عندما دخلت الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها الثاني، مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. كان مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية السابق، جوزيب بورّيل، يتناول طعام العشاء في العاصمة البلجيكية مع مجموعة ضيّقة من الصحافيين، وقال: «هذه حرب طويلة قد تنتهي بحصول الفلسطينيين على الدولة، أو تقضي نهائياً على حل الدولتين. لكنها في الحالتين ستكشف ضعف السياسة الخارجية للاتحاد وعجز الدول الأعضاء عن التوافق حول موقف موحَّد من القضايا المصيرية التي تمسّ أمنها بشكل مباشر».
وها هي أوروبا اليوم، بعد عامين على حرب مدمرة رفعها تقرير دولي مستقل إلى مرتبة الإبادة، تقف عاجزة حتى عن فرض الحد الأدنى من العقوبات التجارية التي تطالب بها عدة دول أعضاء وتنادي بأكثر منها الحشود الشعبية التي تخرج كل أسبوع في المدن الأوروبية، احتجاجاً على جمود الحكومات والمؤسسات أمام المجازر والانتهاكات الإسرائيلية.
في الأشهر الأولى من الحرب كان الاصطفاف الأوروبي واضحاً بجانب الموقف الإسرائيلي، خصوصاً من الدول الوازنة، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ومن رئيسة المفوضية، أورسولا فون در لاين، التي كانت تتعرض لانتقادات شديدة بسبب انحيازها السافر إلى جانب إسرائيل، وعدم تجاوبها مع دعوات حكومات إسبانيا وآيرلندا وبلجيكا وسلوفينيا إلى تعليق اتفاقية الشراكة الموقعة بين الاتحاد والدولة العبرية.
واشتدّت تلك الانتقادات بعد صدور تقرير، وضعته أجهزة الاتحاد، ويؤكد الانتهاكات الإسرائيلية لبنود أساسية في الاتفاقية تتعلق باحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. لكن رئيسة المفوضية بقيت على موقفها المماطل، مدعومة من بعض الدول الأعضاء، خصوصاً ألمانيا التي صرحّت غير مرة بأنها ترفض مجرد طرح موضوع العقوبات على إسرائيل، الذريعة التي كانت تلجأ إليها رئيسة المفوضية، رغم انتقادات بعض كبار المسؤولين، هو نظام التصويت المعمول به في اجتماعات المجلس، الذي يقتضي للموافقة على العقوبات أغلبية موصوفة غير متوفرة من غير ألمانيا وإيطاليا والمجر.
لكن بعد صدور التقرير الدولي الذي وضعته مجموعة من الخبراء المستقلين، الذي خلص إلى أن الارتكابات الإسرائيلية في غزة تستوفي شروط توصيفها بالإبادة، وفقاً لأحكام القانون الدولي، وبعد تنامي الاحتجاجات الشعبية في العديد من البلدان الأوروبية، خصوصاً بعد قرار الحكومة الألمانية حظر تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وجدت رئيسة المفوضية نفسها مضطرة لطرح موضوع العقوبات على إسرائيل، وتعليق بعض بنود اتفاقية الشراكة معها على المجلس.
ويقال إن التغيير الذي طرأ على الموقف الألماني، الذي بدوره دفع فون در لاين إلى تغيير موقفها وقلب المعادلة داخل المجلس، لم يكن غريباً عن التحول في موقف الكنيسة الكاثوليكية الألمانية الوازنة في تحديد مواقف الفاتيكان في القضايا الكبرى.
وكان البابا ليو الرابع عشر أشار، في أول حديث صحافي مطوَّل له كشف عنه، مطلع الشهر الماضي، أن الفاتيكان ليس جاهزاً بعد لاتخاذ موقف رسمي في صدد وصف حرب غزة بالإبادة، ثم أضاف: «يزداد عدد الذين يستخدمون هذا المصطلح، بمن فيهم منظمتان تدافعان عن حقوق الإنسان في إسرائيل نفسها».
لكن بعد طرحها خطة مشتركة لفرض عقوبات على إسرائيل، تتضمن رسوماً جمركية على سلع مستوردة منها كانت حتى الآن معفاة من الرسوم، وإنهاء المعاملة التفضيلية التي تحظى بها الدول العبرية مع شريكها التجاري الأول في العالم، فضلاً عن عقوبات على اثنين من أعضاء الحكومة الإسرائيلية وتجميد أصولهما على الأراضي الأوروبية، ألقت المفوضية الكرة في ملعب الدول الأعضاء الذين سيعود لهم قرار تفعيل هذه العقوبات في المجلس.
ولم يتحدد إلى اليوم موعد مناقشة هذه الخطة في المجلس الأوروبي تمهيداً للموافقة عليها وتفعيلها؛ ما يتركها مجرد حبر على ورق النيات الأوروبية المتأرجحة بين التواطؤ، وعقدة الذنب، والرضوخ للضغوط الإسرائيلية والأميركية التي نادراً ما تخرج دولة أوروبية من شباكها. وعند مشارف انقضاء عامين على مقتلة غزة التي أحدثت تغييراً جذرياً في الخطاب السياسي والشعبي الأوروبي حيال الصراع في الشرق الأوسط، لكن من غير تغيير يُذكر حتى الآن في القرار الرسمي لحكومات الدول الأعضاء، عاد جوزيب بورّيل ليقول في حديث هاتفي من برشلونة: «في غزة، خسر الاتحاد الأوروبي روحه».










