هل ستختفي «الأونروا» من حياة اللاجئين الفلسطينيين مع «انهيارها المالي»؟

هل ستختفي «الأونروا» من حياة اللاجئين الفلسطينيين مع «انهيارها المالي»؟
TT

هل ستختفي «الأونروا» من حياة اللاجئين الفلسطينيين مع «انهيارها المالي»؟

هل ستختفي «الأونروا» من حياة اللاجئين الفلسطينيين مع «انهيارها المالي»؟

عمرها من عمر نكبة فلسطين... فاللاجئة أم علي تفتّحت عيناها عام 1948 في مخيم الوحدات بشرق العاصمة الأردنية عمان، ولا تعرف وطناً سواه.

رافقها اللجوء طوال سنوات عمرها الخمسة والسبعين. وكأي لاجئ فلسطيني كانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) رفيقاً لها في شتى مناحي الحياة.

وتقول إن «الأونروا» ليست جهة لدعم اللاجئين الفلسطينيين فقط، وإنما «بقاؤها إثبات لهويتنا، وبقاؤها من بقاء حق عودتنا لبلادنا».

تحتفظ أم علي بما يُطلق عليه «كارت المؤن»، وهو بمثابة بطاقة تسجيل هوية تمنحها «الأونروا» للاجئين الفلسطينيين من أجل الحصول على المساعدات. وتمثل هذه البطاقة اليوم إثباتاً قانونياً لأجيال من اللاجئين الفلسطينيين، يحتفظون بها رغم عدم استفادة غالبيتهم منها على صعيد الدعم المالي.

وتضيف «بوصفنا أبناء مخيمات، لمسنا تراجعاً في الخدمات التي تقدمها الوكالة في مجال التعليم والصحة في مخيم الوحدات، ولكن الأهم استمرارها لضمان حقوق الأجيال المقبلة من الفلسطينيين في الشتات».

ومن الجيل الثالث للجوء، ما زال الشاب زيد يحافظ على زيارته لمخيم الوحدات الذي سكنه أبوه وجده، ويحتفظ بالوحدة السكنية التي وزعتها «الأونروا» على اللاجئين الفلسطينيين عقب نكبتهم بديلاً عن الخيم.

ورغم أن زيد يسكن العاصمة عمان منذ ولادته، فإنه يقول للوكالة إن «كارت المؤن» والوحدة السكنية في المخيم سيظلان رابطاً يربطه هو وأطفاله وربما أحفاده بصفتهم كلاجئين فلسطينيين، ويضيف: «بقاء (الأونروا) هو اعتراف ببقاء قضية اللاجئين».

انهيار وشيك

باتت الأزمة المالية التي تعصف بـ«الأونروا» منذ سنوات هاجساً لدى مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، حيث يعيش في البلاد العدد الأكبر منهم على مستوى العالم، لكن تصريحات إدارة «الأونروا» تنذر بأن انهيارها بات وشيكاً.

ورداً على استفسارات «وكالة أنباء العالم العربي»، قال المستشار الإعلامي لـ«الأونروا» عدنان أبو حسنة إن الأزمة المالية عميقة ومركبة، وتتكرر منذ سنوات عديدة، إلا أنها هذا العام تأخذ بعداً آخر بسبب النقص الكبير في تبرعات الدول المانحة.

يقول أبو حسنة إنه في الوقت الذي ازدادت فيه أعداد اللاجئين ومتطلباتهم، لم تزد الميزانية منذ سنوات.

ويضيف أن «الأونروا» أنهت عام 2022 بعجز مالي بلغ 75 مليون دولار جرى ترحيله للعام الحالي، ما زاد من الأعباء المالية على ميزانيتها؛ إذ لم تعد قادرة على مزيد من الإجراءات التقشفية التي أصبحت تمس برامجها.

وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قد حذر في تصريحات أدلى بها الشهر الحالي من أن وكالة «الأونروا» «على وشك الانهيار المالي».

