عَيْنا «مدام بوفاري»

سؤال يبقى قائماً بكل ارتداداته الواقعية والأدبية حول بطلة غوستاف فلوبير

لقطة من فيلم {مدام بوفاري} 2014
لقطة من فيلم {مدام بوفاري} 2014
TT
20

عَيْنا «مدام بوفاري»

لقطة من فيلم {مدام بوفاري} 2014
لقطة من فيلم {مدام بوفاري} 2014

ليس الشيطان وحده من يسكن في التفاصيل. كذلك اللذة تتحشد في ذلك المكمن، في التفاصيل الروائية على وجه التحديد. لا لأنها تكشف عن وعي الروائي بمستوي الصوغ في روايته وحسب، بل لأنها أيضاً تجسد بشكل حرفي المواقف والوقائع والفضاءات والشخصيات بشكل يجعل القارئ على درجة من التماس الشهي مع كذبة متخيلة على درجة من الإتقان. وبقدر اعتنائه بدقة الوصف، تكتسب الصور التي يبنيها صدقية تتشبّه بالحياة حد التماهي معها. وعلى هذا الأساس، أُثير الجدل حول عيني «إيما بوفاري»، بطلة رواية غوستاف فلوبير «مدام بوفاري»، بالنظر إلى تجليات التعدد اللوني لعينيها في سياق الرواية الذي أربك المتلقين، إذ لم يحسم ذلك التساؤل التفصيلي اللذيذ الجدل حول لونهما النهائي، بقدر ما فجر تساؤلات إزاء عبقرية فلوبير في ذلك التصوير متعدد الأبعاد والتمظهرات لعيني بطلته، وإمكانية وجود مرجعية ساطية استنسخها كما هي من الواقع.
في روايته «ببغاء فلوبير»، وفي فصل بعنوان «عَيْنا إيما بوفاري»، وبما يشبه المرافعة الدفاعية عن حرفية فلوبير، يهاجم جوليان بارنز النقاد لأسباب كثيرة، من بينها جرأتهم على خدش أدبية فلوبير، ويخص بالذكر أستاذة الأدب الفرنسي المشارك في جامعة أوكسفورد، مؤلفة أطول سيرة لفلوبير في بريطانيا، إيند ستاركي، لأنها كتبت أن «فلوبير لم يعزز شخصيات رواياته بصفات موضوعية وأوصاف ظاهرية، كما فعل بلزاك، فهو في الحقيقة لم يولِ مظهرهم الخارجي أي اهتمام، إذ إنه في إحدى المرات وصف عيني إيما بالعسليتين، ومرة أخرى بالسوداوين القاتمتين، وفي مشهد آخر بالزرقاوين». وبعد أن ينتقد طريقة تدريسها القديمة، وانحرافها عن نطق الكلمات الصحيحة، وينعتها بأنها مصابة بلعنة الذاكرة، كحال النقاد، ينفي أن تكون مرافعته حالة من «الانتقام الرخيص من سيدة ناقدة راحلة، لمجرد أنها أشارت إلى أن فلوبير لم يكن لديه إدراك ثابت لعيني إيما بوفاري». رغم أنه كتب روايته من منطلق الدفاع عن فلوبير، وذلك بالاتكاء على مقولته «حين تكتب سيرة صديق، افعل كما لو أنك تثأر له».
والواقع أن عيني إيما بوفاري لم تكن محل اهتمام إيند ستاركي فقط، فقد كتب ويليام إيفانس مقالة في مجلة «مدونات رومانسية»، بعنوان «السؤال حول عيني إيما»، تساءل فيها عن تنوع المعالجات التي أداها فلوبير لوصف عيني بطلته، وذلك في إطار رده على مقالة بنجامين ف. بارت حول وثائق فلوبير، الذي دعا القراء للانتباه إلى عدم قدرة فلوبير على تأكيد لون عيني بطلته، عندما خلط - بتصوره - بين عيني إليزا شيزنجر ولويز كوليت. ففي البداية «كانتا عسليتين، لكنهما ظهرتا فيما بعد بلون أسود، وبعد عدد من الصفحات كانتا سوداوين في الظل، ولكنهما أميل