لأكثر من 100 عام... نجاحات سعودية في إدارة الحج

بدأت بتأمين الملك عبد العزيز للحجاج حتى عهد الملك سلمان بخدمات متكاملة

TT

لأكثر من 100 عام... نجاحات سعودية في إدارة الحج

لأكثر من 100 عام... نجاحات سعودية في إدارة الحج

السعوديون والحج قصة ممتدة وتاريخ متأصل وإنجازات غير مسبوقة، منذ أول حج تحت حكم المؤسس الملك عبد العزيز حتى اليوم... إنه شرف عظيم، لكنه مسؤولية كبرى. بدأت قصته بعد أسابيع من دخول الملك المؤسس مكة المكرمة (جمادى الأولى 1343هـ - ديسمبر - كانون الأول 1924م).

الملك عبد العزيز خلال تأدية الحج في سنوات عهده الزاهرة

الملك عبد العزيز يوجه نداء للمسلمين

أصدر الملك عبد العزيز نداءً عاماً إلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أعلن فيه ترحيبه بحجاج بيت الله الحرام من الأقطار كافة، مؤكداً تكفله براحتهم وتوفير الأمن لهم وحفظ حقوقهم وتسهيل وصولهم إلى مكة من موانئ رابغ والقنفذة والليث، لأن جدة كانت محاصرة من قبل جيشه، والأوضاع لم تكن قد استقرت بعد في الديار المقدسة.

وجاء في ذلك النداء، الذي وجّهه الملك عبد العزيز: «إننا نرحب ونبتهج بقدوم وفود حجاج بيت الله الحرام من كافة المسلمين في موسم هذه السنة ونتكفل بحول الله بتأمين راحتهم والمحافظة على جميع حقوقهم وتسهيل أمر سفرهم إلى مكة المكرمة من أحد الموانئ التي ينزلون إليها، وهي: رابغ أو الليث أو القنفدة، وقد أُحكم فيها النظام واستتب الأمن استتباباً تاماً منذ دخلتها جيوشنا. وسنتخذ من التدابير في هذه المراكز جميع الوسائل التي تكفل تأمين راحة الحجاج إن شاء الله تعالى».

الملك عبد العزيز يفتح المجال للأعمال الخيرية

تضمن النداء إعلاناً، هذا نصه: «أعلن لكافة إخواننا المسلمين أنه لم يبق أثر للمشاكل والعراقيل التي كانت تضعها الحكومة السابقة ضد المشاريع الخيرية والاقتصادية، وأن أبواب الحجاز مفتوحة لجميع من يريد القيام بأي عمل خيرى أو اقتصادي، وأن الحكومة المحلية مستعدة للقيام بجميع التسهيلات الممكنة لتنشيط من يريد القيام بهذه المشاريع الخيرية والاقتصادية».

الملك عبد العزيز خارجاً من المسجد الحرام على ظهر جواده بعد ضمّه مكة المكرمة إلى حكمه

تحديات الحج قبل العهد السعودي

النداء صدر باسم سلطان نجد عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود، يوم 1 شعبان 1343هـ - 25 فبراير (شباط) 1925م، إذ لم يكن قد بويع بعد ملكاً على الحجاز، فكيف تم تنظيم أول موسم حج في عهد الملك عبد العزيز؟ وما هي الظروف التي أدى فيها الحجاج شعائرهم؟ وما الخدمات التي توفرت؟ ثم ما الفرق الجوهري الذي حصل في ذلك الموسم؟ وكيف اختلف تنظيم الحج في العهد السعودي عما سبقه من العهود؟ لقد كان الأمن أكبر التحديات التي تقلق الحاج، ناهيك عن الأمراض، وسوء معاملة الحجاج من قبل السلطات المحلية، ونقص الخدمات.

تؤكد الوثائق البريطانية أنه لم تكن هناك سياسات وأنظمة واضحة! وتشير إحداها إلى سخط المسلمين في بلاد البنغال على سلطات الحجاز بسبب المعاملة السيئة لحجاجهم خلال مواسم الحج السابقة لموسم سنة 1342هـ - 1924م.

كما تشير وثيقة أخرى إلى أن المسلمين الهنود يعتقدون أن ترتيبات (حكومة الحجاز) في مكة كانت سيئة جداً، وكي لا يظن أحد أن في الأمر مبالغة، نعود إلى ما أورده اللواء إبراهيم رفعت باشا، الذي حجّ عدة مرات خلال عامي 1318هـ (1901م) و1325هـ (1908م)، وكان في أحدهما أميراً للحج المصري، وسجّل مشاهداته عن مواسم الحج ومعاناة الحجاج، يقول عن حجته الأولى سنة 1318هـ (1901م): «أمر (حاكم) مكة بجمع إعانة للسكة الحديدية، وقدّر على كل حاج غير معسر ريالاً، فأخذ المطوفون يجمعونها ويوردونها (للحاكم) كل يوم». ويضيف: «كان بعض الحجاج يمتنع عن الدفع، وبعضهم دفع عن نفسه وعمن يرافقه في القافلة... وقد أمر (الحاكم) بعدم خروج أحد من الحجاج من مكة حتى تجبى الضريبة كلها. وعلى ذلك، حبس الحجاج بمكة بعد تأدية الفريضة 7 أيام، كانوا فيها على أحر من الجمر. شوقهم لزيارة الرسول (صلى الله عليه وسلم) يهيب بهم أن أسرعوا، (والحاكم) يقول: مكانكم حتى تدفعوا».

ويذكر: «بلغني أن بعضاً من حجاج المغرب شكا لدولة الوالي حبسهم بمكة، فأرسل بهم مع مندوب من قبله إلى (الحاكم) ليسمح لهم بالخروج، فلما وصلوا إليه نزل عليهم ضرباً بالعصي، وإذ ذاك انقض عليهم زبانيته أيضاً (الباوردية)، فتشتتوا مذعورين ورجعوا بخفي حنين. شكوى عادلة جوابها إهانة قاسية في بلد جعله الله حرماً آمناً (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ. وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ). (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)». وأضاف: «لئن دام هذا الظلم لينصرفن الناس عن الحج، وتلك الطامة الكبرى ببلاد العرب، وأهلها الذين يجدون في الحجاج العيش الكفاف، بل الرزق الواسع، بل ذلك جناية على الإسلام ومعتنقيه، فإن هذا البلد واسطة التعارف بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا انقطعت بينهم الأسباب، وانفصمت عروة التوادِّ كانوا كالغنم القاصية، تلتهمها الدول المستعمرة فتستغيث فلا مغيث، فليقلع الظالم عن ظلمه كيلا يعمنا الله بعذاب من عنده...».

ويضيف: «لم يسمح (الحاكم) بخروج الحجاج من مكة إلا بعد أن دفعوا جميعاً ريال الإعانة للسكة الحديدية، فلما أن صدر الإذن بالخروج، أخذ جميع الحجاج في الرحيل، وهم ألوف مؤلفة يسلكون طريقاً ضيقة، ولما بلغوا مكاناً مخصوصاً بالطريق أوقفوا حتى يدفعوا ريال الحكومة (عوائد) عن كل جمل خالٍ أو محمل». ويبين: «أخذوا يدفعون، ولكن بلغ الزحام أشده لأن المحصل شخص واحد قام بجانبه اثنان من الزبانية لا يسمحان لأحد بالمرور حتى يدفع الريال واستعملا كل غلظة وقساوة لا تصدر من الوحوش، فضلاً عن الأناسي، فضلاً عن مسلم يدين بالإسلام، وقد أصبحت الطريق التي كانت معدة لسير جملين بشقادفهما متحاذيين فيها أربعة صفوف، فدخلت الشقادف بعضها في بعض، وكاد الناس يكونون طبقات بعضهم فوق بعض، وهنالك تحطم كثير من الشقادف، وسقط بعض الراكبين من عليها، فتهشمت منهم العظام وبلغت فيهم الجراح، وفقدوا من الأمتعة، وتلف كثير منها».

ويذكر: «كنت لا تسمع إذ ذاك إلا ولولة النساء وعويل الصبيان واستغاثة الضعفاء ومنازعات الرجال، ولا شرطة هناك تحول دون ذلك، وكل هذا مغبة حبس (الحاكم) للحجاج وسوء نظام الجباية، وماذا على الحكومة لو عيّنت عدداً من المحصلين وعيّنت لكل قافلة يوماً تخرج فيه، ومعرفة القوافل من الأمور الهينة، لأن المطوفين والمتعهدين يعرفونها، وأولئك معروفون لدى الحكومة، وبذلك يسهل التحصيل وتسير القافلة بهدوء وسكينة، ويأمن الناس على نفوسهم وأمتعتهم».

قوات وآليات أمن الحج خلال الاستعراض العسكري السنوي (واس)

أمن الحجاج... أهم التحديات

لم تكن تلك المعلومات غائبة عن ذهن الملك عبد العزيز عشية دخوله مكة، فقد أدرك أن الصعوبات التي يواجهها الحجاج خصوصاً، ومشاكل الحجاز عموماً، تتمثل في «الفوضى في الإدارة وانعدام سلطة القانون ونهب الحجاج»، إضافة إلى عدم توفر الخدمات الكافية، سواء أكانت صحية أم بلدية أم غذائية أم خدمات النقل والمواصلات حتى الخدمات الإدارية.

لقد قرأ الملك المؤسس التاريخ ووعاه وأدرك أن ما بذلته الدول والحكومات المتعاقبة لخدمة الحرمين والحجاج، التي تمثلت في المشروعات العمرانية والمائية لطرق ومرافق الحج وتوسعات وعمارة الحرمين على مرّ القرون السابقة، هي جهود مقدرة ومشكورة، لكنها لم تكن كافية.

والسبب يكمن في بعد الديار المقدسة عن مراكز اتخاذ القرار، منذ خروج عاصمة الخلافة من المدينة المنورة إلى خارج الجزيرة العربية عام 36هـ -657م، وعلى مدى قرون ظلت الجزيرة العربية خارج الاهتمام المباشر من قبل عواصم القرار، ولولا وجود الحرمين الشريفين قد لا يوجد أي اهتمام أصلاً! ومع ذلك ظلت التهديدات التي تواجه الحج والحجاج مستمرة على مرّ العصور، ولم تتوفر حلول شاملة لها، وكأن الحج أشبه برحلة رعب للحاج.

رصد المؤرخ المكي تقي الدين الفاسي (توفي 832هـ - 1429م) في كتابه «شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام» التهديدات والأزمات في مواسم الحج منذ سنة 200هـ - 816م، التي تمثلت في: اضطراب الأمن والفتن والقلاقل، ونقص المواد الغذائية وغلاء الأسعار، وقلة المياه، ونهب الأموال والسرقات، والمكوس الجائرة، والأوبئة والأمراض.

هذا عدا الكوارث الأخرى كالسيول والأمطار والحرائق، إضافة إلى الخلافات العقدية والمذهبية التي تفسد الحج حيث وقف الناس بعرفة سنة 199هـ - 815م بلا إمام، وصلوا بلا خطبة، كما كان الخلاف في تحديد دخول شهر ذي الحجة، الذي ترتب عليه وقوف بعض الحجاج على صعيد عرفة يوم الاثنين، وبعضهم يوم الثلاثاء، وكان ذلك سنة 292هـ - 905م، وتكرر ذلك في أكثر من موسم.

أما الرحالة والمؤرخ المصري محمد لبيب البتنوني فيصف أمن الحجيج خلال رحلته عام 1327هـ - 1909م: «والرفقاء من الحجاج يتناوبون السهر على حراسة عفشهم، ومن يسهر منهم تراه على الدوام يصرخ بكلمات الاضطراب والانزعاج كقولهم: (شايفك، ابعد، لا تقرب) وهكذا. والحجاج يقضون حاجتهم بين رحالهم في الغالب، ومن ابتعد عنها لا بد أن يكون معه أنيس يحرسه عند اشتغاله بنفسه، وإلا فإنه لا يحرم واحداً من الأعراب ينقض عليه ويضربه في رأسه بعصا يابسة قصيرة تخمد معها أنفاسه!! وهنالك يشلحه من ملابسه أو يكتفى بقطع كمرة من حزامه أو من ذراعه».

ويضيف: «فإذا استغيبه صحابته قاموا للبحث عنه فيجدونه إما فاقداً للحياة فيوارونه التراب على حاله!! وإما فاقداً للشعور فيأخذونه ويقومون بشأنه، وقليلاً من ينجو من هذه الضربة... وقد يقطع الجمالة بعض الجمال من القافلة أثناء سيرها، ويتظاهرون بإصلاح حمولها حتى إذا ابتعدت القافلة عنهم أوقعوا بركابها، وهم يستغيثون ولا يعانون، وسلبوهم متاعهم، وكثيراً ما يجهزون عليهم، ويفرون بجمالهم إلى حيث أرادوا.

والأدهى من ذلك كله ما يهدد القافلة من خطر هجوم بعض القبائل التي في طريقها عليها، أو على الأقل وقوفهم في وجهها، فلا يدعونها تمر إلا بعد أن يأخذوا منها ما يرضيهم باسم أجرة المرور في أرضهم».

المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن

الملك عبد العزيز يتحرك لتأمين الحجاج

أدرك الملك عبد العزيز كل تلك التحديات، وتأخر في ضم الحجاز عدة سنوات مع أن حكومة الحجاز منعت حجاج سلطنة نجد من أداء الحج خلالها، وبالرغم من أن الطريق كانت ممهدة أمامه، فإن الملك المؤسس لم يشأ أن يكون ضمّه للحجاز سبباً لتدخل القوى الخارجية في شؤونه.

واتبع الملك عبد العزيز سياسة النفس الطويل، حيث أصدر عدة بيانات، وأجرى مراسلات ليبين موقفه من تصرفات حكومة الحجاز ومنعها للحجاج، وكان سوء المعاملة التي يلقاها الحجاج من مختلف الأقطار من قبل السلطات الحجازية كافياً لتأييد أي تحرك من قبله لضمّ الحجاز. لكن في هذا التحقيق، نجد أن الملك عبد العزيز لم يتأخر في خطوته بسبب ذلك فحسب، بل كان مدركاً حجم الصعوبات والمشاكل التي ينوء بها الحجاز، والتي تحتاج إلى حلول جذرية.

وبالرغم من أن ضم الحجاز كان خطوة مهمة في مشروع الملك عبد العزيز الوحدوي، فإن الهدف الأولي للملك عبد العزيز كان حماية المقدسات وتأمين الوصول لها وبسط الأمن ورفع المظالم التي أرهقت العباد، ناهيك عن تهيئة وتوفير السبل لتمكين الحجاج من أداء مناسكهم بيسر واطمئنان.

من هنا، كانت رؤية الملك عبد العزيز ترتكز على سرعة توفير الخدمات كافة للحجاج. وقبل ذلك، فرض الأمن وإرساء قواعد العدل على أسس مستمدة من الشريعة الإسلامية. استشعر الملك المؤسس تلك المسؤولية العظيمة، رغم قلة الإمكانات والموارد وعدم استقرار الأوضاع بسبب ظروف الحرب وحصار جدة، ومقاطعة بعض الدول لموسم الحج والحملات الإعلامية ضد الملك عبد العزيز.