فيما أعلن المفوض العام لـ«الأونروا» فيليب لازاريني أمس الخميس أن الوكالة لن تتمكن دون تمويل فوري من مواصلة عملها بعد شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، ما يهدد «بإغلاق أكثر من 700 مدرسة و140 مركزاً صحياً تابعة لـ(الأونروا)».

وقال لازاريني خلال اجتماع اللجنة الاستشارية للوكالة في العاصمة اللبنانية بيروت إن خدمات الطوارئ في كافة مناطق عمليات «الأونروا» ستتوقف، «ما يترك الملايين من لاجئي فلسطين الذين يعتمدون على المعونات من (الأونروا) على أعتاب مجاعة».

وفي وقت سابق من الشهر، وصف لازاريني الوضع المالي للوكالة بأنه خطير للغاية، ودعا الدول الأعضاء إلى عدم النظر إلى قدرة الوكالة على تقديم الخدمات للاجئي فلسطين «بوصفه أمراً مسلّماً به».

وأضاف: «الوكالة لم تعد قادرة على تلبية مستوى التوقعات، وأصبح هذا التوتر بين نقص الموارد وزيادة الاحتياجات - عاماً بعد آخر - أمراً لا يطاق بالنسبة للوكالة. نحن المنظمة الوحيدة التي تعمل اليوم بتدفق نقدي سالب».

وحذر من أن هذا يضع الخدمات الأساسية التي تقدمها «الأونروا» لنحو 5.9 مليون لاجئ فلسطيني «على المحك».

لا بدائل

عن ذلك، قال المستشار الإعلامي لـ«الأونروا» عدنان أبو حسنة لـ«وكالة أنباء العالم العربي» إن تلك التصريحات تعكس رؤية حقيقية لواقع «الأونروا المالي» وعدم قدرتها في سبتمبر المقبل على مواصلة تقديم خدماتها، ودفع رواتب موظفيها، ما لم تستطع توفير الموارد المالية.

وأشار إلى أن ما حصلت عليه «الأونروا» من تعهدات جديدة هو 13 مليون دولار فقط حتى الآن، في حين بلغ مجموع ما تسلمته من ميزانية البرامج 57 في المائة فقط من ميزانيتها المقررة لهذا العام والبالغة 847 مليون دولار، يضاف إليها 75 مليوناً هو عجز العام الماضي.

وقال إن هذا يعني أنها «لن تكون قادرة على مواصلة تقديم خدماتها في الفترة ما بين سبتمبر حتى نهاية العام الحالي».

أما جمال الشوربجي، عضو المكتب التنفيذي للجنة العليا للدفاع عن حق العودة، فيرى أن أزمة «الأونروا» المالية تتكرر كل عام بسبب ما وصفه بعبارة «الابتزاز المالي الذي تمارسه بعض الدول المانحة». وقال إن هذا يعطل دور «الأونروا» في تقديم خدماتها للاجئين، ويضيف أن الدعم المالي لا يغطي 30 في المائة من موازنة الوكالة.

وقال الشوربجي إن هناك محاولات مستمرة «تقودها إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية لتصفية قضية حق العودة» عن طريق إلغاء دور «الأونروا» بصفتها الشاهد التاريخي الأكبر على النكبة الفلسطينية والتهجير.

وأضاف أن «الأونروا» تمثل في ذهن اللاجئ الفلسطيني الرمز للمأساة والشتات، وهي الراية التي يقف خلفها لتبقى قضيته ظاهرة أمام العالم، مؤكداً أن لانسحابها آثاراً سلبية على اللاجئين لا سيما في قطاع التعليم والصحة.

أعباء اقتصادية إضافية على الأردن

الخبير الاقتصادي حسام عايش قال لـ«وكالة أنباء العالم العربي» إن «الأونروا» تتحمل جزءاً كبيراً من كلفة اللاجئين الفلسطينيين في المجال التعليمي والصحي في الأردن، لكنها تواجه «محاولات تصفية بوقف تمويلها أو تقليصه».

