عَيْنا «مدام بوفاري»

سؤال يبقى قائماً بكل ارتداداته الواقعية والأدبية حول بطلة غوستاف فلوبير

لقطة من فيلم {مدام بوفاري} 2014
لقطة من فيلم {مدام بوفاري} 2014
TT

عَيْنا «مدام بوفاري»

لقطة من فيلم {مدام بوفاري} 2014
لقطة من فيلم {مدام بوفاري} 2014

ليس الشيطان وحده من يسكن في التفاصيل. كذلك اللذة تتحشد في ذلك المكمن، في التفاصيل الروائية على وجه التحديد. لا لأنها تكشف عن وعي الروائي بمستوي الصوغ في روايته وحسب، بل لأنها أيضاً تجسد بشكل حرفي المواقف والوقائع والفضاءات والشخصيات بشكل يجعل القارئ على درجة من التماس الشهي مع كذبة متخيلة على درجة من الإتقان. وبقدر اعتنائه بدقة الوصف، تكتسب الصور التي يبنيها صدقية تتشبّه بالحياة حد التماهي معها. وعلى هذا الأساس، أُثير الجدل حول عيني «إيما بوفاري»، بطلة رواية غوستاف فلوبير «مدام بوفاري»، بالنظر إلى تجليات التعدد اللوني لعينيها في سياق الرواية الذي أربك المتلقين، إذ لم يحسم ذلك التساؤل التفصيلي اللذيذ الجدل حول لونهما النهائي، بقدر ما فجر تساؤلات إزاء عبقرية فلوبير في ذلك التصوير متعدد الأبعاد والتمظهرات لعيني بطلته، وإمكانية وجود مرجعية ساطية استنسخها كما هي من الواقع.
في روايته «ببغاء فلوبير»، وفي فصل بعنوان «عَيْنا إيما بوفاري»، وبما يشبه المرافعة الدفاعية عن حرفية فلوبير، يهاجم جوليان بارنز النقاد لأسباب كثيرة، من بينها جرأتهم على خدش أدبية فلوبير، ويخص بالذكر أستاذة الأدب الفرنسي المشارك في جامعة أوكسفورد، مؤلفة أطول سيرة لفلوبير في بريطانيا، إيند ستاركي، لأنها كتبت أن «فلوبير لم يعزز شخصيات رواياته بصفات موضوعية وأوصاف ظاهرية، كما فعل بلزاك، فهو في الحقيقة لم يولِ مظهرهم الخارجي أي اهتمام، إذ إنه في إحدى المرات وصف عيني إيما بالعسليتين، ومرة أخرى بالسوداوين القاتمتين، وفي مشهد آخر بالزرقاوين». وبعد أن ينتقد طريقة تدريسها القديمة، وانحرافها عن نطق الكلمات الصحيحة، وينعتها بأنها مصابة بلعنة الذاكرة، كحال النقاد، ينفي أن تكون مرافعته حالة من «الانتقام الرخيص من سيدة ناقدة راحلة، لمجرد أنها أشارت إلى أن فلوبير لم يكن لديه إدراك ثابت لعيني إيما بوفاري». رغم أنه كتب روايته من منطلق الدفاع عن فلوبير، وذلك بالاتكاء على مقولته «حين تكتب سيرة صديق، افعل كما لو أنك تثأر له».
والواقع أن عيني إيما بوفاري لم تكن محل اهتمام إيند ستاركي فقط، فقد كتب ويليام إيفانس مقالة في مجلة «مدونات رومانسية»، بعنوان «السؤال حول عيني إيما»، تساءل فيها عن تنوع المعالجات التي أداها فلوبير لوصف عيني بطلته، وذلك في إطار رده على مقالة بنجامين ف. بارت حول وثائق فلوبير، الذي دعا القراء للانتباه إلى عدم قدرة فلوبير على تأكيد لون عيني بطلته، عندما خلط - بتصوره - بين عيني إليزا شيزنجر ولويز كوليت. ففي البداية «كانتا عسليتين، لكنهما ظهرتا فيما بعد بلون أسود، وبعد عدد من الصفحات كانتا سوداوين في الظل، ولكنهما أميل إلى