لحمة مختبرية بطعم حقيقي... ما سرّ الاكتشاف السويسري الجديد؟

بهدف أثر بيئي أقل وكفاءة أعلى

التقدم العلمي اعتمد على مزيج من 3 جزيئات حيوية حفّزت الخلايا العضلية لتكوّن نسيجاً فعّالاً ثلاثي الأبعاد (أدوبي)
التقدم العلمي اعتمد على مزيج من 3 جزيئات حيوية حفّزت الخلايا العضلية لتكوّن نسيجاً فعّالاً ثلاثي الأبعاد (أدوبي)
TT

لحمة مختبرية بطعم حقيقي... ما سرّ الاكتشاف السويسري الجديد؟

التقدم العلمي اعتمد على مزيج من 3 جزيئات حيوية حفّزت الخلايا العضلية لتكوّن نسيجاً فعّالاً ثلاثي الأبعاد (أدوبي)
التقدم العلمي اعتمد على مزيج من 3 جزيئات حيوية حفّزت الخلايا العضلية لتكوّن نسيجاً فعّالاً ثلاثي الأبعاد (أدوبي)

حقق باحثون في معهد «ETH» في زيوريخ قفزة نوعية في إنتاج اللحوم المختبرية. بعد سنوات من صعوبة تطوير أنسجة عضلية حقيقية، تمكن الفريق بقيادة بروفسور أوري بار-نور من زراعة ألياف عضلية بقرية سميكة وفعّالة، تماثل الحقيقية جزيئياً ووظيفياً. هذا الإنجاز يمهد الطريق نحو إنتاج لحوم تُحاكي اللحم التقليدي.

رحلة الاكتشاف

لطالما كانت اللحوم المختبرية فكرة مستقبلية؛ لكن إنتاج ألياف عضلية قوية كان دائماً العقبة الكبرى. حالياً، وبعد أن عجزت أنظمة سابقة عن توفير البروتينات الأساسية والوظائف الحقيقية للعضلات، نجح باحثو «ETH» في التقليل من هذه الفجوة. هذه البداية قد تحمل إمكانات كبيرة لتطوير لحوم قابلة للأكل، توفر بدائل مستدامة وصحية.

بدأ البحث باستخدام خلايا أولية من البقرة، تُعرف ب«myoblasts» ثم وضعها الفريق في وسط غذائي مدعم بثلاث جزيئات حيوية أساسية. هذا الخليط، الذي طوره بار-نور خلال عمله بعد الدكتوراه في جامعة هارفارد قبل سبع سنوات، تسبب في تحفيز الخلايا لتتحول إلى ألياف عضلية واقعية، تستطيع الانقباض كما يفعل اللحم الحقيقي. النتيجة كانت نسيجاً ثلاثي الأبعاد، لا يشبه سابقاته في المختبر فحسب، بل ينافس العضلات الحقيقة جزيئياً وبرمجياً. ويطمح الفريق إلى استخدام هذه التقنية يوماً ما في إنتاج لحوم مطبوخة بأمان، دون الحاجة لمزارع أبقار أو مجازر.

إنتاج اللحم في المختبر يقلل من الأثر البيئي والانبعاثات ويوفّر بديلاً أخلاقياً دون الحاجة للذبح أو المزارع (أدوبي)

الطعم والقوام

لم يذق بار‑نور اللحوم المختبرية بعد بسبب القيود القانونية في سويسرا، لكن بعض زملائه شاركوا في تجارب تذوق رسمية. وصفوا الطعم والقوام بأنه يقارب الواقع إلى حد كبير، قائلين إنه «مماثل للحوم التقليدية». ليبقى الفرق الأهم في استمرار التحديات التنظيمية قبل أن تصبح هذه اللحوم الصديقة بيئياً والفعالة اقتصادياً خياراً شعبياً.

أهمية التقدم

على صعيد الأثر البيئي، يقلص إنتاج اللحوم معملياً الحاجة إلى الأراضي المخصصة للرعي، ويحد من انبعاث الغازات الدفيئة الناتجة عن تربية الماشية. أما بالنسبة للكفاءة الإنتاجية فإنه يمكن زراعة الأنسجة العضلية بأقل موارد طبيعية، ما يفتح الباب لتلبية الطلب العالمي دون تكلفة بيئية عالية. العنصر الثالث هو الرفق بالحيوان حيث لا يلزم ذبح الأبقار للحصول على اللحوم، ما يجعل هذا المسار خياراً أخلاقياً أكثر.

