أفلام عن هشاشة الافراد وآلام وويلات الحروب والثورات في ثامن أيام «مراكش»

المغربي بنسعيدي والفرنسي بونيلو يتحدثان عن تجربتيهما في الإخراج

من تقديم فيلم «عالمنا» للكوسوفية لوانا باجرامي (الجهة المنظمة)
من تقديم فيلم «عالمنا» للكوسوفية لوانا باجرامي (الجهة المنظمة)
TT

أفلام عن هشاشة الافراد وآلام وويلات الحروب والثورات في ثامن أيام «مراكش»

من تقديم فيلم «عالمنا» للكوسوفية لوانا باجرامي (الجهة المنظمة)
من تقديم فيلم «عالمنا» للكوسوفية لوانا باجرامي (الجهة المنظمة)

بعد تكريمه في سادس أيام «مهرجان مراكش»، اعترافاً بموهبته وتأكيداً لقيمته الفنية داخل المشهد السينمائي المغربي، حلّ المخرج وكاتب السيناريو والممثل فوزي بنسعيدي، أول من أمس الجمعة، ضيفاً على فقرة «حوار مع ...»، ضمن فعاليات اليوم الثامن من هذه التظاهرة الفنية التي تواصلت على مدى 9 أيام. كما كان الموعد، في فقرة حوارية ثانية، مع المخرج وكاتب السيناريو الفرنسي برتران بونيلو، الذي تحدث عن بداياته واختياراته الفنية وقناعاته، وكيف صار مخرجاً سينمائياً.

وعلى مستوى العروض السينمائية، تميزت فعاليات هذا اليوم بدخول فيلمين جديدين سباق الفوز بجوائز المهرجان هما «الهدير الصامت» (2023) للأسكوتلندي جوني بارينكتون، و«عالمنا» (2023) للكوسوفية لوانا باجرامي؛ فيما عُرض «مايكينغ أوف» (2023) للفرنسي سيدريك كان، في فقرة «العروض الاحتفالية». و«مروكية حارة» (2023) للمغربي هشام العسري، في فقرة «بانوراما السينما المغربية»، و«غير المرغوب فيهم» (2023) للفرنسي لادج لي، في فقرة «العروض الخاصة». وفي «القارة الحادية عشرة»، كان الموعد مع «فتاة صغيرة زرقاء» (2023) للفرنسية منى عشاش، و«العروس» (2023) للرواندية ميريام بيرارا، و«بين الثورات» (2023) للروماني فلاد بيتري، و«جبل رأس جوز الهند» (2023) للكونغولي آلان كاساندا.

المخرج المغربي فوزي بنسعيدي في فقرة حوارية بالمهرجان (الجهة المنظمة)

حواران مع بنسعيدي وبونيلو

شكل اللقاء الحواري مع بنسعيدي فرصة للوقف على قناعاته واختياراته، والاقتراب أكثر من طريقة تدبيره لتجربته السينمائية، وتأكيداً للمضمون الذي تتحرك من خلاله أعماله، قال بنسعيدي إن بإمكان الأعمال السينمائية تمرير رسائل قادرة على «قلب المعايير وتغيير العالم».

وجاء ربط المخرج المغربي بين السينما وأوضاع العالم، في سياق تفاعله مع مشهد من «يا له من عالم رائع»، ظهرت فيه بطلة الفيلم، في دور شرطية مرور، وهي تؤدي مهمتها في ضبط حركة المرور على مستوى إحدى المدارات الطرقية، قبل أن تتقاطع نظراتها مع شاب، فيتبادلان الإعجاب، قبل أن ينتقل إلى «مشهد راقص» لحافلات وسيارات ودراجات نارية، حول المدارة الطرقية، فيما يشبه سمفونية تضبط الشرطية إيقاعها بدقة عجيبة.

وتطرّق بنسعيدي، في معرض مروره الحواري، إلى الكيفية التي يختار بها الفضاءات التي يصور فيها أعماله، مشيرا إلى أنه يتعامل معها كتعامله مع عملية «الكاستينغ» التي تتم على مستوى اختيار الممثلين. وأضاف أنه يزور تلك الفضاءات بمفرده، قبل بدء التصوير، وخلال أوقات متفرقة من اليوم، لأجل تحديد الوقت الملائم للتصوير. كما تحدث عن التطور والتجديد الحاصلين على مستوى أعماله، وشدّد على أن المهم بالنسبة إليه يبقى الوفاء لشغف شخصي بالسينما.

