هل يعمّق تنقيب تركيا عن النفط الخلافات الليبية الداخلية؟

بعد إعلان تلقيها عرضاً من حكومة طرابلس لاستكشافات جديدة

خطوط الأنابيب ورصيف التحميل بميناء مرسى الحريقة النفطي في مدينة طبرق شرق طرابلس بليبيا (رويترز)
خطوط الأنابيب ورصيف التحميل بميناء مرسى الحريقة النفطي في مدينة طبرق شرق طرابلس بليبيا (رويترز)
TT

هل يعمّق تنقيب تركيا عن النفط الخلافات الليبية الداخلية؟

خطوط الأنابيب ورصيف التحميل بميناء مرسى الحريقة النفطي في مدينة طبرق شرق طرابلس بليبيا (رويترز)
خطوط الأنابيب ورصيف التحميل بميناء مرسى الحريقة النفطي في مدينة طبرق شرق طرابلس بليبيا (رويترز)

دفع حديث تركي يتعلق بالتنقيب عن النفط الليبي بالبحر المتوسط، هذا الملف إلى واجهة الأحداث في البلد المنقسم سياسياً، يأتي ذلك في ظل سعي أنقرة والقاهرة لإعادة تشغيل النفط المُعطل.

وسبق لوزير الطاقة التركي، ألب أرسلان بيرقدار، القول الأسبوع الماضي، إن أنقرة «مهتمة» بعرض من طرابلس للتنقيب عن الطاقة قبالة سواحل ليبيا، الأمر الذي يجدد التساؤل حول موقف جبهة شرق البلاد، التي سبق أن عارضت هذا التوجه.

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ورئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة أبريل 2021 (إ.ب.أ)

وأبرمت سلطات طرابلس مع أنقرة اتفاقية لترسيم الحدود البحرية في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2019، أثارت حينها خلافاً مع مصر واليونان. وفي 2022، وقعت أنقرة وطرابلس اتفاقاً مبدئياً بشأن استكشاف الطاقة، وقبول ذلك بمعارضة من القاهرة وأثينا أيضاً.

وفي أول رد فعل على تصريحات الوزير التركي، قال ميلود الأسود، عضو لجنة الطاقة بمجلس النواب الليبي، إن «استخدام الموارد الوطنية، خصوصاً النفط، ورقة سياسية لصالح أي طرف من أجل البقاء في السلطة أو الحصول على الدعم الدولي، أمر مرفوض قطعاً».

ومن دون أن يأتي النائب البرلماني، على ذكر سلطات طرابلس، التي أبرمت الاتفاق السابق، قال في حديث إلى «الشرق الأوسط» الاثنين، إن ليبيا «بحاجة إلى الخبرات العالمية في مجال التنقيب عن النفط والغاز براً وبحراً، وبحاجة إلى تطوير مواردها النفطية والرفع من الطاقة الإنتاجية»، لكنه شدد على «عدم الإخلال بالقوانين، مع ضرورة تحقيق مصلحة ليبيا».

ميلود الأسود عضو لجنة الطاقة بمجلس النواب الليبي (الشرق الأوسط)

وتتنافس حكومتان على السلطة في ليبيا راهناً؛ الأولى هي «الوحدة» التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة، والثانية يقودها أسامة حمّاد بشرق ليبيا. ويسود خلاف بينهما بشأن «إبرام الصفقات» من دون موافقة مجلس النواب. وينظر إلى هذا الإعلان التركي بشأن التنقيب على أنه قد «يزيد الخلاف» بين جبهتي شرق ليبيا وغربها، علماً بأن غالبية الحقوق النفطية مغلقة إثر صراع على إدارة «المصرف المركزي».

وهنا، يربط سياسي مقرب من حكومة شرق ليبيا، تصريح الوزير التركي بالتقارب الحاصل بين أنقرة والقاهرة، وتُرجم ذلك مؤخراً بتبادل الزيارات الرسمية بين الرئيسين رجب طيب إردوغان، وعبد الفتاح السيسي، مذكراً باعتراض مصر السابق على توقيع طرابلس وأنقرة اتفاقية لترسيم الحدود البحرية.

