«هيدغر»: حينما يحرمني الآخر الاستقلال الوجودي

في المشهد البشري وعلاقة الفرد بالكل وتصورنا عن ذواتنا

مارتن هيدغر
مارتن هيدغر
TT

«هيدغر»: حينما يحرمني الآخر الاستقلال الوجودي

مارتن هيدغر
مارتن هيدغر

يثير انتباه المتأمل في المشهد البشري، تلك الرغبة الملحة في التواصل مع الغير. فالذات تلهث وراء الآخر طلبا لوده والتقرب منه. فنحن نجري وراء الصداقة والحب والزواج، ونبرم المعاهدات ونقيم الصفقات... وهي أمور لا يمكن أن تتحقق إلا بحضور الغير، فهو مبحوث عنه دائما. فكم من الرسائل تكتب يوميا، وكم من حسابات المواقع الاجتماعية تفتح كل لحظة، وكم من المكالمات الهاتفية تنجز... فالمرء وهو يسلك في درب الحياة، ينسج شبكة علائقية مع الغير لا تتوقف أبدا. فلم هذا الاهتمام الكبير بالذوات الأخرى؟ وهل حقا تجد الذات الخلاص عندها؟ أليس هذا الغير هو من يزعجنا ويربك حساباتنا؟ بل أليس هو من يهددنا على الدوام؟ سنلقي نظرة حول هذه القضية من وجهة نظر الفيلسوف المتميز مارتن هيدغر (1889 - 1976)، الذي يرى في الغير هدرا للخصوصية. لكن قبل ذلك فلنتحدث قليلا عن دور الغير في بناء الذات.
إن الحاجة إلى الغير ووضعه في ركن الضرورة، متعلق بهويتي «أنا» واكتشافي لها. فلكي أستوعب مكانتي وقيمتي ومرتبتي، لا بد من المرور عبر الآخر. فهو باختصار، بمثابة المعلم الذي من خلاله أحدد إحداثيات وجودي. فهب مثلا، أن لدينا شابا مغرورا يعد نفسه عبقريا في الرياضيات، إلى درجة أن ترسخت لديه فكرة أنه المتميز الوحيد ولا أحد يضاهيه، وعزم ذات يوم، على الترشح لمسابقة في الرياضيات، مؤمنا بأن الصدارة ستكون من نصيبه. لكن بعد انتهاء المباراة وظهور النتائج، وجد نفسه في الرتبة التاسعة من أصل عشرة مشاركين. فما كان من الشاب إلا أن يعيد النظر في إمكاناته، وهو الأمر الذي ما كان ليتحقق في غياب الآخر. وقس على ذلك معظم الحالات التي توجد فيها الذات. فالفتاة جميلة لأن بجوارها أخرى دميمة، والفقير لن يدرك أنه كذلك، إلا بوجود الغني الذي يذكره وينبهه إلى وضعيته وحالته المتدنية ماديا. كذلك نقول عن الكسول، فهو قد لا يعرف أنه كذلك، إلا إذا وضع أمام المجتهد النبيه؛ فآنذاك فقط، سيتعرف على كفاءته وحدود ذكائه.
إن الغير يعطيني فرصة ثمينة للمقارنة، فأستطيع رؤية عالمي من خلال عالمه. فهو ليس أمرا عابرا، أو ذلك الكائن الذي يمر من أمامنا خلسة من دون ترك الأثر البليغ في دواخلنا. فهو من يعود له الفضل في التحديد الدقيق لتصورنا لذواتنا. إنه الجسر والوسيط الضروري بيني وبين نفسي. وبكلمة واحدة نقول، إن تعريف نفسي رهين بالآخر.
إن الغير إذن يطبع ذواتنا ويشكل كثيرا من ممارساتنا. فوجوده مؤثر، وعدم أخذه بعين الاعتبار وهم كبير. ألا يتجاهل المرء هندامه وتسريحة شعره ولا يكترث لهما كثيرا حينما يكون بمفرده، لكنه بمجرد أن يفكر في الخروج، يسارع إلى الاهتمام بتفاصيل شكله، ودافعه في ذلك طبعا، هو الغير، الذي نخشى حكمه علينا. بل أليس الشخص حينما يصبح مغرما يغير من سلوكياته وتصبح حياته وردية، ويخرج كل ما في جوفه من مكنونات كانت خبيئة تنتظر فقط مهماز الغير؛ الحبيب.
نستنتج مما سبق، أن الغير له قوة هائلة في تحديد ملامح ذواتنا. لكن أليس هذا الغير نفسه يصبح أحيانا حائلا دون تحقيق الذات لذاتيتها؟ أليس هو ذلك الكائن المزعج والمقلق لنا، والمربك لحساباتنا، والمانع لحريتنا؟ أليس هو «الجحيم» على حد التعبير الشهير للفيلسوف الفرنسي، جان بول سارتر؟