الزرقة تحت ضوء النهار». وربما أراد أن يقول للقارئ إن عينيها عسليتان، ولكنهما تبدوان سوداوين، لأن رموشها سوداء، وهنا المفارقة، كما يقول، حيث الخطأ الصريح لفلوبير، الذي يحاول إيفانس أن يعالجه من منطلق أدبي، بربط ذلك التحول بمرحلة ما قبل وما بعد الزواج «فالسواد بهذا المعنى دليل على الشر». وعلى هذا الأساس، أراد أن يُمفهم أول تحول لعينيها بعد الزواج، حيث اتسعت عيناها، كدليل على اتساع عالمها، وتمادي رغباتها «فقد كان السواد هو لونهما، أما الظلال الزرقاء فقد تكون إشارة إلى عالمها السري خارج الزواج». وهكذا، صار يتأوّل تلك التجليات اللونية على الثبات الأخلاقي والتحول الرغائبي. فالأسود هو إشارة إلى كل ما هو سري محجوب، والأزرق هو لون الصراحة والانكشاف، نافياً عن فلوبير فكرة إهمال التفاصيل أو السهو اللامقصود، فكل ذلك خارج التساؤل، فعَيْنا إيما بوفاري - بتصوره - كانتا مصممتين بشكل متقن.
أما جوليان بارنز، فقد استعرض ذلك التأرجح وفي وصف عيني إيما بوفاري بشكل تفصيلي في ستة مشاهد، كما نقلها بندر الحربي، مترجم رواية «ببغاء فلوبير»، عن النسخة العربية لرواية «مدام بوفاري»، بترجمة محمد مندور: ١ - عند ظهورها الأول «ولكن جمال الفتاة كان يتركز في عينيها العسليتين. كانت أهدابهما تضفي عليهما صبغة السواد». ٢ - وعند وصف زوجها العاشق أيام زواجهما الأولى «كان إذا حدَّق في عينيها عن قرب خالها أكثر اتساعاً، ولا سيما وهي تفتح جفنيها وتطبقهما مرات متتابعة، ريثما تألفان الضوء عند الاستيقاظ. كانتا تبدوان سوداوين في الظلال، وزرقاوين قاتمتين في ضوء النهار». ٣ - في حفل راقص «وقد لاحت عيناها أشد سواداً». ٤ - عند لقائها الأول مع ليون «وهي تحدق فيه بعينيها السوداوين الواسعتين». ٥ - عندما ظهرت لرودولف ورآها أول مرة «عيناها السوداوان». ٦ - عندما كانت تنظر في المرآة في البيت مساءً، بعد أن أغواها رودولف للتو «فما كانت عيناها يوماً بهذا الاتساع، وبهذا السواد، وبهذا العمق».
ولكن هل هناك مرجع واقعي لتلك العينين المراوغتين «العينين النادرتين الصعبتين لساقطة بائسة»، حسب تعبير جوليان بارنز؟ نعم، هناك مصدر معرفي موثوق، حسب قوله، وهو كتاب دو كامب «الذكريات الأدبية»، وهو بمثابة النص التثقيفي الذي لم تعرفه الدكتورة ستاركي، حيث يصف شخصية المرأة التي استوحى منها فلوبير شخصية «مدام بوفاري»، من دون أن يسميها، بقوله: «لم تكن هذه الزوجة الثانية جميلة، فهي قصيرة، وشعرها أصفر باهت، ووجهها مرقط بالنمش. كانت مليئة بطموح الخيلاء، وتحتقر زوجها الذي تراه أحمق. شخصيتها تتسم بالنزاهة، ويغطي عظامها جسد متناسق، وفي مشيتها وحركتها مرونة، وتموج كتموج ثعبان الماء، وصوتها سوقي ينطلق بلهجة منطقة باس نورماندي، أكثره غنجٌ، وعيناها لا يُعرف لهما لون: أخضراوان هما أم رماديتان أم زرقاوان، فهو يتغير مع الضوء، ولهما تعبيرات موحية لا تفارقهما».
