عَيْنا «مدام بوفاري»

سؤال يبقى قائماً بكل ارتداداته الواقعية والأدبية حول بطلة غوستاف فلوبير

لقطة من فيلم {مدام بوفاري} 2014
لقطة من فيلم {مدام بوفاري} 2014
TT

عَيْنا «مدام بوفاري»

لقطة من فيلم {مدام بوفاري} 2014
لقطة من فيلم {مدام بوفاري} 2014

ليس الشيطان وحده من يسكن في التفاصيل. كذلك اللذة تتحشد في ذلك المكمن، في التفاصيل الروائية على وجه التحديد. لا لأنها تكشف عن وعي الروائي بمستوي الصوغ في روايته وحسب، بل لأنها أيضاً تجسد بشكل حرفي المواقف والوقائع والفضاءات والشخصيات بشكل يجعل القارئ على درجة من التماس الشهي مع كذبة متخيلة على درجة من الإتقان. وبقدر اعتنائه بدقة الوصف، تكتسب الصور التي يبنيها صدقية تتشبّه بالحياة حد التماهي معها. وعلى هذا الأساس، أُثير الجدل حول عيني «إيما بوفاري»، بطلة رواية غوستاف فلوبير «مدام بوفاري»، بالنظر إلى تجليات التعدد اللوني لعينيها في سياق الرواية الذي أربك المتلقين، إذ لم يحسم ذلك التساؤل التفصيلي اللذيذ الجدل حول لونهما النهائي، بقدر ما فجر تساؤلات إزاء عبقرية فلوبير في ذلك التصوير متعدد الأبعاد والتمظهرات لعيني بطلته، وإمكانية وجود مرجعية ساطية استنسخها كما هي من الواقع.
في روايته «ببغاء فلوبير»، وفي فصل بعنوان «عَيْنا إيما بوفاري»، وبما يشبه المرافعة الدفاعية عن حرفية فلوبير، يهاجم جوليان بارنز النقاد لأسباب كثيرة، من بينها جرأتهم على خدش أدبية فلوبير، ويخص بالذكر أستاذة الأدب الفرنسي المشارك في جامعة أوكسفورد، مؤلفة أطول سيرة لفلوبير في بريطانيا، إيند ستاركي، لأنها كتبت أن «فلوبير لم يعزز شخصيات رواياته بصفات موضوعية وأوصاف ظاهرية، كما فعل بلزاك، فهو في الحقيقة لم يولِ مظهرهم الخارجي أي اهتمام، إذ إنه في إحدى المرات وصف عيني إيما بالعسليتين، ومرة أخرى بالسوداوين القاتمتين، وفي مشهد آخر بالزرقاوين». وبعد أن ينتقد طريقة تدريسها القديمة، وانحرافها عن نطق الكلمات الصحيحة، وينعتها بأنها مصابة بلعنة الذاكرة، كحال النقاد، ينفي أن تكون مرافعته حالة من «الانتقام الرخيص من سيدة ناقدة راحلة، لمجرد أنها أشارت إلى أن فلوبير لم يكن لديه إدراك ثابت لعيني إيما بوفاري». رغم أنه كتب روايته من منطلق الدفاع عن فلوبير، وذلك بالاتكاء على مقولته «حين تكتب سيرة صديق، افعل كما لو أنك تثأر له».
والواقع أن عيني إيما بوفاري لم تكن محل اهتمام إيند ستاركي فقط، فقد كتب ويليام إيفانس مقالة في مجلة «مدونات رومانسية»، بعنوان «السؤال حول عيني إيما»، تساءل فيها عن تنوع المعالجات التي أداها فلوبير لوصف عيني بطلته، وذلك في إطار رده على مقالة بنجامين ف. بارت حول وثائق فلوبير، الذي دعا القراء للانتباه إلى عدم قدرة فلوبير على تأكيد لون عيني بطلته، عندما خلط - بتصوره - بين عيني إليزا شيزنجر ولويز كوليت. ففي البداية «كانتا عسليتين، لكنهما ظهرتا فيما بعد بلون أسود، وبعد عدد من الصفحات كانتا سوداوين في الظل، ولكنهما أميل إلى الزرقة تحت ضوء النهار». وربما