ويرى السياسي الليبي - الذي رفض ذكر اسمه، أن «التوافقات السياسية بين الجانبين احتوت مثل هذه الخلافات في إطار المصالح المشتركة بينهما»، لكنه لمح إلى رفض حكومة حمّاد «أي اتفاقيات أو قرارات تتخذها سلطات طرابلس بعيداً عن البرلمان تتيح لتركيا التنقيب عن النفط في ليبيا».

حقل «الشرارة» النفطي في جنوب ليبيا (الاتحاد العام لعمال النفط والغاز)

وأمام ما تعانيه ليبيا من انقسام سياسي وعدم وجود سلطة موحدة، يرى عضو لجنة الطاقة البرلمانية أن الظروف السياسية والأمنية التي تمر بها بلاده «جعلتها في موقف تفاوضي ضعيف أمام شركات عالمية»، كما تحدث عن دول «تسعى بكل جهدها لاستغلال هذا الوضع للحصول على عقود طويلة الأجل بشروط هزيلة لا تحقق مصلحة ليبيا»، دون إشارة إلى تلك الدول.

وتابع: «لهذا السبب، أصدر مجلس النواب القرار رقم (15) لسنة 2023 بمنع المساس بالثروات السيادية إلى حين انتخاب حكومة من الشعب الليبي».

وسبق للرئيس التركي القول في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، إن بلاده ستبدأ استكشاف النفط والغاز في المياه الليبية، بموجب مذكرة تفاهم تم توقيعها مع رئيس حكومة «الوفاق الوطني» السابقة، برئاسة فائز السراج في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019.

وكانت تركيا ومصر على جانبين متعارضين في الحرب التي شنها «الجيش الوطني» على طرابلس عام 2019، لكن تركيا زادت مؤخراً اتصالاتها مع سلطات بنغازي، وتسعى إلى إعادة تشغيل قنصليتها المغلقة هناك.

ويتوقع الدكتور صقر الجيباني أستاذ الاقتصاد في جامعة درنة، أن ينعكس التقارب المصري - التركي «إيجابياً» على الأوضاع السياسية والاقتصادية بليبيا، «في ظل ما نسمع به من صفقات» في مجال النفط، ويقول لـ«الشرق الأوسط» إن هذه التفاهمات «سيكون لها مردود على العلاقات الداخلية الإقليمية، على عكس التوتر الذي كان سائداً بينهما».

وكان الاتفاق البحري السابق الموقع بين طرابلس وأنقرة أكد حقوق الأخيرة في مناطق واسعة بشرق البحر المتوسط، الأمر الذي أثار حينها استياء اليونان والاتحاد الأوروبي أيضاً.

وتطرق الأسود إلى «التعاقدات المباشرة» في مجال النفط، وذهب إلى أنها «سياسة انتهجتها المؤسسة الوطنية للنفط بضغوط من حكومة الدبيبة».

ويرى أنه «إذا كانت هناك حاجة للتطوير النفطي أو الغازي، فالأولى أن يكون بعطاء مفتوح وفق القوانين؛ ولو كانت هناك ضرورة لعطاء مباشرة في حالة محددة، فعلى المؤسسة مخاطبة مجلس النواب لتوضيح الأمر لتحصل على استثناء من قرار المنع».

وتسببت النزاعات حول التنقيب عن الطاقة في توتر العلاقات بين أنقرة وأثينا والاتحاد الأوروبي، لكن العلاقات تحسنت في السنوات القليلة الماضية مع انحسار التوتر.

ليبيون غاضبون يغلقون حقل «108» النفطي في منتصف يوليو 2023 (جهاز حرس المنشآت النفطية بالجنوب الشرقي)

وانتهى عضو لجنة الطاقة إلى أن مجلسه «لن يكون ضد مصلحة ليبيا، شرط أن تكون العقود مدروسة وعادلة وتحقق مصلحة ليبيا».

ويشار إلى أن تركيا ومصر تسعيان راهناً للضغط على حكومتي «الوحدة الوطنية» المؤقتة، والمكلفة من مجلس النواب، للتوصل إلى اتفاق ينهي حصار تصدير النفط في ليبيا، وفق وكالة «بلومبرغ» الاقتصادية.