وعن أعماله، ومدى إمكانية مفاضلته بينها، قال إنه لا يميز بين عمل وآخر، مشدداً على أنه صنع كل فيلم من أفلامه بالحب والشغف والصدق نفسه. كما تحدث عن علاقة المسرح بالسينما، مشيراً إلى أن هذه الأخيرة استفادت كثيراً من الممثلين القادمين من المسرح، لكنه رأى أن السينما تبقى أقرب إلى الموسيقى والهندسة المعمارية منها إلى المسرح.

المخرج الفرنسي برتران بونيلو في فقرة حوارية بالمهرجان (الجهة المنظمة)

من جهته، تحدث بونيلو، في فقرته الحوارية، عن انتقاله من الموسيقى إلى السينما، وهو الذي بدأ رحلته الفنية منشغلاً بالموسيقى الكلاسيكية، وكان يحلم في مرحلة المراهقة بأن يصبح قائد فرقة موسيقية، قبل أن يتحول إلى موسيقى الروك والبوب. وفي منتصف العشرينات من عمره، بدأ يهتم بالسينما، من خلال مشاهدة الأفلام، وأخذ فكرة عن أفكار وقناعات المتخصصين بها من خلال قراءة حواراتهم، ليبدأ، شيئاً فشيئاً، في اكتساب صرامة فنية، مكنته من سرد القصة وكتابة الفيلم بطريقة خاصة ومميزة.

ولتوضيح أفكاره أكثر، استعرض بونيلو أمام الحضور مقتطفات من عدد من أفلامه، كما تحدث عن عناصر تكوين المشروع السينمائي، متوقفاً عند تجربته في فيلم «سان لوان»، الذي يتناول السيرة الذاتية للمصمم الفرنسي الشهير إيف سان لوران. كما تحدث عن تفاصيل التصوير ورؤيته للعملية الإبداعية.

وعُرض لبونيليو أول فيلم طويل، «شيء عضوي» (1998)، في قسم البانوراما بمهرجان «برلين»، وشارك فيلمه «المصور الإباحي» (2001) في قسم أسبوع النقاد بمهرجان «كان»، حيث فاز بجائزة الاتحاد الدّولي للنقاد السينمائيين. كما اختيرت أفلامه المتوالية في مهرجان «كان»: «تيريزيا» (2003)، و«في الحرب» (2008)، و«التسامح: ذكريات من منزل الدعارة» (2011)، و«سان لوران» (2014). وبعد ذلك، أخرج «نوكتوراما» (2016)، واختير «طفلة زومبي» في قسم «أسبوعي المخرجين» (2019)، و«الغيبوبة» (2022) في المسابقة الرسمية لمهرجان «برلين»، حيث نال جائزة الاتحاد الدّولي للنقاد السينمائيين. فيما عُرض فيلمه الأخير «الوحش» (2023)، في مسابقة «مهرجان البندقية السينمائي الدّولي».

هدير صامت وثورات

جاءت أفلام اليوم الثامن في المهرجان متنوعة، في توجهاتها الفنية والمضامين التي تلامسها، تتراوح في ذلك بين رصد هشاشة الواقع اليومي وانكسارات الأفراد في مختلف تجلياتها ومستوياتها، علاوة على استحضار مظاهر البؤس والتوتر والألم التي تعاني منها شعوب وجماعات في عدد من مناطق العالم، وتوْقها إلى مستقبل أفضل.

وتدور أحداث «الهدير الصامت» في جزيرة لويس في أسكوتلندا، من خلال شخصية دوندو، راكب الأمواج الشاب، الذي لم يتقبل واقعة رحيل والده الصياد بعد فقدانه في البحر منذ ما يزيد على السنة. بطبعه الهادئ والحالم، بدأ يقترب من ساس، زميلته في الدراسة، وهي فتاة مفعمة بالذكاء لا تتردد في استفزاز الآخرين. ستنمو بين الشابين صداقة غير متوقعة ستساعدهما في شق طريقهما في مجتمع ريفي، بين الأمواج العاتية والمعتقدات ونيران الجحيم.

أما «عالمنا»، فتدور أحداثه في كوسوفو في 2007، حين تغادر كل من زوي وفولتا قريتهما النائية من أجل الالتحاق بجامعة بريشتينا. وعشية الاستقلال، ومع تصاعد حدة التوتر السياسي والاجتماعي، تواجه الشابتان صخب بلد في بحث عن هويته، بلد ترك شبابه كل شيء خلفه.