وأكد عايش أن التبرعات التي تحصل عليها «الأونروا» من الدول المانحة تقل عن حاجتها بنسبة 70 في المائة، وهو ما يمثل ضغطاً على الأردن المنهك اقتصادياً من قضية اللاجئين خصوصاً اللاجئين السوريين في الآونة الأخيرة.

إلا أن عايش يرى أن تحويل قضية «الأونروا» إلى قضية مالية «أمر خطير لأنه محاولة لإزاحة الأنظار عن القضية الأصلية وهي حقوق الفلسطينيين بأرضهم»، وقال إن محاولة إلغاء دور «الأونروا» «يشغل الفلسطينيين عن الهم الأصلي، ويحوّل اهتمامهم إلى هم خاص يتعلق بمعيشتهم».

ويقول إن هذا يبعد أيضاً الأردن عن التفكير بحقوق مواطنيه من أصل فلسطيني، فيما يتعلق بأرض فلسطين، ويحوّله إلى التفكير فقط بتدبير مزيد من العون والمساعدات المالية للاجئين.

تأسست «الأونروا» بموجب القرار رقم 302 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1949 بهدف تقديم برامج الإغاثة والتشغيل للاجئي فلسطين. ووفقاً لموقعها الرسمي، يعيش في الأردن أكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين وبنسبة 41 في المائة من إجمالي عدد اللاجئين الفلسطينيين.

ويوجد أكثر من 2.2 مليون لاجئ فلسطيني مسجل لدى الوكالة في الأردن حتى عام 2020.

ويتمتع اللاجئون الفلسطينيون بالمواطنة الأردنية الكاملة باستثناء نحو 140 ألف لاجئ أصلهم من قطاع غزة الذي كان حتى عام 1967 يتبع الإدارة المصرية، وهم يحملون جوازات سفر أردنية مؤقتة لا تخولهم حق المواطنة الكاملة مثل حق التصويت وحق التوظيف في الدوائر الحكومية.

وبالأردن عشرة مخيمات رسمية وثلاثة غير رسمية، يعيش فيها 400 ألف لاجئ، بينما يعيش اللاجئون الآخرون في مختلف المدن الأردنية.

وتقدم «الأونروا» تعليماً أساسياً لأكثر من 122 ألف طالب وطالبة في 169 مدرسة تابعة لـ«الأونروا» في مخيمات الأردن.


مقالات ذات صلة

السويد توقف تمويل «الأونروا» وتزيد إجمالي المساعدات إلى غزة عبر قنوات أخرى

المشرق العربي فلسطيني يحمل صندوق مساعدات وزّعته وكالة «الأونروا» في دير البلح بقطاع غزة (رويترز)

السويد توقف تمويل «الأونروا» وتزيد إجمالي المساعدات إلى غزة عبر قنوات أخرى

قالت السويد إنها ستتوقف عن تمويل وكالة «الأونروا»، وستزيد بدلاً من ذلك إجمالي المساعدات الإنسانية إلى غزة عبر قنوات أخرى.

شؤون إقليمية صورة أرشيفية لجلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة (رويترز)

الأمم المتحدة تطلب رأي «العدل الدولية» حول التزامات إسرائيل بشأن المساعدات للفلسطينيين

صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة الخميس، على مشروع قرار لطلب رأي محكمة العدل الدولية بشأن التزامات إسرائيل بتسهيل المساعدات للفلسطينيين من المنظمات الدولية.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
المشرق العربي الجامعة العربية تُحذر من تدهور سريع للوضع الإنساني في قطاع غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

الجامعة العربية تُحذر من تفاقم «المجاعة المروعة» في غزة

حذرت جامعة الدول العربية، الأحد، من تفاقم «المجاعة المروعة» و«الكارثة الإنسانية» في قطاع غزة، جراء العدوان الإسرائيلي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا صورة جماعية للمشاركين في مؤتمر القاهرة الوزاري لتعزيز الاستجابة الإنسانية بغزة (الخارجية المصرية)