تنظيم أول حج في العهد السعودي

نجح الملك عبد العزيز في تنظيم أول موسم للحج تحت حكمه، وذلك لم يكن ليتأتى لولا توفيق الله ثم الرؤية الواضحة والخطط المحكمة في تحقيق الأمن وإقامة العدل وتحسين الخدمات.

كانت مسؤولية جسيمة ومهمة كبرى، لكن الملك عبد العزيز كان يدرك أبعادها ويتابع تفاصيلها ويشرف بنفسه على تنفيذها، وكانت التجربة الناجحة لإدارة الحج في عهد الدولة السعودية الأولى ماثلة أمامه.

مخيمات الحجاج في بداية العهد السعودي

خطط الملك عبد العزيز لنجاح الحج

سنتطرق في هذا التحقيق إلى نماذج من الخطط والإجراءات والترتيبات التي اتخذها الملك المؤسس، مع الأخذ في الاعتبار أن التنظيمات والهياكل الإدارية المتعلقة بتنظيم الحج والإشراف على شؤون الحجيج في الحجاز لم تكن كافية أو مكتملة، فكيف كانت البداية؟

من خلال تتبع المصادر وقراءة تسلسل الإجراءات والقرارات التي اتخذها الملك عبد العزيز في الأشهر الأولى لدخوله مكة المكرمة، نجد أنه استعد لإنجاح أول موسم حج تحت إدارته، ويتضح ذلك من التخطيط الدقيق والجهد الكبير الذي بذله لتذليل كل الصعوبات التي يمكن أن تعيق تنظيم حج عام 1343هـ - 1925م، وفيما يلي نماذج ولمحات عن الإجراءات والتدابير «العاجلة» التي تم اتخاذها في عدد من المجالات، مثل...

الأمن

مع إعلانه للعالم عن استتباب الأمن في الحجاز بعد أسابيع من دخوله مكة، كان الملك المؤسس قد بدأ في اتخاذ خطوات سريعة لضبط الأمن، فأعلن أنه سوف يُنزل أشد العقاب على كل من تسول له نفسه العبث بالأمن، وركز على أمن الحج والحجيج، وأرسل السرايا لتعقب المجرمين الذين يعتدون على الحجاج والقضاء عليهم. وأكد على رؤساء القبائل بعدم التعرض لقوافل الحجاج، وعدّ رئيس القبيلة مسؤولاً عن الجرائم التي تقع في حدود قبيلته، وتعهد بالاستمرار في تتبع المجرمين وقطاع الطرق وإنزال أشد العقوبات بهم، وهذا ما كان، فارتدع المجرمون.

عملت الأجهزة الحكومية منذ بدايتها على توعية الحجاج فيما يتعلق الصحة العامة والتغذية

الصحة والخدمات البلدية

منذ الأيام الأولى لوصوله مكة، كلّف الملك عبد العزيز طبيبه الخاص الدكتور محمود حمدي حمودة بإدارة الصحة العامة، وبدأ بتنظيم الأمور الصحية ونشر مقالات توعوية في الأعداد الأولى من جريدة «أم القرى»، وكانت للصحة أولوية بعد الأمن بسبب انتشار الأمراض والأوبئة. ومن الإجراءات التي اتخذت: التأكد من أسباب الوفيات، ونشر إحصائية أسبوعية عنها، والبدء في وضع التدابير الصحية قبل موسم الحج للوقاية من الأمراض، واقتراح التشكيلات الصحية المناسبة، مع التركيز على الجوانب الوقائية. وتم تجهيز عدد من المستشفيات والمراكز الصحية للعمل في موسم الحج. كما تم مراقبة بيع المأكولات والمشروبات وأفران الخبز للحرص على النظافة، وإعلان تعليمات صحية للحلاقين والقيام بجولات تفتيشية ومعاقبة المخالفين، إضافة إلى تنظيف المشاعر وحفر أماكن ذبح الأضاحي.

وصدر تقرير صحي بعد موسم الحج، أكد خلو الحج من الأمراض الوبائية وانخفاض نسبة الوفيات عن المواسم السابقة، وتضمن التقرير عدداً من التوصيات.

المياه والغذاء

وجّه الملك عبد العزيز بصيانة مجاري عين زبيدة، والتأكد من نظافتها وعدم انسداد ما يوصلها بمنابعها الأصلية في وادي نعمان، تلافياً لما وقع من عطش الحجاج في موسم الحج الماضي.

وفي بداية شهر ذي القعدة، أُعلن عن تشغيل مضخة الماء لنقل الماء إلى منى والبدء في تعبئة الخزانات ليكون الماء متوفراً للحجاج، وطلب الملك من مستشاره حافظ وهبة أن يتأكد من سير العمل في توفير المياه، وقام وهبة بتفقد آلة الضخ والخزانات في منى وعرفات، ورفع تقريراً بذلك للملك.

وقبل موسم الحج، أعلن عن اكتمال تنظيف وتطهير مجاري وأحواض المياه وملء «البازان» العمومي في منى.

واتخذ الملك عبد العزيز التدابير اللازمة لجلب الغذاء والأرزاق من سائر الجهات وفتح الأسواق، وتم توفير السلع والمواد الغذائية كالتمر واللحم والسمن والعسل والحنطة والدخن والذرة والسمسم من نجد وعسير وجازان والطائف.

كما كلّف أحد رجالاته (التاجر وقتذاك) عبد الله الفضل بالسفر منذ وقت مبكر إلى مصوع وعدن والهند لجلب البضائع والأرزاق إلى مكة، وقبل موسم الحج وصلت عدة بواخر تحمل كميات من الدقيق والسكر والشعير والكاز، وقبل ذلك وصلت قوافل من الجمال تحمل أقواتاً وأرزاقاً ومؤناً.

وتم الإعلان عن توفر السلع ومراقبة الأسعار ونشر أسعار السلع أسبوعياً، واتخاذ الإجراءات ضد التجار المحتكرين. ونشرت بعض الشركات إعلانات عن توفر المواد الغذائية بأسعار في متناول الجميع.

وسائل النقل القديمة المتمثلة في قوافل الجمال والحافلات التي تطورت عبر الزمن

النقل والمواصلات

نظراً لحصار جدة، فقد اتخذ الملك عبد العزيز قراراً باستخدام موانئ رابغ والليث والقنفذة لاستقبال الحجاج، وتم الاستعداد لذلك، واتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة.

وانتدب الموظفين للعمل في هذه الموانئ، وتأمين قوافل الجمال لنقل الحجاج إلى مكة. وفي شهر ذي القعدة 1343هـ - مايو (أيار) 1925م، أعلن عدد من التجار عزمهم تأسيس شركة سيارات لنقل الحجاج، بعد أن أدركوا حرص الملك عبد العزيز على راحة الحجاج وعنايته بكل ما له علاقة بشؤون الحج.

كما تم تنظيم البريد والاهتمام بشؤونه، كونه أهم وسائل التواصل بين الحجاج وذويهم وقتذاك. وبدأت إدارة البريد مساعيها للانضمام لاتحاد البريد العالمي ومخاطبة إدارات البريد في الدول الأخرى لإرسال الرسائل إلى ميناء القنفذة بدلاً من جدة، واتخاذ إجراءات عاجلة لإرسال الرسائل عن طريق القنفذة إلى مصوع ثم إلى وجهاتها وفتح طريق أخرى بإرسالها إلى البحرين عن طريق الرياض ثم إلى وجهاتها الخارجية، وأصدرت إدارة البريد طوابع بريدية من عدة فئات، أسمتها «تذكار الحج الأول».

الجوانب الإدارية والتنظيمية

بدأ الملك عبد العزيز في إعادة تنظيم الأوضاع الداخلية لمكة المكرمة فور دخوله، فتم تشكيل المجلس الأهلي لإدارة الشؤون الداخلية والإشراف على الدوائر الحكومية ومتابعة شؤون الحج، كما تم إعادة تنظيم وتشكيل عدد من الإدارات مثل البلدية والمالية والأوقاف والنظر في احتياجاتها. كما تم تنظيم إسكان الحجاج في مكة، وكان الملك يتابع بنفسه أدق التفاصيل، خاصة تلك المتعلقة بشؤون الحج والحجيج، ويؤكد خطابه المرسل إلى علي الناصر العماري، الذي انتدبه للإشراف على وصول الحجاج إلى ميناء رابغ، حرصه على راحة الحجاج وسلامتهم.

الخطاب الذي وجّهه الملك عبد العزيز إلى العماري وابن مبيريك

إلى جناب الأخ المكرم علي العماري، سلمه الله تعالى...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد

لا بد واصلكم مأمور التأشير على جوازات الحجاج، ومعه دفاتر طبعت خصيصاً لهذه المسألة، كما ترون «نمونتها» (عيّنتها) بطيّه، ومنها تفهمون أن القصد هو تنظيم مسألة الواردين من الحجاج ومعرفة هويتهم وتابعيتهم وعددهم وغير ذلك، مما هو معرفته ضرورية لأجل ضبط الشغل، ويوضع على الباص «تذكرة المرور» التي بيد الحجاج طابع بعشرة قروش، ويُعطى ورقة مرقمة من هذه الدفاتر.

 

ويصل إلى طرفكم معهم... ثلاثة مأمورين لأجل تعريف الحجاج عند نزولهم بما يحتاجون إليه بواسطة الترجمة والتعارف بينكم وبينهم، ولقضاء لوازمهم، وأيضاً شخص آخر مندوب من قبل جمعية المطوفين ليستشير بحرية كاملة للحجاج الأشخاص المطوفين الذين يرغبون موافقتهم بالتطويف وغيره، ولكن الحذر من استعمال أساليب غير مشروعة في انتقاء المطوفين، فنزول الحاج بالرغبة والحرية الكاملة في انتقاء المطوفين.

 

ويكون مأمور التأشير مع أنه مأمور بريد في الوقت نفسه، والترجمة، ومندوب المطوفين، تحت نظارتكم. فأنتم المسؤولون عن أعمالهم، كما أنهم مسؤولون تجاهنا في حساباتهم وتصرفاتهم.

 

ويوكل أمر الكراوي (أجرة النقل) على اختلاف أنواعها في البر والبحر لنظركم بعد الاتفاق أنت وابن مبيريك (أمير رابغ إسماعيل بن مبيريك الغانمي) وشيخ المطوفين، ولا تتخذوا أمراً إلا بعد المشاورة والاتفاق.

 

 ثم في النظر إلى بُعد الميناء عن البلد، لا بد من إنزال الحجاج إلى البر في الصباح أو المساء اتقاء ضرر الشمس، ثم يجب أن يكون مع كل عشرين جملاً خادم خاص غير الجمال، تقطعون له أجرة زهيدة من الجمّال ويكون مساعداً للجمّال أثناء الطريق.

 

ثم أن يعين مطوف الحجاج قبل وصولهم إلى مكة، بعد ترك الخيار التام كما ذكرناه أعلاه للحاج وتُمضى الورقة المتعلقة بذلك منكم ومن خادم الحكومة الترجمان ومن مندوب رئيس المطوفين وترسل الورقة إلى مكة قبل الحاج لأجل التنبيه للمطوف للقيام بوظيفته، فيجب أن يكون مع كل قافلة رجال مسلحون معينون من ابن مبيريك للمحافظة على الحجاج ومراقبة الجمالة أثناء سيرهم كي لا يسلكوا طريقاً آخر غير معروف.

 

 ثم يجب عليك وعلى ابن مبيريك حتى نزول الحجاج في البغيلة ورابغ أن تأمروا بإحضار باعة المأكل والمشارب للحجاج، ثم يجب أن تنبهوا على الجمالة والمطوفين ألا يأخذوا شيئاً من الحجاج على طريق الاختلاس والجبر غير الذي تقرر لهم، ولكن تترك مسألة السماح للحجاج بتقديم العطايا وإعطاء المنح والمكافآت وسواها بما يجودون به بسماحة خاطر. هذا ما لزم تعريفه، ودمتم محروسين.

 

عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل

 

6 ذو القعدة 1343هـ - 28 مايو 1925

الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود

تبين هذه الوثيقة (التي أعدّها مثالاً فقط) مدى التخطيط الدقيق للملك عبد العزيز فيما يتعلق بأمور الحج والحجاج والاستعداد لكل الاحتمالات ومعرفة جميع التفاصيل. والوثيقة تتحدث عن نفسها ولا تحتاج إلى شرح، لكن ما يجب إيضاحه أن ما ورد في هذه الوثيقة من تعليمات وتوجيهات وما قام به الملك عبد العزيز من تدابير لموسم حج ذلك العام لم يكن في ظروف طبيعية.

فالوضع لم يستقر بعد في الحجاز، والحرب قائمة، والحملات ضد دخوله الحجاز مستعرة، والمطالبات بمقاطعة الحج مستمرة، هذا عدا أن إمكانات الدولة حينها محدودة. وقد يبدو للقارئ أن مثل هذه الإجراءات وغيرها مما ذكرنا سهلة وممكنة، لكن يبقى السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لم تتم قبل الملك عبد العزيز آل سعود؟

الأفعال تسبق الأقوال لراحة الحجاج

إن المتمعن في سيرة الملك عبد العزيز يدرك أنه كان صاحب رسالة. تدل على ذلك أفعاله قبل أقواله، لقد قال عند تحركه لمكة: «إني مسافر إلى مكة، لا لأتسلط عليها، بل رفع المظالم والمغارم التي أرهقت كاهل عباد الله...»، وكان حريصاً على تطبيق تلك المقولة عشية دخوله مكة.

وعندما حاصر جدة، واقترب موعد الحج، بعث إلى قناصل الدول الأجنبية يخبرهم بعزمه على الحج مع بقاء بعض قواته في حصار جدة.

وأشعرهم أن الأمن في مكة والطرق المؤدية إليها وموانئ رابغ والليث والقنفذة مستتب، وقد اتخذت الاحتياطات كافة للمحافظة على سلامة الحجاج وراحتهم.

كان الهدف من ذلك الكتاب هو تطمين القناصل على رعاياهم المسلمين (أكثر الدول سكاناً من المسلمين: الهند وأندونيسيا، كانتا تحت الاستعمار البريطاني والهولندي)، وعصر يوم الأحد 30 ذو القعدة 1343هـ - 21 يونيو (حزيران) 1925م تحرك ركب الملك عبد العزيز من مقره في الوزيرية، يرافقه ابناه الأميران محمد وخالد، والشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، فوصل إلى المسجد الحرام الساعة السادسة مساء، فطاف وصلى وسعى، ثم نزل في دار السقاف بالأبطح.

واستقر في مكة يشرف ويتابع شؤون الحج والحجيج، وأدى فريضته مع جموع الحجاج وشاهد ما وفرته لهم حكومته في المشاعر المقدسة، وهناك كثير من التفاصيل عن ذلك الموسم، لكننا سنقتصر على بعض الجوانب والملامح.   

