محمد العباس
ليس الشيطان وحده من يسكن في التفاصيل. كذلك اللذة تتحشد في ذلك المكمن، في التفاصيل الروائية على وجه التحديد. لا لأنها تكشف عن وعي الروائي بمستوي الصوغ في روايته وحسب، بل لأنها أيضاً تجسد بشكل حرفي المواقف والوقائع والفضاءات والشخصيات بشكل يجعل القارئ على درجة من التماس الشهي مع كذبة متخيلة على درجة من الإتقان. وبقدر اعتنائه بدقة الوصف، تكتسب الصور التي يبنيها صدقية تتشبّه بالحياة حد التماهي معها.
يفتتح الناقد عبد الدائم السلامي كتابه (كنائس النقد) بعبارة ترغيبية شهية «هذا الكتاب يدعوكم إلى منطقة نواياه... ولكل كتاب ما نوى». في إشارة صريحة إلى المنزع اللاحيادي لمغزى الكتابة. وهو مقصد يتأكد من خلال العتبة العنوانية للكتاب المحتقنة بالدلالات الأصولية القابلة للكسر. حيث النية المبيتة لتهشيم طمأنينة «حُسن نوايا الواقع».
الكتاب صناعة ثقافية قومية قابلة للتصدير باعتباره وجهاً من وجوه الهوية الوطنية، وهو الممر الأهم لمعرفة واقع وتاريخ ومستقبل أي مجتمع، أو السجل الحافظ لتفكير وشعور الأفراد والجماعات على مر التاريخ. وبقدر ما تكون المؤسسة الثقافية واعية وحاضرة لرعاية الثقافة بشكل عام تزدهر صناعة الكتاب. وهذا هو التحدي الأبرز للكِتاب في السعودية بعد تعيين سعد المحارب رئيساً تنفيذياً للدار السعودية للنشر والتوزيع، ومحمد حسن علوان رئيساً تنفيذياً لقطاع الأدب والترجمة والنشر، حيث تشكل هذه الخطوة قفزة لافتة في تاريخ العناية بالكُتّاب والكِتاب.
بتصور كلود ليفي شتراوس، ليس بمقدور ابن القبيلة أن يتحدث عن قبيلته، وذلك لانتفاء الحياد فيما سيقوله. حيث الارتباط العاطفي الذي يجرفه باتجاهات غير متعادلة من الوجهتين: المعرفية والوجدانية. وذلك هو ما عاندته جوخة الحارثي في روايتها (سيدات القمر). إذ بدت محاولتها واضحة للانحياز بالسرد من وظيفته الإخبارية التعليمية إلى مهمته الجمالية.
مهما قيل عن الإخفاقات والارتباكات التي صاحبتها منذ ظهورها وصولاً إلى اللغط الذي دار حول دورتها الأخيرة، تظل الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) أقدر جائزة عربية على تحريك المشهد الثقافي العربي، حتى وإن لم تحقق النصاب الأدبي المرجو منها.
قبل أن يصعدّه حميد دبشي، ويستخدمه كأداة نضال عالمثالثية ضد الهيمنة الثقافية الغربية، بدأ مصطلح «المخبر المحلي» (Native Informer)، بكل ما يحيط به من إشكالات وارتدادات سلبية، كمفهوم تفكيكي معرفي عند غياتري سبيفاك، تحت عنوان «الراوية المحلي». وذلك في بحثها ذائع الصيت «أيمكن للتابع أن يتكلم؟».
الحديث عن الثقافة هو حديث عن التنمية الثقافية بالضرورة، وفي الآن نفسه هو حديث عن التوازنات المتعددة، المتعارضة والمتكاملة داخل فضاء اجتماعي واحد، حيث الرغبة الأكيدة لتجسير الهوة بين الثقافة الفردية وثقافة الجمهور. وهذا هو جوهر التحولات الدرامية التي تباغت بها وزارة الثقافة عمق المشهد الثقافي في السعودية، حيث تتوالى الأخبار المتعلقة بإعادة هيكلة الوزارة بشكل غير مسبوق، إذ لا يمر أسبوع من دون إعلان عن مبادرة ثقافية، أو استحداث قطاع، أو تعيين أحد الكوادر الثقافية في منصب من مناصب الوزارة الآخذة في التمدد.
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة