نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

أصبح إحدى أدوات التحليل والتفكيك والتشريح للعملية النقدية ذاتها

باقر جاسم محمد
باقر جاسم محمد
TT

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

باقر جاسم محمد
باقر جاسم محمد

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد» الذي أصبح إحدى أدوات التحليل والتفكيك والتشريح للعملية النقدية ذاتها.

وهناك حالياً، في المشهد النقدي والأكاديمي الحديث الكثير من المقاربات والمداخل والمناهج التي تناولت مفهوم «نقد النقد»، ونحن سنعمد في هذه القراءة إلى النظر لهذا المفهوم بوصفه خطاباً فلسفياً.

بدءاً، لا بد لنا ونحن نتحدث عن مفهوم «نقد النقد» (Metacriticism) من الوقوف قليلاً أمام مفهوم النقد ذاته قبل أن تستدرجنا البادئة «Meta» إلى معاينة مرآوية للذات أو الماهيات، أي الوصول إلى فضاء «نقد النقد» أو «ما وراء النقد».

أرسطو

من المعروف أن وظيفة النقد الأساسية هي محاولة وصف وتحليل وتقييم الأعمال والنصوص الإبداعية. وإذا ما كان النص الإبداعي يمثل لغة أولى، فإن النقد يمثل «لغة ثانية».

وكما يرى الناقد رينيه ويلبك في كتابه «مفاهيم نقدية»، فإن النقد الأدبي فنٌّ قائمٌ بذاته أو نوعٌ من الأنواع الأدبية، لكنه يشكك في كون النقد الأدبي فناً، ذلك أن هدف النقد هو المعرفة الفكرية وصولاً إلى معرفة منظمة تخص الأدب، أي إلى نظرية أدبية.

أما رولان بارت، من جهة أخرى، فيرى أن النقد خطابٌ حول خطاب، وهو قول ثانٍ أو لغة واصفة يمارس على قول أول.

ويخلص بارت إلى القول إنه إذا لم يكن النقد سوى قول واصف، فذاك معناه أن مهمة النقد ليست مطلقاً اكتشاف الحقائق، وإنما الصلاحيات فقط. ويحاول بارت من جهة أخرى الإعلاء من شأن العملية النقدية، ويضعها في مصاف العملية الإبداعية، فهو يذهب إلى اعتبار النقد إبداعاً، مؤكداً أن إمكانات النقد الراهنة تتمثل في أن الناقد قد أصبح كاتباً بمعنى الكلمة، وأن النقد غدا من الضروري أن يُقرأ ككتابة. ومن جهة أخرى يرى تودوروف أن النقد ليس ملحقاً سطحياً للأدب، وإنما هو قرينه الضروري.

أما وظيفة نقد النقد، التي حددتها إلى حد كبير البادئة «ميتا»، فهي تشير إلى حالة انعكاسية نحو الذات، أي نحو النقد نفسه، مما يجعل نقد النقد محاولةً لفهم آليات ومناهج وماهيات ومفاهيم العملية النقدية. فنقد النقد إذ يساعدنا على فهم مبادئ النقد الأدبي، فإنه في الوقت ذاته ينطوي على مساءلة لفرضيات ومناهج النظريات النقدية التي تتمحور حول مفهوم النقد. وإذا افترضنا أن النص الأدبي يمثل لغة أولى والنقد لغة ثانية، فيمكن أن نقول، قياساً على ذلك، إن نقد النقد هو لغة ثالثة.

رولان بارت

ويذهب العالم اللساني سوريش رافال (Raval Suresh) في كتابه الموسوم «نقد النقد» (Metacricism) إلى أن مصطلح نقد النقد مرادف للفلسفة، لأنه عندما ينهمك النقاد بمشكلات النقد والنظرية النقدية، فإنهم يعكفون على تحليل النظريات الأدبية للآخرين وبيان نقاط القوة والمحدودية فيها.

ويعود رافال إلى الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت، لأنه يعتقد أن كانت والكانتيين الجدد يوفرون خلفية ضرورية لدراسة قضايا النقد الحديث.

وعلى صعيد النقد العربي الحديث، يرى الناقد الجزائري حمزة بو ساجية أن نقد النقد جاء للنظر في تراكمات المنظومة النقدية، لتجعل من النقد موضوعاً لها وتسائله وتفحصه من أجل تجديد وتحديث مرتكزاتها النظرية وآلياتها الإجرائية، ويرى أن أي دراسة تجعل من نقد النقد موضوعاً للدراسة فإنها يلزمها العمل على تفكيك ذلك الفكر أو النقد الأدبي، واعتماد طريقة لمساءلته من خلال مقاربة الخطابات النقدية، وتفكيكها، والكشف عن خلفياتها، والحفر في مضامينها، وطريقة عمل آلياتها.

