محسن المحمدي
هل يمكن للبشرية تجنب الحرب؟ سؤال ينقسم حوله الناس إلى فريقين: الأول يجيب بنعم، شريطة أن تتمكن الشعوب في علاقاتها من حل مشكلاتها بعقلانية واتفاق وتعاقد متوازن، على شاكلة الحلول التي تقدم حين يصطدم الأفراد بعضهم ببعض. أما الفريق الثاني، فيجيب بالسلب وبمبررات قوية أهمها، أن الإنسان هو بالطبيعة، مولع بالحرب والقتال، ومشروط بما يسميه المحلل النفسي فرويد «غريزة الموت».
ينتمي علم التاريخ إلى العلوم الإنسانية التي جاءت مبكرة، على خلاف العلوم الحقة. وهذه الأخيرة كانت نموذجا، وقبلة سعت وراء تقليدها كل البحوث التي شاءت أن تستحق لقب علم؛ وذلك بمحاولة تحقيق الشروط العلمية التي هي، في نهاية المطاف، الدقة والموضوعية، على أساس أن الدقة تعني الذهاب بالدراسة نحو الصرامة، التي يعد مثالها الأعلى، لغة الرياضيات. لهذا؛ نجد مثلا، أن العالم في مجال العلوم الحقة، لا يقول إن الجسم ساخن، بل يقول وطلبا للدقة، إن درجة الحرارة هي 140 درجة مئوية. وعوضا عن التعبير البلاغي الفضفاض؛ كون أن الغزالة سريعة كالبرق، سيقول إن سرعتها بلغت مثلا 60 كلم في الساعة.
عرفت أوروبا منذ القرن السابع عشر نقلة نوعية في التفكير على جميع الأصعدة، حيث حدث انقلاب هائل في الرؤية للعالم. وعلى الصعيد السياسي، ظهرت نظرية ثورية سميت بـ«التعاقد الاجتماعي»، بدأها بقوة مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة، الإنجليزي توماس هوبز، بكتابه «الليفيتان» الذي وضع فيه اللمسات الأولى والمبادئ المؤسسة لهذه النظرية، معلنًا بداية إمكانية تحمل الشعب لمسؤولياته، وتدبير مصالحه بيده، من دون أن يترك الأمور تنفلت من قبضته. وركز هوبز على أن العمل السياسي مطالب بضمان أقدس حق، وهو حق البقاء.
لنتصور أن لدينا راعيًا للغنم، يخرج صباحًا باكرًا بماشيته بحثًا عن المرعى. ويجد، بعد بحث طويل، أرضًا بها عشب أخضر كثيف. أكيد سيصرخ فرحًا وسيثيره المشهد، لأنه وجد ما سيشبع غنمه. لكن في مقابل ذلك، لنتصور المشهد نفسه، لكن الناظر للعشب الأخضر، هذه المرة، لن يكون الراعي، بل عالِم نبات. في هذه الحالة، ستنقلب الرؤية رأسًا على عقب. فما سيثير انتباه هذا العالم، ليس كون العشب صالحًا كغذاء للماشية، بل سيرى في اخضرار العشب علامة على إنتاج الطاقة. فالنبات الأخضر هو معمل «للتركيب الضوئي». والآن، لنأخذ، افتراضًا، عين الراعي ونقوم بتشريحها في المختبر، ونقارنها، بعد ذلك، بتشريح عين عالم النبات، فماذا سنجد؟
حينما نسمع اسم الفيلسوف «هنري برغسون»، نتذكر رجلا جند حياته ليكون ضد «النزعة المادية»، واستحواذ العلوم الفيزيائية ذات التوجه الميكانيكي، منذ القرن السابع عشر، على تصورات الإنسان الحديث. ونتذكر في الوقت نفسه، اشتغاله على إعادة الاعتبار للجوانب الروحية المفقودة، وإعلانه خيار «الحدس» باعتباره المعبر الحقيقي عن دفق الحياة وسيلانها، حيث جعل منه البديل عن التحليل والتفكيك العلمي المشوه للظواهر.
يظهر لنا إلقاء نظرة، ولو سريعة، على التاريخ، قمما شامخة تسمى «أبطال التاريخ». إنهم كالمنارات المضيئة التي تبرز لنا عظمتهم وفعلهم في التاريخ. ومن دونهم يصبح التاريخ ظلاما دامسا. إنهم بحق، المحرك الحقيقي البارز للتاريخ، والدافع بعجلته إلى الأمام. فكيف سيكون التاريخ من دون النبي الكريم محمد، أو السيد المسيح؟ وماذا سيكون من دون الإسكندر المقدوني أو نابليون بونابرت؟ بل ماذا سيكون من دون أرسطو، أو ابن الهيثم، أو ديكارت، أو آينشتين، أو آخرين غيرهم؟ أكيد سيصبح الأمر سوادا معتما، سكونا وتكرارا. يجود التاريخ بهؤلاء الأبطال، وكأن العناية الإلهية تبعث بهم لإنقاذ البشرية.
يثير انتباه المتأمل في المشهد البشري، تلك الرغبة الملحة في التواصل مع الغير. فالذات تلهث وراء الآخر طلبا لوده والتقرب منه. فنحن نجري وراء الصداقة والحب والزواج، ونبرم المعاهدات ونقيم الصفقات... وهي أمور لا يمكن أن تتحقق إلا بحضور الغير، فهو مبحوث عنه دائما. فكم من الرسائل تكتب يوميا، وكم من حسابات المواقع الاجتماعية تفتح كل لحظة، وكم من المكالمات الهاتفية تنجز... فالمرء وهو يسلك في درب الحياة، ينسج شبكة علائقية مع الغير لا تتوقف أبدا. فلم هذا الاهتمام الكبير بالذوات الأخرى؟ وهل حقا تجد الذات الخلاص عندها؟ أليس هذا الغير هو من يزعجنا ويربك حساباتنا؟ بل أليس هو من يهددنا على الدوام؟
حينما جرت ترجمة الكتاب الفلكي «المجسطي» إلى العربية، زمن الخليفة العباسي «المأمون»، أي بعد وجود صاحبه «كلوديوس بطليموس» بسبعمائة عام، سيؤخذ القرار بفتح ورش ضخمة للتحقق من دقة النتائج البطلمية، بحيث يتجند العلماء لتمحيص الأرصاد البطلمية وتدقيقها.
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة