ديلما روسيف: هل ملّ البرازيليون من رئيستهم الاشتراكية

وسط مخاوف إزاء البدائل

ديلما روسيف: هل ملّ البرازيليون من رئيستهم الاشتراكية
TT

ديلما روسيف: هل ملّ البرازيليون من رئيستهم الاشتراكية

ديلما روسيف: هل ملّ البرازيليون من رئيستهم الاشتراكية

شهر أغسطس (آب) المنصرم ربما أصعب شهر في كل تاريخ البرازيل الحديث، مع أنها شهدت من قبل انقلابات عسكرية وانهيارات اقتصادية وموجات جرائم وفوضى. ولكن، خلال شهر واحد، عاشت كبرى دول أميركا اللاتينية وأغناها موارد مزيدا من المشكلات الاقتصادية، بجانب ارتفاع معدلات الجريمة، والكشف عن حالات فساد كثيرة، منها فساد له صلة بفساد الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا). بعد ثلاثين سنة من الحكم الديمقراطي، بات احتمال وقوع انقلاب عسكري شبه مستحيل. غير أن عبارة «انقلاب عسكري» عادت أخيرًا للظهور في مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت.مع نهاية الشهر، خرجت في شوارع ساو باولو، كبرى مدن البرازيل وإحدى كبريات مدن العالم، أكبر مظاهرة في تاريخ المدينة التي تعد العاصمة الاقتصادية للبلاد. وطبعًا، في الماضي ما كانت الأنظمة الديكتاتورية العسكرية السابقة ما كانت تسمح بمثل هذه المظاهرة. لكن، والفضل للحكم الديمقراطي الذي تمثله الرئيسة الاشتراكية ديلما روسيف، تظاهر الناس وتصاعدت الأصوات. والمفارقة أنه في ظل الديمقراطية والاشتراكية اليوم تهتز البرازيل، وبسبب الغضب على الرئيسة روسيف يخشى بعض البرازيليين من عودة التسلط العسكري، ويتساءل آخرون هل بات قدر البرازيل محصورًا بين حكم العسكر أو حكم الاشتراكيين.

في انتخابات عام 2010، فازت ديلما روسيف، وصارت أول امرأة تتولّى رئاسة البرازيل. وجاء انتصار السياسية الاشتراكية بعد حكم زعيم اشتراكي آخر، بل وبتزكية منه، هو الرئيس لويس لولا دي سيلفا «لولا». ذلك أن ديلما روسيف «تلميذته» وصديقته ومساعدته. وكانت آخر وظيفة لها هي رئيسة موظفي القصر الجمهوري لخمس سنوات.
روسيف اشتراكية مثل «أستاذها» وراعيها «لولا»، لكنها قد تكون أكثر ثورية منه، خصوصا أنها سجنت أكثر منه عندما كانا يقاومان معًا الحكومات الديكتاتورية العسكرية.

* من هي ديلما روسيف
ولدت ديلما فانا روسيف (68 سنة)، يوم 14 ديسمبر (كانون الأول) 1947 في مدينة بيلو هوريزونتشه، عاصمة ولاية ميناس جيرايس - إحدى أكبر ولايات البرازيل - لعائلة مهاجر شيوعي من بلغاريا، ورثت عنه الميول اليسارية.
قبل الحرب العالمية الثانية، ومع انتشار الشيوعية في شرق أوروبا، كان والدها بيتر روسيف (1900 - 1962) محاميًا ناجحًا ومن شخصيات الحزب الشيوعي البلغاري. لكنه هرب إلى فرنسا عام 1929 هربًا من المضايقات السياسية، ومن ثم انتقل خلال عقد الثلاثينات إلى البرازيل بسبب المضايقات في ذلك الوقت. وترك زوجته التي لم يرها بعد ذلك، (ربما إذا كان انتظر في بلغاريا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كان سيرى بلغاريا ودولاً أخرى في أوروبا الشرقية تحولت إلى الشيوعية).
في البرازيل، تزوج بيتر برازيلية، وغير اسمه البلغاري «بيتر» إلى «بدرو» وتحول من الشيوعية إلى الاشتراكية. ومن ثم دخل عالم الأعمال وصار رجل أعمال ناجحًا، وربى ديلما وبقية أولاده وبناته تربية شبه راقية: مدرسة خاصة، وخدم وحشم في المنزل الكبير، ودروس في اللغة الفرنسية، وفي البيانو، وتأنق في المأكل والمشرب. ولقد ألف البرازيلي إليان بينيت كتيبًا عنوانه: «حياة ديلما روسيف»، ذكر فيه أن ديلما منذ طفولتها، كانت تجادل والدها أكثر من إخوانها وأخواتها. ولاحقًا كانت تجادله أكثر في السياسة، بل وكانت تتهمه بأنه لم يعد ثوريًا كما كان.
وفي جلسة من جلسات العائلة حول مائدة العشاء، دار الحوار الآتي بين الأب والبنت:
* «أنت طلقت الثورة وتزوّجت المال.»
* «أقدر على أن أكون ثوريًا وغنيًا».
* «لماذا تركت الشيوعية؟».
* «انظري إلى ما فعلته في بلغاريا والمعسكر الشيوعي. إذا خيرت بين الشيوعية والحرية، أفضل الحرية».
* «لكنك هربت من وطنك؟»
* «ها هو التاريخ يقف معي. عشت حتى رأيت الشيوعية تسقط في وطني، وفي روسيا، وفي بقية العالم».