في سنغافورة، تستخدم اللحوم المعملية لعروض تجارية بالفعل، وإن كانت لحوم البقر لا تزال خارج السوق. ويبدو أن ابتكار «ETH» قد يكون الخطوة التي تقرب اللحوم الحقيقية المعملية من التطبيق التجاري.

التحديات المقبلة

يحتاج الباحثون إلى مصادقة طبية وغذائية في سويسرا وخارجها كما أن تعزيز النموذج المختبري إلى إنتاج وظيفي على نطاق واسع. ومن المهم تخفيض التكاليف ليتنافس المنتج المختبري مع اللحوم التقليدية. كما يتطلب تبني المستهلكين للحوم المختبرية ثقة، خصوصاً في طعمها ومصدرها.

من عمليّة قواعدية أرادت علاج أمراض عضلية إلى لحمة مصنوعة بالكامل في المختبر، تغير خطوة «ETH» المفهوم المألوف عن الغذاء. ويبدو أن الباحثين قد قطعوا شوطاً كبيراً في ردم الفجوة بين الخيال والعلم، وقد جعلوا اللحمة المستقبلية أقرب إلى المائدة أكثر من أي وقت مضى.


مقالات ذات صلة

أبحاث الروبوتات… «ضلَّت طريقها»

تكنولوجيا رودني بروكس

أبحاث الروبوتات… «ضلَّت طريقها»

شكوك في قدرة الروبوتات وفي سلامة استخدام الإنسان لها

تيم فيرنهولز (نيويورك)
تكنولوجيا سماعات أمامية وجانبية لتجسيم الصوتيات وسماعة متخصصة في الصوتيات الجهورية بتقنية 5.1

دليل شامل لإعداد نظام الصوت المحيطي المثالي في منزلك

أفضل طريقة للتمتع بتجربة السينما الغامرة في المنزل

تكنولوجيا سماعات أمامية وجانبية لتجسيم الصوتيات وسماعة متخصصة في الصوتيات الجهورية بتقنية 5.1

دليل شامل لإعداد نظام الصوت المحيطي المثالي في منزلك

أفضل طريقة للتمتع بتجربة السينما الغامرة في المنزل

الاقتصاد جانب من اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين «موبايلي» والمنتدى الاقتصادي العالمي (الشرق الأوسط)

«موبايلي» تتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي لتطوير الرقمنة بالسعودية

وقَّعت «موبايلي» اتفاقية تعاون استراتيجي مع المنتدى الاقتصادي العالمي، بهدف تطوير البنية التحتية الرقمية والمساهمة في تحقيق مستهدفات «رؤية 2030».

«الشرق الأوسط» (الرياض )
الخليج المهندس أحمد الصويان وأنطونيو غوتيريش يبحثان الموضوعات المشتركة وسُبل التعاون (هيئة الحكومة الرقمية)

غوتيريش يشيد بتقدم السعودية النوعي في الحكومة الرقمية

أشاد أنطونيو غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة، بما حققته السعودية من تقدم نوعي في مجال الحكومة الرقمية، عادّاً ما وصلت إليه نموذجاً دولياً رائداً.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

فيديوهات الذكاء الاصطناعي المُضللة تغمر مواقع التواصل الاجتماعي

فيديوهات الذكاء الاصطناعي المُضللة تغمر مواقع التواصل الاجتماعي
TT

فيديوهات الذكاء الاصطناعي المُضللة تغمر مواقع التواصل الاجتماعي

فيديوهات الذكاء الاصطناعي المُضللة تغمر مواقع التواصل الاجتماعي

انتشر، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقطع فيديو على تطبيق «تيك توك» يُظهر امرأة تُجري مقابلة مع مراسلة تلفزيونية حول بيع قسائم الطعام (التي تمنح في أميركا لضعيفي الدخل)، كما كتب ستيفن لي مايرز وستيوارت إيه طومسون(*).

لم تكن المرأة حقيقية، ولم يحدث هذا الحوار أصلاً؛ فقد تم توليد الفيديو بواسطة الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، بدا أن الناس يعتقدون أن هذا حوار حقيقي حول بيع قسائم الطعام مقابل المال، وهو ما يُعد جريمة.

وقد انخدعت قناة «فوكس نيوز» بفيديو مزيف مماثل، معتبرة إياه مثالاً على الغضب الشعبي إزاء إساءة استخدام قسائم الطعام، وذلك في مقال تم حذفه لاحقاً من موقعها الإلكتروني.

تُظهر مقاطع الفيديو، مثل المقابلة المُفبركة التي تم إنشاؤها باستخدام تطبيق «سورا» الجديد من «أوبن إيه آي»، مدى سهولة التلاعب بالرأي العام، بواسطة أدوات قادرة على خلق واقع بديل، من خلال سلسلة من التوجيهات البسيطة.