أراد أن يقول للقارئ إن عينيها عسليتان، ولكنهما تبدوان سوداوين، لأن رموشها سوداء، وهنا المفارقة، كما يقول، حيث الخطأ الصريح لفلوبير، الذي يحاول إيفانس أن يعالجه من منطلق أدبي، بربط ذلك التحول بمرحلة ما قبل وما بعد الزواج «فالسواد بهذا المعنى دليل على الشر». وعلى هذا الأساس، أراد أن يُمفهم أول تحول لعينيها بعد الزواج، حيث اتسعت عيناها، كدليل على اتساع عالمها، وتمادي رغباتها «فقد كان السواد هو لونهما، أما الظلال الزرقاء فقد تكون إشارة إلى عالمها السري خارج الزواج». وهكذا، صار يتأوّل تلك التجليات اللونية على الثبات الأخلاقي والتحول الرغائبي. فالأسود هو إشارة إلى كل ما هو سري محجوب، والأزرق هو لون الصراحة والانكشاف، نافياً عن فلوبير فكرة إهمال التفاصيل أو السهو اللامقصود، فكل ذلك خارج التساؤل، فعَيْنا إيما بوفاري - بتصوره - كانتا مصممتين بشكل متقن.
أما جوليان بارنز، فقد استعرض ذلك التأرجح وفي وصف عيني إيما بوفاري بشكل تفصيلي في ستة مشاهد، كما نقلها بندر الحربي، مترجم رواية «ببغاء فلوبير»، عن النسخة العربية لرواية «مدام بوفاري»، بترجمة محمد مندور: ١ - عند ظهورها الأول «ولكن جمال الفتاة كان يتركز في عينيها العسليتين. كانت أهدابهما تضفي عليهما صبغة السواد». ٢ - وعند وصف زوجها العاشق أيام زواجهما الأولى «كان إذا حدَّق في عينيها عن قرب خالها أكثر اتساعاً، ولا سيما وهي تفتح جفنيها وتطبقهما مرات متتابعة، ريثما تألفان الضوء عند الاستيقاظ. كانتا تبدوان سوداوين في الظلال، وزرقاوين قاتمتين في ضوء النهار». ٣ - في حفل راقص «وقد لاحت عيناها أشد سواداً». ٤ - عند لقائها الأول مع ليون «وهي تحدق فيه بعينيها السوداوين الواسعتين». ٥ - عندما ظهرت لرودولف ورآها أول مرة «عيناها السوداوان». ٦ - عندما كانت تنظر في المرآة في البيت مساءً، بعد أن أغواها رودولف للتو «فما كانت عيناها يوماً بهذا الاتساع، وبهذا السواد، وبهذا العمق».
ولكن هل هناك مرجع واقعي لتلك العينين المراوغتين «العينين النادرتين الصعبتين لساقطة بائسة»، حسب تعبير جوليان بارنز؟ نعم، هناك مصدر معرفي موثوق، حسب قوله، وهو كتاب دو كامب «الذكريات الأدبية»، وهو بمثابة النص التثقيفي الذي لم تعرفه الدكتورة ستاركي، حيث يصف شخصية المرأة التي استوحى منها فلوبير شخصية «مدام بوفاري»، من دون أن يسميها، بقوله: «لم تكن هذه الزوجة الثانية جميلة، فهي قصيرة، وشعرها أصفر باهت، ووجهها مرقط بالنمش. كانت مليئة بطموح الخيلاء، وتحتقر زوجها الذي تراه أحمق. شخصيتها تتسم بالنزاهة، ويغطي عظامها جسد متناسق، وفي مشيتها وحركتها مرونة، وتموج كتموج ثعبان الماء، وصوتها سوقي ينطلق بلهجة منطقة باس نورماندي، أكثره غنجٌ، وعيناها لا يُعرف لهما لون: أخضراوان هما أم رماديتان أم زرقاوان، فهو يتغير مع الضوء، ولهما تعبيرات موحية لا تفارقهما».
