شهر أغسطس (آب) المنصرم ربما أصعب شهر في كل تاريخ البرازيل الحديث، مع أنها شهدت من قبل انقلابات عسكرية وانهيارات اقتصادية وموجات جرائم وفوضى. ولكن، خلال شهر واحد، عاشت كبرى دول أميركا اللاتينية وأغناها موارد مزيدا من المشكلات الاقتصادية، بجانب ارتفاع معدلات الجريمة، والكشف عن حالات فساد كثيرة، منها فساد له صلة بفساد الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا). بعد ثلاثين سنة من الحكم الديمقراطي، بات احتمال وقوع انقلاب عسكري شبه مستحيل. غير أن عبارة «انقلاب عسكري» عادت أخيرًا للظهور في مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت.مع نهاية الشهر، خرجت في شوارع ساو باولو، كبرى مدن البرازيل وإحدى كبريات مدن العالم، أكبر مظاهرة في تاريخ المدينة التي تعد العاصمة الاقتصادية للبلاد. وطبعًا، في الماضي ما كانت الأنظمة الديكتاتورية العسكرية السابقة ما كانت تسمح بمثل هذه المظاهرة. لكن، والفضل للحكم الديمقراطي الذي تمثله الرئيسة الاشتراكية ديلما روسيف، تظاهر الناس وتصاعدت الأصوات. والمفارقة أنه في ظل الديمقراطية والاشتراكية اليوم تهتز البرازيل، وبسبب الغضب على الرئيسة روسيف يخشى بعض البرازيليين من عودة التسلط العسكري، ويتساءل آخرون هل بات قدر البرازيل محصورًا بين حكم العسكر أو حكم الاشتراكيين.
في انتخابات عام 2010، فازت ديلما روسيف، وصارت أول امرأة تتولّى رئاسة البرازيل. وجاء انتصار السياسية الاشتراكية بعد حكم زعيم اشتراكي آخر، بل وبتزكية منه، هو الرئيس لويس لولا دي سيلفا «لولا». ذلك أن ديلما روسيف «تلميذته» وصديقته ومساعدته. وكانت آخر وظيفة لها هي رئيسة موظفي القصر الجمهوري لخمس سنوات.
روسيف اشتراكية مثل «أستاذها» وراعيها «لولا»، لكنها قد تكون أكثر ثورية منه، خصوصا أنها سجنت أكثر منه عندما كانا يقاومان معًا الحكومات الديكتاتورية العسكرية.
* من هي ديلما روسيف
ولدت ديلما فانا روسيف (68 سنة)، يوم 14 ديسمبر (كانون الأول) 1947 في مدينة بيلو هوريزونتشه، عاصمة ولاية ميناس جيرايس - إحدى أكبر ولايات البرازيل - لعائلة مهاجر شيوعي من بلغاريا، ورثت عنه الميول اليسارية.
قبل الحرب العالمية الثانية، ومع انتشار الشيوعية في شرق أوروبا، كان والدها بيتر روسيف (1900 - 1962) محاميًا ناجحًا ومن شخصيات الحزب الشيوعي البلغاري. لكنه هرب إلى فرنسا عام 1929 هربًا من المضايقات السياسية، ومن ثم انتقل خلال عقد الثلاثينات إلى البرازيل بسبب المضايقات في ذلك الوقت. وترك زوجته التي لم يرها بعد ذلك، (ربما إذا كان انتظر في بلغاريا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كان سيرى بلغاريا ودولاً أخرى في أوروبا الشرقية تحولت إلى الشيوعية).
في البرازيل، تزوج بيتر برازيلية، وغير اسمه البلغاري «بيتر» إلى «بدرو» وتحول من الشيوعية إلى الاشتراكية. ومن ثم دخل عالم الأعمال وصار رجل أعمال ناجحًا، وربى ديلما وبقية أولاده وبناته تربية شبه راقية: مدرسة خاصة، وخدم وحشم في المنزل الكبير، ودروس في اللغة الفرنسية، وفي البيانو، وتأنق في المأكل والمشرب. ولقد ألف البرازيلي إليان بينيت كتيبًا عنوانه: «حياة ديلما روسيف»، ذكر فيه أن ديلما منذ طفولتها، كانت تجادل والدها أكثر من إخوانها وأخواتها. ولاحقًا كانت تجادله أكثر في السياسة، بل وكانت تتهمه بأنه لم يعد ثوريًا كما كان.