من تقديم فيلم «مروكية حارة» (2023) للمغربي هشام العسري (الجهة المنظمة)

فيما تتمحور أحداث «مايكينغ أوف» حول سيمون، وهو مخرج فرنسي شهير، بدأ تصوير فيلم جديد عن العمال الذين يناضلون لمنع نقل مصنعهم. لا شيء يسير كما هو مخطط له. فمنتجته فيفيان ترغب في إعادة كتابة نهاية الفيلم وتهدد بخفض الميزانية، وفريقه مضرب عن العمل، وحياته الشخصية في حالة من الفوضى، ومما يزيد الطين بلّة أن الممثل الرئيسي آلان شخص غبي وأناني. يوافق جوزيف، الممثل الثانوي في الفيلم الذي يريد ولوج عالم السينما، على تصوير مرحلة تصنيع الفيلم. يأخذ جوزيف دوره الجديد على محمل الجد ويبدأ في متابعة طاقم التصوير والتقاط كل صور هذه الفوضى. ما يلي من أحداث يدل على أن «المايكينغ أوف» قد يكون في بعض الأحيان أفضل بكثير من الفيلم نفسه.

أما «مروكية حارة» (مغربية حارة) فيقدم تشخيصاً مصوراً للمجتمع من خلال امرأة مغربية ترفض الخضوع. وتدور أحداث الفيلم في مدينة الدار البيضاء المتوهجة، حيث تبدأ خديجة، الملقبة كاتي، يومها بمزاج سيئ. وفي لحظة من العزلة والصراحة، تكتشف أن الحياة لم تكن سهلة بالنسبة لها، لتدرك، عشية عيد ميلادها الثلاثين، أن عائلتها تستغلها، وخطيبها أيضاً.

في «غير المرغوب فيهم»، يتعلق الأمر بقصة هابي التي تولي اهتماماً بالغاً لكل ما يهم أمور بلديتها، فتكتشف التصميم الجديد لإعادة تهيئة الحي الذي تقطن فيه. بإيعاز من بيير فورجيس، طبيب الأطفال الشاب الذي أصبح عمدة للمدينة، يضع التصميم من بين مخططاته هدم المبنى الذي نشأت فيه هابي، فتخوض مع أقاربها نضالاً قوياً في مواجهة البلدية وطموحاتها الكبيرة لمنع هدم العمارة رقم 5.

من تقديم «فتاة صغيرة زرقاء» بحضور المخرجة منى عشاش والممثلة ماريون كوتيار (الجهة المنظمة)

أما «فتاة صغيرة زرقاء» فيحكي قصة منى عشاش، التي اكتشفت بعد وفاة والدتها، آلاف الصور والرسائل والتسجيلات، لكن هذه الأسرار الدفينة قاومت لغز اختفائها. وبقوة السينما وبفضل إمكانية التجسيد، تقرّر بعثها من جديد لتعيد إحياءها ولتستطيع فهمها.

ويعرض «العروس» قصة إيفا، وهي امرأة شابة تطمح في أن تصبح طبيبة. ستُختطف هذه الشابة، بعد مرور ثلاث سنوات على الإبادة الجماعية للتوتسي في رواندا. ووفقاً لتقاليد كوتيرورا، ينوي مختطفها الزواج بها رغماً عنها. وبعد شعورها بأن عائلتها تخلّت، ودفعت بها للخضوع والقبول بالأمر الواقع، تتقرب الشابة من ابنة عم خاطفها، لكنها، عندما تكتشف الماضي المأساوي لعائلتها الجديدة، ستصبح في حيرة من أمرها، بحيث لم تعد تعرف هل عليها الفرار أو البقاء.

وتدور أحداث «جبل رأس جوز الهند» في نيجيريا، حيث تنظم مجموعة من طلبة جامعة إيبادان، وهي أقدم جامعة في نيجيريا، كل خميس، نادياً سينمائياً يحوّل مدرجاً صغيراً إلى فضاء سياسي تُطوّر فيه وجهات النظر وتُصقل الكلمة النقدية. والفيلم هو تعبير ازدرائي يرمز للشباب السطحي الذي يفتقد القدرة على التفكير، وقد مُنح معنى جديدا بعدما تخلّص الطلبة من وصمة العار هذه التي أُلصقت بهم، ليطالبوا بحقهم في حرية الفكر.

أما «بين الثورات»، الذي أنجز بصور أرشيفية مقترنة بشريط صوتي مفعم بالألوان، فيستحضر بشكل حميمي، تتخلله لحظات حزن وفرح، نضالات الشعوب من أجل مستقبل أفضل، من خلال الصداقة المتينة التي تجمع بين امرأتين. وتدور أحداثه في رومانيا نهاية سبعينات القرن الماضي، حيث تربط بين زهرة وماريا علاقة صداقة قوية منذ فترة دراستهما في كلية الطب ببوخارست. لكن، ما إن شعرت زهرة بأن رياح التجديد بدأت تهب على بلدها إيران، حتى تركت الجامعة وعادت مسرعة إلى طهران مفعمة بتطلعات ثورية، في فترة تميزت بانعدام الاستقرار الذي يعرفه نظامان سياسيان على وشك الانهيار. لكن علاقتهما استمرت بتبادل رسائل تصفان فيها حياتهما اليومية.