الملك عبد العزيز خلال تأدية مناسك الحج

أوليات الحج في عهد الملك عبد العزيز

بتتبع المصادر التاريخية التي تناولت سيرة وتاريخ الملك عبد العزيز، لم نجد في أي منها أي إشارة أو معلومة عن أدائه الحج قبل عام 1925 حينما دخل مكة. وبمراجعة سياق الحوادث والوقائع منذ دخوله الرياض عام 1319هـ - 1902م، يتبين عدم إمكانية ذهابه للحج، وبذلك يتضح أن أول مرة يؤدي فيها الملك عبد العزيز مناسك الحج كانت تلك السنة.

 أول خطيب لمنبر عرفة في العهد السعودي

كان من بين أهداف الملك عبد العزيز التي أعلن عنها أن الشريعة الإسلامية هي مرجع الأحكام، وأنه حريص على وحدة كلمة المسلمين، من هنا كان حرصه على اختيار أول خطيب لمنبر عرفة في عهده، وكان الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، وأصبح ذلك تقليداً بأن يتم تعيين خطيب عرفة من قبل ملك المملكة العربية السعودية، وسنتناول تفصيلاً تاريخ خطباء عرفة في العهد السعودي مع ترجمة مختصرة لكل منهم.

الأمير محمد بن سلمان مستقبلاً رؤساء وقادة الدول وكبار الشخصيات الإسلامية ورؤساء وفود الحج بالديوان الملكي في منى (واس)

أول استقبال

استقبل الملك عبد العزيز، ثاني أيام عيد الأضحى 11 ذو الحجة 1343هـ - 3 يوليو (تموز) 1925م، في السرادق المنصوب له في منى، وفد جمعية الخلافة في الهند، ووفد جمعية العلماء، ومنذ ذلك التاريخ أصبح هذا الاستقبال الملكي تقليداً سنوياً يستقبل فيه ملك المملكة العربية السعودية الزعماء والقادة وكبار الشخصيات الإسلامية الذين يؤدون فريضة الحج في منى، ثاني أيام عيد الأضحى المبارك.

أثناء تغيير كسوة الكعبة المشرفة في العهد السعودي

أول كسوة للكعبة في العهد السعودي

أعلنت الحكومة المصرية منع حجاجها من الحج، وبررت ذلك بأنه بسبب اضطراب الأوضاع في الحجاز، وامتنعت عن إرسال كسوة الكعبة ذلك العام.

 وبدأت الشائعات حول الكسوة، في محاولة لإحراج الملك عبد العزيز أمام العالم الإسلامي، نظراً لرمزية الكسوة والعادة السنوية المتبعة.

لكنه في صباح يوم العيد تم استبدال كسوة الكعبة المشرفة بكسوة جديدة، نسجت في الأحساء وفقاً لما أعلن حينه، وتجدر الإشارة أن للأحساء تاريخاً في صناعة الكسوة حيث كانت تصنع هناك في أيام الدولة السعودية الأولى.

وما زال بعض معالم «بيت الكسوة» في المبرز بالأحساء قائماً حتى اليوم. واستمر استبدال الكسوة تقليداً سنوياً خلال موسم الحج إلا أنه تغير إلى اليوم التاسع من ذي الحجة، وهذا العام تم الإعلان أنه سيتم في غرة محرم (مطلع السنة الهجرية).

صحيفة «أم القرى» في أول تغطية لها لموسم الحج عام 1925

أول تغطية إعلامية

 واكبت صحيفة «أم القرى» التغطيات الإعلامية للحج، ونشرت كثيراً من الأخبار والتفاصيل عن أول موسم في عهد الملك عبد العزيز، وكانت الصحف والإذاعات الخارجية تبثّ أخبار الحج، وكذلك الصحف والمجلات السعودية التي تأسست تباعاً.

بدايات الإذاعة السعودية التي عملت على نقل وقائع الحج للأقطار كافة

في عام 1368هـ - 1949م، انطلق بثّ الإذاعة السعودية مساء يوم عرفة 1368هـ - 2 أكتوبر (تشرين الأول) 1949م. ومنذ ذلك التاريخ، واكبت تغطيات الحج، أما التلفزيون السعودي الذي أنشئ عام 1385هـ - 1965م، فكان يبثّ أخبار الحج مسجلة حتى عام 1391هـ - 1971م، حين بدأ في بثّ بعض التغطيات. وفي عام 1394هـ - 1974م، بدأ البثّ المباشر لمناسك الحج، وتم الاستعانة بعدد من المشايخ للتعليق وإلقاء أحاديث ومواعظ يوم عرفة.

استعراض للقوات المشاركة في أمن الحج (واس)

أول استعراض عسكري

 كان من بين التدابير الذي اتخذها الملك عبد العزيز خلال ذلك العام أن يخيم حجاج سلطنة نجد في الأبطح خارج مكة، وعدد قليل منهم سكن داخل المدينة، وكان لهذا الإجراء أكثر من هدف، الأول هدف أمني للحماية من أي غارت، والثاني هدف صحي وقائي، لكي لا يكون هناك ازدحام داخل البلد فتنتشر الأمراض.

 وفي منى، أمر بنصب خيامهم بمتاخمة الجبال لحماية الحجاج من أي هجمات. كانت نسبة كبيرة من هؤلاء الحجاج من المقاتلين في جيش الملك عبد العزيز، يمثلون عدة ألوية، وكانت تحركاتهم حول مكة وفي منى تمثل استعراضاً عسكرياً لردع من يفكر في تعكير صفو الحج، وهذا ما يمكن اعتباره أول استعراض لقوات أمن الحج.

الحجاج يؤدون طواف الوداع في المسجد الحرام (واس)

أول استخدام لمكبرات الصوت

عندما ألقى الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ خطبته على منبر عرفة، بحضور الملك عبد العزيز، لم تكن قد أدخلت مكبرات الصوت بعد، واستمر الوضع كذلك حتى عام 1366هـ - 1947م.

وذكر السيد أحمد علي الكاظمي أنه في ذلك العام «وضع ميكروفون (مكبر الصوت) في مسجد نمرة، وكان يقرأ فيه قارئ القرآن قبل الصلاة، ثم ألقيت خطبة عرفة بواسطة الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، وهذه أول مرة يستعمل فيها المكبر للصوت في عرفات». كما نشرت صحيفة «أم القرى» خبراً عن ذلك، لكن الملك عبد العزيز لم يحج ذلك العام وأناب ولي عهده (الأمير) سعود.

 أول إحصائية للحجاج في العهد السعودي

بلغ عدد الحجاج ذلك العام 78593 حاجاً، منهم 3593 حاجاً من الخارج و75000 حاج من حجاج سلطنة نجد، وتناقل العالم أنباء موسم الحج ذلك العام، وازداد الاهتمام به بسبب الحملات المعادية للملك عبد العزيز، وتفاجأ المسلمون في أصقاع الدنيا بنجاح موسم الحج وعدم حصول ما يعكر صفو الحجاج.

 وتبدلت أحوال الحج عما عهدوه، وكان ذلك مثار تساؤل الجميع، وأشارت وثيقة بريطانية أن تقريراً عن موسم الحج الأول تحت إشراف الملك عبد العزيز أرسل من على ظهر بارجة فرنسية  في شهر صفر 1344هـ - سبتمبر (أيلول) 1925م يفيد: «إن جميع الحجاج يعترفون أن الحج لم يكن في زمن ما، أفضل تنظيماً وأكثر أمناً، وأحسن انسيابية، وأرخص تكاليف كما هو في عهد عبد العزيز بن سعود».

بقي الإشارة إلى جانب توثيقي هام يتعلق بخطب وخطباء عرفة في العهد السعودي الحديث، وذلك لأهمية منبر عرفة في بث رسالة الإسلام للعالم، ودعوة المسلمين للتعاون والتعاضد، ونبذ الفرقة والتطرف.

حيث إن تكليف خطيب عرفة يصدر بإرادة ملكية، ولما لاحظته من عدم التوثيق الدقيق لمسيرة خطباء عرفة في العهد السعودي والاختلاف في بعض السنوات حول شخصية خطيب عرفة، رأيت توثيق هذا الجانب. وفيما يلي بيان أسماء خطباء عرفة، مع تعريف مختصر بكل منهم، والأعوام التي كلف بها خطيباً...

 

1 - الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ

إمام وخطيب المسجد الحرام وكبير علماء نجد، درس على والده العلامة عبد اللطيف وأخيه الشيخ عبد الله وغيرهما من علماء عصره. ولي القضاء في عدد من البلدان، وأصبح قاضي الرياض ومفتيها بعد وفاة أخيه عبد الله. عيّنه الملك عبد العزيز إماماً وخطيباً في المسجد الحرام عام 1343هـ - 1925م وكلّفه بإلقاء خطبة عرفة في موسم حج ذلك العام.

2 - الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ

الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ

إمام وخطيب المسجد الحرام ورئيس القضاة والمشرف على الشؤون الدينية في الحرمين الشريفين. درس على والده الشيخ حسن بن حسين وعلى مفتي نجد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وغيرهما من العلماء. رافق الملك عبد العزيز في أسفاره وغزواته إماماً وقاضياً للجيش ومفتياً. كلّف خطيباً ليوم عرفة بدءاً من موسم حج 1344هـ - 1926م حتى عام 1369هـ - 1950م.

3 - الشيخ محمد بن عبد الله بن حسن آل الشيخ

درس على والده العلامة عبد الله بن حسن ولازمه، كما درس على عدد من علماء المسجد الحرام، والتحق بالمعهد العلمي السعودي وتخرج فيه. عمل مديراً عاماً للشؤون القضائية والتفتيش في رئاسة القضاء، وتولى منصب المدير العام للتربية الإسلامية بوزارة المعارف. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1370هـ - 1951م.

4 - الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ

إمام وخطيب المسجد الحرام، درس على والده الشيخ عبد الله بن حسن وعلى الشيخ محمد بن إبراهيم، كما درس في المعهد العلمي السعودي، وتخرج في كلية الشريعة بجامعة الأزهر. عمل معاوناً لرئيس القضاة ووكيلاً لوزارة المعارف ثم وزيراً لها، ثم رئيساً عاماً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كلف خطيباً ليوم عرفة بدءاً من موسم حج 1371هـ - 1952م حتى عام 1401هـ 1981م، باستثناء عام 1399هـ 1979م الذي خطب فيه الشيخ صالح اللحيدان.

5 - الشيخ صالح بن محمد الحيدان

رئيس مجلس القضاء الأعلى وعضو هيئة كبار العلماء، درس في كلية الشريعة بالرياض والتحق بالمعهد العالي للقضاء وتخرج فيه، كما تلقى العلم على عدد من العلماء. عمل رئيساً لمحكمة الرياض ثم عضواً بالهيئة القضائية العليا فرئيساً لمجلس القضاء الأعلى. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج عام 1399هـ - 1979م.

6 - الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ

المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وحفيد الخطيب الأول لعرفة. درس على الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد العزيز بن باز وغيرهما من العلماء، وتخرج في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وعمل أستاذاً بها. عين عضواً في هيئة كبار العلماء وإماماً وخطيباً لجامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض. كلف خطيباً ليوم عرفة بدءاً من موسم حج 1402هـ - 1982م حتى عام 1436هـ - 2015م.

7 - الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس

إمام وخطيب المسجد الحرام ورئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي، حاصل على درجة الدكتوراة في أصول الفقه. عمل أستاذاً في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة أم القرى، ورئيساً عاماً لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1437هـ - 2016م.

8 - الشيخ سعد بن ناصر الشثري

المستشار في الديوان الملكي وعضو هيئة كبار العلماء، حاصل على درجة الدكتوراة في أصول الفقه. عمل أستاذاً مشاركاً بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ودرّس في عدد من الجامعات. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1438هـ - 2017م.

9 - الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ

إمام وخطيب المسجد النبوي، حاصل على درجة الدكتوراة في الفقه. عمل قاضياً في محاكم نجران والرياض والمدينة المنورة، ومدرساً في المسجد النبوي والجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1439هـ - 2018م.

10 - الشيخ محمد بن حسن آل الشيخ

عضو هيئة كبار العلماء. حاصل على الماجستير من المعهد العالي للقضاء، تولى عدداً من المناصب، منها رئيس المجلس العلمي لمجمع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز للحديث النبوي، ورئيس مجلس الأوقاف الفرعي بمنطقة الرياض. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1440هـ - 2019م.

11 - الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع

المستشار في الديوان الملكي وعضو هيئة كبار العلماء منذ تأسيسها عام 1391هـ - 1971م. درس على عدد من العلماء، وتخرج في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. تدرج في السلك القضائي ووصل لأعلى درجاته (رئيس محكمة تمييز). كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1441هـ - 2020م.

12 - الشيخ بندر بن عبد العزيز بليلة

إمام وخطيب المسجد الحرام، حاصل على درجة الدكتوراة في الفقه. يعمل أستاذاً مساعداً في كلية الشريعة والأنظمة بجامعة الطائف، كما أنه عضو في هيئة كبار العلماء. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1442هـ - 2021م.

13 - الشيخ محمد بن عبد الكريم العيسى

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، حاصل على شهادة الدكتوراة في الدراسات القضائية المقارنة، وهو عضو في هيئة كبار العلماء. عمل وزيراً للعدل ورئيساً للمجلس الأعلى للقضاء. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1443هـ - 2022م.

14 - الشيخ يوسف بن محمد بن سعيد

نائب وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد وعضو هيئة كبار العلماء، حاصل على درجة الدكتوراة في العقيدة. عمل أستاذاً ورئيساً لقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1444هـ - 2023م.

15 - الشيخ ماهر بن حمد المعيقلي

إمام وخطيب المسجد الحرام، حاصل على درجة الدكتوراة في الفقه. يعمل أستاذاً مشاركاً في كلية الدراسات القضائية بجامعة أم القرى. تولى إمامة المصلين في صلاتي التراويح والتهجد بالمسجد النبوي. كلف خطيباً ليوم عرفة هذا العام 1445هـ - 2024م.

 

من كان خطيب عرفة بداية عهد الملك سعود؟

  

هناك لبس يتداول حول شخصية خطيب عرفة خلال السنوات (1371 إلى 1376هـ - 1952 إلى 1957م)، ولإيضاح ذلك حاولنا مراجعة المصادر التي تحدثت عن خطباء عرفة في العهد السعودي، ووجدنا أن هناك اختلافاً وتغييراً للمعلومات حول خطيب عرفة خلال تلك السنوات الست.

بعضهم يقول إنه الشيخ عبد الله بن حسن، وآخرون يذهبون إلى أنه ابنه الشيخ محمد، وفريق يرى أنه ابنه الآخر الشيخ عبد العزيز، ووجدنا في هذا التحقيق أن هذه الآراء في مجملها لا تستند إلى معلومات موثقة أو استنتاجات علمية، لكنها مع شديد الأسف تتداول في منصات وقنوات رسمية بشكل واسع.

 ومما يسترعي الانتباه أن بعض الجهات تتبنى رأياً في سنة من السنوات، ثم تغيره في سنة أخرى، دون إيضاح سبب التغيير ودون الإحالة لمصدر.