وأقدمت حكومة حمّاد على وقف إنتاج وتصدير النفط الليبي، رداً على تعيين «المجلس الرئاسي» بقيادة محمد المنفي، إدارة ومحافظ جديدين لـ«المصرف المركزي» خلفاً للصديق الكبير وإدارته.


مقالات ذات صلة

سلطات ليبيا المنقسمة لاحتواء تداعيات السيول بالجنوب

شمال افريقيا جسر جوي خصصه «الجيش الوطني» الليبي لنقل مساعدات إلى مناطق السيول بجنوب البلاد (القوات البرية)

سلطات ليبيا المنقسمة لاحتواء تداعيات السيول بالجنوب

وسط غياب التنسيق بينها، تعمل السلطات الليبية على تقديم المساعدات العاجلة لسكان المناطق المنكوبة بالسيول جراء الأمطار الغزيرة في جنوب البلاد.

خالد محمود (القاهرة)
شمال افريقيا الإدارة الجديدة لمصرف ليبيا المركزي (المصرف)

ليبيا: إطالة مفاوضات أزمة «المركزي» تزيد الضغوط على سلطات طرابلس

يشير سياسيون ليبيون إلى أنه مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية «المحتملة» بسبب إغلاق النفط، فإن شرائح اجتماعية قد تحمّل سلطات طرابلس المسؤولية بسبب أزمة «المركزي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا سوء طقس الصيف «يراوغ» ليبيا... وجنوبها الأكثر تضرراً

سوء طقس الصيف «يراوغ» ليبيا... وجنوبها الأكثر تضرراً

تداهم موجات من الطقس السيئ ليبيا منذ بدايات أشهر الصيف، مخلفة آثاراً تدميرية بفعل الأمطار الغزيرة والسيول التي توصف بأنها «غير مسبوقة»، خصوصاً على مدن الجنوب.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا وزير الخارجية التونسي خلال اجتماعه مع القائمة بأعمال رئيس البعثة الأممية في ليبيا (وزير الخارجية التونسي)

«المركزي» الليبي يعلن «تصفير» الدين العام... والمحافظ السابق يدّعي عودته

ادّعى المحافظ السابق لمصرف ليبيا المركزي، الصديق الكبير، أنه «متأكد من رجوعه مجدّداً إلى ممارسة عمله في المصرف».

خالد محمود (القاهرة)
شمال افريقيا موسى المقريف وزير التربية بحكومة الوحدة الوطنية الليبية المؤقتة (الوزارة)

ليبيا تستعد للعام الدراسي وسط تحديات اقتصادية وسياسية

ينطلق العام الدراسي الجديد بليبيا في 17 سبتمبر (أيلول) الحالي، وسط تحديات سياسية واقتصادية تعاني منها البلاد، وشكاوى مواطنين من ارتفاع أسعار السلع.

جاكلين زاهر (القاهرة)

السودان: تعليم في «وضع أليم» بسبب الحرب... 17 مليوناً خارج المدارس وخسائر 27 مليار دولار

أطفال  السودان ضحايا حرب وجوع وهجرات وانتكاسات (رويترز)
أطفال السودان ضحايا حرب وجوع وهجرات وانتكاسات (رويترز)
TT

السودان: تعليم في «وضع أليم» بسبب الحرب... 17 مليوناً خارج المدارس وخسائر 27 مليار دولار

أطفال  السودان ضحايا حرب وجوع وهجرات وانتكاسات (رويترز)
أطفال السودان ضحايا حرب وجوع وهجرات وانتكاسات (رويترز)

ألقت الحرب المتطاولة في السودان بظلال قاتمة على العملية التعليمية، قد تمتد تأثيراتها «السلبية» أكثر من عقد زماني، بعد أن ضاع أكثر من عام دراسي لما يزيد على 90 في المائة من الأطفال في البلاد، وعددهم 19 مليوناً في سن الدراسة، و17 مليوناً منهم خارج المدارس حالياً، بينهم 7 ملايين خارج النظام التعليمي قبل الحرب، مما جعل البلاد تعاني «أسوأ أزمات التعليم في العالم»، كما وصفتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسيف».