من منا ينكر أننا في مشهد يومنا المتكرر، نصطدم بالغير، ونحصل منه على الإزعاج في كل مكان: في الحافلة حينما يدوس على قدمي مثلا، وفي الشارع حينما يزاحمني، وفي العمل حينما يعطيني الأوامر، وفي السينما حينما يعوق مشاهدتي الجيدة للشاشة أو يكثر الضجيج فيحرمني متعة الفرجة، وفي العائلة حينما يعارضني في قرار معين... بل من منا يستطيع إنكار أن الغير يهدد استقلاله، ويرهن حياته، ويمنعه من أن يكون حرا صاحب سيادة كاملة على ذاته؟
لقد قدم سارتر مثال «النظرة»، ليبرز كم أن الغير يجمد عفويتي ويمنعني تلقائيتي. فإذا كان لدينا طفل يلعب بكل حرية في الحديقة، بحيث يحتل المركز في عالمه الخاص، فإنه سرعان ما سيتوقف عن اللعب ويحس بالإحراج لمجرد أن تحدق به عين الآخر، فيفقد بذلك حريته، وتضيع إنسانيته، ويتحول في النهاية، إلى مجرد شيء، أي يصبح موضوعًا وليس ذاتًا.
أما إذا استحضرنا الفيلسوف الألماني المتميز مارتن هيدغر، فسنجده هو أيضا، يوجه للغير «تهمة» التضييق على الذات. لكن هذه المرة، بمنعها من الإبداع والاستقلال الوجودي. فوجود الغير عنده يفقده هويته وتميزه. فهو يذيبه ويخفيه كتميز ويمحوه كتفرد. بل يقف حاجزا أمام تجلي وانكشاف الوجود له. بكلمة واحدة: الغير يهدده كـ«دازاين» - الكلمة الألمانية التي اختارها هيدغر للدلالة على الوجود الإنساني الخاص وهو وجها لوجه مع الوجود. فالفرد الذي يلبي نداء الوجود، وينصت له، ويطيل الإقامة معه، هو: «الدازاين»، بكلمة أخرى؛ تعني هذه اللفظة تلك اللحظة التي ينفرد وينعزل فيها الشخص عن الغير، ويرتمي في حضن الوجود، ويعمل على محاورته ومساءلته وتلقي إشاراته.
يرى هيدغر أن هذا الدازاين، يجد نفسه دائما، تحت قبضة الغير، الذي يفرض عليه نمطا مشتركا من العيش. فالآخر يفرغ الذات من كينونتها الخاصة، ويجعلها دائما تحث رحمته. فعند الانخراط في اليومي والعامي (وسائل النقل، والمقاهي، والعمل...)، نجد الناس وقد أصبحوا متطابقين ومتشابهين. فالوجود المشترك يذيب كليا «الدازاين» ويفقده خصوصيته. فالغير يحمل في طياته خاصية استبدادية تمسح تميزه وتفرده، فلا أحد يظل معه هو هو، بل تصبح الذات لا أحد، إنها مجرد نسخة من الآخر.
إن الغير، حسب هيدغر، يجعل حياة الفرد مبتذلة وعاجزة عن أن تنصت للوجود والارتماء في أحضانه. فالدازاين، بوصفه ذلك الإنسان الفرد، المتفاعل مع الوجود من خلال تجربته الخاصة والحية، والذي لا يستطيع أحد غيره أن يحل محله فيها، يجد هذه الإمكانية معطلة عندما يدخل في إطار الجماعة. وهذا ما جعل هيدغر يفرق بين نوعين من الوجود البشري:
وجود حقيقي أصيل: هو الوجود الخاص، حيث تتميز فيه الذات كونها حرة، وتأخذ على عاتقها مسؤولية وجودها ومصيرها. إنه الوجود الذي يشعر فيه المرء بالقلق الوجودي، وبأنه قائم بنفسه وقادر على أن ينصت لنداء الوجود، وأن يطيل الإقامة فيه، رابطا معه علاقة وجدانية وشعرية.
وجود زائف ومبتذل: هو الوجود مع الغير، حيث يتوارى فيه القلق، وتنشغل فيه الذات بالحياة اليومية ومطالبها المعتادة «التافهة». حيث يعيش الفرد كالآلة، يفكر ويتصرف لا بصفته إنسانا متميزا ومتفردا، بل بوصفه شخصا خاضعا للجماعة، بما فيها من عامية وابتذال، تكون بمثابة الحاجز والعرقلة، نحو انصراف الفرد إلى التفكير في المصير الذي يعود فيه إلى قوته هو فقط، فيأخذ على عاتقه مسؤولية وجوده، على أساس أن «الدازاين» يتحقق بصيغة المفرد لا الجمع.
نخلص مع هيدغر، إلى أن الغير آلة تسحق خصوصية الذات، وتمنعها، ليس فقط الاستقلال الفكري والاجتماعي والسياسي، بل تحرمها أيضا، الاستقلال الوجودي، أي تمنعها من أن تكون «دازاين»، وهو أعز شيء، مما لا يمكن أن يتحمله الآخر بدلا مني.