وبالمقابل، يسميها إيرفنج والاس في كتابه «الشبقة ومهووسات أخريات»، فهي زوجة مأمور الصحة يوجين ديلمار (دولفين كوتورييه)، حيث يثني على «فطنتها وجمالها». كما يصفها بأنها «فتاة جذابة في السابعة عشرة من عمرها، ذات شعر أشقر ناعم، وعينين تبدوان وكأنما تتغير ألوانهما حسب الضوء، وجسد متناسق... يمتلئ رأسها بالأحلام التي تثيرها الروايات الرومانتيكية والمجلات الدورية». وهكذا، يظهر الاختلاف على منسوب جمالها في الواقع، والاتفاق في جانب آخر على اللون المراوغ لعينيها، تماماً كما وصفهما فلوبير في روايته. وبذلك تسقط دعاوى إيند ستاركي أمام حقيقة غموض عيني إيما بوفاري. لولا أن ستاركي تسجل ارتيابها أيضاً في موت دولفين ديلمار، إذ تلمح إلى أننا أمام حالة من الحالات التي تقلد فيها الحياة الفن، فقد قرر مؤرخو الأدب أن دولفين ديلمار هي مدام بوفاري. وليس ثمة دليل، حسب قولها «على انتحار دولفين ديلمار. فرغم أن جميع التقارير تنص الآن على أنها فعلت ذلك، فإن شهادة الوفاة التي نُشرت في (النورماندي ميديكال) لم تتضمن سبب الوفاة، وهي مؤرخة في 7 مارس (آذار) عام 1848، وتنص فقط على أنها توفيت في ري، في الثالثة صباحاً من اليوم السابق، وهي في السابعة والعشرين من عمرها. لم يكن ثمة تحقيق حول سبب الوفاة، ولم تذكر أي صحيفة احتمال الانتحار». وبذلك تمكنت إيند ستاركي من تدمير المرجعية الواقعية التي يمكن الاطمئنان إليها.
وتتناقض هذه النتيجة التي توصلت لها إيند ستاركي، كما نقلها إيرفنج والاس، مع ما اعتبره جوليان بارنز نهاية الكتابات المنتحلة والحياة المتخيلة بالنسبة لفلوبير، وبداية الكتابة الحقة، وذلك عند بلوغه الخامسة والثلاثين، عندما أصدر روايته «مدام بوفاري»، إذ لا حاجة للأوهام مقابل ما يهبه الواقع. وهو استنتاج يتأكد في كتاب «الشبقة ومهووسات أخريات»، حين شكا لصديقيه: محرر «ريفيو دو باريس» مكسيم دو كامب، والشاعر الريفي لويس بوليه، عقمه الفني، فأشارا عليه أن يكتب عن موضوعات عادية. وعندما قال إنه لا يعرف شيئاً عن الحياة البرجوازية، قاطعه بوليه بالقول: «لم لا تكتب قصة ديلمار؟»، كإشارة توكيدية إلى واقعية القصة. وهي شهادة متأتية من أصدقاء فلوبير، ولذلك لا يمكن الركون إليها، في ظل الحفر الذي يؤديه بعض الباحثين عن الحقيقة الأدبية.
وبذلك يتأجل القول الفصل فيما بين عيني مدام بوفاري من الاتصال بالواقع والاختلاق المتخيّل، ليبقى السؤال قائماً بكل ارتداداته الواقعية والأدبية، إذ يمكن أن يكون فلوبير قد قدم سجلاً وصفياً مرتبكاً بالفعل للون عينيها، فهو مجرد كاتب يتحكم في مخلوقاته الروائية، ويمكن أن يخطئ، أو ربما تسربت إلى الرواية بعض مواصفات عيني أخرى، فتأرجح بينهما سهواً، وربما كانت دولفين كوتورييه هي المرجعية الواقعية التي استنسخها فلوبير، من دون أن يبذل أي جهد لاختلاق شخصية مغايرة يُختلف بها وعليها، وبذلك تتضاءل أسطورة عبقريته في ابتداع عينين مثيرتين للحيرة والفتنة. فهو بهذا المعنى مجرد ناسخ لواقعة معروفة بكل تفاصيلها، بما في ذلك لون عيني إيما بوفاري.