كانت

ويشير الباحث إلى أن النقد يجد نفسه في مواجهة ذاته. فالنقد هو خطاب على خطاب. فعلى المشتغل بخطاب نقد النقد أن يكون ملاحقاً لآثار الأول في الثاني، وسيرورة الثاني من خلال الأول. فالخطاب النقدي يشتغل على الخطاب الأدبي، أما خطاب نقد النقد فمدار اشتغاله الخطاب النقدي نفسه.

ويذهب الناقد العراقي الراحل باقر جاسم محمد، في دراسته الأكاديمية، التي نشرتها مجلة «عالم الفكر» الكويتية، إلى أن مفهوم نقد النقد يفتقد إلى الدقة والوضوح، وأنه يظل في الغالب أسير مفهوم النقد ذاته. ولذا يقترح مجموعة من المقترحات البديلة، للنظر إليه في ضوء خصوصيته. كما يدعو إلى توظيف مصطلح «ميتا نقد» بدل مصطلح «نقد النقد».

فمصطلح «Metahistory» مثلاً الذي يبتدئ بــ«Meta» مع كلمة تاريخ هي، على وفق ما ذهب إليه الناقد نورثروب فراي، المرادف لمصطلح فلسفة التاريخ، الذي يشير إلى المبادئ التي تتحكم في معرفة أي وضع تاريخي، ويرى أن مثالاً واضحاً لذلك يتمثل في منظور ماركس لـ«ميتا التاريخ»، أو فلسفة التاريخ، وهو أن التاريخ بكليته هو تاريخ للصراع الطبقي.

فالبحث في «الميتا» أو «الما وراء» هو أساساً بحث في الماهيات أو في جوهر الأشياء، كما أن البحث في الماهيات هو جزء أساسي من التفكير الفلسفي منذ أفلاطون وأرسطو وحتى اليوم. إذ تحدد الماهية معالم الجوهر في المثالية الأفلاطونية، إذ تتسم الماهية بديمومتها وعدم قدرتها على التعبير وأبديتها، ووجودها في كل عالم ممكن.

هذا ويعدُّ أرسطو أول من استخدم مصطلحي «هيولي» و«صورة»، إذْ حسب أرسطو تمتلك جميع الكينونات جانبي المادة والصورة، وتمنح الصورة المعنية المفروضة، المادة هويتها، أي ماهيتها أو لبها، أو ما يجعل المادة مادة.

ويعدّ أفلاطون أحد أول «الماهويين» الذين افترضوا مفهوم الصور المثلى أو الكينونة المجردة التي تكون فيها المواضيع المنفردة مجرد نسخ طبق الأصل عن بعضها البعض.

هذا وتشمل «الماهوية»، أي فلسفة مسلّمة بأسبقية «الماهية»، أي عكس «الوجودية» التي تفترض الوجود، ولذا تتعارض «الماهوية الميتافيزقية» مع «الواقعية الوجودية».

ومن هنا ينبغي تناول الأنطولوجيا «الماهوية» من منظور ميتافيزيقي، ومن الضروري التوافق عند دلالة الهيولي. فالهيولي في ذاته لا صورة له ولا صفة، لذلك يحتاج إلى الصورة لكي تجعله يوصف ويظهر وتتحدد معالمه أو ماهيته.

ويشير الناقد سوريش رافال في كتابه «نقد النقد» إلى أن البادئة «Meta» من البادئات الشائعة الآن، في مرحلة ما بعد الحداثة. إذْ يرى رافال أن مصطلح «نقد النقد» هو إلى حدٍ كبير مرادف لمصطلح الفلسفة، وعندما ينهمك النقاد بالتحليل الفلسفي للنقد والنظرية النقدية فإنهم يقومون بعملية «نقد النقد».

ولذا فإن «نقد النقد» باختصار هو استقصاء حول فرضيات ومناهج النظريات النقدية وبالقضايا المتعلقة بالمواقف النقدية، ومنها فحص منطق البحث النقدي، بشكل خاص.

وفي مساجلة أخرى. يرى الناقد باري.أ. ويلسون في الموسوعة النظرية الأدبية أن «نقد النقد» في الاستعمال الراهن يقوم بفحص النظريات أو المداخل النقدية المؤدية إلى المعنى النصي، وعلاقات «المؤلف - النص - القارئ»، والمعايير التي ينبغي الحكم بها على النصوص والمنتجات الثقافية الأخرى، وأحياناً يُشار إلى «نقد النقد» بوصفه هرمنيوطيقا، أو بوصفه «ما وراء التفسير»، حيث تلعب قضايا التفسير دوراً رئيساً في «نقد النقد». ويرى الناقد أن من القضايا التي يقوم بها «نقد النقد» مسألة التركيز على المنهجية.