وفي الشهرين الماضيين منذ إطلاق «سورا»، انتشرت مقاطع الفيديو المُضللة بشكل كبير على منصات «تيك توك»، و«إكس»، و«يوتيوب»، و«فيسبوك»، و«إنستغرام»، وفقاً لخبراء مُختصين في رصدها. وقد أثار هذا الانتشار الواسع مخاوف بشأن جيل جديد من المعلومات المُضللة والأخبار الكاذبة.

عدم كفاية وسائل ضبط التضليل

تتبنى معظم شركات التواصل الاجتماعي الكبرى سياسات تُلزم بالإفصاح عن استخدام الذكاء الاصطناعي، وتحظر بشكل عام المحتوى الذي يهدف إلى التضليل. إلا أن هذه الضوابط أثبتت عدم كفايتها بشكل كبير، لمواكبة التطورات التكنولوجية الهائلة التي تُمثلها أدوات «أوبن إيه آي».

وبينما يُقدم العديد من مقاطع الفيديو صوراً ساخرة أو صوراً مُفبركة لأطفال وحيوانات أليفة؛ فإن بعضها الآخر يهدف إلى تأجيج الكراهية التي غالباً ما تُهيمن على النقاشات السياسية على الإنترنت. وقد استخدمت هذه المقاطع بالفعل في عمليات التأثير الأجنبي.

مسؤوليات الشركات

وقال باحثون تتبعوا الاستخدامات الخادعة إن المسؤولية تقع الآن على عاتق الشركات لبذل المزيد من الجهد لضمان معرفة الناس بالحقيقي والمزيف.

وتساءل سام غريغوري، المدير التنفيذي لمنظمة «ويتنس Witness» (الشاهد) المعنية بحقوق الإنسان التي تركز على مخاطر التكنولوجيا: «هل بإمكانهم تحسين إدارة المحتوى ومكافحة المعلومات المضللة والمغلوطة؟ من الواضح أنهم لا يفعلون ذلك. هل بإمكانهم بذل المزيد من الجهد في البحث الاستباقي عن المعلومات المولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي وتصنيفها بأنفسهم؟ الإجابة هي: (نعم) أيضاً - أي أنهم لا يفعلون ذلك».

ولم تستخدم الفيديوهات المُفبركة للسخرية من الفقراء فقط، بل من الرئيس ترمب أيضاً.

وحتى الآن، اعتمدت هذه المنصات بشكل كبير على مُنشئي المحتوى للكشف عن أن المحتوى الذي ينشرونه غير حقيقي، لكن هؤلاء لا يفعلون ذلك دائماً. ورغم وجود طرق تُمكّن منصات، مثل «يوتيوب» و«تيك توك» وغيرهما، من اكتشاف أن الفيديو مُفبرك باستخدام الذكاء الاصطناعي، إلا أنها لا تُنبّه المشاهدين دائماً على الفور.

وقالت نبيهة سيد، المديرة التنفيذية لمؤسسة «موزيلا»، وهي مؤسسة غير ربحية تُعنى بسلامة التكنولوجيا وتدعم متصفح «فايرفوكس»، مُعلقة على شركات التواصل الاجتماعي: «كان ينبغي عليهم أن يكونوا مُستعدين».

علامات رصد التزييف

تؤكد الشركات المطورة لأدوات الذكاء الاصطناعي أنها تسعى لتوضيح طبيعة المحتوى المُنشأ بواسطة الكومبيوترات، للمستخدمين. وتقوم كل من «سورا» والأداة المنافسة «فيو» التي تقدمها «غوغل»، بوضع علامة مائية مرئية على مقاطع الفيديو التي تنتجها. فعلى سبيل المثال، تضع «سورا» علامة «سورا» على كل فيديو. كما تُضيف الشركتان بيانات وصفية غير مرئية، يمكن قراءتها بواسطة الحاسوب، لتحديد مصدر كل فيديو مزيف.

وتتمثل الفكرة في إعلام المستخدمين بأن ما يشاهدونه ليس حقيقياً، وتزويد المنصات التي تعرض هذه الفيديوهات بالإشارات الرقمية اللازمة لكشفها تلقائياً.

تستخدم بعض المنصات هذه التقنية؛ فقد أعلنت منصة «تيك توك»، استجابة على ما يبدو للمخاوف بشأن مدى إقناع الفيديوهات المزيفة، الأسبوع الماضي، أنها ستشدد قواعدها المتعلقة بالإفصاح عن استخدام الذكاء الاصطناعي. كما وعدت بأدوات جديدة تُمكّن المستخدمين من تحديد مقدار المحتوى المُصطنع - مقارنة بالمحتوى الحقيقي - الذي يرغبون بمشاهدته.