مقالات ذات صلة

«مناوبة متأخرة»... فيلم ألماني يرد الاعتبار للممرضات في مهرجان «البحر الأحمر»

يوميات الشرق الفيلم يركزعلى الصعوبات التي تواجه الممرضات في عملهن (الشركة المنتجة)

«مناوبة متأخرة»... فيلم ألماني يرد الاعتبار للممرضات في مهرجان «البحر الأحمر»

ترى المخرجة أن مهنة التمريض رغم اعتمادها على النساء فإنها لا تمنحهن التقدير المستحق، ولذلك تسعى إلى إبراز هذا التناقض والاعتراف بقيمة جهودهن الحقيقية.

أحمد عدلي (جدة)
يوميات الشرق بوستر الوثائقي السعودي «سبع قمم» (الشرق الأوسط)

من «المنطقة المميتة» إلى شاشات جدة... حين تتحوَّل القمم إلى مرآة للإنسان

قدَّم وثائقي «سبع قمم» سيرة رجل فَقَد ملامح المدير التنفيذي عند «المنطقة المميتة» في "إيفرست"، ليبقى أمام عدسة الكاميرا إنساناً يسأل نفسه: لماذا أواصل؟

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ‎لحظة تاريخية لتكريم النجم البريطاني مايكل كين في حفل الافتتاح (إدارة المهرجان)

«البحر الأحمر» يُعيد للسينما سحرها... افتتاح مدهش يُكرّم مايكل كين ويحتفي بالبدايات الجديدة

مثل عادة المهرجانات، اتّجهت الأنظار نحو السجادة الحمراء، فامتلأت «الريد كاربت» الواقعة في منطقة البلد التاريخية بطيف نادر من نجوم السينما العالمية...

إيمان الخطاف (جدة)
يوميات الشرق جمانا الراشد رئيسة مجلس أمناء مؤسسة البحر الأحمر السينمائي تتوسط أعضاء لجنة تحكيم مسابقة البحر الأحمر للأفلام (إدارة المهرجان) play-circle 01:19

بشعار «في حب السينما»... انطلاق عالمي لمهرجان البحر الأحمر

تحت شعار «في حب السينما»، انطلقت فعاليات الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في جدة.

إيمان الخطاف (جدة)
يوميات الشرق خلال حضورها حفل افتتاح مهرجان البحر الأحمر السينمائي (إدارة المهرجان)

نينا دوبريف تستعيد مسيرتها الفنية في «البحر الأحمر السينمائي»

بدت الممثلة البلغارية الكندية، نينا دوبريف، خلال ندوة خصصت لها في «مهرجان البحر الأحمر السينمائي» وكأنها تعيد قراءة الطريق الذي قادها إلى التمثيل.

أحمد عدلي (جدة)

النيات الأوروبية في امتحان التواطؤ وعقدة الذنب والرضوخ للضغوط

أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)
أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)
TT

النيات الأوروبية في امتحان التواطؤ وعقدة الذنب والرضوخ للضغوط

أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)
أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)

عندما دخلت الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها الثاني، مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. كان مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية السابق، جوزيب بورّيل، يتناول طعام العشاء في العاصمة البلجيكية مع مجموعة ضيّقة من الصحافيين، وقال: «هذه حرب طويلة قد تنتهي بحصول الفلسطينيين على الدولة، أو تقضي نهائياً على حل الدولتين. لكنها في الحالتين ستكشف ضعف السياسة الخارجية للاتحاد وعجز الدول الأعضاء عن التوافق حول موقف موحَّد من القضايا المصيرية التي تمسّ أمنها بشكل مباشر».

وها هي أوروبا اليوم، بعد عامين على حرب مدمرة رفعها تقرير دولي مستقل إلى مرتبة الإبادة، تقف عاجزة حتى عن فرض الحد الأدنى من العقوبات التجارية التي تطالب بها عدة دول أعضاء وتنادي بأكثر منها الحشود الشعبية التي تخرج كل أسبوع في المدن الأوروبية، احتجاجاً على جمود الحكومات والمؤسسات أمام المجازر والانتهاكات الإسرائيلية.

في الأشهر الأولى من الحرب كان الاصطفاف الأوروبي واضحاً بجانب الموقف الإسرائيلي، خصوصاً من الدول الوازنة، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ومن رئيسة المفوضية، أورسولا فون در لاين، التي كانت تتعرض لانتقادات شديدة بسبب انحيازها السافر إلى جانب إسرائيل، وعدم تجاوبها مع دعوات حكومات إسبانيا وآيرلندا وبلجيكا وسلوفينيا إلى تعليق اتفاقية الشراكة الموقعة بين الاتحاد والدولة العبرية.