إلى الزرقة تحت ضوء النهار». وربما أراد أن يقول للقارئ إن عينيها عسليتان، ولكنهما تبدوان سوداوين، لأن رموشها سوداء، وهنا المفارقة، كما يقول، حيث الخطأ الصريح لفلوبير، الذي يحاول إيفانس أن يعالجه من منطلق أدبي، بربط ذلك التحول بمرحلة ما قبل وما بعد الزواج «فالسواد بهذا المعنى دليل على الشر». وعلى هذا الأساس، أراد أن يُمفهم أول تحول لعينيها بعد الزواج، حيث اتسعت عيناها، كدليل على اتساع عالمها، وتمادي رغباتها «فقد كان السواد هو لونهما، أما الظلال الزرقاء فقد تكون إشارة إلى عالمها السري خارج الزواج». وهكذا، صار يتأوّل تلك التجليات اللونية على الثبات الأخلاقي والتحول الرغائبي. فالأسود هو إشارة إلى كل ما هو سري محجوب، والأزرق هو لون الصراحة والانكشاف، نافياً عن فلوبير فكرة إهمال التفاصيل أو السهو اللامقصود، فكل ذلك خارج التساؤل، فعَيْنا إيما بوفاري - بتصوره - كانتا مصممتين بشكل متقن.
أما جوليان بارنز، فقد استعرض ذلك التأرجح وفي وصف عيني إيما بوفاري بشكل تفصيلي في ستة مشاهد، كما نقلها بندر الحربي، مترجم رواية «ببغاء فلوبير»، عن النسخة العربية لرواية «مدام بوفاري»، بترجمة محمد مندور: ١ - عند ظهورها الأول «ولكن جمال الفتاة كان يتركز في عينيها العسليتين. كانت أهدابهما تضفي عليهما صبغة السواد». ٢ - وعند وصف زوجها العاشق أيام زواجهما الأولى «كان إذا حدَّق في عينيها عن قرب خالها أكثر اتساعاً، ولا سيما وهي تفتح جفنيها وتطبقهما مرات متتابعة، ريثما تألفان الضوء عند الاستيقاظ. كانتا تبدوان سوداوين في الظلال، وزرقاوين قاتمتين في ضوء النهار». ٣ - في حفل راقص «وقد لاحت عيناها أشد سواداً». ٤ - عند لقائها الأول مع ليون «وهي تحدق فيه بعينيها السوداوين الواسعتين». ٥ - عندما ظهرت لرودولف ورآها أول مرة «عيناها السوداوان». ٦ - عندما كانت تنظر في المرآة في البيت مساءً، بعد أن أغواها رودولف للتو «فما كانت عيناها يوماً بهذا الاتساع، وبهذا السواد، وبهذا العمق».
ولكن هل هناك مرجع واقعي لتلك العينين المراوغتين «العينين النادرتين الصعبتين لساقطة بائسة»، حسب تعبير جوليان بارنز؟ نعم، هناك مصدر معرفي موثوق، حسب قوله، وهو كتاب دو كامب «الذكريات الأدبية»، وهو بمثابة النص التثقيفي الذي لم تعرفه الدكتورة ستاركي، حيث يصف شخصية المرأة التي استوحى منها فلوبير شخصية «مدام بوفاري»، من دون أن يسميها، بقوله: «لم تكن هذه الزوجة الثانية جميلة، فهي قصيرة، وشعرها أصفر باهت، ووجهها مرقط بالنمش. كانت مليئة بطموح الخيلاء، وتحتقر زوجها الذي تراه أحمق. شخصيتها تتسم بالنزاهة، ويغطي عظامها جسد متناسق، وفي مشيتها وحركتها مرونة، وتموج كتموج ثعبان الماء، وصوتها سوقي ينطلق بلهجة منطقة باس نورماندي، أكثره غنجٌ، وعيناها لا يُعرف لهما لون: أخضراوان هما أم رماديتان أم زرقاوان، فهو يتغير مع الضوء، ولهما تعبيرات موحية لا تفارقهما».
