التاريخ بين الحقيقة والتأويل

الوثيقة التاريخية مدانة إلى أن تثبت براءتها وتتحقق صحتها

التاريخ بين الحقيقة والتأويل
TT

التاريخ بين الحقيقة والتأويل

التاريخ بين الحقيقة والتأويل

ينتمي علم التاريخ إلى العلوم الإنسانية التي جاءت مبكرة، على خلاف العلوم الحقة. وهذه الأخيرة كانت نموذجا، وقبلة سعت وراء تقليدها كل البحوث التي شاءت أن تستحق لقب علم؛ وذلك بمحاولة تحقيق الشروط العلمية التي هي، في نهاية المطاف، الدقة والموضوعية، على أساس أن الدقة تعني الذهاب بالدراسة نحو الصرامة، التي يعد مثالها الأعلى، لغة الرياضيات. لهذا؛ نجد مثلا، أن العالم في مجال العلوم الحقة، لا يقول إن الجسم ساخن، بل يقول وطلبا للدقة، إن درجة الحرارة هي 140 درجة مئوية. وعوضا عن التعبير البلاغي الفضفاض؛ كون أن الغزالة سريعة كالبرق، سيقول إن سرعتها بلغت مثلا 60 كلم في الساعة. أما الموضوعية، فهي تعني باختصار، إبعاد الموضوع المدروس عن الذاتية. بعبارة أخرى، فإنه لا يمكن أن تتسم أي دراسة بطابع الموضوعية، إلا إذا تركت الموضوع نظيفا ونقيا من شوائب الذات الوجدانية. ونقصد بذلك، أن الباحث يسعى إلى طرد كل الميول العاطفية، إضافة إلى الانتماء والآيدولوجيا والقناعات الخاصة؛ لأنها تشوه الموضوع وتلوث صفاءه، ومن ثم تنقص درجة علميته.
من هو المؤرخ إذن؟ ومتى يكون الشخص الذي يروي التاريخ عالما؟ أليس شاهد العيان في حدث معين قد يحكي لنا مجريات الأحداث؟ وهل يكفي ذلك لكي نسميه بالعالم؟ إلى أي حد يكون عمل المؤرخ موضوعيا؟ بكلمة واحدة، هل علم التاريخ يلتزم بشروط العلمية؟
إن الأمر في الحقيقة أكثر تعقيدا من سرد المعطيات. فعالم التاريخ، هو ذلك الباحث الذي يسعى إلى ضبط الأحداث التاريخية، عن طريق التقصي والبحث المضني في الوثائق، وكل المصادر التاريخية المتاحة له (نقوش، نقود قديمة، مخطوطات، كل بقايا ومخلفات الماضي...) وبأكبر قدر ممكن من الحياد والموضوعية. لهذا؛ نجد عالم التاريخ شديد التحقيق والنقد للمعطيات التاريخية. يشهر سيف الشك في كل خطوة يخطوها، ويمكن، إجمالا، تقسيم عمله النقدي إلى نوعين، هما:
النقد الخارجي: وهو فحص للوثيقة التاريخية، من حيث شكلها، وطريقة كتابتها، والخط المستخدم فيها، ونوعية الورق، والأسلوب المتبع، والتوقيع المستعمل... ويقال الأمر نفسه عن الأبنية والآثار وباقي المخلفات الأخرى، حيث يجري البحث فيها عن نوعية البناء، والتصميم الهندسي، والمواد المستعملة، باعتبارها تؤكد حقبة زمنية وحضارية معنية. هذا الأمر، يجعل علم التاريخ في حاجة إلى علوم أخرى مساعدة، كالأركيولوجيا (علم الآثار)، والجيولوجيا والكيمياء (مثلا تقنية التأريخ وتحديد عمر المخلفات بواسطة الكربون 14 المشع)، ناهيك عن ضرورة التسلح بعلوم اللغات القديمة. وكمثال على ذلك، لنتصور مؤرخا يريد التأريخ لحدث ينتمي إلى القرن العاشر للميلاد، معتمدا على وثيقة وحيدة، راج بين المؤرخين، أنها تنتمي إلى تلك الحقبة. إلا أن البحث والتقصي والنقد الخارجي للوثيقة (ورقها، مدادها، خطها، خاتمها...)، أثبت جميعه، أنها تعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي. في هذه الحالة، تكون الوثيقة منحولة ومزيفة، وهو ما ستكون له تبعاته الخطيرة، وهي التشكيك في صدقية الحدث التاريخي نفسه.
النقد الداخلي: وهو اختراق للوثيقة من الداخل، حيث يعمل المؤرخ على توجيه نقد باطني لها، من خلاله يحاول بلوغ عمق المضمون، ولا يكتفي بالظاهر من النص. فقراءة ما بين السطور، مطلب ملح، قصد الوصول إلى النوايا والمقاصد الحقيقية للمدون التاريخي. إن المؤرخ يعرف جيدا، أن النص يحتوي على طبقات من المعاني، ويضم، في ثناياه، الكثير من المسكوت عنه. لهذا؛ فلا مناص من استنطاق الوثيقة، وجعلها تبوح بأسرارها، وعدم الاكتفاء بالسطحي من المنطوق، الذي قد يكون مزيفا وعكس الواقع التاريخي تماما. وبعبارة أوضح نقول: إن الوثيقة التاريخية مدانة حتى تثبت براءتها. فتصور معي مثلا، أن لدينا مؤرخا يريد ضبط أحداث الحرب العالمية الثانية، وفي حوزته وثائق كثيرة. من المؤكد أنه سيقوم بعد التأكد من سلامة هذه الوثائق بنقد خارجي، بالاشتغال على نقدها داخليا أيضا، وذلك بالاطلاع على المضمون، والغوص في عمق المحتوى، منقبا عن آيديولوجية وقناعة كاتب الوثيقة وميوله، والبحث، كذلك، عن المصالح التي تخدمها الوثيقة. بعبارة أوضح، السؤال عن المستفيد من المكتوب. بكلمة واحدة، على المؤرخ التأكد من الظروف والملابسات والسياقات التي ظهرت فيها الوثيقة.
إذن، نستنتج أن عمل المؤرخ الجاد، سواء بنقده الخارجي أو الداخلي، شاق جدا، بل هو ملغوم يحتاج إلى الجهد والصبر؛ قصد إعطاء أحداث تاريخية أكثر دقة وضبطا.