واشتدّت تلك الانتقادات بعد صدور تقرير، وضعته أجهزة الاتحاد، ويؤكد الانتهاكات الإسرائيلية لبنود أساسية في الاتفاقية تتعلق باحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. لكن رئيسة المفوضية بقيت على موقفها المماطل، مدعومة من بعض الدول الأعضاء، خصوصاً ألمانيا التي صرحّت غير مرة بأنها ترفض مجرد طرح موضوع العقوبات على إسرائيل، الذريعة التي كانت تلجأ إليها رئيسة المفوضية، رغم انتقادات بعض كبار المسؤولين، هو نظام التصويت المعمول به في اجتماعات المجلس، الذي يقتضي للموافقة على العقوبات أغلبية موصوفة غير متوفرة من غير ألمانيا وإيطاليا والمجر.

لكن بعد صدور التقرير الدولي الذي وضعته مجموعة من الخبراء المستقلين، الذي خلص إلى أن الارتكابات الإسرائيلية في غزة تستوفي شروط توصيفها بالإبادة، وفقاً لأحكام القانون الدولي، وبعد تنامي الاحتجاجات الشعبية في العديد من البلدان الأوروبية، خصوصاً بعد قرار الحكومة الألمانية حظر تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وجدت رئيسة المفوضية نفسها مضطرة لطرح موضوع العقوبات على إسرائيل، وتعليق بعض بنود اتفاقية الشراكة معها على المجلس.

ويقال إن التغيير الذي طرأ على الموقف الألماني، الذي بدوره دفع فون در لاين إلى تغيير موقفها وقلب المعادلة داخل المجلس، لم يكن غريباً عن التحول في موقف الكنيسة الكاثوليكية الألمانية الوازنة في تحديد مواقف الفاتيكان في القضايا الكبرى.

وكان البابا ليو الرابع عشر أشار، في أول حديث صحافي مطوَّل له كشف عنه، مطلع الشهر الماضي، أن الفاتيكان ليس جاهزاً بعد لاتخاذ موقف رسمي في صدد وصف حرب غزة بالإبادة، ثم أضاف: «يزداد عدد الذين يستخدمون هذا المصطلح، بمن فيهم منظمتان تدافعان عن حقوق الإنسان في إسرائيل نفسها».

لكن بعد طرحها خطة مشتركة لفرض عقوبات على إسرائيل، تتضمن رسوماً جمركية على سلع مستوردة منها كانت حتى الآن معفاة من الرسوم، وإنهاء المعاملة التفضيلية التي تحظى بها الدول العبرية مع شريكها التجاري الأول في العالم، فضلاً عن عقوبات على اثنين من أعضاء الحكومة الإسرائيلية وتجميد أصولهما على الأراضي الأوروبية، ألقت المفوضية الكرة في ملعب الدول الأعضاء الذين سيعود لهم قرار تفعيل هذه العقوبات في المجلس.

ولم يتحدد إلى اليوم موعد مناقشة هذه الخطة في المجلس الأوروبي تمهيداً للموافقة عليها وتفعيلها؛ ما يتركها مجرد حبر على ورق النيات الأوروبية المتأرجحة بين التواطؤ، وعقدة الذنب، والرضوخ للضغوط الإسرائيلية والأميركية التي نادراً ما تخرج دولة أوروبية من شباكها. وعند مشارف انقضاء عامين على مقتلة غزة التي أحدثت تغييراً جذرياً في الخطاب السياسي والشعبي الأوروبي حيال الصراع في الشرق الأوسط، لكن من غير تغيير يُذكر حتى الآن في القرار الرسمي لحكومات الدول الأعضاء، عاد جوزيب بورّيل ليقول في حديث هاتفي من برشلونة: «في غزة، خسر الاتحاد الأوروبي روحه».


رسائل الغزيين في ذكرى الحرب: «يكفينا موتاً وخربان ديار»

فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)
فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)
TT

رسائل الغزيين في ذكرى الحرب: «يكفينا موتاً وخربان ديار»

فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)
فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

مع مرور عامين على الحرب الإسرائيلية على غزة إثر هجوم «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، على المواقع والبلدات الإسرائيلية المحاذية للقطاع، لا يزال الغزيون يدفعون من حياتهم وأعمارهم ثمناً لم يكن لأحد أن يحتمله في ظل مأساة تتفاقم من يوم إلى آخر.

