فيروز إن حكت... تسعينُها في بعضِ ما قلّ ودلّ ممّا قالت وغنّت

لها في كل بيتٍ صورة... فيروز أيقونة لبنان بلغت التسعين وما شاخت (الشرق الأوسط)
لها في كل بيتٍ صورة... فيروز أيقونة لبنان بلغت التسعين وما شاخت (الشرق الأوسط)
TT

فيروز إن حكت... تسعينُها في بعضِ ما قلّ ودلّ ممّا قالت وغنّت

لها في كل بيتٍ صورة... فيروز أيقونة لبنان بلغت التسعين وما شاخت (الشرق الأوسط)
لها في كل بيتٍ صورة... فيروز أيقونة لبنان بلغت التسعين وما شاخت (الشرق الأوسط)

هي التي سمّاها الشاعر أنسي الحاج «الدائمة». فيروز التي كلّما انقضت سنة، غلا عهدُها على القلوب أكثر وترسّخَ صوتها أعمق في الآذان والوجدان. فما السنوات، وإن كانت تسعين، في عمر أسطورةٍ خلّدها الزمان وحفرَ اسمَها على أعمدة الأبد؟

في تسعينها، تجلس «السيّدة» في دارها في إحدى بلدات جبل لبنان. تحرس ذاكرة وطن. يَحلو للّبنانيين أن يردّدوا: «طالما فيروز بخير، البلد بخير». وكأنّ بقاءها هنا، في مكانٍ ما من هذا اللبنان المتعب، خلف بابٍ لا تطرقه سوى قلّة، يكفي حِرزاً للوطن المشظّى. كما يكفي أن تصدح أغنيةٌ منها في الصباح، لتشرق الشمس على خليج بيروت بعد ليلٍ دامس؛ «يا مينا الحبايب يا بيروت... يا شطّ اللي دايب يا بيروت... يا نجمة بحريّة عم تتمرجح عالميّ... يا زهرة الياقوت يا بيروت».

تحتفل فيروز بعيدها الـ90 وهي من مواليد 21 نوفمبر 1934 (فيسبوك)

سيّدة الصمت

في بيتها البعيد تطفئ نهاد حداد، التي صارت «فيروزَ» لبنان والعرَب وعاصي الرحباني، شمعتَها التسعين وسط أولادها. ليس الزمنُ زمنَ احتفالات، فعدّاد الضحايا والدمار في البلد أسرع من سنوات العُمر، وفيروز ليست أصلاً من هواة الصخب.

يُضاف إلى ألقابها لقب «سيّدة الصمت». هي الأقلّ كلاماً والأكثر غناءً. فاضت الأغنية عن حنجرتها فسقت تاريخ الفن والموسيقى، في حين بقيت كلمتها شحيحة. تشهد على ذلك حواراتها الصحافية التي تكاد تُعدّ على أصابع اليد. عاتبَها كثيرون على صمتها الطويل، إلا أنها آثرت الردّ عبر الأغنية.

في أغانيها العابرة للأزمنة والحدود، كما في القليل الذي نطقت به عبر الإعلام، قالت فيروز الكثير. نبعت أفكارها من حكمتها البسيطة ومن فلسفتها غير المتفلسفة. وعلى سهولتها، فإنّ أقوالها ضربت عميقاً في المعاني الإنسانية.

في وقتٍ ظنّها الجمهور بعيدةً وجالسةً على عرشٍ لا يُطال، كانت تذكّر في كل إطلالةٍ من إطلالاتها النادرة، كم أنّ جمهورَها غالٍ على قلبها؛ كأن تقول: «الناس هنّي الحب القريب والبعيد... هنّي الغِنى النفسي لإلي»، أو كأن تأخذنا إلى أعماق حَدسِها وتبوح: «الناس لمّا بيحبّوا مش مهم شو بيقولوا. في عواطف ما بتنقال، بتنحسّ. أنا بحس الناس كتير».