وفي جلسة من جلسات العائلة حول مائدة العشاء، دار الحوار الآتي بين الأب والبنت:
* «أنت طلقت الثورة وتزوّجت المال.»
* «أقدر على أن أكون ثوريًا وغنيًا».
* «لماذا تركت الشيوعية؟».
* «انظري إلى ما فعلته في بلغاريا والمعسكر الشيوعي. إذا خيرت بين الشيوعية والحرية، أفضل الحرية».
* «لكنك هربت من وطنك؟»
* «ها هو التاريخ يقف معي. عشت حتى رأيت الشيوعية تسقط في وطني، وفي روسيا، وفي بقية العالم».
* التحوّل في المهجر
في الحقيقة، هرب الوالد من شيوعيي بلغاريا ليواجه عساكر البرازيل. قبل مائة سنة من موجة الانقلابات العسكرية في دول العالم الثالث، أخذت البرازيل نصيبها من الحكم العسكري. ذلك أنه خلال نصف تاريخ البرازيل في القرنين التاسع عشر والعشرين، حكمها عسكريون. كما رضخت للحكم العسكري طيلة الفترة من 1964 إلى 1985. ومرة أخرى، حسب كتاب «ديلما روسيف»، خلال عشاء للعائلة، جرى الحوار الآتي بين البنت الثورية ووالدها اليساري التائب:
* «هل أفضل الحزب الشيوعي مثلما في بلغاريا، أو الديكتاتورية العسكرية مثلما هنا في البرازيل؟».
* «الاثنان لا حرية فيهما».
* «لماذا لا تناضل هنا، إذن، مثلما كنت تناضل في بلغاريا؟»
* «ألا ترين أنني تقدمت في السن؟»
وفي الحقيقة، توفي «بدرو» روسيف بعد هذا النقاش بسنوات قليلة. ولم يعش حتى يرى نهاية النظام العسكري في البرازيل.
* أيام الدراسة والشباب
عام 2011، قالت صحيفة «نيويورك تايمز» عن ديلما روسيف في استعراض لتاريخ حياتها، إنها: «صارت ثورية مع أنها درست في مدرسة خاصة للراهبات. وفضلت اللغة البرتغالية (لغة البرازيل) مع أن ثقافتها الفرنسية. وصارت ثورية مع أن والدها، عندما توفي، ترك لها خمسة عشر عقارًا». وتضيف الصحيفة أنها هي التي أقنعت والدها بأن يحولّها من مدرسة الراهبات الخاصة إلى مدرسة حكومية. وقالت له: «الراهبات لسن ثوريات، مع أن عليهن أن يكن ثوريات، لأن عيسى المسيح ثار ضد الظلم».
في المدرسة الثانوية الحكومية، أسست ديلما روسيف أول جمعية طلابية، وكان برنامجها السياسي فيها واضحًا، بل وسبب لها مشكلات مع إدارة المدرسة. وفي صحف حائطية، شاركت في نقاش مع يساريين ويساريات حول «الثورة» و«الاشتراكية» و«التحرير الوطني» و«الكفاح المسلح» و«ثورية رجال الدين» (نظرية دينية يقودها بعض القساوسة الكاثوليك، وتدعو للتمرد ضد الحكومات الديكتاتورية باسم دعوة المسيح إلى العدل والسلام).
كذلك كتبت روسيف في واحدة من صحف الحائط: «بعدما قرأت كتاب (ثورة داخل الثورة) للفرنسي ريجيس دوبريه، اقتنعت بأن الثورة الحقيقية ليست نظريات ومحاضرات ومناقشات، ولكن الكفاح المسلح». وفي ذلك الوقت، كان الفيلسوف الفرنسي دوبريه قد انتقل إلى كوبا، وصار صديقا للرئيس فيديل كاسترو والمناضل الراحل أرنستو «تشي» غيفارا.
وفي عام 1967، عندما كانت روسيف في العشرين من عمرها، انضمت إلى حزب شباب العمال (فرع من الحزب الاشتراكي)، وكتبت في يومياتها: «لا مكان في العالم لدبيوتانتز» (بنات الأغنياء الجميلات اللائي يستعرضن جمالهن وثراءهن في حفلات عائلات أرستقراطية)، وهذا مع أنها، نفسها، كانت جميلة من الجميلات الأرستقراطيات.