وبالمقابل، يسميها إيرفنج والاس في كتابه «الشبقة ومهووسات أخريات»، فهي زوجة مأمور الصحة يوجين ديلمار (دولفين كوتورييه)، حيث يثني على «فطنتها وجمالها». كما يصفها بأنها «فتاة جذابة في السابعة عشرة من عمرها، ذات شعر أشقر ناعم، وعينين تبدوان وكأنما تتغير ألوانهما حسب الضوء، وجسد متناسق... يمتلئ رأسها بالأحلام التي تثيرها الروايات الرومانتيكية والمجلات الدورية». وهكذا، يظهر الاختلاف على منسوب جمالها في الواقع، والاتفاق في جانب آخر على اللون المراوغ لعينيها، تماماً كما وصفهما فلوبير في روايته. وبذلك تسقط دعاوى إيند ستاركي أمام حقيقة غموض عيني إيما بوفاري. لولا أن ستاركي تسجل ارتيابها أيضاً في موت دولفين ديلمار، إذ تلمح إلى أننا أمام حالة من الحالات التي تقلد فيها الحياة الفن، فقد قرر مؤرخو الأدب أن دولفين ديلمار هي مدام بوفاري. وليس ثمة دليل، حسب قولها «على انتحار دولفين ديلمار. فرغم أن جميع التقارير تنص الآن على أنها فعلت ذلك، فإن شهادة الوفاة التي نُشرت في (النورماندي ميديكال) لم تتضمن سبب الوفاة، وهي مؤرخة في 7 مارس (آذار) عام 1848، وتنص فقط على أنها توفيت في ري، في الثالثة صباحاً من اليوم السابق، وهي في السابعة والعشرين من عمرها. لم يكن ثمة تحقيق حول سبب الوفاة، ولم تذكر أي صحيفة احتمال الانتحار». وبذلك تمكنت إيند ستاركي من تدمير المرجعية الواقعية التي يمكن الاطمئنان إليها.
وتتناقض هذه النتيجة التي توصلت لها إيند ستاركي، كما نقلها إيرفنج والاس، مع ما اعتبره جوليان بارنز نهاية الكتابات المنتحلة والحياة المتخيلة بالنسبة لفلوبير، وبداية الكتابة الحقة، وذلك عند بلوغه الخامسة والثلاثين، عندما أصدر روايته «مدام بوفاري»، إذ لا حاجة للأوهام مقابل ما يهبه الواقع. وهو استنتاج يتأكد في كتاب «الشبقة ومهووسات أخريات»، حين شكا لصديقيه: محرر «ريفيو دو باريس» مكسيم دو كامب، والشاعر الريفي لويس بوليه، عقمه الفني، فأشارا عليه أن يكتب عن موضوعات عادية. وعندما قال إنه لا يعرف شيئاً عن الحياة البرجوازية، قاطعه بوليه بالقول: «لم لا تكتب قصة ديلمار؟»، كإشارة توكيدية إلى واقعية القصة. وهي شهادة متأتية من أصدقاء فلوبير، ولذلك لا يمكن الركون إليها، في ظل الحفر الذي يؤديه بعض الباحثين عن الحقيقة الأدبية.
وبذلك يتأجل القول الفصل فيما بين عيني مدام بوفاري من الاتصال بالواقع والاختلاق المتخيّل، ليبقى السؤال قائماً بكل ارتداداته الواقعية والأدبية، إذ يمكن أن يكون فلوبير قد قدم سجلاً وصفياً مرتبكاً بالفعل للون عينيها، فهو مجرد كاتب يتحكم في مخلوقاته الروائية، ويمكن أن يخطئ، أو ربما تسربت إلى الرواية بعض مواصفات عيني أخرى، فتأرجح بينهما سهواً، وربما كانت دولفين كوتورييه هي المرجعية الواقعية التي استنسخها فلوبير، من دون أن يبذل أي جهد لاختلاق شخصية مغايرة يُختلف بها وعليها، وبذلك تتضاءل أسطورة عبقريته في ابتداع عينين مثيرتين للحيرة والفتنة. فهو بهذا المعنى مجرد ناسخ لواقعة معروفة بكل تفاصيلها، بما في ذلك لون عيني إيما بوفاري.