«مملكتي ما فيها بكي»

بقيت «الأنا» لدى فيروز طيّ الأسرار، ربّما لخفَرٍ في شخصيتها، أو حفاظاً على الهالة الفنية الاستثنائية، وربما أيضاً لأنّها لم تثق كثيراً بالآخرين فآثرت العزلة على الاختلاط؛ وهي اعترفت شخصياً بذلك عندما قالت مرة: «فيروز مش عنيدة. فيروز بتفكّر كتير وثقتها بغيرها قليلة، واللي مقتنعة فيه بتعمله».

قلّما برزت تلك «الأنا» في الأغنية الفيروزيّة. ليس إلا في أعمالها الحديثة حتى حصل ذلك، وتحديداً في «فيكن تنسوا» من ألبوم «كيفك إنت» الصادر عام 1991. استدرجتها كلمات الشاعر جوزيف حرب وألحان ابنها زياد الرحباني لتخرج من خجلها الأبديّ وتغنّي ما هي عليه فعلاً: «أنا البيسمّوني الملكة وبالغار متوّج زمني ومملكتي ما فيها بكي وجبيني ولا مرة حني».

فضّلت فيروز الصمت على كثرة الكلام والعزلة على الاختلاط والظهور (إنستغرام)

من الألبوم نفسه لكن في «أغنية الوداع»، اعترافاتٌ من فيروز إلى جمهورها. للمرة الأولى تحدّثت إليهم بشكلٍ مباشر مستعينةً بكلمات ابنها زياد: «أنا صار لازم أودّعكن وخبّركن عني... أنا كل القصة لو منكن ما كنت بغنّي».

وُصفت تلك الأغنية بالحزينة إذ قرأ فيها الناس رسالة وداعٍ أو ربما اعتزال، بينما كان المقصود توجيه رسالة حب وامتنان إليهم. وقد عادت فيروز بعدها لتجدّد الموعد مع جمهورها عبر مزيدٍ من الألبومات والأغنيات.

فيروز الأمّ

مثلما خبّأت عينَيها في معظم الأوقات خلف نظارتَين سوداوَين، حاولت فيروز أن تُبقي حياتها الخاصة بعيدةً عن العيون. ورغم ذلك، فإنّ الكثير من تفاصيل التراجيديا العائلية تسرّب إلى الإعلام وإلى الأغنية أحياناً.

في مقابلتها الشهيرة مع الإعلامي والسياسي الفرنسي فريدريك ميتران، تحدّثت فيروز عن زوجها عاصي الرحباني، واصفةً إياه بالصعب والقاسي. وفي حوارٍ آخر قالت إنه «ديكتاتور». لكن رغم العواصف التي هبّت على تلك العلاقة فأدّت إلى تفسّخها، غنّت فيروز لعاصي يوم أصابه المرض: «سألوني الناس عنك يا حبيبي كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا بيعزّ عليي غنّي يا حبيبي لأول مرة ما منكون سوا».

الأمجاد الكثيرة التي أضاءت حياة فيروز، قابلتها أحزانٌ وامتحاناتٌ مُضنية مثل خسارة ابنتها ليال في ربيع العمر. وفي وقتٍ غابت تلك المأساة عن الأغاني والأحاديث الصحافية، حضرت قصة ابنها هَلي ومرضُه طفلاً، وإن بشكلٍ موارب، في أعمال مثل «بكوخنا يا ابني» (1966) من كلمات الشاعر ميشال طراد وألحان الأخوين رحباني.

«علوّاه لو فيّي يا عينيّي لأطير اتفقّدك يا رجوتي بعدك زغير...». تقول الحكاية إن القصيدة مهداة من الشاعر لابنه الرضيع، لكن الكلمات راقت للأخوين، وهي تماهت مع قصة فيروز وابنِها المريض الذي كانت تضطرّ لتركه بداعي الحفلات والرحلات الفنية.

في عامها التسعين، ما زالت فيروز تشرف شخصياً على رعاية هلي المحروم من المشي والسمع والنطق. وهي استحضرته من جديد بصوتها عام 1999 في أغنية «سلّملي عليه»، التي تشير بعض المصادر إلى أنها وزياد كتباها عنه... «سلّملي عليه وقلّه إني بسلّم عليه وبوّسلي عينيه وقلّه إني ببوّس عينيه».

