في عام 1998 قرّر ألفارو نوبوا صاحب أكبر ثروة في الإكوادور الترشح لرئاسة الجمهورية جرياً على عادة كبار الأغنياء الذين يشكلون الغالبية الساحقة من رؤساء تلك البلاد إلا أن الثروة الضخمة التي جمعها من تجارة الموز وعشرات الشركات التي أسسها في القارتين الأميركية والأوروبية بجانب المشروعات الخيرية الكثيرة التي يموّلها لتقديم الخدمات الصحية والتعليمية لم تكن كافية لفوزه في تلك الانتخابات. بعد تلك المحاولة الأولى الفاشلة عاد ألفارو ليجرب الترشح مرة أخرى عام 2002 ومن ثم كرّر التجربة 3 مرات متتالية حتى أصبح صاحب الرقم القياسي في الترشح للانتخابات الرئاسية من غير أن يحالفه الحظ في الوصول إلى سدة الحكم الأولى. ولكن في ربيع العام الماضي شغر منصب رئاسة الجمهورية في الإكوادور إثر استقالة الرئيس اليميني غيّيرمو لاسّو تحت وطأة فضائح فساد مالي، فقرّر رجل الأعمال الشاب دانيال نوبوا (35 سنة) نجل ألفارو خوض غمار المعركة الانتخابية التي انهزم فيها والده 5 مرات متتالية. وحقاً تمكّن في الجولة الثانية من الفوز على منافسته اليسارية ليصبح أصغر رئيس في تاريخ جمهورية الإكوادور ويتولى أقصر فترة رئاسية تنتهي في ربيع العام المقبل مع نهاية ولاية الرئيس المستقيل.
بدأ دانيال نوبوا ولايته الرئاسية أواخر العام الماضي بعدما هزم لويزا غونزاليس، مرشحة الحزب والتيار السياسي اليساري الذي أسسه الرئيس الأسبق رافايل كورّيا، الخصم الذي كان هزم والده 3 مرات ويعيش حالياً في المنفى فاراً من وجه العدالة التي تلاحقه بتهم الفساد واختلاس المال العام.
عندما قرّر ألفارو نوبوا التخلّي عن حلمه الرئاسي في عام 2013 بعد هزيمته الانتخابية الخامسة، كان نجله دانيال يتابع تحصيله العلمي في أبرز الجامعات الأميركية من نيويورك إلى جورج واشنطن مروراً بنورثويسترن وهارفارد، ويعدّ العدة لاقتحام المعترك السياسي الذي امتنع على والده، حريصاً باستمرار على إظهار صورة أكثر اعتدالاً وعصرية، تمشياً مع المتطلبات الاجتماعية الحديثة.
ذلك أن نوبوا (الأب) كان يجسّد حقاً صورة المرشح اليميني المحافظ المتجذّر في المعتقدات والقيم القديمة والخطاب الصدامي في وجه اليسار. أما نجله دانييل فقد حرص منذ اليوم الأول على وصف نفسه بأنه يمثل «وسط اليسار»، وأعلن دعمه للمجموعات الجنسية المختلفة والسكان الأصليين، كما أبدى اهتماماً خاصاً بالتعليم والشباب والعاطلين عن العمل. مع أن هذه الصورة التي جهد لإظهارها وساعدته على استقطاب التأييد في الأوساط الشعبية المعتدلة، لم تحجب يوماً عند المراقبين حقيقة هويته وانتماءاته السياسية اليمينية.
ثقافة وخبرة اقتصادية وتكنولوجية
يتميّز دانيال نوبوا عن والده بإلمامه الواسع بشؤون الاقتصاد والتكنولوجيا الحديثة، وخطابه البليغ المباشر الذي كان منصّة القفزة الكبرى التي حققها في مسيرته القصيرة نحو الرئاسة، ولا سيما المناظرة التلفزيونية عشية الجولة الأولى من الانتخابات مع بقية المرشحين. والواقع أنه قبل أيام قليلة من تلك الجولة في 20 أغسطس (آب) من العام الماضي كان دانيال نوبوا خارج كل الرهانات للوصول إلى الجولة الثانية. لكن عندما أتيحت له فرصة المواجهة المباشرة مع منافسيه، وخاصة المرشحة اليسارية لويزا غونزاليس، التي كانت كل الاستطلاعات ترجح فوزها، أظهر معرفته الواسعة والعميقة بأوضاع البلاد ومشكلاتها والحلول المناسبة لها، راسماً بذلك ملامح المرشح الشاب العصري المؤهل للوصول إلى الرئاسة.