وبعد سنة واحدة، بعد بلوغها الـ21 تزوجت روسيف من الصحافي الثوري كلاوديو غالينو لونهارس، وكان يكبرها بخمس سنوات، كما كان زميل كفاحها وصديقها وأستاذها. ولكن بعد الزواج بسنة واحدة، اعتقل غالينو لأنه شارك في محاولة انقلابية ضد النظام العسكري. ومن ثم، عندما كان زوجها في المعتقل، قررت روسيف أخيرًا أن تحمل السلاح مختارة الكفاح المسلّح. وحقًا، التحقت بمعسكرات سرّية في الريف البرازيلي، حيث أقام الثوار مدارس لتدريس الثورة، وأيضا، لتعليم استعمال الأسلحة من مسدسات وبنادق ورشاشات.
وشاركت روسيف في محاولة هجوم شنت على السجن الذي فيه زوجها ومناضلون آخرون، بهدف إطلاق سراحهم. إلا أن المحاولة فشلت.. ولاذت بالفرار. ثم اتهمت بالتورط في محاولات للسطو على بنوك لسرقة أموال لتمويل الثورة.
انفصلت روسيف عن ألينو بعد أن أطلق سراح الزوج بسنوات قليلة (لم يطلقا رسميًا إلا عام 1981 لأن الطلاق كان محظورًا)، وارتبطت بعلاقة حب بثوري آخر هو كارلوس فرانكلن بايشاو أراوهو، الذي رافقها لثلاثين سنة تقريبا. واعتقلا معًا أكثر من مرة.
يوم 16 - 1 - 1970، اعتقلت الشرطة روسيف مرة أخرى. وعندما قدمت إلى المحاكمة، وصفها الاتهام بأنها «تريد أن تكون جان دارك البرازيل» (إشارة إلى الفرنسية، بطلة الثورة الفرنسية سنة 1789).
حكم عليها بالسجن ستة أعوام (كانت سجنت قبل ذلك أكثر من مرة). لكن، أطلق سراحها قبل أن تكمل الستة أعوام. بعد اعتقالهما بثلاثين سنة تقريبا، وبعد عودة الديمقراطية، نشر الزوج والزوجة خطابات، ومذكرات ووثائق عن فترة السجن والتعذيب. وكانا رفعا قضايا ضد العسكريين الذين اعتقلوهما، وحاكموهما، وعذبوهما.
* اقتحام عالم السياسة
السياسة عطلت مسيرة ديما روسيف في دراستها الجامعية، إذ اضطرتها للانقطاع عن الدراسة في جامعة ميناس جيرايس الاتحادية. لكنها بعد ذلك عادت إلى الدراسة الجامعية، وأكملتها في جامعة ريو غراندي دول سول الاتحادية بعد استقرارها في مدينة بورتو آليغري، عاصمة الولاية التي تقع في أقصى جنوب البرازيل. ثم حصلت على ماجستير في الاقتصاد. وأتاحت لها مؤهلاتها العلمية في مجال الاقتصاد لتكون وزيرة إقليمية للاقتصاد باسم الحزب الاشتراكي.
ثم انتقلت من الوزارات المحلية إلى الوزارات الاتحادية، وصارت وزيرة للطاقة. وخلال تلك الفترة، تعرفت شخصيًا، وبدأت في التعاون مع «لولا» الزعيم النقابي الاشتراكي الذي كان مشهورًا، قبل أن يترشح لرئاسة الجمهورية.
واستطاع «لولا» إقناعها بأن تتحول من الحزب الاشتراكي إلى حزبه، حزب العمال. وعندما ترشح وفاز بالرئاسة عام 2000، اختارها وزيرة للطاقة. وكانت تلك المحطة بداية الطريق نحو رئاسة الجمهورية: الطريق الاشتراكي: «لولا» وتلميذته «ديلما».
لعله بسبب ثلاثين سنة من الحكم العسكري، أحب البرازيليون الاشتراكي «لولا». وأيضًا ربما بسبب أكثر من عشر سنوات من الحكم الاشتراكي (ثماني سنوات من حكم «لولا»، وخمس سنوات من حكم روسيف، سئم البرازيليون من الاشتراكية.
فهل يتحقق «كابوس» الديمقراطيين والليبراليين.. فيعود العسكر من النافذة بعدما خرجوا من الباب؟.