مؤتمر القاهرة لـ«إغاثة غزة»... مساعٍ لتخفيف حدة الأزمة الإنسانية

شهدت العاصمة المصرية، الاثنين، مؤتمر «القاهرة الوزاري لتعزيز الاستجابة الإنسانية في غزة»، بتنظيم مصري - أممي وحضور فلسطيني، ومشاركة 103 وفود لدول ومنظمات.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الخليج وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان خلال مؤتمر القاهرة الوزاري للمساعدات الإنسانية لغزة المنعقد في مصر (واس) play-circle 00:19

وزير الخارجية السعودي: ما تتعرض له غزة من إبادة يعد أكبر اختبار للنظام الدولي

أكد وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان على أن ما تتعرض له غزة من إبادة وحشية يعد أكبر اختبار للنظام الدولي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

مخيم اليرموك... دمار يحاكي غزة وغموض لا تبدده قرارات ظرفية

TT

مخيم اليرموك... دمار يحاكي غزة وغموض لا تبدده قرارات ظرفية

مخيم اليرموك... دمار يحاكي غزة وغموض لا تبدده قرارات ظرفية

هذه ليست غزة. إنه مخيم اليرموك.

لا تكفي قراءة اللافتة مراراً عند مدخل المخيم الفلسطيني المحاذي لدمشق لترسخ هذه الحقيقة في ذهن الزائر.

لا بد من التذكير المتواصل للنفس، ومع كل خطوة والتفاتة بأنها بالفعل ليست غزة، بل مخيم اليرموك الذي لا يبعد أكثر من 18 كيلومتراً من ساحة الأمويين، وشهد تدميراً منهجياً وحصاراً مديداً حتى مات أكثر من 150 شخصاً من سكانه غالبيتهم من الأطفال، جوعاً وعطشاً.

العائلات القليلة التي عادت منذ سقوط نظام بشار الأسد أو منذ بضعة أشهر أو سنتين على الأكثر لا تزال غير مرئية وسط الدمار الهائل الذي لا يحده بصر، ولا تختذله عدسة عين أو كاميرا.

ويبدو عابر السبيل الخارج من خلف هذه الأنقاض أو بعض الأطفال العائدين من صفوفهم المرتجلة في مدرسة الأونروا القريبة كمشهد من فيلم.

لكنه عملياً واقع السكان اليومي وحياتهم التي نجوا بها.

لا خدمات في المخيم كما يقول كل من التقيناهم. لا كهرباء أو مياه جارية أو إنترنت أو أي مرافق صحية ولو بالحد الأدنى، بل مجرد هياكل أبنية ودمار مديد والكثير من الغبار.

يحاكي الدمار بين جنبات مخيم اليرموك مشاهد الحرب في غزة (الشرق الأوسط)
يحاكي الدمار بين جنبات المخيم مشاهد الحرب في غزة (الشرق الأوسط)

ذكرى حصار التجويع لم تفارق اليرموك

شاب نجا من حصار التجويع في العام 2018 تحدث لـ«الشرق الأوسط» مفضلاً عدم ذكر اسمه، وقال: «أذكر أول كسرة خبز أكلتها بعد أيام من الجوع. لا يفارقني طعمها. فبعد نحو أسبوع من فقدان الطعام والمياه تذكرت أني رأيت في ثلاجة جيراننا كيس خبز مهمل. استجمعت قواي وذهبت فوجدت الثلاجة المحترقة بفعل القصف ملتصقة بربطة الخبز ولكن طرف بعض الأرغفة نجا وكان فقط متعفناً... فالتهمته كوجبة فاخرة».

ثم يعود الشاب ويفتح صوراً قديمة على هاتفه وقد بدا عليه الشحوب وفقدان الوزن كأنه شخص آخر. هو وغيره من الذكور وبعضهم أرباب أسر كانوا يخشون القتل أو الاعتقال إذا ما توجهوا إلى نقطة توزيع الحصص الغذائية التي بدأت تدخل المخيم بالقطارة عبر فصائل محلية والأمم المتحدة. فكثير من «الممرات الإنسانية الآمنة» تحول فخاً للإيقاع بالرجال والشباب وحتى اليافعين.