- ناقد سعودي



هدى بركات: عنف الحرب الأهلية اللبنانية أعاد تربيتي

هدى بركات
هدى بركات
TT
20

هدى بركات: عنف الحرب الأهلية اللبنانية أعاد تربيتي

هدى بركات
هدى بركات

لم تتأقلم الكاتبة الروائية هدى بركات مع باريس وغيومها الرمادية وأجوائها الباردة، برغم إقامتها فيها ما يزيد على ثلاثة عقود، ولم تكتب أعمالها الروائية باللغة الفرنسية التي تجيدها بطلاقة. ظلت موقنةً دائماً أن قلبها لا يزال معلقاً هناك حيث بيروت، مدينة السحر ورعشة القلب مهما نالت الحرب من قسماتها الجميلة.

فازت أخيراً روايتها «هند أو أجمل امرأة في العالم» بجائزة «الشيخ زايد للكتاب». ومن أبرز أعمالها «أهل الهوى»، «بريد الليل»، «حجر الضحك»، «حارث المياه».

«الشرق الأوسط» حاورتها حول روايتها الفائزة، وقضايا الغربة والهجرة وهموم الكتابة.

* في روايتك الأحدث «هند أو أجمل امرأة في العالم»، بدا العنوان للبعض وكأنه ينطوي على شيء يشبه الارتباك أو الحيرة، كأنك كنت حائرةً بين عنوانين هما «هند» وعنوان آخر هو «أجمل امرأة في العالم»، ثم قررت في النهاية الجمع بينهما في عنوان واحد... كيف ترين الأمر؟

- لعلّ هذه الرواية الأخيرة هي الوحيدة التي لم أتردّد قبل وضع عنوان لها. ولا أعتقد أنّ الالتباس في الجمع الذي تشيرين يؤكد على محتوى النصّ في عمق ما ذهب إليه. و«أو» في هذا العنوان تدلل على الازدواجية، وإلى لعبة المرايا التي تنتظم السرد بكامله، هند وأختها هنادي، الجمال والقبح، الوهم وحقائق الذاكرة، إلى آخره.

أما أن يرى البعض في ذلك «ارتباكاً وحيرةً»، كما تقولين، فهذا يعزّز خياري. لا أظن أن على العناوين أن تكشف عن دلالات مباشرة. هذا إلى جانب اعتقادي أن هنالك دائماً «البعض»، وهذا من حقّ القارئ ولا يزعجني أبداً.

* كيف تختارين عناوين أعمالك عادةً، ما الذي تراعينه فيها ومتى تشعرين أنك موفقة في هذا العنوان أو ذاك؟

- لا أعتقد أنّي موهوبة في وضع عناوين رواياتي. أقلّه فيما عدا الرواية الأخيرة، أو ربّما بالنسبة لروايتي «أهل الهوى»، لا أستطيع القول إنّي راضية عن مجمل هذه العناوين. أتردّد كثيراً، وغالباً أضع العنوان تحت ضغط الطباعة والنشر، أي بعد الانتهاء من كتابة النصّ الروائي. والحقيقة أنّي لا أعرف إن كان عنوان ما ناجحاً أم لا.

* لو عاد بك الزمن إلى الوراء، هل كنتِ تغيرين عنواناً قديماً لك؟

- ربما، لا أعتقد. لو افترضنا أنّي أستطيع ذلك، فما لم أنجح فيه في الماضي لن أضمن نجاحي فيه اليوم! روايتي «حجر الضحك» مثلاً أجد أنّ عنوانها معقّد، لكن أحداً ممّن استفتيت لم يوافقني الرأي.

* يحكي النص عن طفلة ذات جمال صاعق لكنها أصيبت بمرض نادر أدى إلى تشوه ملامحها بشكل صادم. هناك من ذهب إلى أن البطلة ترمز هنا لبيروت، كيف تستقبلين تلك المقاربة؟

- الحقيقة أني لا أخطّط لشيء قبل الشروع في الكتابة. لا للدفاع عن نظرية ولا حتى لبناء الشخصيات ودفعها إلى مصائر محتومة. ليست هناك «قناعات»، أو أنّ هناك ما أنوي أن أبرهن على صحّته أو إثبات أحقيّته. أنا أسير في الكتابة مدفوعة بـ«صوت» الشخصية التي ستروي حكايتها. أنصت إليها. لكنّ كلّ ذلك قد يأتي من هاجس ما، قد أكتشفه بعد الكتابة.

لم يأت التشوّه على بيروت فقط. بل على مدننا العربية كافّة، ولا بدّ أن ذلك آلمني إلى حدّ كبير. ففي حين بالغنا كثيراً في التغنّي بجمال مدننا، مدينتنا، وكل لبنان، ولم نتقبّل ما فعلت أيدينا ببلداننا، فضّلنا التنصّل واستيهام الجمال لعدم قدرتنا على تحمّل المسؤولية أو على تدبير ذلك الشعور المرّ بالذنب. أو أنّنا، عند مصيبة ما أو كارثة ما، بالغنا في التفجّع والنياحة والعويل و«تشحير» الوجه، تقريباً للسبب نفسه. لا بدّ أنّي كنت أهجس بكلّ ذلك. فأنا، كما ذكرت لك، لا أعرف تماماً ما الذي يدفعني إلى الكتابة.