 وحيث إن هناك 3 أسماء تتداول كخطيب لعرفة خلال تلك السنوات، فسنحاول توضيح بعض التفاصيل حولها، والنتيجة التي وصلنا إليها. بالنسبة للشيخ محمد بن عبد الله، المؤكد أنه خطب عاماً واحداً 1370هـ - 1951م، ونشرت ذلك صحيفة «أم القرى»، وسبب خطبته ذلك العام هو ظروف والده الشيخ عبد الله الصحية التي لم تمكنه من إمامة المصلين حينها، كما أن أخيه الشيخ عبد العزيز كان للتوّ منهياً دراسته في الأزهر، ووفقاً لما أورده السيد أحمد علي الكاظمي أن الشيخ عبد العزيز عيّن «خطيباً وإماماً للحرم، وكأنه لم يرغب في أول الأمر، وأراد أن يستقيل، أو قدم الاستقالة بالفعل، ثم قبل بالوظيفة».

ولا نعلم عن أسباب ذلك، لكننا نرى أن اعتذار الشيخ عبد العزيز هو سبب تكليف الشيخ محمد بإمامة عرفة، حيث لم تشر المصادر إلى أن الشيخ محمد خطب أو أمَّ في المسجد الحرام أو في عرفه قبل أو بعد ذلك.

أما الشيخ عبد العزيز فعند عودته من مصر صدر الأمر بتعيينه إماماً وخطيباً للمسجد الحرام، وكانت خطبته الأولى بعد تعيينه رسمياً يوم الجمعة 25 محرم 1371هـ - 26 أكتوبر 1951م، وهذا متسق مع ما أورده الكاظمي.

منذ ذلك التاريخ بدأ مسيرة حافلة مع الإمامة والخطابة في المسجد الحرام وعلى صعيد عرفة. أما الشيخ عبد الله فتجاوز عمره خلال تلك السنوات 84 عاماً، وهذه نقطة لم يتنبه لها من يؤكدون أنه خطب في عرفة خلال موسم 1371هـ - 1952م وما بعده.

 وبتتبع ظروف الشيخ عبد الله الصحية، يقول ابنه الشيخ حسن: «ولما ضعف بصره استبدل بقراءته قارئاً يصحبه أينما كان، وكثيراً ما تشرفت بالقراءة عليه». ويقول الأستاذ مصطفى عطار: «وقد خفف عنه ارتقاء المنابر ابنه الشيخ عبد العزيز في السنوات الأخيرة».

من كل هذا، يتضح أن الشيخ عبد الله لم تكن صحته تساعده على القيام بأعباء الإمامة والخطابة خلال تلك السنوات، ولم نعثر في المصادر المتوافرة أنه خطب في المسجد الحرام خلال تلك السنوات، بل إنه عندما توفي الملك عبد العزيز، أقيمت صلاة الغائب عليه في المسجد الحرام، بحضور الملك سعود يوم الجمعة 6 ربيع الأول 1373هـ - 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 1953م، وأمّ المصلين الشيخ عبد العزيز الذي خطب خطبة مؤثرة، ولو كان الشيخ عبد الله قادراً على الإمامة لما تأخر حينذاك.

الأمر الآخر أنه منذ دخول مكة تحت حكم الملك عبد العزيز جرى العرف أن الإمام والخطيب الرسمي للمسجد الحرام هو الذي يكلف بخطابة عرفة، وهذا ما كان مع الشيخ محمد بن عبد اللطيف، ثم الشيخ عبد الله بن حسن، وحينما عجز، عُين الشيخ عبد العزيز إماماً وخطيباً رسمياً، وعلى ذلك يكون الشيخ عبد العزيز هو خطيب عرفة خلال تلك السنوات المختلف عليها (1371 إلى 1376هـ - 1952 إلى 1957م).   

الشعراوي خطيباً ليوم عرفة!

الشيخ محمد الشعراوي

من المعلومات الأخرى غير الدقيقة التي تتداول على نطاق واسع؛ أن الشيخ محمد متولي الشعراوي ألقى خطبة عرفة عام 1396هـ - 1976م، والحقيقة أن ذلك كان تعليقاً للتلفزيون السعودي على البثّ المباشر من عرفات، وفقاً لما ذكره الدكتور عبد الرحمن الشبيلي.

ويفتح هذا التحقيق باباً مهماً بأن تُولى هذه الجوانب التوثيقية ما تستحقه من عناية من قبل الجامعات ومراكز البحوث المعنية بالتاريخ، وأن يوجه الدارسون والباحثون للتنقيب في زواياها من خلال رسائل وأطروحات علمية، حفظاً لتاريخنا من الاجتهادات والتأويلات.

لقد وضع الملك عبد العزيز أسساً وقواعد لخدمة السعوديين للحرمين الشريفين، سار عليها أبناؤه من بعده واجتهدوا في تطويرها ابتغاءً لمرضاة الله وخدمة لضيوف الرحمن واستشعاراً لمسؤولياتهم التاريخية.

النزاعات المذهبية في الحج

مما يحمد للدولة السعودية أنهم أبعدوا الحج عن النزاعات المذهبية والخلافات العقدية والصراعات السياسية، وفرضوا الأمن الشامل ليتمكن الحاج من أداء نسكه بيسر وطمأنينة. كل ذلك دون تمييز فيما يقدم من خدمات وتسهيلات بين مسلم وآخر ودون البحث عن مكاسب دنيوية. ويكفي المسلمين ما هم فيه من خلاف وتشتت، كما يكفي الحج ما مرّ به من مآسٍ وفواجع تئن منها كتب التاريخ، كل ذلك بسبب استغلال الحج في إثارة النزاعات وتحويله ساحة للصراعات. كانت الحكومة السعودية حازمة وحاسمة ووقفت في وجه كل المحاولات لاستغلال الحج لأغراض سياسية أو لتمرير الأجندات الحركية، صيانة لقدسية المكان وتعظيماً لشعائر الله.

خادم الحرمين الشريفين

لقد تشرف ملوك المملكة العربية السعودية بحمل لقب خادم الحرمين الشريفين منذ عهد المؤسس، واتُخذ لقباً رسمياً بدل جلالة الملك منذ عهد الملك فهد، حتى اليوم، وكانوا أهلاً له، كما برهنوا أنهم أحق به. وستبقى مآثرهم  شاهدة على ما بذلوه من عطاءات لا محدودة وما قدموه من عناية لا ممنونة لخدمة الحرمين الشريفين ورعاية قاصديهما، ومفخرة من مفاخر المملكة العربية السعودية.

نجاح حج هذا العام 2024

يأتي نجاح موسم حج هذا العام ليثبت للعالم ما يوليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان من عناية ورعاية لتقديم أفضل الخدمات وتسخير كافة الموارد واستنفار كافة الأجهزة والمؤسسات واستخدام أفضل التقنيات لإدارة الحج.

وهنا يجب أن نستذكر أن البناء المؤسسي للهياكل الإدارية للدولة بدأ متزامناً مع أول حج  في عهد الملك عبد العزيز، وكأنما تزامن البناء التنظيمي للدولة مع البناء التنظيمي للحج، وهذه مفارقة تاريخية ليس لها مثيل.

 من هنا، علينا أن ندرك أن علاقة المملكة العربية السعودية بالحرمين الشريفين ليست في بعدها الجغرافي أو التاريخي فقط، حيث إنها علاقة وجودية تزامنت فيها تطورات خدمة الحرمين ورعاية قاصديهما مع تطورات بناء الدولة وبناء الإنسان.

 لكن الملمح الأهم أن هذه التطورات غير مسبوقة ولا نظير لها في التاريخ، لا من ناحية توسعات وعمارة الحرمين وخدمة ضيوف الرحمن، ولا من ناحية تطور البناء المؤسسي للدولة خلال زمن قصير بمقياس عمر الأمم، ناهيك عن الشعور الممتد بهذه المسؤولية لدى كل السعوديين أفراداً ومؤسسات.

ولمعرفة أبعاد العلاقة السعودية بالحرمين الشريفين، نجد في  المادتين: المادة الرابعة والعشرين من النظام الأساسي للحكم: «تقوم الدولة بإعمار الحرمين الشريفين وخدمتهما، وتوفر الأمن والرعاية لقاصديهما، بما يمكن من أداء الحج والعمرة والزيارة بيسر وطمأنينة».

خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز يطل من شرفة زجاجية بالقصر الملكي في مشعر منى خلال الإشراف على راحة وأمن وتنقلات الحجاج

والمادة الثالثة والثلاثين منه: «تنشئ الدولة القوات المسلحة وتجهزها من أجل الدفاع عن العقيدة والحرمين الشريفين والمجتمع والوطن». هذا مع التطبيق والتنفيذ الفعلي على أرض الواقع. من هنا كانت هذه العلاقة المتجذرة والممتدة والمتفوقة على كل ما سبقها نموذجاً متفرداً ومتميزاً عبر التاريخ بكل زواياها وأبعادها، خاصة أنها تنطلق من دوافع دينية وقيمية، ولا يريد السعوديون من ورائها جزاءً ولا شكوراً.


مقالات ذات صلة

«المدّ البشري»... فيلم يُوثّق رحلة الحج عبر حكايات 6 عائلات من العالم

يوميات الشرق 6 حكايات متنوّعة من قلب المشاعر المقدَّسة (لقطة من الفيلم)

«المدّ البشري»... فيلم يُوثّق رحلة الحج عبر حكايات 6 عائلات من العالم

تتكشَّف قصص ممزوجة بالخوف، والشوق، والأمل، والفقد، ليظهر مفهوم الحج بأبعاد جديدة، في رحلة تتحرّك بالروح قبل القدم...

سعيد الأبيض (جدة)
يوميات الشرق هيثم مساوا يُقدّم ورشة عمل بعنوان «التحدّيات الصحية في المنافذ الجوّية» (الشرق الأوسط)

جدة تحتضن «هاكاثون الابتكار الصحي» للارتقاء بخدمات ضيوف الرحمن

يستعرض الهاكاثون 4 مسارات رئيسية. تشمل المنتجات الصحية، والخدمات الصحية، وتجربة المريض، والإعلام الصحي...

أسماء الغابري (جدة)
الخليج ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان (واس)

ولي العهد السعودي يتلقى رسالة من الرئيس الإيراني

تلقى الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي، رسالة خطية، من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق 
قبو زمزم يظهر في صحن المطاف عام 1970 (دارة الملك عبد العزيز)

تطوّر الحج في معرض بـ«دارة الملك عبد العزيز»

يروي معرض «100 عام من العناية بالحرمين»، في دارة الملك عبد العزيز، تطور رحلة الحج منذ عام 1925 حتى اليوم، مِن وقت المشقة إلى تجربة آمنة وروحانية، عبر سرد بصري.

أسماء الغابري (جدة)
الخليج عرضت جهات حكومية أحدث مشروعاتها وبرامجها التطويرية لخدمة ضيوف الرحمن (الشرق الأوسط)

وزير الحج السعودي: إجراءات مبكرة لضمان تجربة استثنائية للحجاج

أعلن وزير الحج الدكتور توفيق الربيعة إتمام التعاقد لأكثر من مليون حاج في المشاعر المقدسة حتى الآن، في «إنجاز غير مسبوق يتحقق قبل الموسم بـ6 أشهر».

أسماء الغابري (جدة)

مسيحيو سوريا... حراسة ذاتية وأعياد صاخبة لكسر «الخوف الطبيعي»

TT

مسيحيو سوريا... حراسة ذاتية وأعياد صاخبة لكسر «الخوف الطبيعي»

رجال أمن سوريون يحرسون موكب الكشافة المسيحية في دمشق القديمة (أ.ف.ب)
رجال أمن سوريون يحرسون موكب الكشافة المسيحية في دمشق القديمة (أ.ف.ب)

إنها صبيحة يوم جمعة وكنيسة مار إلياس في حي الدويلعة الدمشقي تدق أجراسها إيذاناً ببدء القداس الأسبوعي. هنا ترفع صلوات وترانيم يومية، بينما يقام قداس الأحد أيام الجمعة أيضاً ليتزامن مع العطلة الأسبوعية في البلاد، ويناسب «الموظفين ومن يرتبطون بدوام عمل أو دراسة»، والأمر على هذا المنوال منذ أيام النظام السابق.

هي الكنيسة نفسها التي تعرَّضت قبل 6 أشهر لتفجير انتحاري أودى بحياة 25 شخصاً، ولا تزال صورهم مرفوعة في الساحة العامة للمنطقة على شكل لافتة كبيرة وأخرى كزينة على شكل شجرة ميلاد، في حين القداديس والمناسبات الدينية ولقاءات الفرق الكشفية تجري كلها في قاعة سفلية يُفترَض أنها مؤقتة.

على بعد أيام قليلة من عيد الميلاد لدى الطوائف المسيحية الغربية، كان المبنى الرئيسي للكنيسة لا يزال قيد الترميم. وكان أهالي الحي، والعائلات المكلومة تحديداً، يأملون في أن تنتهي الأعمال بوتيرة أسرع علّهم ينجحون في إحياء صلاة العيد في كنيستهم. لكن ذلك لم يحدث.

كنيسة مار إلياس في الدويلعة قيد الترميم بعد التفجير الانتحاري الذي وقع فيها في 22 يونيو الماضي (الشرق الأوسط)

كثر الحديث والترويج لتبرعات من رجال أعمال مسلمين أطلقت عملية الترميم من دون إمكانية التثبت من ذلك، حتى من الكنيسة نفسها.

في النهار كان فتيان وفتيات الكشافة كما القساوسة والشبان الأكبر سناً يتراكضون في الأحياء وبين الأزقة للمشاركة والإشراف على سير الأعمال، من نصب منصة وتنظيف أرصفة وتأمين مقاعد كافية لحدث استثنائي. إضاءة شجرة الميلاد الكبيرة واحتفالية اجتماعية دينية تعلن بدء موسم الأعياد. لكن ذلك أيضاً، لم يحدث.

فما إن بدأ الناس في التوافد إلى المكان مع ساعات المساء الأولى، حتى سرت شائعة بأن «داعشياً» يتجوّل بين الجموع. أثار الأمر بلبلة واستنفاراً أمنياً وتدافعاً كبيراً نتج منه حالتا إغماء لسيدتين ومزيد من الفوضى مع وصول المسعفين، انتهت كلها بإلغاء الفعالية وتأجيلها لوقت آخر بلا كثير جمهرة وصخب.

تضاربت الروايات عمّا حدث تماماً في تلك اللحظة، وبدا أن أحداً من أهل المنطقة لا يريد الخوض في التفاصيل. فحتى أحد أهالي الضحايا الذي كان وافق موافقة مبدئية على التحدث إلينا، عاد واعتذر تفادياً لـ«تقليب المواجع».

شاع الخبر واختفى سريعاً كأنه لم يحدث.

