تشهد العلاقات الفرنسية - الجزائرية حالياً مرحلة تهدئة، بعد أن بلغت ذروة التوتر الدبلوماسي أشهراً طويلة، لكن الأيام الأخيرة شهدت تبادل إشارات ورسائل رسمية بين باريس والجزائر تترجم رغبة مشتركة في استئناف الحوار، وفتح صفحة جديدة تتمحور حول تجاوز الخلافات، واعتماد مقاربة أكبر واقعية للعلاقات الثنائية.

بمناسبة الذكرى الـ71 لاندلاع الثورة الجزائرية في 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، وجّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رسالة تهنئة إلى نظيره الجزائري عبد المجيد تبون. ورغم أن هذه اللفتة تبدو بروتوكولية، فإنها تحمل رمزية كبيرة في ظل البرود الذي يسود علاقات الجزائر وباريس منذ أكثر من عام، عقب إعراب الجزائر عن سخطها من اعتراف باريس بمغربية الصحراء.
وفي هذه الرسالة التي نشرتها رئاسة الجمهورية الفرنسية، عبّر الرئيس ماكرون عن «أحرّ التهاني وأطيب الأماني لكل الشعب الجزائري»، وهي بادرة رمزية، لكنها ذات دلالة قوية، بعد شهور من توتر العلاقات بين البلدين، بلغ ذروته في أبريل (نيسان) الماضي، وذلك بتبادل طرد السفراء.
* تصعيد خطير
منذ بداية العام، شهدت العلاقات الثنائية تصعيداً خطيراً، تمثل في تعليق التبادلات السياسية رفيعة المستوى، واستدعاء السفراء، وذلك على خلفية تباينات بدأت بقضية الصحراء، قبل أن تمتد الأزمة لتشمل ملفات: «الذاكرة الاستعمارية» و«الهجرة»، ومعاملة الرعايا الجزائريين في فرنسا، ورفض السلطات الجزائرية استقبال رعاياها المرحّلين من الأراضي الفرنسية. كما نفخ اليمين الفرنسي؛ التقليدي والمتشدد، في هذه التوترات، بتمرير لائحة في البرلمان، يوم 31 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تطالب بنقض «اتفاق الهجرة» مع الجزائر.

وإلى هذه الملفات المعقدة أُضيفت «قضية محاولة اختطاف اليوتيوبر الجزائري اللاجئ في فرنسا، أمير بوخرص»، المحكوم عليه غيابياً في الجزائر، التي أثارت توترات جديدة، بعدما وجّه القضاء الفرنسي اتهامات في هذا الشأن، وسجن 3 موظفين من الممثلية الدبلوماسية الجزائرية لدى فرنسا، أحدهم مسؤول قنصلي في باريس.
حراك في الاتجاهين
غير أن الأسابيع الأخيرة شهدت مؤشرات صدرت عن أعلى السلطات الفرنسية، توحي برغبة في استئناف الحوار. فإلى جانب رسالة الرئيس ماكرون، عُدّت التصريحات الأخيرة من وزير الداخلية الفرنسي الجديد، لوران نونييز، الداعية إلى اتباع نهج أكبر واقعية واحتراماً تجاه الجزائر، بادرةَ تهدئة.

أما على الجانب الجزائري، فقد بدت الردود متزنة، ومتقبّلة الإشارات الآتية من باريس، حيث تعامل وزير الخارجية، أحمد عطاف، خلال مقابلة مع التلفزيون العمومي الجزائري، بحذر مع تصويت «الجمعية الوطنية» الفرنسية على قرار غير ملزم قدّمه حزب «التجمع الوطني»، (يمين متطرف)، يدعو إلى إلغاء «اتفاقيات 27 ديسمبر (كانون الأول) 1968»، المتعلقة بالتنقل والإقامة والعمل والتجارة، والدراسة في الجامعات و«لمّ الشمل العائلي» بالنسبة إلى الجزائريين في فرنسا. وعدّ عطاف أن هذا النص «لا يُلزم الدولة الفرنسية»، في إشارة واضحة إلى رغبة الجزائر في تجنب التصعيد واعتماد نهج التهدئة.