والمخيم الذي تعرض منذ 2011 لموجات متقطعة من الاستهداف العسكري والقصف الجوي ومعارك شرسة شاركت فيها فصائل فلسطينية موالية لبشار الأسد وعلى رأسها تنظيم «الجبهة الشعبية- القيادة العامة» بزعامة أحمد جبريل، عاش في 2018 أحد أسوأ كوابيسه. فبعد انطلاق الانتفاضة الشعبية في 2011 وانحياز عدد غير قليل من الفلسطينيين لها، سواء من معارضين مستقلين أو منضويين تحت مظلة حركة «حماس»، شنّ جبريل وفصائل حليفة حرباً ضروساً على المخيم وفصائل «الجيش الحر» دفاعاً عن الأسد.

ولم تتأخر البراميل بإمطار المخيم والأحياء الملاصقة له كالحجر الأسود والتضامن ويلدا، وفاقم ذلك جيب لتنظيم «داعش» كان استقر في الجزء الجنوبي من اليرموك عند مثلث جغرافي يربطه بتلك الأحياء.

تغلب مشاهد الدمار على أي أمارات للحياة في مخيم اليرموك (الشرق الأوسط)
تغلب مشاهد الدمار على أي أمارات للحياة في المخيم (الشرق الأوسط)

أبو حسان من «حارة الفدائية»، صادفناه وهو عائد من عمله في دهان الأثاث خارج المخيم، بدا منهكاً وهو يتجه نحو بيته. قال لـ«الشرق الأوسط»: «عدنا بما تيسر. الأفضل أن أسكن في بيتي على سوء أوضاعه من أن أدفع إيجارات لا أقوى عليها».

تحدث الرجل بمرارة عما مر به في السنوات الماضية، وقال: «همّ وانزاح عن صدورنا... لكننا مازلنا متروكين لمصيرنا». وأضاف وهو يكابد الدمع: «كنا نتابع أخبار غزة ونتألم ولكن أنظري حولك... هل نحن هنا في حال أفضل؟».

الانتقام من الأموات في قبورهم

في مكان لم ينج فيه البشر ولا الحجر، نال الأموات أيضاً نصيبهم. فهنا، في «مقبرة الشهداء» اختلطت المدافن ببعضها البعض ولم تعد المعالم واضحة. عندما سيطر تنظيم «داعش» على شريط ضيق عند أطراف المخيم قام عناصره بتدمير شواهد القبور والانتقام منها ثم لحق ذلك قصف مباشر بالبراميل والقذائف من القوات السورية للمقبرة نفسها فلم تبق حجراً على حجر.

ولهذه المقبرة أهمية كبرى كونها تضم قبور عدد من القادة الفلسطينيين الأوائل وأبرزهم خليل الوزير المعروف بـ«أبو جهاد» وكان مقرباً من الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وعلى عداء شديد مع حافظ الأسد. فجاء تدمير قبره وقبر غيره في هذا المكان أشبه بانتقام مفتعل قبل إعادة تسليم المخيم لفصائل موالية للأسد.

ويقول أبو أحمد وهو القائم على المقبرة: «90 في المائة من القبور غير معروفة لأصحابها. القصف خلط ما فوق الأرض بما تحتها. ومن يريد أن يدفن أحداً اليوم يذهب إلى مكتب الدفن ويقدم تعهداً بأن هذا القبر له ولعائلته على مسؤوليته الشخصية. فلا شواهد ولا قبور... لا سلمنا من هذا ولا من ذاك».

حتى المقابر في مخيم اليرموك طالتها يد الانتقام (الشرق الأوسط)
حتى المقابر في مخيم اليرموك طالتها يد الانتقام (الشرق الأوسط)

اليرموك «عاصمة فلسطين الشتات»

كان مخيم اليرموك الذي بُني عام 1957، وينبسط على مساحة تقارب كيلومترين ونصف، سوقاً تجارية كبيرة سكنه قرابة مليون ونصف شخص من السوريين والفلسطينيين وبعض العراقيين ولم يعد إليه حالياً أكثر من 8 آلاف نسمة، بحسب تقديرات «الأونروا».