ويستخدم «يوتيوب» العلامة المائية غير المرئية لتقنية «سورا» لإضافة ملصق صغير يُشير إلى أن فيديوهات الذكاء الاصطناعي «مُعدّلة أو مُصطنعة».

وقال جاك مالون، المتحدث باسم «يوتيوب»: «يرغب المشاهدون بشكل متزايد في مزيد من الشفافية حول ما إذا كان المحتوى الذي يشاهدونه مُعدّلاً أم مُصطنعاً».

سهولة التحايل

مع ذلك، قد تظهر الملصقات أحياناً بعد أن يشاهد الفيديوهات آلاف أو حتى ملايين الأشخاص. وفي بعض الأحيان، لا تظهر على الإطلاق.

وقد اكتشف أصحاب النيات الخبيثة سهولة التحايل على قواعد الإفصاح. فبعضهم يتجاهلها ببساطة، بينما يقوم آخرون بالتلاعب بالفيديوهات لإزالة العلامات المائية التعريفية. ووجدت صحيفة «نيويورك تايمز» عشرات الأمثلة على فيديوهات «سورا» التي تظهر على «يوتيوب» من دون العلامة الآلية.

وقد ظهرت عدة شركات تقدم خدمات إزالة الشعارات والعلامات المائية. كما أن تعديل الفيديوهات أو مشاركتها قد يؤديان إلى إزالة البيانات الوصفية المضمنة في الفيديو الأصلي، التي تشير إلى أنه تم إنشاؤه باستخدام الذكاء الاصطناعي.

وحتى عندما تبقى الشعارات ظاهرة، قد لا يلاحظها المستخدمون أثناء التصفح السريع على هواتفهم.

انخداع المشاهدين

ووفقاً لتحليل التعليقات الذي أجرته صحيفة «نيويورك تايمز»، الذي استخدم أدوات الذكاء الاصطناعي للمساعدة في تصنيف محتوى التعليقات، فإن ما يقرب من الثلثين، من ضمن أكثر من 3000 مستخدم علّقوا على فيديو «تيك توك» حول قسائم الطعام، تعاملوا معه كما لو كان حقيقياً.

وفي بيان لها، قالت «أوبن إيه آي» إنها تحظر الاستخدامات الخادعة أو المضللة لـ«سورا»، وتتخذ إجراءات ضد منتهكي سياساتها. وأضافت الشركة أن تطبيقها ليس سوى واحد من بين عشرات الأدوات المماثلة القادرة على إنشاء فيديوهات واقعية بشكل متزايد لا يطبق العديد منها أي ضمانات أو قيود على الاستخدام.

وأضافت الشركة: «تُنشأ مقاطع الفيديو المُولّدة بواسطة الذكاء الاصطناعي، وتُشارك عبر العديد من الأدوات المختلفة، لذا فإنّ معالجة المحتوى المُضلّل تتطلّب جهداً شاملاً من جميع الأطراف المعنية».

من جهته قال متحدث باسم شركة «ميتا»، المالكة لـ«فيسبوك» و«إنستغرام»، إنّه ليس من الممكن دائماً تصنيف جميع مقاطع الفيديو المُولّدة بواسطة الذكاء الاصطناعي، لا سيما مع التطور السريع لهذه التقنية. وأضاف أنّ الشركة تعمل على تحسين أنظمة تصنيف المحتوى.

ولم تستجب منصتا «إكس» و«تيك توك» لطلبات التعليق على انتشار مقاطع الفيديو المُزيّفة المُولّدة بواسطة الذكاء الاصطناعي.

لا يوجد حافز مالي لتقييد نشر الفيديوهات

وقال ألون يامين، الرئيس التنفيذي لشركة «Copyleaks»، وهي شركة تُعنى بكشف محتوى الذكاء الاصطناعي، إنّ منصات التواصل الاجتماعي لا تملك أي حافز مالي لتقييد انتشار مقاطع الفيديو طالما استمرّ المستخدمون في النقر عليها.

وأضاف: «على المدى البعيد، عندما يُصبح 90 في المائة من حركة المرور على المحتوى في منصّتك مُولّداً بواسطة الذكاء الاصطناعي، فإنّ ذلك يُثير تساؤلات حول جودة المنصّة والمحتوى.. لذا ربما على المدى الطويل، قد تكون هناك حوافز مالية أكبر لضبط محتوى الذكاء الاصطناعي فعلياً. لكن على المدى القصير، لا يمثل ذلك أولوية رئيسية».