وعلى مدار هذه الفترة، يقف الغزي أشرف الحليقاوي (46 عاماً) من سكان مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، والنازح حالياً في دير البلح وسط القطاع، يومياً في طابور طويل للحصول على بعض اللترات من المياه القابلة لـ«الاستخدام الآدمي»، ثم يقف في طابور آخر لساعات إضافية من أجل تأمين مياه الشرب، فيما يتناوب هو وأبناؤه وأحفاده على هذه الطوابير وغيرها من طوابير التكيات التي تقدم بعض الطعام.

ويقول الحليقاوي لـ«الشرق الأوسط»: «حياتنا تحولت إلى جحيم حقيقي، كنا أعزاء في بيوتنا وأصبحنا أذلاء بسبب هذه الحرب القاسية جداً والتي لا تصفها كل الكلمات».

يضيف الحليقاوي بعد تنهيدة طويلة: «نحن هنا نُطحن يومياً على مدار عامين بين طوابير المياه والتكيات والمساعدات، وزحمة الطرق ومركباتها المهترئة التي بالكاد تسير في شوارع باتت وعرة ومدمرة تقسو بكل تفاصيلها على حياة أي مواطن في غزة».

يرى الحليقاوي أنه مع مرور عامين على الحرب، حان الوقت لأن تتوقف هذه «المقتلة» كما وصفها، داعياً «حماس» والفصائل الفلسطينية لترك الحكم والنظر في خيارات يمكن أن تنقذ ما تبقى من السكان وإبقائهم على قيد الحياة، قائلاً: «كل دقيقة تمر هي صعبة وقاسية علينا».

صبي جالس على قبر بينما أقام نازحون فلسطينيون مخيماً مؤقتاً في أرض المقبرة في خان يونس جنوب قطاع غزة 25 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)

أهوال كيوم القيامة

توافق الغزية ناريمان أبو عاصي من سكان حي الصبرة جنوب مدينة غزة، الحليقاوي، الرأي بضرورة أن تقف «حماس» عند مسؤولياتها تجاه سكان القطاع بعدما دفعت بهم إلى حرب لم يرها أي فلسطيني منذ أن وطئت إسرائيل هذه الأرض، كما تقول.

وأضافت أبو عاصي (51 عاماً) وهي نازحة في دير البلح وسط القطاع بعد أن خرجت من مدينة غزة في الأسبوعين الماضيين: «خلال عامين من الحرب شاهدنا أهوالاً كثيرة وكأنها من أيام القيامة، وعشنا ظروفاً لا يتحملها بشر، وحان الوقت لأن تقبل (حماس) بما هو مطروح عليها؛ لأنه لم يعد هناك ما يحتمل أكثر مما احتملناه».

وتشير أبو عاصي إلى أن أكثر فصول الحرب قسوة هو النزوح، قائلةً: «كلمة النزوح قد تكون كلمة عابرة بالنسبة للكثيرين، لكنها بالنسبة لكل فلسطيني في غزة، تحمل كل معاني الألم والوجع الذي يفوق الاحتمال».

وتابعت: «آن الأوان لأن تقف هذه الحرب إلى الأبد حتى ولو تنازلت المقاومة عن سلاحها في سبيل أن نعيش ونواجه ما تبقى من مصيرنا بأنفسنا بعيداً عن حكم (حماس) أو أي فصيل آخر».

وواصلت بغضب ويأس: «يحلّوا عنا (فليرحلوا)، زهقنا وتعبنا، حتى من يموت يرتاح من الهم الذي يتآكلنا. حتى إننا فقدنا الشعور بمن يموت فبالكاد يتسنى لمن يبقى على قيد الحياة أن يفكر بنجاته... تبلّدت مشاعرنا».

أعلنت الأمم المتحدة رسمياً في 22 أغسطس المجاعة في غزة (أ.ف.ب)

الخيارات الضيقة

ويقول الشاب جاسر وادي (33 عاماً)، وهو موظف في القطاع الخاص، من سكان بلدة القرارة شمالي خان يونس ونازح إلى مواصي بلدتهم، إن الحرب أنهكته كما بقية أفراد عائلته، ليس اقتصادياً أو حياتياً فحسب، وإنما حتى جسدياً وصحياً.

ورغم كل هذا الواقع والظروف القاسية، لكن وادي يرى أن تسليم السلاح من قبل «حماس» والفصائل الأخرى، هو بمثابة رفع راية بيضاء أمام إسرائيل بعد كل هذه الدماء والتضحيات الكبيرة التي عانى منها الغزيون، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن الخيارات ضيقة أمام الجميع، ونهاية الحرب تبدو مرتبطة بذلك، وحقن الدماء هو السبيل والحل الوحيد لذلك.