صورة نشرتها ابنة فيروز ريما الرحباني لوالدتها مع شقيقَيها هلي وزياد عام 2022 (إنستغرام)

أشهر سفيرات لبنان

رسمت فيروز بأغنيتها خريطة الوطن وهي نذرت صوتها لمجد لبنان، على ما تقول في «وعدي إلك» من مسرحية «أيام فخر الدين» (1966). لم يقتصر هذا الحب على الأغاني إذ إنها، وفي أعتى سنوات الحرب، لازمت البلاد كناطورةٍ لمفاتيحها. أما عندما اخترق صاروخٌ المبنى، حيث كانت تقيم، فخافت وزادَ صمتها ثم ركنت للصلاة.

انسكبت الأغنية التي ألّفها عاشقا لبنان، عاصي ومنصور الرحباني، كعِقدٍ من الألماس حول حنجرة فيروز. استحالت تلك الأغاني أناشيد وطنية بصوتها، مجاهرةً مع كل سطرٍ ونغم بفخرها لكونها لبنانية.

ولعلّ الشاعر جوزيف حرب اختصر هذا الولهَ الفيروزيّ بلبنان من شماله إلى جنوبه، عندما كتب لها «إسوارة العروس» التي لحّنها فيلمون وهبي؛ «لمّا بغنّي اسمك بشوف صوتي غلي... إيدي صارت غيمة وجبيني علي».

في كبرى عواصم العالم، صدحت فيروز: «بمجدك احتميت بترابك الجنّة ع اسمك غنيت ع اسمك رح غنّي». وعدت وصدقت، فلم يفارقها لبنان في كل المحافل الدولية، حتى أمست سفيرته الأشهر حول العالم.

في تسعينها، تقف فيروز شمعةً على أدراج بعلبك، توقد الزيت في السراج لتضيء الظلمة. قد ترتجف القلعة تحت ثقل السنوات والتحدّيات، لكنها لا تهوي. يمتدّ صوت «السيّدة» جسراً من سهل البقاع إلى بيروت إلى الجنوب، وصولاً إلى فلسطين ودمشق ومكّة. ما زالت تحتضن المدن وتخترق جدران النار بابتهالاتها: «بيتي أنا بيتك وما إلي حدا من كتر ما ناديتك وسع المدى... أنا عالوعد وقلبي طاير صوبك غنّية».


مقالات ذات صلة

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

يوميات الشرق عزفت "الأوركسترا السعودية" أروع الالحان الموسيقية في ليلة ختامية استثنائية كان الابداع عنوانها (واس)

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

عزفت «الأوركسترا السعودية» أجمل الألحان الموسيقية في ليلة ختامية كان الإبداع عنوانها على مسرح «طوكيو أوبرا سيتي» بالعاصمة اليابانية بمشاركة 100 موسيقي ومؤدٍ.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
الوتر السادس أحمد سعد سيطرح ألبوماً جديداً العام المقبل (حسابه على {إنستغرام})

أحمد سعد لـ«الشرق الأوسط»: ألبومي الجديد يحقق كل طموحاتي

قال الفنان المصري أحمد سعد إن خطته الغنائية للعام المقبل، تشمل عدداً كبيراً من المفاجآت الكبرى لجمهوره بعد أن عاد مجدداً لزوجته علياء بسيوني.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الوتر السادس الفنانة بشرى مع زوجها (حسابها على {فيسبوك})

بشرى لـ«الشرق الأوسط»: الغناء التجاري لا يناسبني

وصفت الفنانة المصرية بشرى الأغاني الرائجة حالياً بأنها «تجارية»، وقالت إن هذا النوع لا يناسبها

أحمد عدلي (القاهرة)
الوتر السادس تتشارك قسيس الغناء مع عدد من زملائها على المسرح (حسابها على {إنستغرام})