ويجمع المحللون على أن تلك المناظرة التلفزيونية، بالذات، هي التي كانت بابه إلى الفوز خارج المواجهة الغارقة فيها البلاد منذ عقود بين اليمين التقليدي المحافظ والتيارات اليسارية الكلاسيكية المتشددة. ولقد أظهرت نتائج الانتخابات لاحقاً أن غالبية الناخبين توّاقة إلى الخروج من دوامة تلك المواجهة التي شلّت العمل السياسي، وعطّلت حركة النمو الاقتصادي، وأرخت سدل العنف والفلتان الأمني، الذي بلغ ذروته خلال الأشهر الأخيرة.
بعدها، قبيل الجولة الثانية كان دانيال نوبوا يتصدّر جميع الاستطلاعات، وليس مدفوعاً فقط بالتجاوب الشعبي الواسع مع الطروحات التي قدمها لمعالجة المشكلات الاقتصادية والأمنية، بل أيضاً بسبب انحسار التأييد للتيار الثوري اليساري الذي فشلت قياداته في استعادة الشعبية التي كان يتمتع بها إبان فترة رئاسة مؤسسه رافايل كورّيا. وحقاً، تبيّن تحليلات النتائج الانتخابية أن نوبوا نجح في استمالة الشباب الذين جذبهم هذا الخيار السياسي الجديد ومقترحاته لمعالجة المشكلات الكثيرة التي تعاني منها الإكوادور... من البطالة... إلى تراجع الخدمات الاجتماعية الأساسية والهواجس الأمنية التي رفعت معدلات الإجرام إلى مستويات قياسية.
طروحات وحلول للمشكلات
معظم الطروحات التي تضمنها برنامج نوبوا الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة. فالبطالة غدت المصدر الأساسي للقلق الاجتماعي الذي يسود الإكوادور بسبب تدهور الأوضاع الأمنية نتيجة أعمال العنف والسطو التي تمارسها المنظمات الإجرامية وعصابات تجارة المخدرات، حتى أصبحت البلاد من أخطر البلدان في أميركا اللاتينية.
وكمثال، دعا نوبوا إلى إصلاح نظام السجون وتشديد العقوبات على جرائم الاتجار بالمخدرات. واقترح نقل أخطر المجرمين، الذين يشكلون 17 في المائة من إجمالي المعتقلين، إلى سفن عائمة في البحر لمنعهم من مواصلة أنشطتهم داخل السجون، علماً بأن هذه السجون صارت بفعل الفساد والرشوة تمنح المجرمين المعتقلين فيها معاملة تضاهي معاملة الفنادق الضخمة وتتيح لهم إدارة عملياتهم الإجرامية. وهنا يشار إلى أن المرشح الشاب جاب البلاد إبان حملته الانتخابية مرتدياً سترة واقية من الرصاص بعد اغتيال أحد المرشحين في مستهل الحملة.
من جهة ثانية، تضمن برنامج نوبوا الاقتصادي المحافظة على التعامل بالدولار الأميركي في العقود والصفقات التجارية الرسمية، وتعهداً بجذب شركات أميركية لتصنيع منتوجاتها في الإكوادور من أجل المساهمة في إيجاد فرص العمل للعموم. وكذلك اقترح إلغاء الضرائب المفروضة على خروج رؤوس الأموال من البلاد، الأمر الذي استجلب انتقادات واسعة من خصومه الذين عدّوا هذا الاقتراح لا يعود بالمنفعة سوى على الشركات الكبرى، وتحديداً تلك التي تملكها أسرته.
معالجة الأمن أولاً
نوبوا، منذ اليوم الأول لتسلمه مهام الرئاسة أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وجد نفسه مضطراً لتنحية البنود الاقتصادية والاجتماعية في برنامجه الانتخابي - التي فعلياً كانت رافعته إلى الفوز - كي يتفرّغ للأزمة الأمنية التي أصبحت هاجس المواطنين الأساسي بعدما وقعت البلاد تحت رحمة التنظيمات الإجرامية التي تسيطر على مناطق كثيرة، بما فيها بعض أحياء العاصمة والمدن الكبرى، زارعةً الرعب بين المواطنين.
وفي مطلع عام الحالي، أي بعد شهر تقريباً من جلوس الرئيس الجديد، تابع المواطنون مباشرة على شاشات التلفزيون كيف اقتحم 10 مسلحين ملثمين استوديو إحدى القنوات، وهددوا المشاركين في البرنامج طيلة نصف ساعة قبل أن تتدخل الشرطة لاعتقالهم.
ثم بعد أيام من تلك الحادثة، نشرت وزارة الداخلية تقريراً يفيد أن عدد ضحايا العنف والاغتيالات على يد المنظمات الإجرامية خلال عام الماضي ناهز 8 آلاف، أي بزيادة 65 في المائة عن العام السابق.