وفاة الملحن المصري محمد رحيم تصدم الوسط الفني

الملحن المصري محمد رحيم (إكس)
الملحن المصري محمد رحيم (إكس)
TT

وفاة الملحن المصري محمد رحيم تصدم الوسط الفني

الملحن المصري محمد رحيم (إكس)
الملحن المصري محمد رحيم (إكس)

تُوفي الملحن المصري محمد رحيم، في ساعات الصباح الأولى من اليوم (السبت)، عن عمر يناهز 45 عاماً، إثر وعكة صحية.

وكان رحيم تعرض لذبحة صدرية منذ أشهر، تحديداً في يوليو (تموز) الماضي، دخل على أثرها إلى العناية المركزة، حسبما أعلنت زوجته أنوسة كوتة مدربة الأسود.

وكان رحيم قد أعلن اعتزاله مهنة الفن والتلحين في فبراير (شباط) الماضي، وتعليق أنشطته الفنية، وبعدها تراجع عن قراره ونشر مقطعاً لفيديو عبر حسابه الرسمي على «فيسبوك»، قال فيه حينها: «أنا مش هقولكم غير إني بكيت بالدموع من كتر الإحساس اللي في الرسائل اللي بعتوهالي وهتشوفوا ده بعينكم في ندوة، خلاص يا جماعة أنا هرجع تاني علشان خاطركم إنتوا بس يا أعظم جمهور وعائلة في العالم، وربنا ميحرمناش من بعض أبداً».

ونعى تركي آل الشيخ، رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه في السعودية، رحيم، وكتب عبر موقع «فيسبوك» اليوم (السبت): «رحم الله الملحن محمد رحيم وغفر الله له، عزائي ل اهله ومحبيه، خبر حزين».

ورحيم من مواليد ديسمبر (كانون الأول) 1979. درس في كلية التربية الموسيقية، وبدأ مسيرته بالتعاون مع الفنان حميد الشاعري، وأطلق أول أغانيه مع الفنان المصري عمرو دياب «وغلاوتك»، ثم قدم معه ألحاناً بارزة منها أغنية «حبيبي ولا على باله». كما تعاون رحيم مع العديد من الفنانين ومنهم: محمد منير، وأصالة، وإليسا، ونوال الزغبي، وأنغام، وآمال ماهر، ونانسي عجرم، وروبي، وشيرين عبد الوهاب، ومحمد حماقي، وتامر حسني، وغيرهم.

كما نعى رحيم عدد من نجوم الفن والطرب، وكتب الفنان تامر حسني عبر خاصية «ستوري» بموقع «إنستغرام»: «رحل اليوم صاحب أعظم موهبة موسيقية في التلحين في آخر 25 سنة الموسيقار محمد رحیم. نسألكم الدعاء له بالرحمة والفاتحة»، وأضاف: «صلاة الجنازة على المغفور له بإذن الله، صديقي وأخي محمد رحيم، عقب صلاة الظهر، بمسجد الشرطة بالشيخ زايد، إنا لله وإنا إليه راجعون».

منشور الفنان تامر حسني في نعي رحيم

وكتبت الفنانة أنغام عبر موقع «إكس»: «خبر صادم جداً رحيل #محمد_رحيم العزيز المحترم الزميل والأخ والفنان الكبير لا حول ولا قوة إلا بالله، نعزي أنفسنا وخالص العزاء لعائلته».

كما كتب الشاعر المصري تامر حسين معبراً عن صدمته بوفاة رحيم: «خبر مؤلم جداً جداً جداً، وصدمة كبيرة لينا كلنا، لحد دلوقتي مش قادر أستوعبها وفاة أخي وصديقي المُلحن الكبير محمد رحيم، لا حول ولا قوة إلا بالله».

كما نعته المطربة آمال ماهر وكتبت عبر موقع «إكس»: «لا حول ولا قوة إلا بالله. صديقي وأخي الغالي الملحن محمد رحيم في ذمة الله. نسألكم الدعاء».

وعبرت الفنانة اللبنانية إليسا عن صدمتها بكلمة: «?what»، تعليقاً على نبأ وفاة رحيم، في منشور عبر موقع «إكس»، من خلال إعادة تغريد نبأ رحيله من الشاعر المصري أمير طعيمة.

وشاركت الفنانة بشرى في نعي رحيم، وكتبت على «إنستغرام»: «وداعاً محمد رحيم أحد أهم ملحني مصر الموهوبين في العصر الحديث... هتوحشنا وشغلك هيوحشنا».

وكان رحيم اتجه إلى الغناء في عام 2008، وأصدر أول ألبوماته بعنوان: «كام سنة»، كما أنه شارك بالغناء والتلحين في عدد من الأعمال الدرامية منها «سيرة حب»، و«حكاية حياة».