لم يتأثر «الأطفال» وحدهم بالحرب، بل تأثر «المعلمون والمدارس وبنية التعليم في البلاد». فبعد توقف الدراسة وإغلاق المدارس، توقف صرف «راتب المعلم»، وكاد قرابة نصف مليون مدرس يتحولون وأسرهم إلى «متسولين»، بعضهم هجر مهنة التعليم -ربما إلى الأبد- واختار مهنة أو «حرفة» بديلة، بينما لجأ آخرون إلى بلدان الجوار وقد لا يعودون، فيما دُمرت آلاف المدراس والمنشآت التعليمية، وتحولت الآلاف منها إلى ملاجئ لإيواء النازحين.

من أحد الصفوف في أوغندا (الشرق الأوسط)

كانت الطالبة بشاير تُعدّ نفسها لدخول الجامعة، لأنها في السنة النهائية من المرحلة «الثانوية» في مدراس «وقف المعارف التركية الثانوية بالخرطوم»، وحين اندلعت الحرب تراجعت طموحاتها وأحلامها، وانتهى بها الأمر نازحةً مع أسرتها إلى مدينة كوستي بوسط البلاد.

قالت لـ«الشرق الأوسط»: «كنت أستعد مثل أي طالبة لتحقيق حلم طفولتي بدخول الجامعة، ودراسة التخصص الذي أعددت نفسي له، لكن الحرب اندلعت فانهارت كل هذه الأحلام، حاولت كثيراً الالتحاق بالدراسة في تركيا ولم أوفَّق».

وتتابع: «انتهى بنا الحال نازحين إلى مدينة جديدة، نعيش ظروفاً قاسية وصعبة، لكننا مضطرون إلى التعايش مع الواقع، وننتظر نهاية الحرب لنعود إلى مدارسنا، ونعوّض ما فاتنا، رغم أن الزمن الذي ضاع من أعمارنا لا يعوّض، ولكن الحمد لله».

ويشعر والد بشاير، المهندس أحمد عبيد الله، بالتقصير تجاه أبنائه، لأنه أصبح بلا حيلة، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «كأبٍ أحسّ بالتقصير تجاه أبنائي، بعضهم في الأساس، وآخرون في الجامعات، ولا أستطيع أن أفعل لهم شيئاً». ويتابع: «خياراتنا كآباء تجاه مستقبل أطفالنا صفرية، فنحن غير قادرين على تعليمهم في دول أخرى... لا خيار لنا إلا الانتظار».

ومدينة كوستي التي تقيم بها أسرة المهندس عبيد الله، تعد من المدن الآمنة نسبياً، فهي من بين المناطق التي يسيطر عليها الجيش، لكنها تعاني تدفقات أعداد كبيرة من النازحين، الذين تمت استضافتهم في مدارسها، إضافةً إلى أنها من المناطق التي تعاني الحصار الذي تفرضه عليها «قوات الدعم السريع».

أطفال لاجئون

ربما تكون الطفلة «سعاد» التي يقيم والدها في مناطق خطرة، أكثر حظاً من سابقتها «بشاير»، فهي تتلقى دروسها الآن في مدرسة بدولة أوغندا، لكنها لا تزال تعاني صدمة نفسية (تروما)؛ فالحرب لاحقتها مرتين: الأولى عندما كانت تتعلم في مدرسة «خاصة» في الخرطوم فتطايرت أولى شظايا الحرب في مدرستها، ولولا اللطف لكانت في عداد الموتى، ولاحقها صوت الحرب إلى منزلها القريب من المواجهات. والأخرى عندما نزحت هي وأسرتها جنوباً إلى مدينة ود مدني بولاية الجزيرة الآمنة وقتها، وهناك واصلت في مدرسة جديدة، فاستعادت بعض توازنها، لكنّ الحرب لحقت بها، وسقطت مدينتها الجديدة بيد «قوات الدعم السريع» في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فاضطرت أسرتها إلى الفرار لاجئةً إلى دولة أوغندا التي استضافت أمثالها برحابة.