* خدمة «نيويورك تايمز»


من الطاقة إلى الرقاقة: تحالف سعودي - أميركي نحو عصر تقني جديد

الرئيس الأميركي دونالد ترمب مرحبا بالأمير محمد بن سلمان في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب مرحبا بالأمير محمد بن سلمان في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

من الطاقة إلى الرقاقة: تحالف سعودي - أميركي نحو عصر تقني جديد

الرئيس الأميركي دونالد ترمب مرحبا بالأمير محمد بن سلمان في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب مرحبا بالأمير محمد بن سلمان في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

في عام 1945، وعلى سطح البارجة الأميركية «كوينسي»، وُلد تحالف غيّر وجه العالم. لقاء جمع الملك عبد العزيز آل سعود بالرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، وكانت لحظته انطلاقة شراكة نفطية، وولادة تحالف سعودي - أميركي أعاد تشكيل خريطة الطاقة الدولية.

واليوم، يتكرر هذا اللقاء الاستراتيجي بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، ولكن بلغة مختلفة تواكب تحولات العصر. إذ تمثل زيارة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، إلى واشنطن ولقاؤه بالرئيس الأميركي دونالد ترمب انطلاقة عصر جديد لاقتصاديات المستقبل التقنية من الرقائق الإلكترونية الدقيقة والحوسبة إلى الذكاء الاصطناعي.

الأمير محمد بن سلمان والرئيس دونالد ترمب خلال حضورهما منتدى الاستثمار الأميركي - السعودي في واشنطن (رويترز)

فمنذ اللحظة الأولى لهذه الزيارة، برز التحول نحو عصر تقوده التكنولوجيا واضحاً. ففي أول ظهور إعلامي مشترك لولي العهد السعودي والرئيس الأميركي، لم يكن السؤال الافتتاحي للصحافيين عن الأمن أو السياسة أو الطاقة، بل كان عن الرقائق الإلكترونية.

ومن هنا، تعكس أولوية السؤال عن الرقائق الإلكترونية قبل ملفات استراتيجية أخرى الدور المحوري الذي باتت تؤديه هذه الرقائق في تشكيل عالمنا التقني، حيث أصبحت هذه الرقائق بنية تحتية غير مرئية للاقتصادات العالمية، وبها تُقاس القوة الأمنية والسيادة التقنية للدول.

الرقائق الإلكترونية نفط هذا العصر

في عالم اليوم، باتت أشباه الموصلات (أو ما تُعرف بالرقائق الإلكترونية) الأساس لكل تقنية نعتمد عليها في حياتنا المعاصرة. فهي تُعدّ المحرك الخفي لكل ما نستخدمه من هواتف، وسيارات، وطائرات، وصولاً إلى الأجهزة الطبية وأنظمة الذكاء الاصطناعي. جميعها تعتمد بشكل رئيسي على هذه الرقائق. عملياً، لا يمكن لأي جهاز إلكتروني حديث أن يعمل من دونها.

أثر هذا الاعتماد الكبير على هذه الرقائق (أو ما يُعرف بالرقاقات) انكشف بشكل واضح، خصوصاً خلال جائحة «كورونا». فقد أدى النقص في إمداد رقاقات متناهية الصغر إلى التسبب في شلل خطوط إنتاج مصانع سيارات عملاقة حول العالم، نظراً لاعتماد السيارات الحديثة في عملها على هذه الرقاقات، إذ يصل عددها من 1000 إلى 3000 في السيارة الواحدة بحسب النوع والمواصفات.

والمفارقة أن هذه الرقائق، رغم أهميتها الاستراتيجية، فإنها صغيرة جداً لا تُرى بالعين المجردة. فعلى سبيل المثال، يضم معالج (A19) الأحدث من شركة «آبل» لجهاز «آيفون 17»، الذي لا يتجاوز حجم ظفر الإصبع، ما بين 25 و30 مليار ترانزستور تم تصنيعها بتقنية (3 نانومتر) من شركة (TSMC).