ولا شك في أن الوضع على ما يردد الناس هو تذكير دائم بالوضع في غزة، لكنه لا يقتصر على مخيم اليرموك فحسب. فهو واحد من 15 مخيماً فلسطينياً في سوريا أكثر من 8 منها تعاني دماراً شاملاً وتحتاج ما يحتاجه اليرموك وبقية المناطق السورية والأحياء والضواحي الدمشقية التي سويت بالأرض من إعمار وإسناد.

وإذ يعاني السكان الأهمال التام وعدم معرفة مصيرهم ومصير ذويهم من المفقودين ومآلات منازلهم ووضعهم العام في المرحلة المقبلة، إلا أن الأصعب بالنسبة إليهم يبدو في شكواهم المتكررة من أنهم في حالة ضياع ومتروكون لمصيرهم بلا أي مرجعية اجتماعية أو خدمية أو سياسية.

كأنهم أصبحوا فجأة أيتام النظام السابق والفصائل المسلحة والثورة والتحرير دفعة واحدة.

فحتى الفصائل الفلسطينية التي كانت تسيطر على المخيم وتصادر قراره إلى حد بعيد يقطن قادتها ومن بقي منهم خارج أسواره في أحياء دمشق المتوسطة والفاخرة وبعضهم كان سبق وتوجه إلى بيروت.

والحال ان السكان من المدنيين وقعوا لسنوات طويلة بين مثلث نيران: «داعش» وفصائلهم والنظام، علماً أن التنظيم في دمشق نشأ على يد سجين سابق من بلدة يلدا أطلقه النظام بعد فترة وجيزة من بداية التظاهرات في 2011، بحسب تأكيدات مصادر متقاطعة لـ«الشرق الأوسط». وشاركه التأسيس ضابط عراقي مقيم في اليرموك بعدما انشق الاثنان عن «جبهة النصرة».

ولفترة غير وجيزة تقارب سنتين وأكثر، تُرك «داعش» ينمو ويتمدد تدريجياً باتجاه أحياء الحجر الأسود والتضامن والطرف الجنوبي لمخيم اليرموك، وشكّل رابطة كبيرة من الفصائل والتنظيمات الأصغر والأكثر تطرفاً والتي عملت على محاربة «الجيش الحر» (آنذاك) وهزيمته.

لم يعد إلى مخيم اليرموك الذي كان يعج بالحياة سوى نحو 8 آلاف شخص (الشرق الأوسط)
لم يعد إلى المخيم الذي كان يعج بالحياة سوى نحو 8 آلاف شخص (الشرق الأوسط)

وخلال تلك الفترة كان الجرحى من تنظيم «داعش» يتعالجون في مستشفى المهيني (الحكومي) ثم أصبحوا لاحقاً أول الفصائل المسلحة التي فاوضت النظام السابق في جنوب دمشق وخرجوا بقوافل منظمة من الحافلات باتجاه بادية السويداء بعدما سلّموا الحواجز العسكرية، فيما سكان مخيم اليرموك محاصرون بشكل كامل.

ومن الحواجز العسكرية التي مررنا بموقعها السابق خلال جولتنا، وتم تسليمها حاجز «علي الوحش» حيث نفذت مجزرة راح ضحيتها 1200 شخصاً من سكان المخيم المدنيين (بحسب الأعداد الموثقة).

ولعل الأفظع في هذه المجرزة الموصوفة ليس عدد الضحايا وحسب، وإنما إيهام السكان بفتح مرر إنساني آمن لتلقي المساعدات بعد فترة من حصار التجويع ثم تصفية الذكور منهم وترحيل النساء والأطفال إلى غير عودة. ولهذا تحديداً أبقى كثيرون على جوعهم وجوع أطفالهم ولم يتجرأوا على الذهاب لتلقي المساعدات.