وأضاف: «الحياة هنا صعبة وقاسية، وقد تكون فكرة الهجرة مناسبة لكثيرين، لكن هناك أيضاً من لا يزال يرى في غزة المكان الأنسب للحياة، فكل ما نريده هو أن يتوقف قتلنا، ونشعر ببعض الأمان حتى لو أمضينا سنوات أخرى في الخيام».

وتابع وادي قوله: «الحصول على المياه، والطعام، وحتى التنقل في الطرقات لساعات طويلة من أجل الوصول من مكان إلى آخر، أمر منهك. والأطفال بلا مدارس وبلا حياة، أصبحوا يقفون في الطوابير مثل الكبار، أجسادهم منهكة من الجوع والقتل وقسوة الحياة عليهم حتى أصبحوا ينامون باكراً ليس استعداداً للذهاب إلى مدارسهم، بل لجدول طويل من المشقة. كل هذه الصور من المعاناة تفرض على السكان القبول بأي حل من أجل التوصل إلى اتفاق يخفف معاناتهم لكن نهايتها لن تكون سهلة وبحاجة لسنوات حتى يستعيد كل مواطن جزءاً يسيراً من حياته».

وتؤكد مؤسسات حقوقية ودولية أن سكان قطاع غزة يواجهون ظروفاً قاهرة، في ظل نقص المياه والطعام وتراجع فرص العمل، وعدم توفر الأموال، إلى جانب تدهور الواقع الصحي والبيئي الذي يفاقم سوء ظروفهم.

نازحون فلسطينيون في مخيم في خان يونس جنوب قطاع غزة... 29 سبتمبر 2025 (أ.ب)

استغلال التجار والصيارفة

بعض أبناء قطاع غزة ممن لهم دخل ثابت مثل الموظفين التابعين للسلطة الفلسطينية، يعانون بدورهم من عدم توفر السيولة النقدية بسبب تعطل البنوك، الأمر الذي دفعهم لسحب مستحقاتهم من تجار وصرّافين، مقابل عمولة مالية تراوحت خلال الحرب من 20 إلى 50 في المائة أحياناً.

ويقول الموظف في السلطة وسام عودة، من سكان بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة: «اضطرارنا لسحب رواتبنا عبر مكاتب صرافة أو التجار وغيرهم، جعلنا لقمة سائغة لهؤلاء. فقد نهبوا أموالنا بطريقة يرونها مشروعة في ظل تعطل عمل المصارف قسراً بفعل الحرب الإسرائيلية».

وأضاف عودة في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الظروف أنهكتنا اقتصادياً وحولتنا من موظفين كنا نعيش حياة مستقرة نسبياً، إلى أناس بالكاد يملكون ما يسدون به رمق أطفالهم بالقليل القليل مما يتوفر من مواد غذائية».

وأشار إلى أنه يضطر كل شهر لتحويل ما في رصيده البنكي عبر التطبيق الإلكتروني لأحد التجار، مقابل أن يحصل على نحو نصف المبلغ أو أقل قليلاً، ليعتاش منه، مشيراً إلى أن تجار المواد الغذائية وغيرها من المواد يفضلون دوماً الدفع نقداً على أن تدفع لهم إلكترونياً.

وبحسب جهات تتابع هذه العمليات، فإن تجار المواد الغذائية يتعمدون فرض البيع بالسيولة النقدية لجمع أموال يعيدون تدويرها عبر مكاتب الصرافة، ما يدر عليهم أرباحاً مضاعفة.

في المقابل، تجبر عوائل فقيرة تتلقى دعماً مالياً غير منتظم من قبل بعض المؤسسات الدولية أو من أقرباء مهاجرين على دفع أكثر من نصف المبلغ أحياناً كعمولة مقابل الحصول نقداً على ما تبقى.

دخان يتصاعد جراء قصف إسرائيلي لأحياء في مدينة غزة (أ.ب)

«موت وخربان ديار»

وتقول المواطنة نهال أبو عبدو، من سكان حي النصر بمدينة غزة، والنازحة في مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، إنها تتلقى دعماً شهرياً يصل إلى نحو 270 دولاراً، من مؤسسة دولية، ولكنها عندما تضطر لسحب المبلغ نقداً من أحد التجار، تحصل على ما يقارب 140 دولاراً فقط.

وتضيف أبو عبدو (43 عاماً) والتي دمر منزلها وتعيل 4 أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة: «الحياة في غزة موت ودمار وخربان ديار».

وتابعت متسائلةً: «إلى متى سيبقى هذا الحال؟ نحن تعبنا ونريد لهذه الحرب أن تقف، وأن نشعر بالأمان ونجد مالاً لنعيش ونطعم أطفالنا... فهم بحاجة للحفاضات والحليب والغذاء».