تلامذة سودانيون في اليوم الأول من العام الدراسي الجديد في بورتسودان (أ.ف.ب)

تصف مدرستها «الأوغندية» بأنها أفضل من كل مدارسها السابقة، وتداعب أمها: «تاني أنا ما راجعة السودان حتى لو وقفت الحرب»، وتتابع في حديثها للصحيفة: «لو رجعنا السودان من يضمن لنا مدرسة آمنة، ومن يضمن أنهم لن يقتلونا، أو يقتلوا أبي أو أمي أو إخوتي».

آلاف مثل «سعاد» شرّدتهم الحرب وحوَّلتهم إلى «لاجئين» في بلد «غريب»، وتعليم مختلف يجهدون أنفسهم للتعايش معه، لكن على الأقل هم «محظوظون» لأن أسرهم استطاعت أن توفر لهم تعليماً بديلاً.

مأساة المعلم

لم تصب الحرب الأطفال وحدهم، بل تحولت إلى مأساة للمعلمين؛ إذ فقدوا وظائفهم وأوقفت السلطات رواتبهم، وحوَّلتها لإذكاء نار الحرب.

ويقول «سيد عبد الرحمن»، وهو معلم بمدينة كسلا الشرقية التي لا تزال بعيدة عن القتال، لكن الحرب وصلت إليها مع مئات آلاف النازحين، إن المصلين في «مسجد الخيرات» وسط سوق المدينة فوجئوا برجل يعرِّف نفسه بأنه «معلم»، يشكو للمصلين «ضعفه وهوانه وعجزه»، فأبكى المصلين. وتابع: «أن يتسول المعلم في بلدي، فإن هذا لأمر جلل».

ويتابع المعلم الشهير باسم «تمبة» في سرد مأساة المعلمين بمدينته بقوله: «في 13 مايو (أيار) الماضي، ذهب صديقي المعلم تاج الدين لأداء الصلاة بمسجد الثورة، فوقف معلم آخر يسأل الناس، فتسمر المصلون في أماكنهم، وأحاطوا به مستنكرين ومشككين في أن يتسول معلم، ظناً أنه محتال ومعتاد تسول، لكن يا للفاجعة اتضح لهم أنه حقاً معلم».

من داخل أحد الصفوف بمدرسة «الوحدة» في بورتسودان (أ.ف.ب)

ووفقاً لمنشوره على منصة «فيسبوك» قال «تمبة»: «تحجَّر الدمع في مقلتيَّ، واقشعرَّ بدني من هول المشهد، وليس مَن شاهد كمَن سمع، فلتبكِ على المعلمين البواكي، ولتغلق وزارة التربية أبوابها، ولتنكِّس إدارات التعليم أعلامها حداداً، فالمعلم في بلدي دفعته الحاجة ليتسول».

وبإلحاح ينتظر المعلمون «جوعى» رواتبهم التي ذهبت لتمويل القتل والحرب وصناعة المأساة السودانية، بينما ترنو خرائب المدارس التي دمَّرتها القذائف أو اتخذها المتحاربون ثكنات، أو تحولت لمعسكرات نزوح لمن يقيل عثرتها.

يقول المتحدث باسم «لجنة المعلمين»، (نقابة تسييرية)، سامي الباقر، في تصريح خاص لـ«الشرق الأوسط»، إن 240 ألف معلم من العاملين بالتعليم في السودان لم يحصلوا طوال الحرب على أكثر من راتب شهر أو شهرين في الحد الأعلى، عدا ولاية البحر الأحمر، أما ولاية نهر النيل فصرفت مرتبات بين تسعة وعشرة أشهر، وصرفت الولاية الشمالية رواتب سبعة أشهر، وهي الولايات التي تعد آمنة نسبياً.

ويتراوح صرف المرتبات بين راتب شهر وثلاثة، أو عدم الصرف في المناطق المتأثرة مباشرةً بالحرب. ويؤكد الباقر: «لم يحصل المعلمون في غرب دارفور على مرتباتهم منذ اندلاع الحرب، وصُرف لهم شهر في وسط دارفور، وثلاثة أشهر في ولاية الخرطوم، وشهران في ولاية الجزيرة، وفي بقية الولايات لم يزد الصرف على شهر واحد».