شعار شركة الرقائق «إنفيديا» في مقرها الرئيسي بوادي السيليكون (د.ب.أ)

لذلك أصبحت هذه الرقائق الصغيرة جداً تمثل القلب النابض للعالم التقني، بل وأساس القوة الاقتصادية للدول. لذا برزت شركات أشباه الموصلات مثل «إنفيديا» (Nvidia)، و«تي إس إم سي» (TSMC)، و«برودكوم» (Broadcom) ضمن قائمة أعلى عشر شركات قيمة سوقية في العالم، بل إن شركة «إنفيديا» - المتخصصة فقط في تصميم الرقائق الإلكترونية - تصدرت القائمة كأعلى شركة قيمة سوقية في العالم منذ الربع الثاني من عام 2025. وبهذا يمكن اعتبار الرقائق الإلكترونية نفط القرن الحادي والعشرين، ومن يمتلك هذه التقنية يمتلك مفاتيح القوة الاقتصادية والقيادة العالمية.

الرقائق والطاقة: عنوان سباق الذكاء الاصطناعي

أدى التسارع الهائل في قدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى ارتفاع غير مسبوق في الطلب على الرقائق الإلكترونية المتقدمة، مثل وحدات المعالجة الرسومية (GPUs)، والدوائر المتخصصة (ASICs)، والمعالجات الأخرى عالية الأداء. وفي ضوء هذا التحول، أصبحت هذه الرقائق أصولاً وطنية استراتيجية، تؤثر في التنافسية الاقتصادية والسيادة التكنولوجية للدول، مما دفع الحكومات حول العالم إلى تسريع جهودها لتأمين سلاسل الإمداد، وتوطين الإنتاج، وحماية تقنيات أشباه الموصلات الحساسة.

ومع ذلك، في هذه المرحلة الجديدة من سباق الذكاء الاصطناعي، لم يعد أداء الرقائق الإلكترونية سوى نصف المعادلة، بينما يتمثل النصف الآخر في القدرة على توفر كميات هائلة من الطاقة اللازمة لتدريب وتشغيل هذه الرقائق داخل مراكز بيانات الحوسبة المتقدمة. وهنا تكمن الميزة التنافسية الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية لتكون لاعباً عالمياً في هذا السباق.

إيلون ماسك خلال حفل عشاء بالبيت الأبيض أقامه الرئيس دونالد ترمب احتفاءً باستقبال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان (رويترز)

فكما تكتسب مادة السيليكون الخام قيمتها الحقيقية عندما تتحول إلى رقاقة إلكترونية، يكتسب النفط السعودي بُعداً استراتيجياً مختلفاً عندما يُستخدم لتوليد الطاقة لتشغيل وتبريد مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي. فالمملكة، من خلال تحويل مواردها النفطية إلى كهرباء موثوقة ومنخفضة التكلفة للحوسبة المتقدمة، تُعظّم القيمة الاقتصادية لمواردها الطبيعية، وتضع نفسها في قلب الاقتصاد الرقمي العالمي. وبهذا، لم يعد دور المملكة مقتصراً على تصدير الطاقة فحسب، بل امتد ليشمل تمكين القدرة الحاسوبية التي تقوم عليها اقتصاديات المستقبل.

تكشف كثافة استهلاك الذكاء الاصطناعي للطاقة طبيعة هذا التحول. فقد أظهرت دراسات حديثة أن توليد رد واحد من الذكاء الاصطناعي من 500 كلمة قد يستهلك كمية طاقة تعادل شحن هاتف ذكي لمرة واحدة. ومع نمو أحمال الذكاء الاصطناعي، بدأ السؤال المحوري الذي يُشكّل اقتصاد اليوم يتحول من: كم تبلغ تكلفة برميل النفط؟ إلى: كم تبلغ تكلفة حوسبة رمز («توكن») واحد للذكاء الاصطناعي؟

اليوم، أصبحت الرقائق الإلكترونية القلب النابض للذكاء الاصطناعي، بينما باتت الطاقة هي الأكسجين لهذه الرقائق. وضمن هذه المعادلة الثلاثية (رقائق - ذكاء اصطناعي - طاقة)، تقف المملكة العربية السعودية في موقع قوة فريد كواحدة من أكبر منتجي الطاقة في العالم.

في الوقت الحالي، يخضع الوصول إلى تقنيات أشباه الموصلات المتقدمة، بما في ذلك رقائق الذكاء الاصطناعي، لقيود تنظيمية مشددة للغاية من قبل الحكومة الأميركية، تُقنّن عملية بيع هذه الرقائق كمنتجات، من دون الحديث عن نقل صناعتها. لذلك، لا تُمنح موافقات الوصول لهذه التقنيات إلا لحلفاء يتمتعون بتوافق استراتيجي ويملكون بيئات تنظيمية مستقرة وآمنة لهذه الرقائق المتقدمة، كواحدة من أكثر التقنيات حساسية وتأثيراً في ميزان القوى العالمي. وقد برزت السعودية كأحد هؤلاء الحلفاء الاستراتيجيين.