هذا الحراك المزدوج (مبادرة رئاسية من باريس ونبرة معتدلة من الجزائر) يعكس، في تقدير مراقبين للأزمة بين البلدين، بداية استعادة الاتصالات السياسية بعد فترة طويلة من التوتر. فالسياق الدولي، المطبوع بإعادة تشكل التوازنات الجيوسياسية في البحر الأبيض المتوسط ومنطقة الساحل، إضافة إلى المصالح المشتركة في مجالَي الطاقة والأمن، يدفعان باتجاه تسريع تطبيع العلاقات بين العاصمتين.
ومن الإشارات المشجعة أيضاً التصريحات الأخيرة من وزير الداخلية الفرنسي، لوران نونييز، الذي أقرّ بأن «سياسة التوتر ليست مجدية»، مؤكداً أن فرنسا بحاجة إلى استعادة الحوار الأمني، الذي سمح في وقت سابق بإحباط أعمال إرهابية في فرنسا، وفق ما قاله.
من جهته، أكد الوزير الأول الفرنسي، سيباستيان لوكورنو، الثلاثاء، في تصريحات صحافية، معارضته إلغاء اتفاق الهجرة، الذي فقد كثيراً من مضمونه بفعل التعديلات المختلفة التي أُدخلت عليه، لكنه عبّر عن رغبته في «إعادة التفاوض بشأنه سريعاً» مع الجزائر.
* استئناف الحوار مع الجزائر
قال لوكورنو في تصريحات صحافية: «في الجوهر، لا أؤمن بإلغاء هذا الاتفاق، بل بإعادة التفاوض بشأنه»، مشيراً إلى أن النص خضع سابقاً لثلاث مراجعات؛ بينها اثنتان أجرتهما حكومات يسارية؛ وفقه.
وأوضح لوكورنو أن هذا الاتفاق أصبح «متجاوزاً في جوانب كثيرة مقارنة بتطلعات الطرفين»، مذكراً بأن الجزائر وباريس اتفقتا على مراجعته عام 2022 خلال اجتماع «اللجنة الحكومية رفيعة المستوى الفرنسية - الجزائرية»، لكن العملية توقفت بسبب الأزمات التي نشبت بين البلدين منذ ذلك الحين، وفق تصريحات لوكورنو.

كما قال لوكورنو: «تجب إعادة هذا الملف إلى طاولة المفاوضات، ولكن أيضاً الانطلاق من مصالحنا المشتركة الأوسع»، مبرزاً أن العلاقة بالجزائر «لا تقتصر على مسألة الهجرة فقط»، في إشارة إلى ملفات أخرى مثل «مكافحة الإرهاب والتعاون الأمني، وتصاعد تهديدات الإرهاب بمنطقة الساحل، وأمن الملاحة، والقضايا الاقتصادية».
وفي تقدير الوزير الأول الفرنسي، «فقد حان الوقت لاعتماد مقاربة أوسع شمولية في العلاقة بين فرنسا والجزائر، تقوم على احترام السيادة الجزائرية»، مبرزاً أن إعادة التفاوض بشأن «اتفاق عام 1968»؛ «يجب أن تبدأ في أقرب وقت ممكن»، ولفت إلى أن وزراء الخارجية والداخلية والدفاع كُلّفوا وضع جدول زمني لاستئناف الحوار مع الجزائر.
ويرى قطاع من الملاحظين أن المرحلة الراهنة قد تمثل منعطفاً مهماً في مسار العلاقات الجزائرية - الفرنسية، فيما عدّها آخرون مجرد هدنة دبلوماسية مؤقتة فرضتها الحاجة إلى تهدئة التوتر. كما تُجمع غالبية التحليلات على أن رسالة الرئيس الفرنسي بمناسبة «ثورة الاستقلال» تعكس رغبة باريس في إعادة فتح قنوات الحوار على أسس براغماتية، في حين تبدي الجزائر انفتاحاً حذراً دون المساس بثوابتها.

ومع تصويت «مجلس الأمن» على القرار المتعلق بالصحراء (31 أكتوبر 2025)، يذهب تيار آخر من المراقبين إلى أن الظروف باتت مواتية لغلبة المنطق الدبلوماسي على المشهد العام للعلاقات بين العاصمتين.