- ناقد سعودي



أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
TT

أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية

تحوي مملكة البحرين سلسلة من المقابر الأثرية، تُعرف باسم «تلال مدافن دلمون»، سُجلت ضمن قائمة التراث العالمي التابعة لـ«منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (اليونيسكو) في صيف 2019. تضم هذه السلسلة في الواقع مجموعات عدة من المدافن، منها مجموعة تقع في أقصى جنوب مدينة حمد، وتجاور قرية دار كليب التي تبعد عن المنامة نحو 25 كيلومتراً. بدأ استكشاف «مدافن دار كليب» في عام 1965، حيث عمد باحثان يعملان لحساب «شركة نفط البحرين» (بابكو) إلى إجراء أول أعمال المسح فيه. وصل هذا الخبر إلى البعثة الدنماركية التي كانت تعمل في هذه الناحية من الخليج خلال تلك الفترة، فباشرت دراسة الموقع بشكل معمّق. توالت مواسم التنقيب خلال العقود التالية، وأدت إلى الكشف عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الأواني الفخارية تعود إلى حقب متلاحقة من الزمن.

تحمل «تلال مدافن دلمون» اسم إقليم برز شرق الجزيرة العربية خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، كما تشهد المصادر السومرية، وكانت جزيرة البحرين حاضرة من حواضر هذا الإقليم الوسيط الذي شكل حلقة وصل بين بلدان الشرق القديم، الأوسط والأدنى. خرج من هذه المدافن عدد كبير من القطع الفخارية تعكس هذه التعددية، منها مجموعة من القطع مصدرها حقل «مدافن دار كليب» الذي يمثّل كما يبدو الطور الأخير من تلك الحقبة الغنية. تبرز في هذا الميدان بضع أوانٍ تتميز بحلل زخرفية تبدو غير مألوفة في محيطها، منها آنية على شكل زهريّة من الحجم الصغير، كشفت عنها بعثة محليّة في منتصف تسعينات القرن الماضي، وهي اليوم من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة. يبلغ طول هذه الزهرية المخروطية 12 سنتيمتراً، وعرضها 9 سنتيمترات، وهي من نتاج القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل الميلاد، كما يؤكّد أهل الاختصاص، وتكوينها بسيط، ويغلب عليه اللون العسلي المائل إلى الأخضر الزيتي.

تُزين القسم الأعلى من هذه الزهرية شبكة من الخطوط الأفقية الدائرية، تحوي في وسطها خطاً متعرّجاً. خُطت هذه الشبكة باللون الأسود، وتقابلها شبكة مشابهة مختزلة تزيّن القسم الأسفل منها. بين هاتين الشبكتين، تحضر شبكة عريضة تحتلّ القسم الأوسط، وقوامها زخرفة نباتية متناسقة تعتمد طرازاً مكرّساً، يُعرف في قاموس الفنون باسم «بيبال»، أي شجرة التين الهندسية المقدسة. خطّت هذه الزخرفة النباتية كذلك باللون الأسود، وتتشكّل من أربعة أغصان أفقية تحمل أطرافها سلسلة من الأوراق اللوزية المرصوصة بشكل تعادلي في بناء محكم، وفقاً لنسق فني اعتُمد بشكل واسع في المناطق الشمالية الغربية من جنوب آسيا، وبات من خصائص حضارة وادي السند التي توهّجت على مدى قرون من الزمن، وبلغت نواحي عديدة من الشرق الأدنى وجنوب آسيا.

تبدو زهرية دار كليب على الأرجح من نتاج وادي السند، وتشهد للروابط الثقافية المتواصلة التي جمعت بين هذا الوادي وإقليم دلمون. لا نجد ما يماثل هذه الآنية في هذا الميراث، غير أننا نقع على قطعة تشابهها بشكل كبير، مصدرها المناطق الشرقية من المملكة العربية السعودية، وهي قطعة شبه مجهولة، قدّمت عالمة الآثار غرايس بوركهولدر تعريفاً بها ضمن كتاب لها صدر عام 1984، تناول مجموعة من اللقى الأثرية تمّ اكتشافها في هذه المناطق الشرقية.

خرجت من مدافن دار كليب كذلك مجموعة من القطع الفخارية تعود إلى الحقبة التي أطلق فيها المستكشفون الإغريقيون على جزيرة البحرين اسم تايلوس، وهي الحقبة التي تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى فترة دخول الإسلام. تُشكّل هذه القطع مجموعة من مجموعات مشابهة خرجت من المدافن المجاورة، وتحوي قطعاً تتفرّد في بعض الأحيان في تكوينها، منها قطعة من الفخار المزجّج، عُثر عليها خلال حملة محليّة تمّت بين عام 1993 وعام 1994، وهي من محفوظات المتحف الوطني بالمنامة.