وبالمقابل، يسميها إيرفنج والاس في كتابه «الشبقة ومهووسات أخريات»، فهي زوجة مأمور الصحة يوجين ديلمار (دولفين كوتورييه)، حيث يثني على «فطنتها وجمالها». كما يصفها بأنها «فتاة جذابة في السابعة عشرة من عمرها، ذات شعر أشقر ناعم، وعينين تبدوان وكأنما تتغير ألوانهما حسب الضوء، وجسد متناسق... يمتلئ رأسها بالأحلام التي تثيرها الروايات الرومانتيكية والمجلات الدورية». وهكذا، يظهر الاختلاف على منسوب جمالها في الواقع، والاتفاق في جانب آخر على اللون المراوغ لعينيها، تماماً كما وصفهما فلوبير في روايته. وبذلك تسقط دعاوى إيند ستاركي أمام حقيقة غموض عيني إيما بوفاري. لولا أن ستاركي تسجل ارتيابها أيضاً في موت دولفين ديلمار، إذ تلمح إلى أننا أمام حالة من الحالات التي تقلد فيها الحياة الفن، فقد قرر مؤرخو الأدب أن دولفين ديلمار هي مدام بوفاري. وليس ثمة دليل، حسب قولها «على انتحار دولفين ديلمار. فرغم أن جميع التقارير تنص الآن على أنها فعلت ذلك، فإن شهادة الوفاة التي نُشرت في (النورماندي ميديكال) لم تتضمن سبب الوفاة، وهي مؤرخة في 7 مارس (آذار) عام 1848، وتنص فقط على أنها توفيت في ري، في الثالثة صباحاً من اليوم السابق، وهي في السابعة والعشرين من عمرها. لم يكن ثمة تحقيق حول سبب الوفاة، ولم تذكر أي صحيفة احتمال الانتحار». وبذلك تمكنت إيند ستاركي من تدمير المرجعية الواقعية التي يمكن الاطمئنان إليها.
وتتناقض هذه النتيجة التي توصلت لها إيند ستاركي، كما نقلها إيرفنج والاس، مع ما اعتبره جوليان بارنز نهاية الكتابات المنتحلة والحياة المتخيلة بالنسبة لفلوبير، وبداية الكتابة الحقة، وذلك عند بلوغه الخامسة والثلاثين، عندما أصدر روايته «مدام بوفاري»، إذ لا حاجة للأوهام مقابل ما يهبه الواقع. وهو استنتاج يتأكد في كتاب «الشبقة ومهووسات أخريات»، حين شكا لصديقيه: محرر «ريفيو دو باريس» مكسيم دو كامب، والشاعر الريفي لويس بوليه، عقمه الفني، فأشارا عليه أن يكتب عن موضوعات عادية. وعندما قال إنه لا يعرف شيئاً عن الحياة البرجوازية، قاطعه بوليه بالقول: «لم لا تكتب قصة ديلمار؟»، كإشارة توكيدية إلى واقعية القصة. وهي شهادة متأتية من أصدقاء فلوبير، ولذلك لا يمكن الركون إليها، في ظل الحفر الذي يؤديه بعض الباحثين عن الحقيقة الأدبية.
وبذلك يتأجل القول الفصل فيما بين عيني مدام بوفاري من الاتصال بالواقع والاختلاق المتخيّل، ليبقى السؤال قائماً بكل ارتداداته الواقعية والأدبية، إذ يمكن أن يكون فلوبير قد قدم سجلاً وصفياً مرتبكاً بالفعل للون عينيها، فهو مجرد كاتب يتحكم في مخلوقاته الروائية، ويمكن أن يخطئ، أو ربما تسربت إلى الرواية بعض مواصفات عيني أخرى، فتأرجح بينهما سهواً، وربما كانت دولفين كوتورييه هي المرجعية الواقعية التي استنسخها فلوبير، من دون أن يبذل أي جهد لاختلاق شخصية مغايرة يُختلف بها وعليها، وبذلك تتضاءل أسطورة عبقريته في ابتداع عينين مثيرتين للحيرة والفتنة. فهو بهذا المعنى مجرد ناسخ لواقعة معروفة بكل تفاصيلها، بما في ذلك لون عيني إيما بوفاري.

- ناقد سعودي



موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».