ويصف الباقر أوضاع المعلمين بـ«الكارثية» بقوله: «بعضهم اضطر لممارسة مهن بديلة، وبينهم من يعاني ويلات الحرب والنزوح من دون راتب، ليعجز عن تلبية احتياجات أسرته»، ويستطرد: «بعض المعلمين لجأوا إلى الجوار، ونزح آخرون، فيما يعاني المستقرون في الولايات التي تسمى آمنة، معاناة شديدة». ويتابع: «المعلمون أصلاً يعيشون تحت خط الفقر، فزادتهم الحرب فقراً على فقرهم، وترك ذلك تأثيرات اجتماعية عليهم وعلى أسرهم»... وحزيناً يقول الباقر: «هناك قصص يندى لها الجبين، ومشكلات اجتماعية كثيرة بسبب حجب المرتبات».

أعمدة الدخان في مناطق عدة بالعاصمة السودانية جراء قصف بالطيران (أرشيفية - رويترز)

وشُلَّت الحياة باندلاع الحرب يوم 15 أبريل (نيسان) 2023 تماماً، ووقع الشلل الكبير على «مؤسسات التعليم»، فأغلقت المدارس أبوابها، لكنَّ رئيس مجلس الوزراء المكلف عثمان حسين عثمان، أصدر قراراً في 7 اكتوبر (تشرين الأول) الماضي بإعادة فتح المدارس نهاية الشهر في الولايات التي تتيح ظروفها الأمنية ذلك.

لكنَّ القرار واجه تعقيدات عديدة، مثل المدارس التي استُخدمت مأوى للنازحين، والأخرى التي دُمرت ونُهبت مقتنياتها، ونزوح المعلمين وعدم صرف رواتبهم.

واشترطت لجنة المعلمين «صرف رواتب المعلمين أولاً»، لكنَّ المدارس في الولايات الواقعة تحت سيطرة الجيش: «نهر النيل، والبحر الأحمر، والشمالية، والقضارف، وكسلا، والنيل الأبيض، وبعض مناطق ولاية الخرطوم» عاودت العمل مجدداً.

تلاميذ يتجهون إلى مدرستهم في بورتسودان مع اليوم الأول لاستئناف العام الدراسي (أ.ف.ب)

وحذر المعلم والتربوي علي عبيد أبكر فضيل، ومدير المكتب التنفيذي للجنة المعلمين، من عودة الأمية من جديد للبلاد، بقوله لـ«الشرق الأوسط»: «توجد دفعتان من الأطفال في سن التمدرس خارج المدارس، ودفعتان في الصفوف حتى الثالث الأساس، سيعودون أميين، مما يهدد بارتفاع نسبة الأمية في السودان»، وتابع: «عودة الأمية أكثر تهديد لمستقبل البلاد، ولاستثمارها في المستقبل».

لكنّ فضيل رأى أن «الفتح الجزئي للمدراس قرار خطير يهدد العملية التعليمية بكاملها، ويقسم البلاد إلى مناطق تعليم ومناطق من دون تعليم»، ويقول: «الدراسة مرتبطة بشهادات وامتحانات على المستوى القومي، والعملية التعليمية لا تقبل تجزئة الارتباطات القومية».

ووصف القرار بأنه «سياسي وليس تعليمياً» بقوله: «لا بد من خطط واضحة، تشارك فيها الجهات المختصة بالتعليم في أثناء الحروب، وفعل سياسي يوفر أمكنة ومسارات آمنة للتلميذ والمعلم، ومن دون هذه الخطط فإن القرار سيكون سياسياً ليوحي بأن الأوضاع مستقرة».

الأطفال الجنود

ووفقاً للخبير التربوي، فإن الأطفال النازحين لا يجدون فرصاً بالمدارس الحكومية، ولا يحتمل أولياء أمورهم تكاليف المدارس الخاصة الباهظة، وإن أعداداً كبيرة من الأطفال النازحين اضطروا للعمل لمساعدة أسرهم.

ويُحذر من تعرض الأطفال لاستقطاب الأطراف المتحاربة للقتال إلى جانبهم بقوله: «بعضهم يقاتل مع (قوات الدعم السريع)، والآخر مستنفَر مع الجيش، وصار مشهد الأطفال وهم يحملون البنادق مألوفاً».