شجرة الدويلعة مزينة بصور وأسماء ضحايا التفجير الانتحاري الذي وقع في كنيسة مار إلياس في يونيو الماضي (أ.ب)

«مخاوف طبيعية»

نفى صاحب صيدلية في الدويلعة أن يكون الحادث متعلقاً بأي عمل إرهابي وإنما رد المسألة برمتها إلى «مخاوف طبيعية». قال الرجل مفضلاً عدم ذكر اسمه إن «كل ما في الأمر أن شاباً على موتوسيكل يحمل علم (لا إله إلا الله) الأبيض، وهو شائع جداً هذه الأيام، مرّ للفرجة بينما الناس يتوافدون إلى الحفل». وتابع قوله: «يبدو أن أحد شباب الحراسة المحلية لحق به فهرب مسرعاً؛ ما أثار الذعر والفوضى والتدافع». وقلل الرجل من تلك البلبلة كونها «أمراً طبيعياً في هذه الظروف».

وإذ تبدو الإحالة إلى الطبيعة محط كلام شائع بين الناس هنا لتفسير أحوالهم، فإنها تبقى كالسهل الممتنع حيال أي محاولة للاستفاضة أو الشرح. إنها تبديد للسؤال قبل الخوض في البحث عن إجابة.

وأما الخوف «الطبيعي» بدوره، فقد أرجعه الصيدلاني إلى صدمة لم تكمل عامها الأول بعد، ولا تزال تحفر في النفوس و«أفقدت الناس الشعور بالأمان»، بعدما وقع ما لم يخطر ببال. عن لحظة تفجير الكنيسة في يونيو (حزيران) 2024، قال: «كان جاري هنا في الصيدلية وسمعنا الصوت. تهافت الناس وبدأوا يصرخون: انتحاري في الكنيسة. انتحاري في الكنيسة. لم نصدّق وأكملنا حديثنا معتقدين أنه مجرد كذب وتهويل».

رجال إنقاذ وأشخاص يتفقدون الدمار في موقع هجوم انتحاري في كنيسة مار إلياس بمنطقة الدويلعة بدمشق (أ.ف.ب)

وأضاف بعد برهة صمت كمن يعاتب نفسه: «كيف نصدق؟ بعمري هيك شيء ما صار!».

وعندما هرعت سيارات الإسعاف وهبّ الجميع للمساعدة وجاء رجل بابنته إلى الصيدلية لتطبيب جرحها والدماء تسيل من جبينها، حدثت فجأة لحظة يقظة.

إنه انتحاري فجَّر نفسه بين المصلين. لقد حدث ذلك بالفعل.

وحي الدويلعة الذي شاع ذكره بعد تلك الحادثة يقع في جنوب شرقي دمشق. وهو مختلط سكانياً بين مسلمين سنة وغالبية مسيحية متنوعة مذهبياً تتقاسم كنائسها المختلفة الشوارع الرئيسية للمنطقة التي تشبه قرية صغيرة، في حين الأبنية في الأحياء الداخلية أقرب إلى العشوائيات.

وقد شهدت منطقة الدويلعة دفقاً سكانياً كبيراً جعلها مكتظة بشكل أكبر بعد توافد مهجَّرين من المناطق السورية الأخرى التي شهدت أعمالاً عسكرية وحربية، بينما بقيت هي بمنأى عن أي «حوادث أمنية»، وذلك على عكس أحياء تكاد تكون ملاصقة لها مثل جوبر والتضامن المدمَّرين تدميراً كاملاً.

حراسة أهلية وأمن ذاتي

واليوم، تحمي الدويلعة نفسها بنظام «حراسة أهلية»، يتناوب من خلاله شبان من أبناء المنطقة على حفظ الأمن ومراقبة دخول وخروج «الغرباء». وقد شاع هذا النمط في أكثر من منطقة أو مدينة، ومنها جرمانا المختلطة طائفياً بين مسلمين ومسيحيين وأقليات أخرى وغالبية درزية طاغية، ويفصلها عن الدويلعة الجسر المتحلق الجنوبي.

مسؤول «قطاع أمني» في الدويلعة، شرح لنا تقسيمات العمل الميداني و«التدرج في التشدد الأمني»، فقال: «مباشرة بعد لحظة السقوط استنفرنا كشباب حي لحفظ الممتلكات من السرقة والنهب. توزعنا في الشوارع وتحت منازلنا بطريقة عفوية في البداية، ثم أخذنا نوزّع الورديات والأدوار بيننا. ولم يأت أحد نحونا. أعتقد أننا كنا منسيين أصلاً... واستمرت بنا الحال هكذا حتى تفجير (كنيسة) مار إلياس».

وكما شكَّل العمل الإرهابي لحظة يقظة لصاحب صيدلية، فقد كان صفعة أيقظت أحياء كاملة من «المنسيين» وكأن مقولة «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا» وجدت ترجمتها الحرفية هنا.

طفل يغفو في قداس ليلة عيد الميلاد في كنيسة مار يعقوب النصيبي في القامشلي (رويترز)

ويوضح الشاب كيف تغير الوضع كلياً، فقال: «تطوعنا بشكل أكبر لحماية الكنائس أولاً فتم تطويقها، بالإضافة إلى توزيع مجموعات أكثر بين البيوت وعند مداخل الأحياء الصغيرة وبدأنا بنحو 80 أو 90 شاباً».

وبالفعل، لدى زيارة الدويلعة كانت كنيسة مار إلياس مغلقة للعامة ويمكن الدخول إليها عبر باب خلفي ضيق يعرفه مرتادوها ومن يعرِّفون عن نفسهم عبر شخص ثقة. وكان هذا حال غالبية دور العبادة المسيحية التي مررنا بها، كما بدا الشبان المتجمعون عند النواصي أكثر من مجرد «متسكعين» في يوم جمعة مشمس.

وحسب الشاب الذي يزاوج بين وظيفة حكومية نهاراً ومهمة الحراسة مساءً، فإن هؤلاء «الأمنيين» كلهم متطوعون بالكامل، يسهرون على أهلهم وأرزاقهم من دون مقابل مادي وكل بحسب قدرته وظروفه، «يشاركهم أحياناً بعض أصدقائهم أو جيرانهم المسلمون».

تعاون مع المخفر

وأما عن رجال الأمن الفعليين، التابعين للحكومة السورية، فهؤلاء يبقون في المخفر وفي فرع الأمن الجنائي عند مدخل المنطقة، لا يتجولون في الشارع إلا بطلب مباشر من «مجموعات الأحياء». فإذا وقع حادث أو مشادة تتطلب تدخلهم، يتم استدعاؤهم؛ لكون المتطوعين غير مسلحين إلا ببعض القطع الفردية «وهي قليلة جداً ومرخصة ويحملها أصحابها بمعرفة المخفر».

ويوضح محدثي أن أحداً من حملة السلاح الفردي لا يستخدمه في مناوبات الحراسة المشتركة لئلا يتحمل مسؤولية فردية عن أي حادث عام فتنزلق الأمور إلى تصعيد غير مضبوط «خصوصاً أن شباب الأمن لا يتأخرون في الاستجابة عندما نطلبهم».

ويتابع: «الوضع مربك جداً. فما عدنا نعلم كيف نميز الخطر الحقيقي... وفي الحادثة الأخيرة وصل الأمن وساعدنا منذ اللحظة الأولى، لكن حالة هلع عامة أصابت الناس. ماذا نفعل مع الخوف؟ مشكلتنا ليست أبداً مع الدولة، فنحن نريد دولة، ولا مع رجال الأمن، فقد وقفوا معنا. مشكلتنا في غياب الأمن».

مسلح درزي (يسار) يتحدث مع قوات الأمن السورية التي توصلت إلى اتفاق للانتشار حول جرمانا جنوب دمشق (أ.ب)

«تفاهمات» جرمانا

ذلك الكلام بحرفيته تسمعه في جرمانا التي نالت حصتها من «صفعة اليقظة» مع مشاكل المناطق الدرزية بدءاً بمواجهات صحنايا نهاية أبريل (نيسان) الماضي، ثم أحداث السويداء، لكن سريعاً ما نأت جرمانا بنفسها عبر «تفاهمات محلية»، أبرزها مشاركة الشباب الدروز في دوريات الأمن العام ونقاط الحراسة والعمل معهم بواقع شاب أو اثنين لكل مجموعة أمنية من خمسة عناصر.

وإذ لا يرتدي شبان الحراسة الأهلية في جرمانا اللباس العسكري، غير أنهم يلتزمون بشيء من الملمح العسكري كالبنطال والقميص الأسودين تحت سترة كاكية أو كحلية، ويشكّلون بذلك «مفاتيح» الأحياء ووجهاً مألوفاً للأهالي ورجال الأمن معاً فيضبطون إيقاع الطرفين معاً.

وبخلاف الدويلعة، تعدُّ جرمانا تقليدياً مدينة للطبقة المتوسطة وأصحاب المهن الحرة في دمشق وهي شهدت بدورها توسعاً كبيراً في العقد الأخير، جعلها أكثر اكتظاظاً وزحمة وعشوائية. لكن الركيزة فيها حسب أحد شبانها، وهو رجل دين درزي، أن «التعايش الأهلي هنا فطري وسابق على الأوضاع الحالية»، لافتاً إلى أن دروز جرمانا هم «سكان أصليون يقيمون فيها منذ ما يقارب ألف عام، ولا يتحدرون من حلب وشمال البلاد».

وبالتالي، فإن «الإشكالات الأمنية» التي برزت في العام الماضي، هي مرة أخرى «أمور طبيعية»، ألفها دروز جرمانا عبر العصور وباختلاف أنظمة الحكم في دمشق. وهنا، في هذه البقعة من الفسيفساء السورية، يشكل الترابط السني - الدرزي التاريخي، صمغ الروابط الاجتماعية وركيزة الأمن السياسي. لذا؛ حين فاوض أبناء جرمانا على إبقاء سلاحهم، وهم بعكس أبناء الدويلعة، مسلحون ولا يخفون ذلك، فقد نجحوا في التوصل إلى «حلول وسطية مُرضية للجميع» بالمشاركة الفاعلة في حفظ أمن منطقتهم والبقاء ضمن حدودها.

زينة ميلاد ورأس السنة في أحد أحياء حلب وبدا رجلا أمن يحرسان المكان (الشرق الأوسط)

وعن ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بين مطلب السكان بـ«ضبط الأمن» من جهة، وندائهم الصامت بـ«الحفاظ على خصوصية المنطقة» من جهة ثانية في معادلة صعبة تشوبها جيرة قابلة للاشتعال في أي لحظة، قال الشاب الأمني ابن الدويلعة: «في الواقع عرضوا علينا الانتساب للشرطة عوضاً عن العمل التطوعي هذا، لكن الأهالي رفضوا لأن ذلك يعني خروج الشباب من الحي لتأدية خدمتهم، حيث يتم توزيعهم في المناطق السورية كافة، كذلك يفترض بهم الالتزام بقرارات القيادة وهم يفضلون البقاء في الدويلعة».

صور نمطية

وإذا كانت جرمانا تعيش بشيء من الرخاء الاقتصادي، فإن الدويلعة، وباختلاف الانتماءات الطائفية والمناطقية فيها، يبقى القاسم المشترك الأبرز بين سكانها هو الحالة الاقتصادية المتردية التي تشابه الفقر إن لم تكن الفقر بعينه. يقول شاب من أبناء الحي تهجَّر مع والدته «في مطلع الأحداث» (الثورة ضد نظام بشار الأسد) من درعا ولم يكن يتجاوز العاشرة من عمره: «هناك نظرة للمسيحيين بأنهم بالضرورة مرفَّهون وأغنياء وهم لا يعرفون كيف يعيش الناس هنا. يعتقدون أننا جميعاً من القصَّاع وباب توما».

شجرة ميلاد وزينة في أحد فنادق باب توما في دمشق (الشرق الأوسط)

وعمَّا إذا كان يعرف هاتين المنطقتين الشهيرتين معرفة جيدة أو له أقارب فيهما مثلاً، قال إنه يذهب أحياناً مع أصدقائه للفرجة، ولكنه يعود قبل هبوط الليل.

وهناك في القصَّاع وباب توما، حيث البيوت الدمشقية التقليدية التي تحولت فنادق ومطاعم فاخرة، بدت زينة الميلاد هذا العام استثنائية بكل المقاييس، وطغت على المشهد العام للعاصمة السورية؛ إذ امتدت إلى شوارع وأحياء خارج حدود المناطق ذات الطابع المسيحي حصراً.

بدت أحياء دمشق الراقية كلها مزدانة بشجرات العيد والزينة الحديثة كما عمدت الفنادق والأسواق التي امتنعت عن إبداء أي مظاهر احتفالية العام الماضي، إلى استعراض كل ما لديها من إضاءة وتصاميم ميلادية متنوعة. في أكثر من فندق حمل حرفيون وفنانون محليون بضائعهم ومصنوعاتهم اليدوية للمشاركة في «معارض الميلاد»، حيث عزفت فرق شبابية موسيقى غربية من وحي المناسبة.

عائلة سورية تلتقط صورة تذكارية أمام شجرة الميلاد في دمشق (أ.ف.ب)

ولا يخفى أن شجرات الزينة في الأماكن العامة والفعاليات ومداخل الحارات محمية بعناصر من الأمن العام أو سيارات شرطة، أو بحراسات أهلية تعمل بالتنسيق كما هي الحال في الدويلعة. كذلك، فإن الضوء الأخضر الحكومي، غير المعلن ولا المكتوب، بضرورة أن يحتفل المسيحيون بأكثر صخب ممكن، لا يخفى بدوره. فالجهد الكبير المبذول في «طمأنة» القلقين، يتجاوز دمشق وأحياءها إلى حلب وما بينهما من بلدات مسيحية بدأت تشهد عودة أهلها تدريجياً ومعهم طقوسهم الميلادية وصورهم وفيديوهاتهم التي انتشرت على «السوشيال ميديا».

أقليات ضمن أقليات

قد يوحي ذلك المشهد العام لبرهة بأن للمسيحيين في سوريا حصةً أكبر من حجمهم الديمغرافي في قطاعات السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو أي حيز عام، وهم كانوا حتى مطلع 2011 يقاربون 10 في المائة من السكان، حسب المعلن رسمياً. لكنهم عملياً وبمختلف مذاهبهم ومشاربهم (وهم يقاربون 11 طائفة) ممثلون بوزارة واحدة للشؤون الاجتماعية تحتل فيها الوزيرة هند قبوات مقعد المرأة ومقعد الطائفة معاً، مثلما منح الدروز وزيراً للزراعة هو ابن السويداء أمجد بدر.

شجرة ميلاد وبابا نويل في بلدة القنيّة في إدلب (أ.ف.ب)

وفي وقت تتسابق فيه مكونات المجتمع السوري من «الأقليات الأكبر» على نفض خطاب «الأمة العربية الواحدة، ذات الرسالة الخالدة» الذي كان يرفعه حزب «البعث» شعاراً، وحجز مواقع في التركيبة الجديدة تعكس واقعهم على الأرض، يبدو الإحجام والترفع عن المطالبة بحصة وازنة من الدولة ومؤسساتها هو مآل «الأقليات الأصغر». فحتى وظيفة الشرطي في حي فقير كالدويلعة لا تبدو مغرية كفاية، وكأن جُلّ المطالب يتحقق في شجرة عيد وبعض الزينة الموسمية ومشاركة ضمن حدود الحارة، وهم إذ ذاك يرسخون كونهم استثناءً نادراً و«أقلية نموذجية».