وظيفة النقد الأساسية هي محاولة وصف وتحليل وتقييم الأعمال والنصوص الإبداعية

ويذهب الناقد إلى أن أصول نقد النقد ترجع إلى الفكر اليوناني القديم، وابتدأ في زمن كان يتم فيه التشكيك في العقيدة الأولمبية التقليدية، أو نصوصها الداعمة مثل أشعار هوميروس وهسيود. وكان أفلاطون قد رفض في كتابه «الجمهورية» الكثير من الأدب اليوناني من زاوية نظر شبه أخلاقية وقيمية.

ويرى الناقد بري.ا. ويلسون أن المدخل الهرمنيوطيقي لنقد النقد، يؤكد تعدد التفسيرات بالنسبة للمفسرين، وعلى وفق المرحلة التاريخية التي يعيشون فيها.

وتذهب موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة إلى أن «نقد النقد» هو خطاب نظري عن طبيعة وغايات النقد الأدبي، وأن مهمته هي الفحص النقدي للنقد، ومصطلحاته التقنية، وبنيته المنطقية، ومبادئه وافتراضاته الأساسية، وما يستتبع ذلك بنطاق أوسع، لخلق نظرية ثقافية.

وكما أشرنا تواً فإن أصول «نقد النقد» ترجع إلى الفكر اليوناني، عندما رفض أفلاطون في كتابه «الجمهورية» كثيراً من الأدب اليوناني الكلاسيكي.

وإذا ما كانت اتجاهات ما بعد الحداثة قد أبدت اهتماماً خاصاً بمفهوم نقد النقد، فإنها حاولت أن تضفي عليه مسحة فلسفية بسبب تركيزه على تفكيك الماهيات، وهو ما دفعنا في قراءتنا الحالية إلى تبني المقاربات التي تتعامل مع نقد النقد بوصفه خطاباً فلسفياً.


مقالات ذات صلة

محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف

ثقافة وفنون محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف

محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف

لأول مرة، يجمع عمل واحد كل ما قاله نجيب محفوظ حول أسرار فن الكتابة لديه وطقوس الإبداع، من واقع تجربته العملية الخاصة،

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون حاجتنا إلى الفن

حاجتنا إلى الفن

لا توجد لحظة أفضل للتأمل في معنى الفن وحاجتنا إليه من لحظة غيابه الكامل عن جهاتنا الحسيّة، عندما تجلس وحيداً في صمت،

خالد الغنامي
ثقافة وفنون رواية تمزج تقاليد الأدب الروسي بالحداثة الفرنسية

رواية تمزج تقاليد الأدب الروسي بالحداثة الفرنسية

تتميز تجربة الكاتب جايتو جازدانوف «1903 - 1971» بسمات وخصائص عدة فريدة من نوعها، فهي تمزج تقاليد الأدب الروسي العريقة بالحداثة الفرنسية،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون الكلاسيكيات الروائية: رؤية شخصية

الكلاسيكيات الروائية: رؤية شخصية

لو وُجِد دوستويفسكي أو تولستوي أو ملفيل أو ستاندال أو جين أوستن في عصرنا هذا فهل كانوا سيكتبون روائعهم الروائية بالطريقة ذاتها التي جعلت منها كلاسيكيات عظيمة؟

لطفية الدليمي
ثقافة وفنون وليم جيمس مدافعاً عن الفلسفة

وليم جيمس مدافعاً عن الفلسفة

عن دار «أقلام عربية» في القاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «بعض مشكلات الفلسفة» للمفكر وعالم النفس الأمريكي الشهير وليم جيمس (1842 – 1910)

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف

محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف
TT

محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف

محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف

لأول مرة، يجمع عمل واحد كل ما قاله نجيب محفوظ حول أسرار فن الكتابة لديه وطقوس الإبداع، من واقع تجربته العملية الخاصة، وهو ما يوضح أهمية كتاب «نجيب محفوظ– عن الكتابة» الصادر عن دار «الكرمة» بالقاهرة، للباحث عمرو فتحي.

في هذا الكتاب، يتحدث أديب «نوبل» عن علاقته بمؤثرات خارجية وداخلية تؤثر على الكتابة لديه، مثل الحالة المزاجية، والموسيقى، وفصل الخريف، وكذلك الإلهام، وهل يخضع له أم لا؟ ومتى يعرف أن الموضوع الذي خطر بباله يستحق الكتابة؟ وما الفارق بين كتابة الرواية والقصة القصيرة؟ وهل يشغل نفسه أثناء الكتابة بتساؤلات وجودية؟ مثل: «هل يُكتب لهذا النص الخلود؟».

يتضمن الكتاب إجابات شافية عن كثير من علامات الاستفهام في هذا السياق التي تكشف عن خفايا وكواليس الإنتاج الإبداعي لعميد الرواية العربية، والأب المؤسس لهذا الفن السردي في ثقافتنا.

يقول محفوظ إنه كتب أغلب أعماله وهو في «دوامة انفعال نفسي وفكري»، فهو لا يحب أن يكتب شيئاً وهو في ظروفه الفكرية الهادئة، فالأحداث والأنباء تثير الأفكار، وبوصفه كاتباً يضع نصب عينيه ألا يتخلف عن الحياة، ويسعى لأن يعايش حياة الناس حوله، ليستشف من وجوههم فهمه لواقعهم، لأسلوب حياتهم، لأفراحهم وأحزانهم وكل قيم وجودهم حتى يصورها ويعبر عنها.

ويشير إلى أنه أحياناً يكون قد مر على الفكرة عام أو عامان دون أن يمسك بالقلم، حتى إذا وصل إلى مرحلة التنفيذ فإن المسألة تتحول إلى عمل يجب أن يُنجز، ولن ينجز إلا بالإرادة والصبر، فهو لا يعرف «دلال الإلهام»، وإنما يعرف أن عليه أن يجلس إلى مكتبه كل يوم ساعة أو ساعتين، حتى يفرغ من الرواية في عام أو عامين.

إنه يكتب الموضوع كتابة أولى غير متمهلة وشبه عفوية، ولكنه لا يبدأ الكتابة إلا بعد اختمار الفكرة في نفسه وكذلك الشخوص، ثم يشرع في كتابتها بتأنٍّ من أولها إلى آخرها. وفي الكتابة الثانية يتغير النص تغيراً كبيراً، ولكن الفكرة لا يصيبها التغيير إلا في أضيق الحدود.

ويوضح أنه عبر تجربته الممتدة، مرت عليه فترة لم يكن يبدأ في كتابة الرواية إلا بعد أن يعايش أحداثها مدة طويلة، إلى أن تتبلور الفكرة تبلوراً نهائياً في ذهنه، بعد أن يكون قد تحدث إلى أشخاص كثيرين، بوصفه نوعاً من البحث وجمع المعلومات واستقراء الأحداث، وعندها يبدأ في الكتابة من منظور واقعي بحت.

وفي فترة أخرى، كان يكتب نصوصاً مدفوعاً بحالة ذهنية، فيشرع في تأليف العمل وليس في ذهنه سوى زاوية صغيرة أو فكرة معينة غامضة، ويترك للقلم أن يتدفق ويسيل عبر توارد الأفكار لاحقاً.

وفي أحيان ثالثة، كان يكتب انطلاقاً من «اللاشيء» بمعنى أنه لا توجد في ذهنه أي فكرة على الإطلاق، سوى الرغبة في الكتابة.

ويرى محفوظ أن عملية الكتابة في حد ذاتها هي فعل متفائل؛ لأنها تؤكد أن الكاتب يعتقد أن العالم رغم كل ما به من مآسٍ يمكن أن يكون أفضل مما هو عليه، وهذا يقودنا إلى أن الكتابة مسؤولية، فلا بد من أن ينطوي النص على ابتكار جديد، وإلا فهو لا يستحق أن يكون عملاً فنياً. والقارئ لا يريد أن يطالع ما سبق أن كتبه الآخرون.

الخلود والسجائر

وعما إذا كان يشغل نفسه بمسألة الخلود الأدبي، يتساءل محفوظ: ولكن ماذا يعني الخلود أصلاً؟ مائة سنة؟ عدة مئات من السنين؟ وماذا تكون تلك الفترة البسيطة إذا قورنت بتاريخ الوجود الإنساني؟ الحقيقة أن أي كاتب يتمنى أن يبقى إنتاجه؛ لكنه لم يشغل نفسه قط بموضوع الخلود أو يفكر فيه أو يتصوره، بالعكس هو دائماً خائف من الموت، ولذلك كتب عنه كثيراً؛ لأن الكتابة عن الشيء تحرر الإنسان من مخاوفه، على حد تعبيره.