في غضون ذلك، كانت 6 سجون في قبضة معتقلين مسلحين يحتجزون عشرات الرهائن داخلها، وكان أحد أخطر مجرمي الإكوادور قد فرّ من السجن برفقة 4 من حراسه بعد اعتقاله بـ3 أيام. ومن ثم، بلغت الأزمة الأمنية مستوى من الخطورة وعجز الأجهزة عن ضبطها، ما دفع البلدان المجاورة التي كانت تتابع تطورات الوضع بقلق متزايد إلى إرسال تعزيزات عسكرية إلى المناطق المتاخمة للإكوادور، وعرض بعضها على حكومة نوبوا المساعدة في ضبط الحدود.
أمام هذا المشهد، أعلن الرئيس نوبوا حالة الطوارئ العامة في البلاد لفترة 3 أشهر. وأوكل مهام حفظ الأمن في المدن والأرياف إلى القوات المسلحة. وقرّر أن يدعو في نهايتها إلى إجراء استفتاء شعبي حول حزمة من التعديلات الدستورية، لها صلة بالأمن، أملاً في تمكين الدولة من أدوات تسمح لها بمواجهة العنف المتزايد في البلاد. وضمن هذه التعديلات تكليف الجيش صلاحيات دائمة لمؤازرة الشرطة في الحفاظ على الأمن، وتوسيعها لتمكينه من البقاء في المدن، وتعجيل طلبات استرداد المجرمين، وتسهيل إجراءات تسليمهم، وإجراء تعديلات واسعة على قانون العدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى تعديلات أخرى لتشجيع الاستثمار الخارجي وإضفاء مزيد من المرونة على قانون العمل.
وكان قد سبق للرئيس المستقيل أن دعا إلى إجراء استفتاء مماثل مطلع العام الماضي، لكنه قوبل بالرفض بنسبة عالية. ورغم أن قانون الطوارئ الساري منذ بداية العام الحالي يعدّ البلاد في حالة نزاع داخلي مسلح، وينصّ على تكليف الجيش مهام الحفاظ على الأمن في المدن والأرياف، فإن الاستفتاء الذي طرحه نوبوا مؤخراً يهدف إلى إعطاء القوات المسلحة، وليس الشرطة، صلاحيات دستورية لوضع السياسة الأمنية والإشراف على تنفيذها، ويمهد لاستعادة الدولة هيبتها وإشاعة بعض الاطمئنان في مجتمع فقد ثقته بالمؤسسات العامة وقدرات الأجهزة على حمايته من عنف المنظمات الإجرامية .
مجازفة ناجحة... ولكن
هنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الجديد كان يدرك أن الاستفتاء يحمل مجازفة كبيرة، من شأنها أن تقضي على حظوظه في تجديد ولايته في انتخابات العام المقبل، بيد أنه كان يعرف أيضاً أن ترك الأمور على حالها سيؤدي إلى خروج الوضع الأمني عن السيطرة، ويفقده الشعبية التي رافقته خلال الأشهر الأولى من ولايته عندما أعلن الحرب على العصابات الإجرامية. غير أن مجازفة نوبوا نجحت، فجاءت نتائج الاستفتاء لتعزز موقعه، وتطلق يده لعسكرة السياسة الأمنية من دون اللجوء إلى إعلان حالة الطوارئ... كما كان يحصل غالباً عند التفاقم المتكرر للأزمات.
في المقابل، نجاح الاستفتاء وموافقة المواطنين على 9 من أصل 11 اقتراحاً لتعديل الدستور وتشديد الاستراتيجية الأمنية، لا يعالج بلا شك الجذور الهيكلية للأزمة، أي التفاوت الاجتماعي العميق، وانسداد الأفق أمام المجموعات الفقيرة والمهمشة وغياب الدولة عن المناطق الأكثر تأثراً بتداعياتها.
وبناءً عليه، لا يستبعد المراقبون، في حال استمرار تدهور الأوضاع الأمنية ولجوء الحكومة إلى مزيد من الإجراءات المتشددة، بل انتهاك حقوق الإنسان، على غرار ما يحصل في السلفادور مع رئيسها نجيب أبو كيلة، أن ينقلب السحر على الساحر... ويجد نوبوا نفسه في مأزق منحى تصعيدي يصعب جداً أن يخرج منه ظافراً.يضاف إلى ما سبق أن الأزمة المفتوحة التي نشأت عن عملية اقتحام السفارة المكسيكية مطلع الشهر الماضي لاعتقال نائب الرئيس الأسبق المطلوب من العدالة، والتي تمّت بأمر مباشر من نوبوا، استقطبت إدانة واسعة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتترك حكومته بلا غطاء، في حال إقدامها على مزيد من التجاوزات.