تانيا قسيس لـ«الشرق الأوسط»: أحمل معي روح لبنان ووجهه الثقافي المتوهّج

تتمسك الفنانة تانيا قسيس بحمل لبنان الجمال والثقافة في حفلاتها الغنائية، وتصرّ على نشر رسالة فنية مفعمة بالسلام والوحدة.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق مبهجة ودافئة (جامعة «أبردين»)

أقدم آلة تشيللو أسكوتلندية تعزف للمرّة الأولى منذ القرن الـ18

خضعت آلة تشيللو يُعتقد أنها الأقدم من نوعها في أسكوتلندا لإعادة ترميم، ومن المقرَّر أن تعاود العزف مرّة أخرى في عرض خاص.

«الشرق الأوسط» (لندن)

الأشخاص الغاضبون «أكثر ميلاً للنجاح»... كيف؟

الغضب لا يزال يشكل حافزاً مهماً للنجاح في العالم الحديث (رويترز)
الغضب لا يزال يشكل حافزاً مهماً للنجاح في العالم الحديث (رويترز)
TT

الأشخاص الغاضبون «أكثر ميلاً للنجاح»... كيف؟

الغضب لا يزال يشكل حافزاً مهماً للنجاح في العالم الحديث (رويترز)
الغضب لا يزال يشكل حافزاً مهماً للنجاح في العالم الحديث (رويترز)

كشف أحد علماء الأعصاب أن الأشخاص الغاضبين أكثر ميلاً للنجاح. وقال الدكتور جاي ليشزينر إن الشعور بالغضب قد يكون «محركاً مهماً» للنجاح في العالم الحديث لأنه يدفعنا إلى «إزالة أي تهديدات» وتحقيق أهدافنا، وفقاً لصحيفة «التلغراف».

وأوضح الأكاديمي، وهو أستاذ في علم الأعصاب والنوم في مستشفى كينغز كوليدج في لندن، أن الغضب يمكن أن يخدم «غرضاً مفيداً للغاية» ويمكّن من تحقيق نتائج أكثر ملاءمة.

وفي حديثه ضمن بودكاست Instant Genius، قال الدكتور ليشزينر إن هرمون التستوستيرون يلعب دوراً رئيساً في ذلك، حيث يستجيب الهرمون - الذي تشير بعض الدراسات إلى أنه مرتبط بالعدوانية والغضب - للنجاح.

وتابع «لذا، إذا فزت في رياضة، على سبيل المثال - حتى لو فزت في الشطرنج الذي لا يُعرف بشكل خاص أنه مرتبط بكميات هائلة من العاطفة - فإن هرمون التستوستيرون يرتفع... تقول إحدى النظريات إن هرمون التستوستيرون مهم بشكل أساسي للرجال على وجه الخصوص لتحقيق النجاح».

«شعور مهم»

وحتى في العالم الحديث، لا يزال الغضب يشكل حافزاً مهماً للنجاح، بحسب ليشزينر، الذي أوضح «إذا أعطيت الناس لغزاً صعباً للغاية لحله، وجعلتهم غاضبين قبل أن تقدم لهم هذا اللغز، فمن المرجح أن يعملوا عليه لفترة أطول، وقد يجدون فعلياً حلاً له... لذا، فإن الغضب هو في الأساس عاطفة مهمة تدفعنا إلى إزالة أي تهديدات من هدفنا النهائي».

وأشار إلى أن المشكلة في المجتمعات البشرية تكمن في «تحول الغضب إلى عدوان».

لكن الغضب ليس العاطفة الوحيدة المعرضة لخطر التسبب في الضرر، حيث لاحظ أن مشاعر أخرى مثل الشهوة أو الشراهة، قادرة على خلق مشكلات أيضاً. وتابع «كلها تخدم غرضاً مفيداً للغاية، ولكن عندما تسوء الأمور، فإنها تخلق مشكلات».

ولكن بخلاف ذلك، إذا استُخدمت باعتدال، أكد الدكتور أن هذه الأنواع من المشاعر قد يكون لها بعض «المزايا التطورية».