إذ لم تأتِ الشراكات التقنية الأخيرة بين المملكة وكبرى الشركات الأميركية مصادفة، بل جاءت كنتيجة للبيئة الاستثمارية التنافسية للسعودية، التي تجعلها قبلة للشركات الأميركية، كون المملكة تملك:

  • تحالفاً استراتيجياً طويل الأمد مع الولايات المتحدة.
  • ثقلاً اقتصادياً لدولة ضمن مجموعة العشرين ذات قدرة استثمارية كبيرة.
  • تكلفة استهلاك طاقة منخفضة جداً، تقل بما يصل إلى 30 - 40 في المائة مقارنة بالولايات المتحدة.

ونتيجة لذلك، لم تعد المملكة مجرد شريك للشركات الأميركية، بل امتداداً استراتيجياً لهذه الشركات لتطوير قدراتها التقنية. فبالنسبة للولايات المتحدة، يضمن التعاون مع حليف استراتيجي مثل السعودية بقاء التقنيات الحساسة ضمن منظومات موثوقة تشترك في المصالح والمعايير الأمنية. أما بالنسبة للمملكة، فيفتح هذا التعاون مساراً متسارعاً لنقل التقنية، وتوطين سلاسل الإمداد، وخلق وظائف نوعية عالية القيمة، بما يتماشى مع مستهدفات «رؤية السعودية 2030».

في ضوء هذه المعطيات، شهدت المملكة مؤخراً تزايداً متسارعاً في استثمارات كبرى الشركات الأميركية، بدءاً من إنشاء «كوالكوم» (Qualcomm) مركزاً لتصميم الرقائق في المملكة، مروراً بإنتاج خوادم مراكز البيانات محلية الصنع عبر شراكات تجمع «إتش بي إي» (HPE) و«إيه إم دي» (AMD) مع شركة «الفنار» السعودية، وبناء «أمازون ويب سيرفيسز» (AWS) مراكز بيانات وحوسبة متقدمة داخل المملكة، وصولاً إلى شراكات تجمع شركات أميركية مثل «إنتل» (Intel) و«إنفيديا» (Nvidia) و«سوبرمايكرو» (Supermicro) و«غروك» (Groq) مع شركات سعودية، بهدف بناء مراكز بيانات متخصصة في الذكاء الاصطناعي.

تحالف يربح فيه الجميع

على الرغم من التمويل الكبير الذي يقدمه قانون دعم برنامج أشباه الموصلات الأميركي (CHIPS Act) منذ إطلاقه عام 2022، لا تزال صناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة تواجه تحديات كبيرة، تشمل ارتفاع تكاليف التصنيع المحلية، ومحدودية إمدادات الطاقة وارتفاع أسعارها. وتتفاقم هذه التحديات مع تصاعد المنافسة العالمية، بالتوازي مع النمو المتسارع للتقنيات المتقدمة، وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد بشكل أساسي على توفر رقائق عالية الأداء، إلى جانب احتياج كميات هائلة من الطاقة لأغراض الحوسبة بتكلفة اقتصادية تنافسية.

لذلك، تحتاج الشركات الأميركية للحفاظ على تنافسيتها العالمية إلى شركاء يملكون أسواقاً كبيرة ومستقرة. وتبرز السعودية هنا بوصفها شريكاً استراتيجياً قادراً على توفير العمق الاستثماري والتشغيلي، إلى جانب الوصول الموثوق إلى إمدادات طاقة منخفضة التكلفة، بما يدعم توسع قدرات أشباه الموصلات الأميركية، من التصميم والتصنيع إلى استضافة وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي خارج الحدود الأميركية، مع الحفاظ الكامل على التوافق مع المصالح الأمنية والاستراتيجية للولايات المتحدة.

لهذا، جاءت زيارة ولي العهد الأخيرة في توقيت مثالي، في لحظة باتت فيها منظومة أشباه الموصلات الأميركية بحاجة إلى شراكات دولية موثوقة ومتوافقة للحفاظ على ريادتها وتنافسيتها العالمية. وقد أسفرت الزيارة عن نتائج تاريخية، من أبرزها:

  • إطلاق شراكة استراتيجية سعودية - أميركية في مجال الذكاء الاصطناعي.
  • موافقة الولايات المتحدة على تصدير 35 ألف وحدة معالجة رسومية متقدمة (GPUs) إلى المملكة، بالتوازي مع استثمارات سعودية في قطاع أشباه الموصلات تبدأ بـ50 مليار دولار لتصل مستقبلاً إلى مئات المليارات.
  • توسع واسع لكبرى شركات الرقائق والذكاء الاصطناعي الأميركية داخل المملكة.