ابن خلدون وعلل العمران

في الثقافة الإسلامية، ثمة من تنبه إلى بعض عملية الضبط تلك التي يسعى إليها المؤرخ. ولنا في أصحاب علوم الحديث المثال الواضح، باعتبارهم دارسين علم أصول وقواعد السند والمتن، من حيث القبول والرد؛ بهدف التمييز بين الصحيح وغير الصحيح من الأحاديث النبوية. فهم عملوا على عدم تقبل الخبر إلا بعد معرفة سنده، بحيث كانوا يتتبعون سلسلة الرجال الموصلة للمتن. فظهر عندهم علم الجرح والتعديل والكلام على الرواة، ومعرفة المتصل أو المنقطع من الأسانيد. لكن بحديثنا عن تخصص التاريخ الصرف، ستبرز في تاريخنا الإسلامي شخصية متميزة، هو العلامة عبد الرحمن ابن خلدون (1332-1406) برائعته: «المقدمة»، وبطريقته المنهجية التي تتجنب ما يجب أن يكون وتميل إلى ما هو كائن، وتهتم بالواقع الاجتماعي وفق ظروفه ومعطياته الموضوعية. فقد كان يِؤمن بأن التاريخ، يخضع لقوانين صارمة مثله مثل ظواهر الطبيعة. وسيؤكد ابن خلدون، أن التاريخ ليس أبدا تجميعا وتكديسا للأحداث. بل هو تمحيص وتدقيق لها وفق «علل العمران». وفكرة العمران عنده، تكاد تؤدي معنى «القوانين الاجتماعية» نفسه؛ فالمؤرخ في نظره، هو من يكشف عن طبائع العمران والخصائص التي تخضع لها الأحداث.
يرفض ابن خلدون من المؤرخ حكي الأحداث حيثما اتفق، غثا وسمينا. بل عليه، عوضا عن ذلك، البحث عن المعقولية والأسباب المحركة للوقائع، ومحاولة سبرها بمعيار الحكمة وتحكيم النظر والبصيرة، إلى درجة أنه وجّه لوما إلى المؤرخين الذين سبقوه. فهم تاهوا، في أحيان كثيرة، في بيداء الوهم والغلط، معتبرا عملهم مجرد نقل وجمع للروايات، دونما ضوابط دقيقة تفرق بين الأسطوري والحقيقي من الأخبار. وكمثال يستشهد به ابن خلدون على غياب التدقيق وضعف التحقيق والتساهل في الرواية، ما ذكره المؤرخ المسعودي؛ إذ قال عنه: «وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل، وأن موسى، عليه السلام أحصاهم، في التيه، بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح، خاصة من ابن عشرين فما فوقها، فكانوا ستمائة أو يزيدون». هذه الرواية يراها ابن خلدون غير قابلة للتصديق. فالمسعودي وقع في شطط لا يقره عقل. وما سبب ذلك إلا جهله بطبائع العمران والأحوال، أو لنقل غياب فهم السياقات الجغرافية والاستراتيجية. إذ كيف يتسع التيه لمثل هذا العدد الضخم؟ فالأرض ضيقة ولا يمكن أن تستوعب كل العدد المذكور.
لقد كان ابن خلدون صرخة واضحة نحو العلمية في التاريخ، ودعوة صريحة لتحقيق الأخبار وفق مقياس العقل والبرهان، ومقارنة الوقائع التاريخية بأشباهها. لهذا؛ وجدناه يلوم بعض فحول المؤرخين القدامى؛ لأنهم قدموا الروايات كما سمعوها من دون اكتراث للمعقولية، واحتساب للسياقات والظروف التي تعد مقياسا لضبط الخبر. أو بتعبيره هو نقول، إن المؤرخين كانوا يشتغلون من دون استيعاب لطبائع العمران؛ مما عرضهم لنقل زائف للأحداث.
لكن وعلى الرغم من كل ما سبق ذكره، هل يمكن الطمع في نقل أمين للتاريخ؟ هل إذا اشتغلنا وفق علل العمران، بالتعبير الخلدوني، أو النقد الخارجي والداخلي بالتعبير الحديث، سنتمكن حقا من نقل أحداث الماضي بشكل صادق؟ أليس المؤرخ قبل كل شيء ذاتا، لها وجدان وميول وقناعات ودين وفلسفة وانتماء طبقي وسياسي يهدد جميعه الموضوعية في الصميم؟ وهل حقا يمكن تكرار الحدث التاريخي؟ ألسنا نعجز عن إعادة ما فات البارحة بالشاكلة نفسها؟ فما بالك بما حدث قديما؟ أليس قدر المؤرخ أن يقرأ أحداث الماضي بعيون الحاضر؟ وهو الأمر الذي يشوش على صفاء القديم. بعبارة أكثر دقة، هل هناك حقيقة تاريخية يمكن بلوغها أم مجرد تأويل تاريخي؟ ألم يقل «إدوارد كار» مخاطبا المؤرخ: «اجمع وقائعك أولا وحللها، وبعد ذلك، أقحم نفسك في خطر رمال التأويل»؟.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.