على فهم مبادئ النقد الأدبي، فإنه في الوقت ذاته ينطوي على مساءلة لفرضيات ومناهج النظريات النقدية التي تتمحور حول مفهوم النقد. وإذا افترضنا أن النص الأدبي يمثل لغة أولى والنقد لغة ثانية، فيمكن أن نقول، قياساً على ذلك، إن نقد النقد هو لغة ثالثة.

رومان بارت

ويذهب العالم اللساني سوريش رافال (Raval Suresh) في كتابه الموسوم «نقد النقد» (Metacricism) إلى أن مصطلح نقد النقد مرادف للفلسفة، لأنه عندما ينهمك النقاد بمشكلات النقد والنظرية النقدية، فإنهم يعكفون على تحليل النظريات الأدبية للآخرين وبيان نقاط القوة والمحدودية فيها.

ويعود رافال إلى الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت، لأنه يعتقد أن كانت والكانتيين الجدد يوفرون خلفية ضرورية لدراسة قضايا النقد الحديث.

وعلى صعيد النقد العربي الحديث، يرى الناقد الجزائري حمزة بو ساجية أن نقد النقد جاء للنظر في تراكمات المنظومة النقدية، لتجعل من النقد موضوعاً لها وتسائله وتفحصه من أجل تجديد وتحديث مرتكزاتها النظرية وآلياتها الإجرائية، ويرى أن أي دراسة تجعل من نقد النقد موضوعاً للدراسة فإنها يلزمها العمل على تفكيك ذلك الفكر أو النقد الأدبي، واعتماد طريقة لمساءلته من خلال مقاربة الخطابات النقدية، وتفكيكها، والكشف عن خلفياتها، والحفر في مضامينها، وطريقة عمل آلياتها.

كانت

ويشير الباحث إلى أن النقد يجد نفسه في مواجهة ذاته. فالنقد هو خطاب على خطاب. فعلى المشتغل بخطاب نقد النقد أن يكون ملاحقاً لآثار الأول في الثاني، وسيرورة الثاني من خلال الأول. فالخطاب النقدي يشتغل على الخطاب الأدبي، أما خطاب نقد النقد فمدار اشتغاله الخطاب النقدي نفسه.

ويذهب الناقد العراقي الراحل باقر جاسم محمد، في دراسته الأكاديمية، التي نشرتها مجلة «عالم الفكر» الكويتية، إلى أن مفهوم نقد النقد يفتقد إلى الدقة والوضوح، وأنه يظل في الغالب أسير مفهوم النقد ذاته. ولذا يقترح مجموعة من المقترحات البديلة، للنظر إليه في ضوء خصوصيته. كما يدعو إلى توظيف مصطلح «ميتا نقد» بدل مصطلح «نقد النقد».

فمصطلح «Metahistory» مثلاً الذي يبتدئ بــ«Meta» مع كلمة تاريخ هي، على وفق ما ذهب إليه الناقد نورثروب فراي، المرادف لمصطلح فلسفة التاريخ، الذي يشير إلى المبادئ التي تتحكم في معرفة أي وضع تاريخي، ويرى أن مثالاً واضحاً لذلك يتمثل في منظور ماركس لـ«ميتا التاريخ»، أو فلسفة التاريخ، وهو أن التاريخ بكليته هو تاريخ للصراع الطبقي.

فالبحث في «الميتا» أو «الما وراء» هو أساساً بحث في الماهيات أو في جوهر الأشياء، كما أن البحث في الماهيات هو جزء أساسي من التفكير الفلسفي منذ أفلاطون وأرسطو وحتى اليوم. إذ تحدد الماهية معالم الجوهر في المثالية الأفلاطونية، إذ تتسم الماهية بديمومتها وعدم قدرتها على التعبير وأبديتها، ووجودها في كل عالم ممكن.

هذا ويعدُّ أرسطو أول من استخدم مصطلحي «هيولي» و«صورة»، إذْ حسب أرسطو تمتلك جميع الكينونات جانبي المادة والصورة، وتمنح الصورة المعنية المفروضة، المادة هويتها، أي ماهيتها أو لبها، أو ما يجعل المادة مادة.