* أيهما أخطر على النفس الإنسانية، تشوه الجسد أم تشوه الروح، وكيف تطرقتِ في أعمالك إلى النوع الثاني من التشوه؟

- أعتقد أن مقاييس الجمال والقبح، التألّق والتشوّه هي مقاييس مترجرجة ومتغيّرة باستمرار، وبالتالي فهي قد تنتهي بالركون داخل الذات الفرد ومرجعها هو ذاتها. فيحصل أن تكون حرّة من تلك التي يحدّدها «المجتمع» أو ما نجمع على تسميته الرأي العام أو التيّار الغالب أو الموضة. العزلة، أو الوقوع في الهامش قد يساعد على ذلك.

أمّا عن كيفية تطرّقي إلى التشوّه في رواياتي، فأنا أرى الآن بمناسبة سؤالك أنّه كان في صلب كتاباتي. أكان في النظرة إلى الذات أو في نظرة الآخرين إلى الشخصية الروائية، وأكان ذلك حقيقياً في حياة الشخصية أو متوهّماً. هذه على ما أعتقد من مكوّنات الدراميّة الحيّة في الكتابة الروائية.

ولكي نحاول تبسيط الأمور قليلاً سنقول إنّه عنف الحروب الأهلية المديدة، وعبورنا القلق عبر هذه الحقبة التي تشبه الزلازل البركانية، وانتفاء الحيّز «الإنساني» المشترك الآمن والعادل. لن نكون على جمال إن لم يكن الآخر يشبهنا ولو قليلاً. ابتعاد ذلك الآخر الذي يركن إليه قلب الإنسان هو الباعث على الهواجس بأنّ عناصر الجمال، في ما يعنينا ويحيط بنا آخذة بالتآكل. ولن نكون على جمال مستحق إن لم نكن كذلك في عيني الآخر، ولو قليلاً... هذا «الآخر» قد يكون حبيباً أو أمّاً أو مجتمعاً مختلفاً.

* أليس غريباً أن الهم اللبناني لا يزال يشكل هاجسك الأول والأخير، رغم إقامتك في باريس طوال تلك السنوات؟

- ما تقولين حقيقي بلا شك. الحرب الأهلية، تحديداً عنفها المديد أعاد تربيتي من جديد، ونظّم حياتي اليومية كما أفكاري. كأنّي أعدت اكتشاف العالم. وإلا فلم أكن لأترك بلدي أصلاً. كلّ أدوات الفهم، وكل المقولات والأدوات المعرفية فقدت صلاحيتها. لم تعد تنفع لا للعيش ولا للإدراك. الشرط البشري تغيّرت مفاهيمه، من التعريفات إلى آليّات الخلاص من الشقاء ومن آلام الوحشة.

هذا ما يحصل عادة بعد الحروب، أو الكوارث الكبرى. ما زال الأدب في الغرب مثلاً يستقصي ذيول الحربين العالميتين. ليس فقط في التأريخ، بل في ما فعلته الحربان في المجتمعات والنفوس. كأنّ ما حصل عصيّ على الفهم.

* بين بيروت التي رحلت عنها وباريس التي تقيمن بها... كيف تنظرين إلى ثلاثة عقود من الاغتراب؟

- حتى وقت قريب لم أكن مصدّقة هجرتي تماماً. كنت أستغرب حين أفتح نافذة غرفتي صباحاً أنني لا أطل على بيروت. لا أطيق سماء باريس الثقيلة الرمادية المطفأة. لا ألبس ما يقيني بردها القارس. لا أعتاد على تعقيد الأوراق الرسمية وشبه الرسمية التي لا تكتمل أبداً. لا آلف روائحها أو ناسها وأخاف من نهارها كما ليلها باستمرار، أنا القادمة من بلاد الرعب. نوع من الإنكار العنيف. كأنّ هناك من دفع بي بقوّة خارج بلادي غصباً عنّي. لكن مرارة السنوات علّمتني أنّي أبداً لن أدجّن هجرتي أو أتخلّص من بيروت. الغربة عاهة، ينبغي القبول بذلك. تدبيرها صعب لكن إنكارها أشدّ صعوبة. وينبغي القبول بأن الغربة ليست مسألة حدود جغرافيّة. المكان، مكاني على الأقلّ، ليس مشروطاً بوجودي الجسدي. لذا ربّما كل ما كتبت وأكتب يشير إلى بيروت ويعود إليها. ولعلّها حريّة مذهلة ألا تكون بالكامل لا هنا ولا هناك. الآن أقول إنّ إقامتي في باريس منذ أكثر من ثلاثة عقود لم تكن كلّها شقاءً ومرارةً، كما كنت أدّعي قبلاً. فلفرنسا عليّ فضل كبير أدركه الآن، أنا الغريبة التي لا تكتب حتى بلغتها.