* التحوّل في المهجر
في الحقيقة، هرب الوالد من شيوعيي بلغاريا ليواجه عساكر البرازيل. قبل مائة سنة من موجة الانقلابات العسكرية في دول العالم الثالث، أخذت البرازيل نصيبها من الحكم العسكري. ذلك أنه خلال نصف تاريخ البرازيل في القرنين التاسع عشر والعشرين، حكمها عسكريون. كما رضخت للحكم العسكري طيلة الفترة من 1964 إلى 1985. ومرة أخرى، حسب كتاب «ديلما روسيف»، خلال عشاء للعائلة، جرى الحوار الآتي بين البنت الثورية ووالدها اليساري التائب:
* «هل أفضل الحزب الشيوعي مثلما في بلغاريا، أو الديكتاتورية العسكرية مثلما هنا في البرازيل؟».
* «الاثنان لا حرية فيهما».
* «لماذا لا تناضل هنا، إذن، مثلما كنت تناضل في بلغاريا؟»
* «ألا ترين أنني تقدمت في السن؟»
وفي الحقيقة، توفي «بدرو» روسيف بعد هذا النقاش بسنوات قليلة. ولم يعش حتى يرى نهاية النظام العسكري في البرازيل.

* أيام الدراسة والشباب
عام 2011، قالت صحيفة «نيويورك تايمز» عن ديلما روسيف في استعراض لتاريخ حياتها، إنها: «صارت ثورية مع أنها درست في مدرسة خاصة للراهبات. وفضلت اللغة البرتغالية (لغة البرازيل) مع أن ثقافتها الفرنسية. وصارت ثورية مع أن والدها، عندما توفي، ترك لها خمسة عشر عقارًا». وتضيف الصحيفة أنها هي التي أقنعت والدها بأن يحولّها من مدرسة الراهبات الخاصة إلى مدرسة حكومية. وقالت له: «الراهبات لسن ثوريات، مع أن عليهن أن يكن ثوريات، لأن عيسى المسيح ثار ضد الظلم».
في المدرسة الثانوية الحكومية، أسست ديلما روسيف أول جمعية طلابية، وكان برنامجها السياسي فيها واضحًا، بل وسبب لها مشكلات مع إدارة المدرسة. وفي صحف حائطية، شاركت في نقاش مع يساريين ويساريات حول «الثورة» و«الاشتراكية» و«التحرير الوطني» و«الكفاح المسلح» و«ثورية رجال الدين» (نظرية دينية يقودها بعض القساوسة الكاثوليك، وتدعو للتمرد ضد الحكومات الديكتاتورية باسم دعوة المسيح إلى العدل والسلام).
كذلك كتبت روسيف في واحدة من صحف الحائط: «بعدما قرأت كتاب (ثورة داخل الثورة) للفرنسي ريجيس دوبريه، اقتنعت بأن الثورة الحقيقية ليست نظريات ومحاضرات ومناقشات، ولكن الكفاح المسلح». وفي ذلك الوقت، كان الفيلسوف الفرنسي دوبريه قد انتقل إلى كوبا، وصار صديقا للرئيس فيديل كاسترو والمناضل الراحل أرنستو «تشي» غيفارا.
وفي عام 1967، عندما كانت روسيف في العشرين من عمرها، انضمت إلى حزب شباب العمال (فرع من الحزب الاشتراكي)، وكتبت في يومياتها: «لا مكان في العالم لدبيوتانتز» (بنات الأغنياء الجميلات اللائي يستعرضن جمالهن وثراءهن في حفلات عائلات أرستقراطية)، وهذا مع أنها، نفسها، كانت جميلة من الجميلات الأرستقراطيات.
وبعد سنة واحدة، بعد بلوغها الـ21 تزوجت روسيف من الصحافي الثوري كلاوديو غالينو لونهارس، وكان يكبرها بخمس سنوات، كما كان زميل كفاحها وصديقها وأستاذها. ولكن بعد الزواج بسنة واحدة، اعتقل غالينو لأنه شارك في محاولة انقلابية ضد النظام العسكري. ومن ثم، عندما كان زوجها في المعتقل، قررت روسيف أخيرًا أن تحمل السلاح مختارة الكفاح المسلّح. وحقًا، التحقت بمعسكرات سرّية في الريف البرازيلي، حيث أقام الثوار مدارس لتدريس الثورة، وأيضا، لتعليم استعمال الأسلحة من مسدسات وبنادق ورشاشات.
وشاركت روسيف في محاولة هجوم شنت على السجن الذي فيه زوجها ومناضلون آخرون، بهدف إطلاق سراحهم. إلا أن المحاولة فشلت.. ولاذت بالفرار. ثم اتهمت بالتورط في محاولات للسطو على بنوك لسرقة أموال لتمويل الثورة.
انفصلت روسيف عن ألينو بعد أن أطلق سراح الزوج بسنوات قليلة (لم يطلقا رسميًا إلا عام 1981 لأن الطلاق كان محظورًا)، وارتبطت بعلاقة حب بثوري آخر هو كارلوس فرانكلن بايشاو أراوهو، الذي رافقها لثلاثين سنة تقريبا. واعتقلا معًا أكثر من مرة.
يوم 16 - 1 - 1970، اعتقلت الشرطة روسيف مرة أخرى. وعندما قدمت إلى المحاكمة، وصفها الاتهام بأنها «تريد أن تكون جان دارك البرازيل» (إشارة إلى الفرنسية، بطلة الثورة الفرنسية سنة 1789).
حكم عليها بالسجن ستة أعوام (كانت سجنت قبل ذلك أكثر من مرة). لكن، أطلق سراحها قبل أن تكمل الستة أعوام. بعد اعتقالهما بثلاثين سنة تقريبا، وبعد عودة الديمقراطية، نشر الزوج والزوجة خطابات، ومذكرات ووثائق عن فترة السجن والتعذيب. وكانا رفعا قضايا ضد العسكريين الذين اعتقلوهما، وحاكموهما، وعذبوهما.

* اقتحام عالم السياسة
السياسة عطلت مسيرة ديما روسيف في دراستها الجامعية، إذ اضطرتها للانقطاع عن الدراسة في جامعة ميناس جيرايس الاتحادية. لكنها بعد ذلك عادت إلى الدراسة الجامعية، وأكملتها في جامعة ريو غراندي دول سول الاتحادية بعد استقرارها في مدينة بورتو آليغري، عاصمة الولاية التي تقع في أقصى جنوب البرازيل. ثم حصلت على ماجستير في الاقتصاد. وأتاحت لها مؤهلاتها العلمية في مجال الاقتصاد لتكون وزيرة إقليمية للاقتصاد باسم الحزب الاشتراكي.
ثم انتقلت من الوزارات المحلية إلى الوزارات الاتحادية، وصارت وزيرة للطاقة. وخلال تلك الفترة، تعرفت شخصيًا، وبدأت في التعاون مع «لولا» الزعيم النقابي الاشتراكي الذي كان مشهورًا، قبل أن يترشح لرئاسة الجمهورية.
واستطاع «لولا» إقناعها بأن تتحول من الحزب الاشتراكي إلى حزبه، حزب العمال. وعندما ترشح وفاز بالرئاسة عام 2000، اختارها وزيرة للطاقة. وكانت تلك المحطة بداية الطريق نحو رئاسة الجمهورية: الطريق الاشتراكي: «لولا» وتلميذته «ديلما».
لعله بسبب ثلاثين سنة من الحكم العسكري، أحب البرازيليون الاشتراكي «لولا». وأيضًا ربما بسبب أكثر من عشر سنوات من الحكم الاشتراكي (ثماني سنوات من حكم «لولا»، وخمس سنوات من حكم روسيف، سئم البرازيليون من الاشتراكية.
فهل يتحقق «كابوس» الديمقراطيين والليبراليين.. فيعود العسكر من النافذة بعدما خرجوا من الباب؟.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».