ونتيجة انقسام حياته بين الوظيفة والأدب، اقتضى الأمر من محفوظ إخضاعها لنظام دقيق، حتى يتسنى له دائماً وبصفة مستمرة مواصلة الكتابة. ولظروف خاصة وحتمية، اقتصر موسم عمله الأدبي على الفترة ما بين أكتوبر (تشرين الأول) وأبريل (نيسان) من كل عام. ولم يعد ذلك خسارة مطلقاً؛ إذ أخذ من أشهر مايو (أيار) ويونيو (حزيران) ويوليو (تموز) وأغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول) راحة نسبية، واختلاطاً بالناس والأماكن، فنضجت خبرته بالمكان الضيق الوحيد الذي عاشره على ظهر الأرض، وهو القاهرة.

ومر محفوظ إبداعياً بثلاث مراحل، هي: مرحلة «الوظيفة»، ومرحلة «ما بعد التقاعد»، ومرحلة «ما بعد جائزة نوبل». في مرحلة الوظيفة كان يفرغ من عمله في الثانية ظهراً، ويعود إلى البيت لتناول الغداء، ثم يستريح بعض الوقت عبر نوم القيلولة، ثم يجلس على مكتبه عندما تدق الساعة الرابعة، ويبدأ في الكتابة أولاً لمدة 3 ساعات، ثم تليها 3 ساعات أخرى للقراءات المتنوعة. وفي هذه المرحلة كان يمنح نفسه إجازة من الأدب، يومي الخميس والجمعة.

يقول محفوظ: «لم يكن جلوسي اليومي للكتابة بالأمر السهل؛ لأنه يقتضي أولاً أن يكون موضوع الكتابة قد اختمر في ذهني، وكان هذا الأمر يجعلني في حالة تفكير مستمر أثناء وجودي في الوظيفة، وفي أوقات العمل، وفي أثناء المشي، وحتى وقت تناول الطعام. وفي كل مرة تأتيني تفصيلة من جسم الرواية، وما الراوية إلا مجموعة تفاصيل صغيرة تتجمع وتكون العمل الروائي في صورته النهائية. في بعض الأحيان كنت أسجل بعض الملاحظات والأفكار العابرة التي تأتيني أثناء وجودي خارج المنزل في ورقة صغيرة حتى لا أنساها، وكنت أهتم بتسجيل هذه الملاحظات خلال فترة اهتمامي بالكتابة الواقعية. أجلس على المقهى مثلاً، فتجذب اهتمامي ملاحظات وتفاصيل صغيرة كانت تفيدني أثناء الكتابة».

ويوضح أنه إلى جانب السجائر، يحب أن تكون هناك خلفية موسيقية أثناء الكتابة، يجعلها في هامش الشعور ولا يلتفت إليها، ثم إنه لا يتناول أي مشروبات بما فيها الشاي والقهوة، ويدهشه ما يسمعه عن بعض الكتاب الذين يحرصون على تناول الخمر أو الحشيش حتى يهيئوا أنفسهم للكتابة، فعندما يمسك بالقلم لا بد من أن يكون في أقصى درجات الوعي والتركيز والانتباه، ثم إنه لا يستطيع الكتابة إلا على مكتبه في البيت، أما خارجه فلا يمكنه الإمساك بالقلم. وكل أعماله الروائية كتبها في البيت باستثناء السيناريوهات، فأغلبها قام بكتابته على المقهى، وذلك لأنها لا تحتاج إلى درجة التركيز نفسها التي تحتاجها الروايات.

وعندما خرج إلى المعاش وتقاعد، لم يختلف نظام الكتابة كثيراً. يذهب إلى المقهى مبكراً، ثم يعود ليبدأ الكتابة ولمدة 3 ساعات؛ حيث خصص فترة الصباح للكتابة. أما القراءة فكانت في فترة ما بعد الظهيرة حتى بدايات الليل. وقبل حصوله على جائزة نوبل أصيب بضمور في شبكية العين، ما جعل موضوع القراءة والكتابة من الأمور العسيرة والمرهقة، وسبَّب هذا الأمر له إزعاجاً شديداً وهدم النظام الذي سار عليه طيلة حياته؛ بل لم يعد هناك نظام أصلاً؛ حيث امتنع عن القراءة نهائياً، وأصبح أقصى مدة يجلس فيها إلى مكتبه لممارسة الكتابة ساعة واحدة في اليوم.

ويشير نجيب محفوظ إلى أنه أحب فصلَي الخريف والشتاء، وكان يجد نفسه مقبلاً على الدنيا أكثر في ذلك الوقت من السنة، بينما يتحمل الصيف بصبر، وكأنه يغالب حالة -وإن كانت خفيفة- من الاكتئاب، ويظل ينتظر حلول الشتاء التالي، ويجد نفسه مقبلاً على الكتابة وهو في حالة من الاشتياق.