ويقول الشاب ضياء سليمان الذي عايش تلك الفترة مراهقاً وأصبح اليوم أباً لثلاثة أطفال: «بعد كل ما مررنا به خذلنا الجميع ونحن الآن متروكون بكل المعاني. لا أحد يلتفت إلينا ولا أحد يتحدث إلينا، حتى الذين تسببوا لنا بهذا كله. نحن نحتاج حماية ونحتاج قراراً... نحتاج أن نعرف رأسنا من قدمينا».

علاقة مخيم اليرموك بالسلطة الجديدة

اجتماع غير معلن تسربت بعض المعلومات عنه عقد بين قادة الفصائل في مخيم اليرموك وممثلين عن «هيئة تحرير الشام» قضى بأن يقوم المسلحون الفلسطينيون بتسليم سلاحهم للسلطة الجديدة، أسوة بدعوة عامة أطلقت بهذا الشأن لكافة «المكونات» السورية الأخرى.

وصحيح أن السلاح الفلسطيني في سوريا عموماً ومخيم اليرموك خصوصاً لم يستخدم على أي جبهة ضد إسرائيل وإنما تم تسخيره للاحتراب الداخلي وتكريس سلطة الأسد، يبقى أن سحبه الآن قد يبدو أهون الاستحقاقات.

فالجدوى منه، سواء المزعومة أو الفعلية انتفت كلياً سيما وأن مخيم اليرموك فارغ ومدمر ولا فرصة لإعادة أي سلطة إليه ما لم يتم إعمار الحجر والبشر.

«التحدي الكبير للمرحلة المقبلة هو في كيفية صياغة الوضع القانوني والمدني للفلسطينيين وحمايتهم عبر القوانين»، يقول أيمن أبو هاشم المنسق العام لـ«التجمع الفلسطيني – السوري» (مصير) في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط».

مدخل «مقبرة الشهداء» في مخيم اليرموك (الشرق الأوسط)
مدخل «مقبرة الشهداء» في مخيم اليرموك (الشرق الأوسط)

ويضيف: «بدأنا بفتح قنوات تواصل مع السلطات الجديدة ووقعنا بياناً يجمع نحو 20 منظمة لرفع مطالبنا كفلسطينيين- سوريين بدءاً بمحاسبة من شارك بالقتل والتجويع والتهجير القسري من الأطراف كافة، وصولاً إلى مطلب أساسي هو تعديل القوانين لشمل من تم استثناؤهم من القانون 260 للعام 1956».

وبعكس غالبية بلدان الشتات الفلسطيني، يتيح القانون المذكور للفلسطينيين حقوق العمل والتملّك وكافة الحقوق المدنية ما عدا التصويت. لكنه يستثني من جاءوا بعد نكسة 1967 ومن الأردن بعد 1970، وهؤلاء ليسوا بقلّة.

وإذ يُعرّف غالبية فلسطينيي سوريا عن أنفسهم بأنهم سوريون أيضاً، يقول أبو هاشم إن أحد المطالب الرئيسية لتجمّع «مصير» هو الحصول على الجنسية السورية مع الاحتفاظ بجنسيتهم وهويتهم الفلسطينية. ويقول: «كي لا نتهم بأننا نتنازل عن حق العودة أو عن انتمائنا لفلسطين، لكننا وأبناءنا نستحق منحنا الجنسية السورية كأي إنسان ولد وعاش في بلد وأصبح مزدوج الجنسية في هذا العالم».

ولعل أم قصي التي التقيناها صدفة، أفضل من عبر عن هذا الحال بفطرة وعفوية إذ وصفت عودتها إلى بيتها في المخيم بالقول: «الواحد ما بيرتاح إلا في بيته ووطنه وانه يرجع لأصله». ولدى سؤالها إن كان اليرموك «وطنها» وليس فلسطين وطبريا من حيث تتحدر، قالت: «هون بيعوضنا عن فلسطين... هذه حاراتنا كلها بأسماء قرى وبلدات فلسطين وهذه بلادنا أيضاً».