إن حجم هذه الاتفاقيات يتجاوز إطار التقدم التدريجي، ليعكس تحولاً تقنياً استراتيجياً يضع السعودية في موقع متقدم بين القوى التقنية الصاعدة عالمياً. فبالنسبة للمملكة، يمثل هذا التحالف تحولاً نوعياً بكل المقاييس، إذ يفتح المجال أمام توطين أجزاء محورية من سلسلة القيمة لصناعة أشباه الموصلات، وتطوير رأس المال البشري المحلي في مجالات التقنية العميقة، واستضافة مراكز عالمية للحوسبة الفائقة للذكاء الاصطناعي، إلى جانب استقطاب الكفاءات التقنية العالمية، وتسريع تحقيق مستهدفات «رؤية السعودية 2030» في الريادة التقنية وتنويع الاقتصاد. ولا تندرج هذه الجهود في إطار مجرد اللحاق بالركب، بل في سياق القفز إلى مقدمة الاقتصادات التكنولوجية العالمية.

ختاماً، لقد قدمت هذه الزيارة ما هو أبعد من الاتفاقيات، إذ أعادت رسم مسار تحالف استراتيجي امتد لعقود، وانتقلت به من قاعدة بنائه النفطية إلى تحالف يقوم أيضاً على اقتصاديات المستقبل التقنية. واليوم، تدخل السعودية والولايات المتحدة عصراً جديداً، لا كشريكين في الطاقة فحسب، بل كشريكين في بناء الأساس التكنولوجي الذي سيحدد معالم القيادة العالمية لعقود مقبلة.


روسيا تعتزم إنشاء محطة طاقة نووية على القمر لدعم برنامجها الفضائي

وكالة الفضاء الأميركية تخطط لبناء مُفاعل نووي على سطح القمر (رويترز)
وكالة الفضاء الأميركية تخطط لبناء مُفاعل نووي على سطح القمر (رويترز)
TT

روسيا تعتزم إنشاء محطة طاقة نووية على القمر لدعم برنامجها الفضائي

وكالة الفضاء الأميركية تخطط لبناء مُفاعل نووي على سطح القمر (رويترز)
وكالة الفضاء الأميركية تخطط لبناء مُفاعل نووي على سطح القمر (رويترز)

تعتزم روسيا إنشاء محطة طاقة نووية على سطح القمر خلال العقد المقبل، لتوفير ​الطاقة لبرنامجها الفضائي على القمر ودعم محطة أبحاث روسية - صينية مشتركة، وسط سباق القوى الكبرى لاستكشاف الكوكب.

ومنذ أن أصبح رائد الفضاء السوفياتي يوري جاجارين، أول إنسان ينطلق إلى الفضاء عام 1961، تفتخر روسيا بمكانتها بوصفها قوة رائدة ‌في استكشاف الفضاء، ‌لكنها تراجعت في العقود القليلة ‌الماضية، خلف الولايات ​المتحدة ‌والصين بشكل كبير.

وتعرضت طموحات روسيا لانتكاسة كبيرة في أغسطس (آب) 2023، عندما اصطدمت مركبة الفضاء «لونا - 25» غير المأهولة بسطح القمر أثناء محاولتها الهبوط عليه، في وقت أحدث فيه إيلون ماسك ثورة في عمليات إطلاق المركبات الفضائية التي كانت ذات يوم ‌مجالاً تتفوق فيه روسيا.

وقالت ‍وكالة الفضاء الروسية (روسكوسموس) في بيان، إنها تخطط لبناء ‍محطة طاقة على القمر بحلول عام 2036، ووقعت عقداً مع شركة «لافوتشكين أسوسييشن» الفضائية للقيام بذلك.

مركبة فضائية تدور حول كوكب القمر (إكس)

وقالت «روسكوسموس» إن الغرض من المحطة ​هو تزويد برنامج روسيا القمري بالطاقة، بما في ذلك المركبات الجوالة والمرصد والبنية التحتية لمحطة الأبحاث القمرية الدولية الروسية - الصينية المشتركة.

وأضافت: «يعدّ المشروع خطوة مهمة نحو إنشاء محطة علمية دائمة على القمر والانتقال من بعثات فردية إلى برنامج طويل الأمد لاستكشاف القمر».

ولم تذكر «روسكوسموس» صراحة أن المحطة ستكون نووية، إلا أنها أشارت إلى أن من بين المشاركين شركة «روس آتوم» النووية الحكومية ومعهد كورتشاتوف، ‌وهو أكبر معهد للبحوث النووية في روسيا.