* ترفضين مصطلح «أدب المهجر» لوصف إنتاج الأدباء العرب الذين يعيشون بالغرب وترين أنه قديم وغير دقيق، هل لديك توصيف «بديل»؟

- صحيح. أولاً لأن المسافة الفاصلة لم تعد عظيمةً بسبب ما وصلت إليه سهولة المواصلات والأسفار وسرعة التنقّل وعدم ارتفاع التكلفة. ثمّ إنّ «المهجر» كان هجراً حقيقياً للمكان الأوّل بما فيه اللغة والبيت. لذا كان الأدب المهجري أدباً «حنينياً»، و«نوستالجيا» يجمّل الماضي البعيد ويتمسّك به حباً وتعلّقاً ولو كان ذلك اختراعاً. الآن لم يعد «حب الوطن» أو حلم «العودة» إليه ماثلاً في الكتابات، في حين أن ملايين الناس تلقي بنفسها في البحار وتواجه الموت وتستدين من أجل الرحيل. رحيل بلا أيّ وعود أو أيّ إرادة بالعودة. تلك الملايين من البشر التي تسير في بلاد الله الواسعة لا تطلب سوى الابتعاد عن مكان شقاء وفقر ورعب وذلّ بلا حدود.

* رغم إجادتك للغة الفرنسية، فإن الكتابة بالعربية ظلت قرارك الحاسم الذي لا رجعة فيه، ألم تنشغلي بفكرة أن الكتابة بلغة الآخر قد تفتح الباب أمامك لتحقيق ما يسمى بـ«العالمية»؟

- والله، وبكل صدق، أنا لا أعلم ما هو تعريف «العالميّة» ولا الوصفات الناجعة للوصول إليها. يتهيّأ لي أن ولع بعض الكتّاب العرب بالترجمة كيفما كان وبأيّ شروط هو وراء وهم يسمّونه العالميّة. بعض الروائيين العرب ممّن أحبّ كثيراً لم يترجموا إلا قليلاً جداً، أو أن الترجمات لم تكن سبباً لانتشارهم في الغرب. أضرب لك مثالاً واحداً بالكاتب المصري محمد البساطي.

الكتابة بالعربية، ورغم أنّه صدرت لي نصوص مهمّة كتبتها بالفرنسية، تبقى لغة رواياتي وستبقى كذلك. الفرنسية ليست خياراً. باختصار شديد العربية هي لغتي، ولأنّي تركت بلدي والمنطقة العربيّة أتعلّق بالعربيّة أكثر، كأنّها ملاذ وبيت أخير أو أوّل.

* يؤكد كثيرون أن تجربة محفوظ في هذا السياق تبرهن على أن «المحلية تفتح الطريق للعالمية»، مستشهدين بتركيزه على «الحارة المصرية» في أعماله... برأيك، هل لا تزال تلك الصيغة فعالة في مخاطبة الأدب العربي للعالم؟

- مرّة أخرى لا أستطيع الإجابة، ولا أدري ما هو الناجع في مخاطبة العالم. ولا أعرف ما هي التوليفة التي قد تحمل الأدب العربي إلى العالميّة أو إلى جائزة نوبل. إننا مهتمّون بأمور كثيرة ونشغل أنفسنا بها كلزوم ما لا يلزم. كأنّ هناك العالم وهناك نحن وفي الوسط حفرة هائلة الاتساع لا نعرف موقعها أو مداها. هناك كتّاب عرب مشهورون يجهلون قواعد اللغة العربيّة البسيطة ويطمحون للعالمية وينتقدون تحيّز الغرب!

* تُرجمت أعمالك إلى العديد من اللغات الحية حول العالم، ما الذي تعنيه لك الترجمة عموماً؟

- كلّ ترجمة جديدة هي إضافة حياة أخرى للكتاب. تفتح على مجتمعات وحيوات أناس قد لا نعرف مطلقاً كيف نتشارك وإيّاهم إحساساً وهمّاً، أو ما الذي يفتح التجربة الإنسانيّة على آفاق رحبة تلغي الحدود الصارمة، الجغرافية والسياسية... إلخ، كيف نرى ذواتنا في الآخر. وكيف تمّحي عبر القراءة جروح أو إعاقات التاريخ والذاكرة. كلّ لغة جديدة هي حجرة جديدة في بيت الكاتب، ومدى إضافي إلى أفقه وروحه.

ثمّ إنّ الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى لها طعم الفرحة المضاعفة، حيث نعرّف بأنفسنا عبر أجمل وأفعل الطرق.