تسونامي الذكاء الاصطناعي يجرف ملايين إلى البطالة

«الذكاء الاصطناعي في العالم المادي» على شاشة أمام مشاركين بمؤتمر لعرض التطورات في تكنولوجيا القيادة الذاتية بكاليفورنيا في 11 ديسمبر 2025 (رويترز)
«الذكاء الاصطناعي في العالم المادي» على شاشة أمام مشاركين بمؤتمر لعرض التطورات في تكنولوجيا القيادة الذاتية بكاليفورنيا في 11 ديسمبر 2025 (رويترز)
TT

تسونامي الذكاء الاصطناعي يجرف ملايين إلى البطالة

«الذكاء الاصطناعي في العالم المادي» على شاشة أمام مشاركين بمؤتمر لعرض التطورات في تكنولوجيا القيادة الذاتية بكاليفورنيا في 11 ديسمبر 2025 (رويترز)
«الذكاء الاصطناعي في العالم المادي» على شاشة أمام مشاركين بمؤتمر لعرض التطورات في تكنولوجيا القيادة الذاتية بكاليفورنيا في 11 ديسمبر 2025 (رويترز)

لم يكن عام 2025 سعيداً على اللبنانية حامدة الشاكر، وهي مدققة ومحررة لغوية، إذ انتهت مسيرتها المهنية قبل أن ينتهي العام. الشاكر، التي لامس عمرها الستين، لم يسبق لها تجربة استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي أو التحدث مع «تشات جي بي تي»، كما يفعل الكثيرون، ولم تدرك أن هذه الأدوات التي غزت أجهزة الجوال والكمبيوتر باتت تؤدي عملها بسرعة وكفاءة مذهلتين.

لقد شكّل هذا التحول في المهن «تسونامي» جرفها مع ملايين الموظفين حول العالم نحو البطالة، في ظاهرة لا تستثني أحداً وتضرب قطاعات متعددة. لكن تأثيرها يكون أشد على الموظفين الذين تجاوزوا سن الخمسين، ولم يواكبوا سرعة التغيير التكنولوجي. فوفقاً لموقع «allaboutai»، تسبب اعتماد الذكاء الاصطناعي حتى الآن في فقدان نحو 14 مليون موظف لأعمالهم حول العالم، و«الحبل على الجرار»؛ إذ هناك توقعات بزوال 92 مليون وظيفة في العالم خلال السنوات الخمس المقبلة.

في جوهره، الذكاء الاصطناعي هو قدرة الأنظمة الحاسوبية على محاكاة التفكير البشري، واتخاذ القرارات، وتنفيذ المهام المعقدة، بدءاً من التخطيط وصولاً إلى التطبيق العملي، بخاصة في المجالات النظرية والتحريرية.

صدمة ومستقبل غامض

هذا الواقع لم تكن الشاكر على علم به، ما تسبب لها بصدمة تلتها صدمة أخرى خلال 2025 الذي شهد أوسع انتشار لتطبيقات الذكاء الاصطناعي. كانت الصدمة الأولى حين تلقت اتصالاً من قسم الموارد البشرية يخبرها بتخفيض راتبها بنسبة 50 في المائة بسبب «صعوبات مالية تواجهها الشركة». وبعد أقل من خمسة أشهر، جاءتها الثانية عبر اتصال آخر يبلغها بقرار الاستغناء عنها، من دون أن تفهم السبب.

لكن وفق رواية الشاكر، نقلاً عن مسؤول قسمها، لم تكن وحيدة في ذلك؛ إذ فقد نصف الفريق وظائفهم نتيجة تأثير الذكاء الاصطناعي على عقود العملاء، أي الشركات التي راحت تستعين بالذكاء الاصطناعي لصياغة أخبارها وبياناتها وتقاريرها، مجاناً أو مقابل اشتراك شهري زهيد، مقارنة بالمبالغ التي كانت تتكبدها للتعاقد مع وكالات متخصصة في مجال العلاقات العامة والدعاية.

وفي هذا السياق، تشير تحليلات اقتصادية، نشرتها «رويترز»، إلى أن الاشتراك السنوي في أدوات ذكاء اصطناعي متقدمة – حتى على مستوى المؤسسات – لا يتجاوز في كثير من الحالات تكلفة راتب موظف واحد لشهور محدودة. وهذا يجعل القرار، من منظور إداري بحت، خياراً «موفراً» وسهل التبرير مالياً.

وهكذا، تصبح الشاكر وزملاؤها رقماً إضافياً في معادلة باردة: شركات تزيد أرباحها وتخفض تكلفة الإنتاج، مقابل اتساع رقعة العاملين الذين يُدفعون خارج السوق، ليس لأنهم أقل كفاءة، بل لأن الخوارزميات باتت أقل كلفة من البشر.

القطاعات الأكثر تأثراً

قصة الشاكر وزملائها ليست حالات فردية؛ بل هي جزء من ظاهرة عالمية متنامية، شملت موظفين وعمالاً في قطاعات متعددة. وتشير تقارير متخصصة إلى أن الوظائف القائمة على المهام الروتينية أو المعالجة المتكررة للبيانات هي الأكثر عرضة للاستبدال، وذلك مع التوسع في استخدام أدوات الأتمتة والذكاء الاصطناعي التوليدي. وهنا نظرة على أبرز تلك القطاعات:

خدمات الزبائن ومراكز الاتصالات: تُعد في مقدمة القطاعات المهددة. فأنظمة المحادثة الذكية وتحليل النصوص والصوت باتت قادرة على التعامل مع استفسارات المستخدمين بكفاءة عالية، وفقاً لموقع TechRT.

البيانات والدعم الإداري: يبرز هذا القطاع بين الأكثر تأثراً. فمهام مثل إدخال البيانات وتصنيف الملفات وأعمال السكرتارية تُستبدل بأدوات أتمتة متقدمة، حسب منصة Complete AI Training.

التجزئة وسلاسل التوريد: تُظهر تقارير Pleeq Software وninjatech.blog أن الدفع الذاتي، والمستودعات الذكية، وأتمتة المخزون، أسهمت في تقليل الحاجة إلى موظفي الصندوق (الكاشير) والعمال التقليديين في المخازن.

الصناعة والإنتاج: عزّز انتشار الروبوتات الاصطناعية وتقنيات التحكم الآلي من تأثير الذكاء الاصطناعي على وظائف العمالة اليدوية، حسب موقع All About AI.

المحاسبة والعمليات المالية: وظائفها البسيطة تسجل تراجعاً في الطلب، وذلك نتيجة اعتماد الشركات على برمجيات مالية ذكية قادرة على تنفيذ مهام مسك الدفاتر (bookkeeping) والعمليات الروتينية، حسب Complete AI Training.

صناعة المحتوى والإعلام: لم تكن هذه الصناعة بمنأى عن التحولات؛ إذ بات الذكاء الاصطناعي قادراً على كتابة المحتوى وتلخيصه وإعادة صياغته، مما يهدد عدداً من المهام الكتابية البسيطة.

ولا يدري كثير من الموظفين الذين فقدوا أعمالهم أنهم ضحايا «الثورة الصناعية الرابعة»، التي كان كلاوس شواب، مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي ومديره حينها، نبّه إلى نتائجها قبل حدوثها بقوله، أمام «القمة العالمية للحكومات» في دبي عام 2016، إن «العالم يقف على حافة ثورة تكنولوجية من شأنها أن تحدث تغييراً جذرياً في أنماط الحياة التي نعيشها والعمل الذي نؤديه والطريقة التي نتعامل بها بعضنا مع بعض. وبسبب عظم حجم هذه الثورة ونطاقها وتعقيداتها، فإن التغييرات التي سترافقها لم ترَ البشرية مثيلاً لها من قبل. نحن لا نعرف حتى الآن كيف ستكون تلك التغييرات، لكن شيئاً واحداً واضحاً لنا الآن: يجب أن يكون تجاوبنا نحن (مهما كنا في القطاع الخاص والعام والأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني) معها متكاملاً وشاملاً».

متطلبات السوق والمهارات البشرية

وما توقعه شواب تحقق بشكل كبير، خصوصاً في الأشهر الأخيرة، مع تزايد تبني الشركات حول العالم لأدوات الذكاء الاصطناعي، ولم تعد الخبرة وحدها كافية للبقاء ضمن سوق العمل التنافسي. الوظائف التقليدية تتغير بسرعة، والمهارات البشرية المطلوبة أصبحت أكثر تخصصاً وتعقيداً؛ إذ لم يعد التركيز منصباً فقط على الأداء الفردي، بل على القدرة على التعاون مع الأنظمة الذكية وتحويل المعلومات إلى قيمة مضافة.

في هذا السياق، يبرز دور الخبراء المهنيين الذين يفهمون كيفية دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في العمل اليومي دون التضحية بجودة النتائج أو العمق التحليلي، وفق ما يوضحه مزيد حجاز، رئيس تحرير وكالة «نحو الحوار للدعاية والإعلان» في الرياض.

ويؤكد حجاز لـ«الشرق الأوسط» أن «الذكاء الاصطناعي أصبح جزءاً أساسياً من العمل اليومي من ناحية السرعة والكمية، بينما تبقى المراجعة والتحرير والتحليل مرتبطة بالكامل بالإنسان لضمان الجودة».

ويضيف حجاز أن «القطاع يحتاج اليوم إلى مهارات جديدة، ومن يتخلف عنها يكن خارج السرب. أبرزها استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في الكتابة والتحليل، وقراءة البيانات، والتحليل التنبؤي، وتحويل المعلومات إلى سردية مشوّقة. الدمج بين مهارات الإنسان وأدوات الذكاء الاصطناعي هو ما يضمن التفوق».

من جانبه، يشدد فراس بركات، خبير الاتصالات الاستراتيجية في السعودية، على أن الذكاء الاصطناعي «يمثل نقطة تحول محورية في أسواق العمل، تعزز الكفاءة وتعيد تشكيل طبيعة الوظائف والمهارات المطلوبة».

ويقول بركات لـ«الشرق الأوسط»: «لا شك أنه تسبب في فقدان وظائف تقليدية كالمهام الروتينية، لكنه، في المقابل، محرك ضخم لتوليد فرص عمل جديدة في مجالات متقدمة مثل تحليل البيانات، والأمن السيبراني، وإدارة الأنظمة الذكية، وهندسة الحلول الرقمية، ووظائف لم تكن موجودة قبل سنوات قليلة».

تكرار التاريخ

إلا أن حسن يحيى، الخبير التكنولوجي المقيم في الولايات المتحدة، يقدم رأياً مستنداً إلى التاريخ، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «ليست المرة الأولى التي يقف فيها العالم مذهولاً أمام التطورات التقنية. يتكرر الخطاب نفسه حول فقدان الوظائف مع كل ابتكار ضخم»، لافتاً إلى أنه في عام 1959، عندما أدخلت «جنرال موتورز» الروبوت الاصطناعي «يونيمايت»، برزت موجة كبيرة تحذر من خطورته على الوظائف.

ويشير يحيى إلى أن «الذكاء الاصطناعي بدأ يؤثر على ملايين الوظائف، وهناك توقعات للمنتدى الاقتصادي العالمي بزوال 92 مليون وظيفة خلال السنوات الخمس المقبلة. لكن في المقابل، سيولد أكثر من 170 مليون وظيفة جديدة، ما يعني تحولاً جذرياً في بنية العمل، لا بطالة جماعية».

ومن هنا، يقول يحيى: «من المنطق أن فقدان الوظائف من دون تعويضها لا يخدم الشركات ولا الاقتصادات، ما يجعل توليد وظائف جديدة أمراً حتمياً. لكن ذلك يتطلب تعلم كيفية العمل مع الذكاء الاصطناعي؛ لأن تجاهل هذا التحول قد يترك كثيرين خارج سوق العمل المتغير».

توفير التكلفة وتعظيم الأرباح

ما يتعرّض له الموظفون لا يمكن فصله عن معادلة اقتصادية باتت تتكرر في آلاف الشركات حول العالم. فبدلاً من الاحتفاظ بموظفين ذوي خبرة، وما يصاحب ذلك من رواتب وتأمينات وحقوق نهاية خدمة، تتجه مؤسسات كثيرة إلى الاستغناء عن كوادرها لمصلحة الذكاء الاصطناعي.

وهذا ما يؤكده تقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum)؛ إذ يفيد بأن 41 في المائة من الشركات العالمية تخطط لتقليص قواها العاملة بحلول عام 2030 نتيجة اعتمادها المتزايد على الذكاء الاصطناعي والأتمتة.

وهنا يتحدث حجاز عن تأثير تبني الذكاء الاصطناعي على علاقة الشركات مع العملاء، فيقول إن «استخدام الذكاء الاصطناعي أسهم في تسريع العمل وتحسين جودته بشكل ملحوظ. انتقلنا من مرحلة سرعة الحصول على المعلومة إلى مرحلة (المعلومة في ومضة)، أي تحليلها وصياغتها لحظياً، مع قدرة الذكاء الاصطناعي على تقديم سيناريوهات متعددة للمحتوى، وتحليل اتجاهات الجمهور». ويستشهد بدراسة لـDeloitte تفيد بأن دمج الذكاء الاصطناعي في العلاقات العامة أدى إلى خفض زمن إنتاج المحتوى بنسبة 25-35 في المائة وتحسين دقته.

سوق بمليارات الدولارات

وهنا تتوزع المكاسب على جهتين، رجال الأعمال وشركاتهم وكذلك الشركات المنتجة للذكاء الاصطناعي التي تحقق عائدات مالية ضخمة، تتناقض مع واقع آلاف الموظفين. ففي منتصف عام 2025، حسب تقرير لـ«رويترز»، وصلت الإيرادات السنوية لشركة OpenAI، المطوّرة لنموذج ChatGPT، إلى نحو 10 مليارات دولار بنهاية النصف الأول من العام، متجهة نحو هدف يتجاوز 12.7 مليار دولار بحلول نهاية العام، مدفوعة بالطلب المتسارع على خدماتها وبرمجياتها الذكية.

ولا يقتصر هذا النمو المالي على OpenAI وحدها؛ إذ أظهر تقرير لـ«فوربس» أن شركات تقنية عالمية أخرى تمتلك وحدات ذكاء اصطناعي تُسهم في رفع إيراداتها السنوية بمليارات الدولارات، ما جعل الذكاء الاصطناعي أحد أهم مصادر الربح للشركات الكبرى في قطاع التكنولوجيا، حتى عندما يستغني بعضها عن موظفين بهدف تحسين كفاءة التكلفة التشغيلية.

اللاعبون الرئيسيون

وبناء على ما تقدم، يطرح سؤال جوهري هو: من هم اللاعبون الرئيسيون في هذا المجال؟ ويجيب الذكاء الاصطناعي نفسه بالتالي: شركة OpenAI، الأشهر عالمياً بفضل ChatGPT، رائدة في النماذج اللغوية الضخمة، ولديها شراكة استراتيجية مع Microsoft.

تليها Google DeepMind، التي طورت نماذج قوية مثل Gemini وAlphaGo، وتعد رائدة في الذكاء الاصطناعي العلمي والطب والبحث.