صُنعت هذه الآنية بين القرن الأول والقرن الثاني للميلاد على الأرجح، وفقاً لتقنية نشأت قديماً في جنوب بلاد ما بين النهرين، وهي على شكل جرة لها عنق طويل، طولها 32.5 سنتيمتراً، وعرضها 22 سنتيمتراً. تشابه هذه الجرة في تكوينها العام جرة معاصرة لها خرجت من الموقع نفسه، وتتميّز بعروة على شكل مجسّم حيواني، تحل مكان العروة التقليدية المجرّدة من أي شكل تصويري. يصعب تحديد نوعية هذه البهيمة، والأرجح أنها تمثل كبشاً ذا قرنين مستديرين، وتشكّل امتداداً لتقليد قديم، تبدو شواهده محدودة في هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر هذا الكبش في قالب جامد تغيب عنه أي حركة ظاهرة، وتبدو قوائمه الأربع ثابتة في وضعية واحدة ثابتة، يغلب عليها طابع التحوير والتجريد. يتبع تكوين رأس هذه البهيمة هذا النسق، ويتميّز بقرنين عريضين صيغا على شكل هلالين متوازيين.


آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
TT

آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم

مصعد المستشفى لا يكفّ عن الرنين، بينما المرضى وزوارهم يخرجون ويدخلون إليه. الممرات أشبه بنفق معتم. أطباء يعاينون صورة شعاعية، قبل أن تظهر لنا الكاميرا سعد الله ونوس على سرير المرض شاحباً، متعباً، هزيلاً، وقد فقد شعره، يتناول الدواء من يد شخص إلى جانبه، وتثبّت الممرضة إبرة المصل في ذراعه.

هكذا يبدأ «الوثائقي» المعنون: «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء»، الذي صوره المخرج عمر أميرالاي، مع صديقه الكاتب المسرحي سعد الله ونوس، قبل فترة قصيرة من وفاته يوم 15 مايو (أيار) 1997، وعرض يوم 28/11، في سينما متروبوليس ببيروت.الكلمة الأخيرةالفيلم بمثابة وصية، أو لنقل الكلمة الأخيرة التي تركها لنا هذا الكاتب الكبير بنصوصه كما بانخراطه الكامل في القضايا التي أحاطت به. منذ البدء يصارح أميرالاي سعد الله ونوس، الواقف «على حافة تخوم رجراجة بين الحياة والموت»، أنه جاءه ليستنطقه كشاهد على مرحلة «لتكون لسان حال جيلنا في هذا الصراع».

الفيلم سجل بعد اتفاق أوسلو، ونوس متوجس مما سيأتي، مزاجه جنائزي، ليس فقط بسبب المرض، بل بسبب الحالة العامة أيضاً. ثمة شرطان للسلام لم يتحققا بالنسبة لسعد الله ونوس. أن يحصل تغيير جوهري وجذري في البنى الاجتماعية والسياسية في إسرائيل. وأن يحصل الشيء نفسه في البلاد العربية من جهة أخرى. عندها التاريخ قد يجبرنا وتحت وطأة اليأس على التغيير والتجدد. نكبة 1948 «أقولها حرفياً إن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري، وأفسدت على إنسان عاش خمسين عاماً، مثلاً، الكثير من الفرح، والكثير من الإمكانات»، يقول ونوس في مطلع الفيلم الذي عرض في سينما «متروبوليس» في بيروت قبل أيام، إلى جانب فيلم آخر «إلِيبسِس» للمخرجة ساندرا إيشيه تتحاور فيه مع عمر أميرالاي ضمن فعالية «حواران على أهبة الموت» لـ«سينماتك بيروت».

مات «رائد المسرح السياسي»، سعد الله ونوس بعد صراع طويل مع سرطان في البلعوم كان يفترض ألا يمهله أكثر من ستة أشهر بحسب الأطباء، لكنه بقوة الكتابة تمكن من المقاومة خمس سنوات. ومن حسن حظنا أنها كانت من أغزر فترات حياته إبداعاً، كتب خلالها أروع مسرحياته، وشارك في هذا «الوثائقي» البديع الذي تحدث خلاله عن العلاقة العضوية التي ربطته بالقضية الفلسطينية، وأحداث المنطقة كيف عاشها بروحه وضميره ووجدانه، حتى لتشعر وهو يتحدث أن المآسي التي مرّت نهشت جسده، حتى أودت به، وهذا ما يعتقده هو نفسه.