ويعدّ أفلاطون أحد أول «الماهويين» الذين افترضوا مفهوم الصور المثلى أو الكينونة المجردة التي تكون فيها المواضيع المنفردة مجرد نسخ طبق الأصل عن بعضها البعض.

هذا وتشمل «الماهوية»، أي فلسفة مسلّمة بأسبقية «الماهية»، أي عكس «الوجودية» التي تفترض الوجود، ولذا تتعارض «الماهوية الميتافيزقية» مع «الواقعية الوجودية».

ومن هنا ينبغي تناول الأنطولوجيا «الماهوية» من منظور ميتافيزيقي، ومن الضروري التوافق عند دلالة الهيولي. فالهيولي في ذاته لا صورة له ولا صفة، لذلك يحتاج إلى الصورة لكي تجعله يوصف ويظهر وتتحدد معالمه أو ماهيته.

ويشير الناقد سوريش رافال في كتابه «نقد النقد» إلى أن البادئة «Meta» من البادئات الشائعة الآن، في مرحلة ما بعد الحداثة. إذْ يرى رافال أن مصطلح «نقد النقد» هو إلى حدٍ كبير مرادف لمصطلح الفلسفة، وعندما ينهمك النقاد بالتحليل الفلسفي للنقد والنظرية النقدية فإنهم يقومون بعملية «نقد النقد».

ولذا فإن «نقد النقد» باختصار هو استقصاء حول فرضيات ومناهج النظريات النقدية وبالقضايا المتعلقة بالمواقف النقدية، ومنها فحص منطق البحث النقدي، بشكل خاص.

وفي مساجلة أخرى. يرى الناقد باري.أ. ويلسون في الموسوعة النظرية الأدبية أن «نقد النقد» في الاستعمال الراهن يقوم بفحص النظريات أو المداخل النقدية المؤدية إلى المعنى النصي، وعلاقات «المؤلف - النص - القارئ»، والمعايير التي ينبغي الحكم بها على النصوص والمنتجات الثقافية الأخرى، وأحياناً يُشار إلى «نقد النقد» بوصفه هرمنيوطيقا، أو بوصفه «ما وراء التفسير»، حيث تلعب قضايا التفسير دوراً رئيساً في «نقد النقد». ويرى الناقد أن من القضايا التي يقوم بها «نقد النقد» مسألة التركيز على المنهجية.

وظيفة النقد الأساسية هي محاولة وصف وتحليل وتقييم الأعمال والنصوص الإبداعية

ويذهب الناقد إلى أن أصول نقد النقد ترجع إلى الفكر اليوناني القديم، وابتدأ في زمن كان يتم فيه التشكيك في العقيدة الأولمبية التقليدية، أو نصوصها الداعمة مثل أشعار هوميروس وهسيود. وكان أفلاطون قد رفض في كتابه «الجمهورية» الكثير من الأدب اليوناني من زاوية نظر شبه أخلاقية وقيمية.

ويرى الناقد بري.ا. ويلسون أن المدخل الهرمنيوطيقي لنقد النقد، يؤكد تعدد التفسيرات بالنسبة للمفسرين، وعلى وفق المرحلة التاريخية التي يعيشون فيها.

وتذهب موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة إلى أن «نقد النقد» هو خطاب نظري عن طبيعة وغايات النقد الأدبي، وأن مهمته هي الفحص النقدي للنقد، ومصطلحاته التقنية، وبنيته المنطقية، ومبادئه وافتراضاته الأساسية، وما يستتبع ذلك بنطاق أوسع، لخلق نظرية ثقافية.

وكما أشرنا تواً فإن أصول «نقد النقد» ترجع إلى الفكر اليوناني، عندما رفض أفلاطون في كتابه «الجمهورية» كثيراً من الأدب اليوناني الكلاسيكي.

وإذا ما كانت اتجاهات ما بعد الحداثة قد أبدت اهتماماً خاصاً بمفهوم نقد النقد، فإنها حاولت أن تضفي عليه مسحة فلسفية بسبب تركيزه على تفكيك الماهيات، وهو ما دفعنا في قراءتنا الحالية إلى تبني المقاربات التي تتعامل مع نقد النقد بوصفه خطاباً فلسفياً.