بين فكر بدأ في سبعينات القرن الماضي ورؤية تتجدد اليوم في «مؤتمر ومعرض الحج» بنسخته الخامسة، تتقاطع مسيرة الإبداع والإيمان في حكاية المهندس الألماني محمود بودو راش، الذي تحول من معلم للعمارة إلى أحد رموز الفكر المعماري الإسلامي الحديث.
وفي الوقت الذي يناقش فيه المشاركون اليوم في «مؤتمر الحج» مستقبل الهياكل الذكية والمستدامة في خدمة الحشود والعمارة المستدامة، تعود الذاكرة إلى أولى محاولات الدمج بين التقنية والروح، حين قدم بودو راش رؤيته في مشروع تطوير خيام مشعر منى عام 1975، لتكون تلك الخطوة حجر الأساس لمفهوم جديد في العمارة السعودية المعاصرة.

وضمن جلسة «الابتكار في الهندسة المعمارية»، يستعرض المؤتمر أحدث الحلول التصميمية في إدارة الحشود والمناطق المقدسة، ويركز على جعل العمارة وسيلة لتيسير التجربة الإيمانية للحاج، لا مجرد بناء هندسي متطور، بحيث يتحقق التوازن بين جمال العمارة والوظائف العملية للمشروعات الكبرى.
وهي الفكرة ذاتها التي آمن بها بودو راش قبل نصف قرن، حين قال إن العمارة في مكة المكرمة والمدينة المنورة لا بدَّ أن «تخدم قبل أن تُعبِّر عن المهارة»، وهي المقولة التي اختصرت فلسفته المهنية وأعادت تعريف وظيفة المعماري.
من شتوتغارت إلى مكة
بدأت قصة بودو راش في مدينة شتوتغارت الألمانية، حيث وُلد ودرس الهندسة المعمارية قبل أن ينتقل إلى جامعة تكساس الأميركية لمواصلة دراسته العليا.
هناك، ومن خلال تفاعله مع عدد من الطلبة السعوديين، ساهم هذا التقارب في خلق مساحة لتقديم صورة غير تقليدية عن الإسلام، ما أثار فضوله الفكري والمعنوي، ليشد الرحال بعد ذلك إلى مكة المكرمة باحثاً عن الحقيقة، تاركاً المناصب والكراسي وراءه للحصول على إجابات أسئلته. وفي عام 1974 أعلن بودو راش إسلامه، ليولد باسم جديد ومعنى جديد للحياة والعمارة.
لم ينسَ المهندس الألماني شغفه بالعمارة، بل توسعت مداركه لإيجاد حلول للتجمعات الضخمة في المشاعر المقدسة. ففي عام 1975، شارك في المسابقة العالمية لتطوير منطقة المشاعر المقدسة في مشعر منى، بالتعاون مع المهندس فراي أوتو والدكتور يحيى الزعبي، وطرح من خلالها مفهوم «الخفة في البناء» المستوحى من روح الحج. فرأى أن المباني والمرافق لا بدَّ أن تُجسِّد السكينة التي يشعر بها الحاج بخفة المواد وبساطة الشكل وتجانسها مع الطبيعة والزمان.
كانت هذه الفكرة بداية لتطبيقات عملية تجسدت لاحقاً في الخيام الحديثة في المشاعر المقدسة والمظلات المتحركة في ساحات المسجد النبوي الشريف، وهي أعمال جمعت بين الجمال الهندسي والوظيفة العملية، لتصبح علامة فارقة في الخدمات المقدمة لضيوف الرحمن ونموذجاً عالمياً في العمارة البيئية الذكية.
الابتكار في العمارة
يأتي انعقاد جلسة «الابتكار في الهندسة المعمارية» ضمن فعاليات اليوم الرابع لمؤتمر ومعرض الحج ليعيد فتح صفحات فكر بودو راش من جديد، ويضعه في سياق التطور الهندسي المعاصر الذي تقوده السعودية اليوم في إدارة الحشود وخدمة الحجاج والمعتمرين.

تركّز الجلسة على التقنيات المستدامة والهياكل الخفيفة، مثل المظلات الذكية في المسجد النبوي، وتبحث في كيفية تحقيق التوازن بين الجمال والوظيفة، وبين الإبداع الفني ومتطلبات الأمن والسلامة، في امتداد مباشر للفلسفة التي وضعها راش في سبعينات القرن الماضي.
وقال بودو راش لـ«الشرق الأوسط» إن رحلته من ألمانيا إلى مكة كانت نقطة تحول على الصعيدين الديني والمهني، وهو ما انعكس على تجربته في خيام المشاعر المقدسة، وأسهم في تغيير مفهوم البناء والعمارة، خصوصاً فيما يتعلق بالتجمع الأهم لدى المسلمين، وهو موسم الحج، مشدداً على سعادته وهو يرى عمله يخدم الملايين من المسلمين.
وأضاف أن هذه الرحلة لم تكن مخططة، وكانت بدايتها بتأثير مباشر من بعض الطلبة السعوديين الذين ألهموه للسفر إلى مكة، لتبدأ بذلك مسيرة مشواره الحقيقي في الهندسة المعمارية وفهم جميع التفاصيل الدقيقة للمشروعات الكبرى وكيفية الاستفادة من كل المعطيات.
وعن مشاركته في مؤتمر الحج، قال بودو راش إن حضور الجلسة مهم لجميع الحاضرين للتعرف عن قرب على أبرز الأطروحات، خصوصاً في جلسة «دور التصميم المعماري في تحسين تجربة الحاج»، من خلال تخفيف الزحام، وتوفير التهوية الطبيعية، والتعامل مع المتغيرات المناخية في المشاعر المقدسة، دون المساس بقدسية المكان أو روحه، وهي دعوة عملية لإعادة تعريف دور العمارة بوصفها أداة للسكينة وتسهيلاً لجميع الأدوات المستخدمة.