عمر أميرالاي

أميرالاي الساخر حد البكاء بقدر ما يبدو سعد الله ونوس حزيناً ومكفهراً، نرى صديقه عمر أميرالاي حين تحاوره المخرجة الفرنسية، في الفيلم الثاني، ساخراً هزلياً بمرارة، حتى تختلط الدموع بالقهقهات. ويجيب على الأسئلة باعتباره يعيش في عام 2030 خاصة وأن كل التوقعات في الخمسين سنة الماضية، حصلت، ولم يعد من مكان للخيال. لقد أصبح كل شيء واقعاً، وما سيحدث غداً نعرفه اليوم. فهو كسوري - كما يقول - يعيش خارج الزمان والمكان. والسوريون واللبنانيون يتقاسمون الشيء نفسه. فهما توأمان سياميان لا يوجد جرّاح يمكنه أن يفصل مصير أحدهما عن الآخر، المقرون بـ«اليأس».

«أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء» (1997) يكتسب أهميته من حيث أنه اختصار لوجع جيل كامل في ساعة سينمائية مكثفة. تبدأ من نكبة 48 حيث فتح ونوس عينيه على قصة شابين من قريته «حسين البحر» تطوعاً في جيش الإنقاذ، ليحررا فلسطين من الذين جاءوا ليحتلوها. كان ترقّب مغمّس بالرهبة والخوف على مصيرهما. لكن الشعور تطور بمرور السنوات: «كنا نكبر وتكبر القضية معنا».

يسير الفيلم على وقع نقاط المصل وصوتها وهي تتدحرج ببطء إلى عروق ونوس. «كنا بلاداً فقيرة» لكن مع كل الهموم اليومية الكثيرة «كنا نحمل هموم القضية وتحولاتها على كواهلنا النحيلة، المتعبة».هزيمة 1967 لحظة حاسمة بعد أن استقر في الأذهان عبر سنوات الكذب والتدجيل أن نكبة 1948 كانت نتيجة الخيانة والأسلحة الفاسدة، وأنها لم تكن أبداً بسبب ضعف القدرة القتالية عند الجندي العربي. «زرعوا في أذهاننا أن مسألة هزيمة إسرائيل هي مسألة ممكنة، في أي لحظة».لذلك جاءت هزيمة 67 مدويّة. «لم أتصور أن القوات العربية في مصر بالذات، وكذلك في سوريا هي من الضعف والتفكك إلى الحد الذي بدت فيه خلال الأيام الستة». وعدت الأنظمة العربية بأنها ستحمي الوطن وأنها المؤهلة للقتال، ولم تفعل شيئاً إلا مراكمة الهزائم.

البكاء مع بلوغ النهاية مشاهد استسلام الجنود كانت مؤلمة. «الصدمة حادة وعنيفة، إذ أحس الجميع أنهم مطعونون بكبريائهم، أنهم مهانون حتى العظم». مشاهد تتخلل المقابلة، منها الأطفال المشردون في الخيام، يأكلون الخبز اليابس مع الشاي، عبد الناصر يعترف بمسؤوليته بعد الهزيمة ويتنحى، جنود إسرائيليون يقصفون بالطائرات، جنود عرب يستسلمون. تتالى المشاهد التي تدعو كلها لمزيد من الانكسار.يكاشفنا ونوس وكأنما يستعيد اللحظة حية. عندما تأكدت الهزيمة «شعرت أنني سأموت في تلك اللحظة، شعرت أنني أختنق.» بكى وبكى، وشعر أنها النهاية. وأن عمراً قد انتهى، وأن التاريخ قد توقف، وأن وجوده قد انطوى.

أهمية حرب 73 أنها كشفت بعد هزيمة ساحقة، أن إسرائيل ليست حصناً منيعاً لا يمكن مسّه، وليست تلك الدولة غير القابلة لأن تجرح وتخسر معارك. «لذلك صفقنا كثيراً. عندما قامت حرب 1973. مجرد شعورنا بأن جنودنا يستطيعون أن يقاتلوا، أعاد لنا شيئاً من الثقة المضعضعة والمعدومة بالذات».