وMicrosoft نفسها أصبحت قوة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، مستثمرة مليارات الدولارات في OpenAI، ودمجت تقنيات الذكاء الاصطناعي في Windows وOffice (Copilot) وAzure AI.

في المقابل، تعمل NVIDIA على تطوير الرقاقات والمعالجات الأساسية للذكاء الاصطناعي، بينما تقدم Meta (Facebook) نماذج مفتوحة مثل LLaMA. وكذلك تعد Amazon (AWS) رائدة في الذكاء الاصطناعي السحابي، فيما تبرز Anthropic كمنافس قوي في مجال نماذج اللغة.

أما بالنسبة إلى حجم سوق الذكاء الاصطناعي فتفيد تقديرات حديثة بأنه بلغ في عام 2025 نحو 747.9 مليار دولار، مع توقعات بنموه ليصل إلى 2.74 تريليون دولار بحلول عام 2032، وفق موقع AffMaven.

القلق من التداعيات

هذا التباين الصارخ بين عائدات بمليارات الدولارات تحققها شركات الذكاء الاصطناعي، والخطر المتصاعد الذي يهدد ملايين الموظفين الذين يجدون أنفسهم بلا عمل أو في وظائف هشّة، يطرح سؤالاً أخلاقياً واقتصادياً مركزياً: لماذا تستفيد الشركات من التكنولوجيا لتقليل التكلفة الإنتاجية وتعظيم أرباحها، بينما تظل مسؤوليتها الاجتماعية تجاه الموظفين المستغنى عنهم غائبة أو مؤجلة في كثير من الأحيان؟

فهذا التوفير، كما يحذر خبراء اقتصاد، يتم غالباً دون تحمل الشركات لمسؤولياتها الاجتماعية، ولا يُقابل بإعادة تأهيل حقيقية للموظفين المسرّحين، ولا بتوليد فرص بديلة لهم، مما يسهم في تعميق أزمة البطالة عالمياً بدلاً من معالجتها.

إسلام الشافعي، الخبير الاقتصادي المقيم في نيويورك، يستهل حديثه لـ«الشرق الأوسط» بالإشارة إلى تصريح أدلى به رئيس الاحتياطي الفيدرالي (الأميركي) جيروم باول، في 20 ديسمبر (كانون الأول) وتضمن تحذيراً من «موجة الاستغناء عن الموظفين بسبب الذكاء الاصطناعي، أو توقف شركات عن الإعلان عن وظائف للسبب نفسه».

مخاوف من احتمال تحول هذه الآلات إلى متخذة قرار بدلاً من أن تكون مجرد مساعد للإنسان (أ.ب)

ثم يقدم الشافعي رأياً مغايراً، لكنه يحمل تحذيرات عميقة. ويقول: «حتى هذه اللحظة، الرعب من الذكاء الاصطناعي هو رعب وقائي أو مسبق؛ إذ لم يبلغ مرحلة يحل بها محل الإنسان تماماً. ما هو حاصل الآن هو استعانة به، لكن لا يمكن الثقة به بشكل كامل». ويضيف: «صحيح أنه قد يؤدي إلى انخفاض عدد العمال، حيث يمكن لعمل كان يتطلب 5 موظفين أن ينجزه موظف واحد مع الذكاء الاصطناعي. هذا هو الخطر الحقيقي»، مشيراً إلى أن منظمة العمل الدولية لديها تحفظات كبيرة بشأن السلامة وقدرة الآلة على اتخاذ القرار. ومع ذلك، هناك أعمال لم يهددها الذكاء الاصطناعي، حتى الآن، مثل الحرف اليدوية (السباك، الكهربائي، النجار، الخياط)، وستبقى لفترة طويلة تعتمد على القدرة البشرية والإبداع البشري».

كسر الاحتكارات

وفي هذا السياق يركز يحيى على كسر ثلاثة احتكارات رئيسية لمواجهة هذه التحولات:

احتكار الشهادات الجامعية في التوظيف: شركات كبرى مثل «غوغل» و«ديل» أسقطت شرط الشهادات الجامعية، لتركز على المهارات المكتسبة.

الاحتكار التقني: الذكاء الاصطناعي منح الأفراد قدرة أكبر على تنفيذ الأفكار من دون الحاجة إلى فرق كبيرة.

الاحتكار اللغوي: للمرة الأولى، أصبحت التكنولوجيا غير مرتبطة بلغة واحدة، ما يسمح للمستخدم بالتفاعل مع الذكاء الاصطناعي بلغته الأم، ويفتح المجال لملايين الأشخاص للمشاركة في الاقتصاد الرقمي.

والاقتصاد الرقمي استمد من الثورة الرقمية التي غدت جزءاً رئيسياً من الاقتصاد العالمي، وتُظهر البيانات حجماً هائلاً يعكس تأثير التكنولوجيا والتحوّل الرقمي على الإنتاج والنمو؛ إذ من المتوقع أن يتجاوز حجم الاقتصاد الرقمي العالمي في عام 2025 نحو 24 تريليون دولار، ما يعادل نحو 21 في المائة من حجم الاقتصاد العالمي، مع استمرار النمو بوتيرة أسرع من الاقتصاد التقليدي.

اضمحلال الرأسمالية

أما الشافعي فيذهب بعيداً في تحليله، بخاصة خلال حديثه عن الجوانب القانونية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات الرأسمالية والدول المتقدمة التي تعتمد في مداخيلها على الضرائب التي تحصّل بمعظمها من الموظفين، ويقول: في حال فقدان الموظفين لوظائفهم مقابل الذكاء الاصطناعي الذي يعد أصحاب الأعمال المستفيد الأكبر منه، لن يبقى هناك وعاء ضريبي كافٍ للحكومات لتمويل خدماتها، مما قد يؤدي إلى انهيار هذه المجتمعات بسبب الفقر العام. في المقابل، قد تكون الدول التي تعتمد على نموذج التكافل والتعاون، حيث تكون الدولة هي المنتج، أكثر قدرة على مواجهة هذا التحدي.

ويشير الشافعي إلى أن «رجال الأعمال الذين كانوا يبنون مصانعهم في شرق آسيا للاستفادة من رخص الأيدي العاملة، قد يعودون إلى أوطانهم ليعتمدوا على الروبوتات في إنتاج سلعهم».

قلق أممي

ولما كانت مسألة خسارة الوظائف تأخذ بعداً عالمياً، فإنها بدأت تلقى صدى داخل أروقة الأمم المتحدة، وبخاصة في مقرها الرئيسي في نيويورك.

وهذا ما يؤكده الشافعي، الذي يمارس عمله من ذاك المقر الأممي، ويقول: «إن هناك قلقاً شديداً في الأمم المتحدة تجاه ثورة الذكاء الاصطناعي، لكن يؤخذ عليها أنها أصيبت بمرض التغاضي والحالة النفسية التي تصيب المضاربين عندما تكون هناك فقاعة اقتصادية، وهو محاولة النظر إلى المكاسب والتغاضي عن حجم الخسائر».

ويلفت إلى أن النقاش في الأمم المتحدة يدور حول أحد جانبي الذكاء الاصطناعي، أي الإيجابيات، إذ يسرع 80 في المائة من أهداف التنمية المستدامة (التي اعتمدتها الأمم المتحدة)، ويدعم 27 في المائة من مجالاتها، ويساعد في الأمن السيبراني. لكن الجانب الآخر، أي السلبيات، فإنهم لم ينظروا إليها بشكل واسع بعد، مثل الهاكرز (المخترقين) الذين قد يستغلون الذكاء الاصطناعي في عمليات الاحتيال الإلكتروني التي تغزو الكوكب.

ويؤكد الشافعي أن «المجتمع أصبح الآن مصاباً بمرض التعامي نتيجة هذه الفقاعة التكنولوجية، ويبحث عن المبررات، ويتغاضى عن السلبيات». وينبغي أن تكون هناك قوانين تنظم هذه البيئة؛ إذ أظهرت دراسات الأمم المتحدة أن 85 في المائة من الدول تفتقر إلى البيئة القانونية للتعامل مع الذكاء الاصطناعي. لكن بعض الأصوات، وفي مقدمتها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، تحذر بقوة من ترْك مستقبل البشرية للخوارزميات. وسبق له أن حذر في مجلس الأمن وغيره، من عسكرة الذكاء الاصطناعي. والسؤال هنا: إذا لم يكن الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، فهل كانت ستدعمه الدول؟ هناك مخاوف من أن يتحول إلى سباق وقيود أمنية جديدة تفرضها الحكومات على مواطنيها، بحيث يكون هو الرقيب وأن يتحول إلى آلة لعذاب المواطنين. يختتم الشافعي بأن أكثر المجالات التي ينطلق فيها الذكاء الاصطناعي هي المجالات العسكرية والأمنية وتقنيات التعرف على الوجه والتتبع، محذراً من احتمال تحول هذه الآلات إلى متخذة قرار بدلاً من أن تكون مجرد مساعد، وربما تقضي على الحياة على سطح الأرض.

تهديد أم فرصة؟

ومن هنا، فإن المخاوف من الذكاء الاصطناعي لا تتوقف عند حدود فقدان الوظائف أو إعادة تشكيل سوق العمل، بل تمتد إلى مستويات أكثر خطورة تمسّ جوهر الأمن الإنساني ذاته والشفافية، وبخاصة في مجال المعلومات.

وهنا يؤكد حجاز أن «الذكاء الاصطناعي يفرض مسؤولية أكبر لضمان الدقة والشفافية. نعتمد منهجاً واضحاً يشمل جودة المعلومات وموثوقيتها، والشفافية في الاستخدام، ونلتزم بالإفصاح عن دوره في عملياتنا».

لكن هل الذكاء الاصطناعي تهديد أم فرصة؟ يجيب حجاز: «رغم أن هذا السؤال بات هاجساً، فإن التجارب الحديثة تؤكد أن الذكاء الاصطناعي تطور حتمي يجب استثماره. فكما واجه العالم تحفظات مشابهة عند ظهور الحاسوب ثم الإنترنت، يتكرر المشهد اليوم، لكنه سرعان ما يتحول إلى عنصر تمكين بدل التهديد».

ويلفت إلى أن كثيراً من الدول، بينها المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، أصبح التكيف مع الحداثة جزءاً من الثقافة المهنية فيها. لكن من المهم الإشارة إلى أن 90 في المائة من العاملين في القطاع عالمياً، وفق دراسة من Cornell ArXiv، يرون أن الذكاء الاصطناعي قد يؤثر على موثوقية المعلومات ويزيد الحاجة للتحقق. كما يتوقع 59 في المائة من الجمهور الأميركي انخفاض عدد الصحافيين. في المقابل، تؤكد Muck Rack أن 75 في المائة من محترفي الإعلام والعلاقات العامة يستخدمون الذكاء الاصطناعي التوليدي لتحسين الإنتاجية وتحليل البيانات وتطوير المحتوى، «ما يعني أن الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل المهنة، لا استبدالها»، طبقاً لحجاز.

القيمة الإنسانية

ويؤكد أن «الإبداع هو القيمة الإنسانية التي لا يمكن للذكاء الاصطناعي استبدالها تحت أي ظرف. في (حوار)، نحرص على تحفيز المبادرات الفردية وتشجيع الشغف المهني، وهذا يتسق مع (رؤية السعودية 2030) التي وضعت الإنسان في قلب عملية التحول». ويضيف أن التقنية تعزز الإبداع ولا تلغيه، والإنسان يظل مصدر القيمة الأساسية.

ليس بديلاً

والإبداع البشري لا يزال ضرورياً، حى الآن، وفق ما يؤكده أستاذ الترجمة الدكتور محمد خير ندمان لـ«الشرق الأوسط». ويتحدث عن تجربته قائلاً: «من تجربتي في مجال الترجمة والكتابة أستطيع القول إن أدوات الذكاء الصناعي أصبحت توفر حوالي ٦٠%؜ من الوقت على الأقل، وهي تدعم عمل المترجم والكاتب وتعززه، لكنها -حتى الآن- ليست بديلاً عن العنصر البشري بشكل كامل». ويضيف: «أحياناً يرتكب الذكاء الصناعي أخطاء (قاتلة)، ومهمة العنصر البشري أن يدقق ما ينتجه الذكاء الصناعي ويصحح ما يرتكبه من أخطاء. حتى عند البحث عن معلومات، يعطي الذكاء الصناعي أحياناً معلومات خاطئة تماماً. ويشير ندمان، وهو سوري، إلى أنه سأل الذكاء الصناعي مرة عن نفسه فـ"جعلني كاتباً وشاعراً تركياً!!!».

من جهته، يقول بركات، إن «مستقبل سوق العمل لن يُقاس بعدد الوظائف التي تختفي، بل بقدرة الأفراد والمؤسسات على تطوير المهارات وتبني ثقافة التعلم المستمر. التحدي الأكبر يتمثل في مواكبة التحولات السريعة من خلال الاستثمار في التعليم، وإعادة التأهيل المهني، وتمكين الشباب من المهارات الرقمية».

الخبز والخباز

لكن الدكتور م. عبدالهادي، رئيس قسم علم الأمراض (Pathology) في أحد مستشفيات الولايات المتحدة، يرى أن «تسونامي» الذكاء الاصطناعي «لن يستمر طويلاً إذا وُضعت لوائح تنظيمية مناسبة له». ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «ليس كل من يقرأ معلومات طبية عبر الإنترنت أو يجمعها باستخدام الذكاء الاصطناعي يصبح طبيباً، ولا كل من ينقل أخباراً يصبح صحافياً، ولا كل من يقرأ عن محرك سيارة يصبح ميكانيكياً. على سبيل المثال، حتى لو جمعت معلومات واسعة حول القانون بمساعدة الذكاء الاصطناعي، فلن تُقبل في المحكمة كمحامٍ»، مشيراً إلى الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يساعد الأشخاص على طرح الأسئلة الصحيحة لمتخصصيهم، وجعل الإجراءات أكثر فعالية، مع تعزيز مصداقية الخبراء وتقليل فرص الاحتيال أو التدخل غير المهني.

ويستعين الدكتور عبدالهادي بالمثل القائل «أعطِ خبزك للخباز حتى لو أكل نصفه»، ليؤكد أن «الخبرة الحقيقية يجب أن تبقى في يد المختصين، فالتدريب المهني والتراخيص لا يمكن ولا ينبغي منحها للهواة، حتى لو كانوا مثقفين ومطلعين بفضل الذكاء الاصطناعي». ويختتم قائلاً: «نصف المعلومة قد يضر أكثر مما ينفع عند التطبيق، والأدلة الحقيقية تظهر في النتائج».

محاولة أخيرة؟

حامدة الشاكر لا تعد نفسها من الشباب، وهي تعيش في بلد (لبنان) يعاني من أزمة مالية كبرى ولا تقاعد فيه للعاملين في القطاع الخاص، وكانت تظن أن وظيفتها في شركة لها بُعد إقليمي تشكل لها ضمانة طويلة الأمد، لكن جاء من يهدد لقمة عيشها من حيث لا تحتسب.