أشخاص يسيرون على طول شارع يحمل آثار الدمار في أم درمان... السودان 27 أغسطس 2024 (د.ب.أ)

وأبدى فضيل تخوفه من انهيار النظام التعليمي بقوله: «النظام التعليمي في طريقه إلى الانهيار، بل هو انهار فعلياً، نتيجة هجرة الكفاءات وترك المهنة إلى مهن أخرى داخل وخارج البلاد».

مماطلة

لم يقف تأثير الحرب في النصف الثاني من عامها الثاني على التعليم، بل امتد إلى تهديد حياة آلاف الأطفال، وتقول «يونيسيف» إن نحو 72 في المائة من ضحايا الانتهاكات من قتل وتشويه وعنف جنسي وتجنيد، «هم أطفال»، وإن عشرات الآلاف منهم معرَّضون للموت جوعاً وبسوء التغذية.

وبينما تسوء أوضاع تعليم الأطفال من المناحي كافة، فإن سلطات التعليم لم تستجب لطلبات «الشرق الأوسط» تقديم المعلومات المتعلقة بوضع التعليم في «وضع أليم»، بل ماطلت في تقديمها متذرعةً بجمعها تارةً، وبتأخر ورودها تارةً أخرى، فبدت كأن الأمر لا يعنيها!

بدورها، أبدت المعلمة خالدة صابر، من مدرسة «سلوم بنين» بولاية البحر الأحمر، يأساً لافتاً، وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «المدارس تم تدميرها بالقصف الجوي والمدفعي وتحول بعضها لثكنات لجنود طرفي الصراع».

وفي ولاية البحر الأحمر، واجهت المدارس صعوبات جمة، فأغلبها تحوَّل إلى دور إيواء، لذلك يتناوب التلاميذ على المدرسة ثلاثة أيام في الأسبوع، وتابعت: «ثم عقدت السيول والفيضانات مواصلة الدراسة».

وتقول خالدة صابر التي عادت للصف في مايو (أيار) الماضي: «في أثناء التدريس لاحظت ضعف التحصيل، وكثرة الغياب، والميل للعنف الذي استخدم فيه الأطفال الأسلحة البيضاء».

وحذرت من «عودة الأمية» بين الأطفال في الفصول الأولى، ومن تسرب طلاب الفصول المتقدمة الذي يواجهون مخاطر التجييش والاستنفار، بقولها: «مستقبل التعليم على المحك».

امرأة وطفلها في مخيم «زمزم» للنازحين بالقرب من الفاشر شمال دارفور بالسودان خلال يناير 2024 (رويترز)

وخالدة صابر أُم لثلاث بنات أكبرهن في نهاية المرحلة الثانوية المؤهلة لدخول الجامعة، تقول عنها: «لم تتمكن من الجلوس للامتحانات، وصار مستقبلها مجهولاً أسوةً بأغلب تلاميذ السودان». وتتابع: «ابنتي الثانية في نهاية المرحلة المتوسطة، ولا نعرف ما مصيرها، وابنتي الصغرى -تعاني (متلازمة داون)– فلم نجد لها مدرسة، ونخشى عليها التنمر».

اضطرت صابر من أجل بناتها إلى اللجوء إلى دولة أوغندا، لكن الطفلات واجهن صعوبة اختلاف المنهج ولغة التدريس، بخاصة من هم في السنوات النهائية، وهو جزء من معاناة الأطفال اللاجئين في دول الجوار الأفريقي بشكل خاص.

أسوأ أزمة في العالم

وحذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسيف» من دخول وشيك لـ«جيل كامل» من الأطفال في أوج «الكارثة» التعليمية، ومن أسوأ أزمات التعليم على مستوى العالم.

وقال مسؤول برامج التعليم في المنظمة بالسودان دانييل باهيتا، لـ«الشرق الأوسط»، إن السودان يواجه «أكبر أزمة نزوح للأطفال في العالم» بنزوح خمسة ملايين طفل.

متطوع يوزّع الطعام على النازحين في أحد أحياء أم درمان بالسودان (أرشيفية - رويترز)

وأوضح، أن أكثر من 90 في المائة من أطفال البلاد، وعددهم 19 مليوناً في سن الدراسة، بينهم أكثر من 17 مليوناً خارج صفوف الدراسة، في واحدة من «أسوأ أزمات التعليم على مستوى العالم».