لكن هذه الحرب، من ناحية أخرى، في رأي ونوس، أجهضت الفوران المبشّر بعد 67، وربما أنها كانت في ذهن بعض من شاركوا فيها مقدمة لما أتى بعدها.لم يبقَ سوى الانتحارحين زار أنور السادات إسرائيل أصاب ونوس الذهول. جلس وكتب «أنا الجنازة والمشيعون معاً». كان ذلك آخر نص، ومن بعده التزم سعد الله ونوس الصمت. كان متوتراً ولا يستطيع السيطرة على نفسه بعد أن أنهى كتابة ذلك النص. «تناولت حبة النوم، وحاولت أن أخرج من حالتي. بعد ساعتين أو أقل استيقظت أشد توتراً وضيقاً وكانت الظلمة شاملة أمامي. في تلك الليلة أقدمت على محاولة الانتحار الجدية».

في فترة الصمت الطويلة المغمسة بالاكتئاب، أمضى معظم وقته في القراءة والتأمّل، وفي مواجهة أسئلة التاريخ الموجعة، إلى أن أنعشت مشاعره انتفاضة 1989 وحفزته على كسر الصمت. في تلك السنة بدأ يخطط لكتابة مسرحيته «الاغتصاب». لم يكن غريباً أن يكسر صمته بمسرحية تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، وتحاول تحليل بنية النخبة الحاكمة في إسرائيل.

عندما راودته فكرة المصالحةنهاية المسرحية، أثارت الجدل، لأنها تضمنت حواراً بينه وبين طبيب نفسي إسرائيلي، يردد طوال المسرحية مقتطفات من سفر إرمية مستنزلاً اللعنات على السياسة العدوانية للنخبة الحاكمة في إسرائيل، والتي لا تؤدي فقط إلى الإجهاز على الفلسطيني، وإنما على تدمير الإنسان اليهودي أيضاً.

يعترف أنه في تلك اللحظة، كان يفتح باباً على الصلح، وأن إسرائيل في مسرحيته لم تعد حُرُم. «مجرد أن أقدم في المسرحية شخصية يهودية إيجابية تحتج على ما يحدث، وعلى ممارسات (الشين بيت) إزاء الفلسطينيين وعمليات التعذيب التي يقومون بها، مجرد أن أقدم شخصية من هذا النوع إنما يحمل في طياته تعاطفاً مع الإسرائيليين».

المشكلة في البلاد العربية أيضاً، بهذه البنى المتخلفة التي لم تحدّث و«تجعل من شعوبها كماً بشرياً مهملاً» حيث لا يجد المواطن أمامه سوى أن «يطأطئ رأسه».

العلاقة بين القصف والسرطانيعتقد سعد الله ونوس أن ثمة علاقة مباشرة بين حرب الخليج التي أجهزت على بقية الآمال الموجودة لدى العرب، وبدء شعوره بالإصابة بالورم أثناء الحرب، وخلال القصف الجوي الوحشي الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة الأميركية ضد العراق. ثم جاءت مفاوضات مدريد بعد هزيمة العراق التي يصفها بـ«الاستسلام» لأنها «لا يمكن أن تكون بداية لسلام حقيقي». الاتفاقات التي تمخضت عنها «ما هي إلا فصل من فصول هذه الحرب الدائرة التي يمكن أن تطول بيننا وبين إسرائيل».

إسرائيل غدت حقيقة تاريخية، غير أنه بقراءة متأنية يستنتج أنها لا تملك مقومات الاستمرار، هي مشروع خاسر. «لا حياة لها إلا إذا اندمجت كجزء في الكل، لا كمخفر مهمته أن يدمّر المنطقة، ويجعلها ممرغة باستمرار في الهزيمة والتخلف والتفتت».يسأله أميرالاي: «هل سنموت، وفينا العلة التي اسمها إسرائيل؟»يجيب: «على الأقل بالنسبة لي شخصياً، من المؤكد أن هذا سيحدث».

أميرالاي رحل هو الآخر عام 2011. ولم يشكّ ونوس بأن جيله كله سيمضي و«في رأسه تلوح هذه الخفقة السوداء الشبيهة بعلامة، هي علامة الخيبة التي تذوق مرارتها على مدّ عمره. لأن إسرائيل ستكون باقية حين يذهب جيلنا إلى نهاية حياته».


علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.