وبعد فقدانها عملها، حاولت اللحاق بالركب المتسارع. أنشأت حساباً على «لينكدإن» وسجلت في منصات توظيف، وبخاصة الخليجية مثل «بيت.كوم»، وتتابع دورات مجانية على الإنترنت لتعلم أساسيات الذكاء الاصطناعي في الكتابة والتحرير، وأرسلت عشرات النسخ من سيرتها الذاتية. لكن الردود كانت قليلة، وغالباً آلية. وتوضح أن «الإعلانات تطلب مهارات لم تكن مطلوبة عندما بدأت مسيرتي. يريدون شخصاً يكتب، ويحلل بيانات، ويدير أدوات ذكاء اصطناعي، ومختص في حسابات (السوشيال ميديا)، ويعمل بثلاثة أضعاف السرعة».

قصتها تعكس معضلة جيل كامل وجد نفسه خارج السوق، لا بسبب ضعف الكفاءة، بل لأن قواعد اللعبة تغيّرت فجأة. وتختم بمزيج من السخرية والحسرة قائلة: «قبل نحو مائتي عام عندما جاءت الثورة الصناعية وحلت الآلة وخط الإنتاج محل الحرفيين، صدر النداء الشهير: يا عمال العالم اتحدوا... فهل يأتي الآن من ينادي: يا موظفي العالم اتحدوا؟».


ترمب... صديق روسيا «اللدود» وصانع «عسلها المر»

ترمب وبوتين في ألاسكا... 15 أبريل 2025 (أ.ب)
ترمب وبوتين في ألاسكا... 15 أبريل 2025 (أ.ب)
TT

ترمب... صديق روسيا «اللدود» وصانع «عسلها المر»

ترمب وبوتين في ألاسكا... 15 أبريل 2025 (أ.ب)
ترمب وبوتين في ألاسكا... 15 أبريل 2025 (أ.ب)

لا شك أن العام الأول من ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترمب كان حافلاً بأحداث متسارعة أربك بعضها العالم. ودفع إلى إعادة ترتيب أولويات أطراف كثيرة بينها روسيا، التي راهنت بقوة على أن انتصار الرئيس الجمهوري في المعركة الانتخابية يمنحها فرصة ذهبية قد لا تتكرر كثيراً، لتكريس واقع جديد في الصراع المصيري الذي تخوضه منذ 2022.

منذ اليوم الأول، لم يخف الكرملين ارتياحه لرحيل الرئيس جو بايدن وفريقه من البيت الأبيض، ليس فقط بسبب العداوة التقليدية التي يكنها للديمقراطيين، والتيار الليبرالي عموماً الذي يرفع شعارات «هدامة» تهدد فلسفة الحكم المحافظ في روسيا، ولكن لأن الرئيس الجديد – القديم، كان يعلن صراحة، في كل مناسبة، عزمه على التقارب سريعاً مع روسيا، موسكو، وقدرته على إيجاد حلول فعالة للمشكلات الكبرى القائمة.

مع ذلك، لم يرغب الكرملين في رفع سقف توقعاته كثيراً، وراقب بحذر خطوات ترمب الأولى وتشكيل فريقه الرئاسي، ثم تحركاته مع حلفاء أوروبيين، وحيال الملف الأوكراني الأهم بالنسبة إلى روسيا. وللحذر الروسي ما يبرره، ورغم تطابق المواقف حول أن تلك «حرب بايدن» وحول النظرة السلبية لـ«الدور الأوروبي في تأجيج الصراع»، لكن موسكو كانت تدرك أن ترمب قد يخذلها مثلما فعل خلال ولايته الأولى عندما فرض أوسع رزم عقوبات ضد الكرملين رغم أنه كان يردد على الملأ أن «بوتين صديق رائع».

العنصر الثاني الذي برر حذر الكرملين تجاه رئاسة ترمب، كان بسبب اندفاعة الأخير الحماسية لـ«فرض السلام في 24 ساعة». وهو أمر تدرك موسكو جيداً وكما أثبتت التجربة لاحقاً أنه مستحيل، وأن حجم التعقيدات وتشابك المواقف سوف يقوضان أي جهد متسرع لفرض تسوية هشة.

دونالد ترمب وفلاديمير بوتين يتصافحان خلال مؤتمر صحافي عقب اجتماعهما للتفاوض على إنهاء الحرب في أوكرانيا أغسطس الماضي (رويترز)

محاولات السلام... وتقدم ميداني

لذلك اختار الكرملين تكتيكاً ناجحاً بالإفادة من خبرته السابقة مع ترمب. فهو من جانب امتنع تماماً عن استفزاز واشنطن، أو توجيه اللوم لها، حتى في أوقات صعبة مثل الموقف تجاه حرب غزة، أو الهجوم على الحليف الإيراني. لكنه في الوقت ذاته سار خطوات لتعزيز تحالفاته مع كوريا الشمالية والصين وإيران وغيرها من البلدان التي ساعدت روسيا في تقليص تداعيات العزلة والعقوبات.

في ملف أوكرانيا، أعلن التزامه دعم جهود ترمب، واستند إلى تفهم الإدارة الأميركية للمطالب الروسية خلافاً للموقف مع أوروبا، وهو أمر برز بوضوح خلال القمة الوحيدة التي جمعت الرئيسين ترمب وبوتين في ألاسكا أغسطس (آب) 2025، إذ تبنى الرئيس الأميركي عملياً كل شروط نظيره الروسي، منطلقاً من ضرورة معالجة «الأسباب الجذرية للأزمة».

وتراجع ترمب بذلك عن الحلول المؤقتة مثل الهدنة أو تجميد القتال، بعدما كان هذا هاجسه في الأشهر الأولى لولايته، كما أنه أخذ على عاتقه مهمة صعبة هي الضغط على الأوروبيين والأوكرانيين، لحملهم على تقديم تنازلات مؤلمة. وقد تجلت نتائج القمة في مسودة الخطة الأميركية للسلام التي كادت (في صياغتها الأولى) تكون نسخة حرفية من شروط بوتين، ورؤيته التي قدمها في جولة مفاوضات إسطنبول قبل قمة ألاسكا بشهرين.

وخلال عام حافظ الكرملين على مواقف متشددة رغم أنه لم يغلق باب الحوار مع واشنطن في أي لحظة، وقد برز ذلك خلال جولات مفاوضات مكوكية أجراها مبعوث الرئيس الأميركي ستيف ويتكوف الذي زار موسكو ست مرات. وشكلت كل زيارة منعطفاً مهماً خفف من غضب ترمب أحياناً، وحديثه عن «خيبة أمل» بسبب مماطلة بوتين وتشدده.

وقادت جولات ويتكوف إلى استئناف المفاوضات المباشرة مع أوكرانيا ثم ترتيب القمة الروسية الأميركية، وفي بعض الحالات دفعت لإجراء مكالمة هاتفية حاسمة بين ترمب وبوتين في توقيت حساس، مثلما حدث في نوفمبر (تشرين الثاني)، عشية لقاء مهم لترمب مع الرئيس فولوديمير زيلينسكي، كان يفترض أن يوافق خلاله على رزمة مساعدات عسكرية ضخمة، لكن المكالمة هدأت الموقف وسرعان ما دفعت نحو طرح مبادرة السلام التي تناقش حالياً.

ميدانياً، استغل الكرملين هذا العام بشكل مفيد للغاية. وبينما اتجهت أنظار العالم إلى جهود «صانع السلام» في فرض تسوية محتملة، كانت القوات الروسية تتقدم سريعاً في جنوب وشرق أوكرانيا لفرض أمر واقع جديد لا يمكن تجاهله عند رسم الحدود المستقبلية لأوكرانيا.

ترمب برفقة قادة أوروبيين لبحث حرب أوكرانيا في البيت الأبيض 18 أغسطس الماضي (رويترز)

عقود مجزية... ومكافأة لبوتين

بالتوازي مع نقاشات التسوية المؤجلة، عززت الاتصالات الروسية الأميركية مجالات إحياء العلاقات الثنائية بشكل أسرع من المتوقع. ومع استئناف عمل قنوات الاتصال على المستويات المختلفة التي كانت مقطوعة بين الجانبين، انطلق حوار تفصيلي حول إعادة تشغيل العلاقات وإغلاق ملفات صعبة، بينها مصادرة ممتلكات دبلوماسية وتسيير الرحلات الجوية وتبادل للسجناء. لكن الأهم تمثل في فتح آفاق لعلاقات تجارية مهمة، وقد تحدث كيريل ديمتريف رئيس صندوق الاستثمار المباشر والمقرب من بوتين جداً لدرجة أنه غدا رفيقه في اللقاءات مع المسؤولين الأميركيين، عن عقود مجزية واستثمارات مشتركة بعيدة المدى في قطاعات حيوية عدة بينها قطاع الطاقة والمعادن النادرة. صحيح أن هذه الاستثمارات مرتبطة بإغلاق ملف أوكرانيا لكن المقدمات تبدو إيجابية جداً للطرفين. واللافت هنا، أن بعض تلك الاتفاقات الأولية مرتبط تماماً بملف التسوية، إذ حصل ترمب على وعود باستثمارات مهمة للغاية وواسعة النطاق، في قطاع المعادن النادرة في مناطق دونباس، بعد أن تعترف واشنطن بالسيادة الروسية عليها.

ولم تتأخر المكافأة الأميركية طويلاً، إذ جاءت الخطوة التي اتخذتها إدارة الرئيس الأميركي بمراجعة استراتيجية الأمن القومي وإلغاء وصف روسيا بأنها «تهديد مباشر» لتؤشر إلى مستوى التحول الجاري رغم أن الحرب في أوكرانيا لم تتوقف ومسار التسوية ما زال شاقاً.

وقد أظهرت الخطوة الأميركية درجة التباعد بين واشنطن والعواصم الأوروبية في التعامل مع سياسات الكرملين، وهو أمر يعول عليه الكرملين كثيراً ويعد واحداً من أهم إنجازات العلاقة الروسية مع ترمب.

وقد برز هذا التباعد ليس فقط في نقاشات التسوية الأوكرانية بل وفي التعامل مع ملف الأمن في أوروبا بشكل عام. ويكفي القول إن واشنطن تجاهلت عملياً تفاقم القلق الأوروبي بعد سلسلة من انتهاكات أجواء البلدان الأوروبية بالمسيّرات الروسية. وغاب رد الفعل الموحد لحلف شمال الأطلسي، وبينما وجهت بعض بلدانه مثل فرنسا وبريطانيا عناصر من سلاح الجو لتعزيز حماية حدود أوروبا مع روسيا، لم يظهر تحرك قوي للحلف الذي يضم نحو 100 ألف عسكري أميركي منتشرين في أوروبا. وبدلاً من ذلك رأى ترمب أنه لا داعي لتحريك قوات الحلف بسبب «عدم ظهور تهديد روسي متعمد».

ولاحقاً، بعد طرح خطة ترمب للتسوية تحدث قادة بلدان أوروبية مثل لاتفيا وبولندا صراحة عن عدم مبالاة ترمب بأمن القارة وأنه يمنح بوتين مكافآت على سياساته.

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينبينغ وقائد كوريا الشمالية كيم جونغ أون في بكين (أرشيفية - د.ب.أ)

شهر عسل مر

لكن في المقابل، لا يبدو شهر العسل بين بوتين وترمب وردياً تماماً كما يظهر للوهلة الأولى. والأهمية الكبرى التي أولاها الكرملين لعلاقته مع الرئيس الأميركي عكست أولوياته بسبب انخراطه الكامل في الملف الأوكراني، لكن مجريات العام عكست خسائر بعيدة المدى لروسيا بسبب سياسات ترمب، بدأت مقدماتها تلوح وتتضح شيئاً فشيئاً.

وتراجع حضور روسيا في ملفات إقليمية مهمة للغاية، ومثلاً لم تدع موسكو إلى كل الاجتماعات التمهيدية ولا النقاشات التي قادت لخطة التسوية في غزة، وتم تجاهلها تماماً ليس فقط بصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن، بل بصفتها شريكاً لسنوات طويلة في قيادة «رباعي» الشرق الأوسط.

أيضاً تم تجاهل العروض الروسية الكثيرة للوساطة في ملف إيران النووي، ولم تنجح موسكو في لعب دور لحماية حليفها الإيراني، أو حتى للمشاركة في النقاشات الجارية حول مستقبل وآليات التعامل الغربي معه.

لكن الأهم من ذلك برز في ملفات لها أهمية خاصة عند الكرملين، وقد عكست مستوى تراجع حضور روسيا وتأثيرها حتى في مناطق نفوذها الحيوي التقليدي.

ومع تزايد التغلغل الأميركي في آسيا الوسطى وتعزيز تحالفات واشنطن مع بلدان ظلت تقليدياً تحوم في فلك موسكو، جاء اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان برعاية ترمب ليقضي على ما تبقى من نفوذ روسيا في هذا الملف. ولا يقتصر الأمر على عدم دعوة موسكو أصلاً للنقاشات التي قادت إلى إبرام اتفاق سلام في واشنطن، بل وتجاوز ذلك إلى إعلان الاتفاق على إنشاء «منطقة عبور» عبر أرمينيا تربط أذربيجان بجيب نخجوان التابع لها غرباً، على أن يُسمى «طريق ترمب للسلام والازدهار الدوليين».

وبموجب ذلك الاتفاق، تحظى الولايات المتحدة بحقوق تطوير الممر المعروف كذلك بـ«ممر زنغزور»، ما يعني ظهور وجود أميركي مباشر في منطقة جنوب القوقاز للمرة الأولى في التاريخ، ما يشكل تهديداً جدياً لمصالح كل من روسيا وإيران.

أيضاً، جاءت خطوة ترمب بإعلان استئناف التجارب النووية المجمدة منذ عقود، لتضع موسكو أمام استحقاق جدي وجديد قد يفضي إلى تأجيج سباق التسلح في العالم ويثقل كاهل الموازنة الروسية التي تعاني أصلاً من تضخم كبير جداً في بنود الإنفاق العسكري.

ومع البعد الاقتصادي للموضوع، فهو من جانب آخر يضيف مخاطر جدية نظراً لضعف آليات الرقابة والحد من التسلح وزيادة أعداد البلدان المرشحة للانضمام إلى النادي النووي، ما يفتح باباً كما يقول خبراء لـ«فوضى نووية غير محسوبة العواقب».

يقابل هذا أن موسكو وواشنطن لم تنجحا أصلاً في الاتفاق على العودة إلى اتفاقات الحد من التسلح في مستوياتها المختلفة، مثل معاهدة الحد من نشر الصواريخ القصيرة والمتوسطة في أوروبا وتمديد معاهدة ستارت لتقليص الأسلحة الاستراتيجية وغيرها من الاتفاقات التي تم تقويضها خلال السنوات الماضية.

ولم تحصل موسكو التي أطلقت قبل شهرين مبادرة لتمديد العمل باتفاقية «ستارت الثانية» التي ينتهي مفعولها في فبراير (شباط) المقبل، على أي رد من واشنطن. ما دل على أن الانخراط النشط في الملف الأوكراني لم ينعكس فعلياً على عودة التنسيق الروسي الاميركي في قضايا مهمة للغاية، مثل ملفات الأمن الاستراتيجي في العالم.