وقال إن هناك نحو 7 ملايين طفل كانوا خارج المدرسة بالفعل، لأن البلاد كانت تكافح الفقر وعدم الاستقرار، أُضيف إليهم من انتزعتهم الحرب من مدارسهم عنوةً. وذكر أن «الحرب أخرجت أكثر من 17 مليون طفل من المدارس، وألقت بهم في مناطق النزوح واللجوء، ليضافوا إلى 6.9 مليون طفل غادروا صفوف الدراسة قبل الحرب».

ووفق المنظمة الأممية، هناك 2600 مدرسة -أي نحو 13 في المائة من إجمالي المدارس في البلاد- تُستخدم دورَ إيواء، مما عقَّد الجهود الرامية لتوفير بيئات تعليمية آمنة ومستقرة.

مشهد من اليوم الأول لبدء العام الدراسي الجديد في إحدى مدارس بورتسودان (أ.ف.ب)

في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أي بعد ستة أشهر من القتال، أعلنت الحكومة إعادة فتح المدارس في الولايات الآمنة، لكن تنفيذ القرار واجه صعوبات عديدة. وهو ما فصّلته «يونيسيف» بأن 7 ولايات من أصل 18 ولاية أعادت فتح المدارس، وهي: «الشمالية، ونهر النيل، والبحر الأحمر، وكسلا، والقضارف، والنيل الأزرق، ثم سنار»، لكن بعض هذه المدارس أُغلق بسبب العطلة الصيفية في البحر الأحمر، والفيضانات وتفشي الأوبئة والأمراض في كسلا، كما أُغلقت مدارس بولاية «سنار».

فصول مكتظة

يقول باهيتا إن الولايات التي عاد أطفالها للمدراس تعاني من الاكتظاظ، مما يجعل الحفاظ على بيئة تعليمية مواتية تحدياً كبيراً»، ويتابع: «الأطفال النازحون والمجتمعات المضيفة بحاجة إلى دعم في مجالات الصحة العقلية، والدعم النفسي والاجتماعي، لأن أعداداً منهم تعرضوا للصدمات الناتجة عن الصراع».

وإزاء الاكتظاظ في الفصول الدراسية، أنشأت «يونيسيف» أكثر من 1500 مساحة تعلم آمنة، توفر فرصاً تعليمية لأكثر من 437 ألف طفل.

جانب من حملات سابقة في السودان للتطعيم ضد «شلل الأطفال» (الصحة السودانية)

وتصف «يونيسيف» وضع الأطفال غير القادرين على الوصول إلى التعليم، بأنه «الأكثر خطورة»، مشيرةً إلى أنها تعمل مع شركائها لإيجاد أماكن تعلم آمنة بعدة سبل، من بينها منصة «جواز السفر التعليمي»، وهي منصة رقمية تعتمد التعليم من بُعد، و«تسمح للأطفال بمواصلة تعليمهم حتى عندما ينقطع وصولهم إلى المدارس المادية»، وتوفر لنحو 48 ألف طفل مواصلة تعليمهم من بُعد.

ودعت «يونيسيف» لإعادة فتح المدارس بالكامل لضمان استمرارية التعلم، ودعم الصحة العقلية للأطفال، وتوفير فرص اللعب والشفاء جنباً إلى جنب مع أقرانهم. ويقول باهيتا: «التعليم أمر بالغ الأهمية لنمو الأطفال ورفاهيتهم وآفاقهم على المدى الطويل، لذلك فإن إعادة الفتح الكامل أمر ضروري، لضمان عدم تخلف أي طفل عن حقه في التعلم والازدهار».

وتقدر المنظمة الخسائر الاقتصادية الناجمة عن وقف التعلم مدى الحياة لجيل الأطفال الذين تعرضوا للحرب، بأكثر من 27 مليار دولار أميركي، وتنوه إلى أن «عدم اتخاذ إجراءات عاجلة، سيضيع أجيالاً»... ويتابع باهيتا: «الوصول للتعليم أمر ضروري لاستقرار السودان وتطوره في المستقبل».