وتابعت قولها: «إن أرادوا تهجيرنا، فليهجروننا، ولكن فليوفروا الأمان والأكل والمياه والكهرباء حتى نستطيع العيش مثل البشر، وليس كالحيوانات في بلدان منكوبة أصلاً».

فلسطينيون نازحون يتجهون جنوباً في قطاع غزة خلال وقت سابق (أ.ف.ب)

هجرة طوعية لا قسرية

بينما تخشى غالبية سكان قطاع غزة من التهجير القسري، تؤيد غالبية منهم الهجرة الطوعية إلى دول أوروبا أو دول مستقرة سياسياً واقتصادياً للبحث عن حياة أفضل، وخاصةً بين الجيل الشاب الذي لم يعد يملك مستقبلاً حقيقياً في القطاع نتيجةً للظروف الحالية.

ويقول الشاب نور البحيصي، من مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، إنه لا مشكلة له في الهجرة من القطاع للبحث عن حياة ومستقبل أفضل.

ورأى أن خطة ترمب قاسية على سكان القطاع، لكنها تمنحهم فرصة الهجرة الطوعية وليس القسرية، مؤكداً أنه مثل عشرات الآلاف من الشبان يرغب في الخروج بلا عودة بسبب تكرار الحروب.


معالم الشرق الأوسط الجديد بين وعود ترمب وواقع المنطقة

TT

معالم الشرق الأوسط الجديد بين وعود ترمب وواقع المنطقة

الرئيس الأميركي دونالد ترمب متحدثاً في نيوجيرسي (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب متحدثاً في نيوجيرسي (أ.ب)

«بعد 7 أكتوبر كل شيء تغير في الشرق الأوسط»، جملة قالها المبعوث الأميركي توم براك تختصر المشهد المعقد الذي خيّم على المنطقة والسياسات الأميركية فيها منذ الهجمات في 2023.

اليوم وبعد مرور عامين على 7 أكتوبر (تشرين الأول)، يزداد المشهد تعقيداً، فهذه هي الذكرى الأولى في العهد للثاني الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي كان بدأه متأملاً بانفراجات في الأزمة، وواعداً باستعادة الرهائن ووقف الحرب، ناهيك عن رفع سقف تطلعاته بإبرام الاتفاقات الإبراهيمية.

لكنها طموحات كبيرة لم تأخذ تعقيدات الوضع في المنطقة في الحسبان، زادها تعقيداً قرارات مثيرة للجدل لرئيس الوزراء الإسرائيلي بينيامين نتنياهو الذي جر ترمب معه في دوامة قراراته من حرب غزة وخطط ضم الضفة الغربية إلى مواجهة إيران وتحدي سوريا بعد سقوط نظام الأسد. ومعها تلاشت الطموحات والخطط الكبيرة التي أعدها الرئيس الأميركي، بل يذهب البعض إلى حد القول إن «تهور نتنياهو وتساهل الإدارة الأميركية معه قد يقضيان كلياً على اتفاقات إبراهام».

إلا أن ترمب سعى جاهداً لتدارك الوضع، معلناً عن خطة من 20 نقطة لإنهاء حرب غزة، ورؤيته للمنطقة، متأملاً بكلماته الخاصة بأنها ستنقذ الاتفاقات العزيزة عليه.

لا اتفاق بلا اعتراف

شكّلت اتفاقات إبراهام التي كان ترمب عرّابها في عهده الأول لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، الهيكل الأساس لرؤيته للمنطقة والتي وضع من خلالها بصمته على سياسة خارجية كانت لتلقب الموازين وتغير المعادلات. وسعى ترمب جاهداً للاستمرار بمسار التغيير هذا، فكانت أول زيارة خارجية رسمية له إلى المملكة العربية السعودية، في إشارة صريحة إلى أهميتها الاستراتيجية.

لكن حرب غزة ألقت بظلالها على هذه الطموحات، وبدا أن أي تحرك لتوسيع الاتفاقات سيفشل قبل انطلاقه؛ فالسعودية كانت واضحة أيضاً في موقفها الرافض لأي توجه من هذا النوع مع الحرب المستعرة، ومن دون اعتراف دولي وأميركي بحل الدولتين، وهو ما رفضته كل من أميركا وإسرائيل.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير خارجية المملكة العربية السعودية يترأسان قمة الاعتراف بفلسطين وحل الدولتين في الجمعية العامة في نيويورك (إ.ب.أ)

وكأن ذلك كله لم يكن كافياً لتشتيت آماله، ليأتي الهجوم الإسرائيلي على قطر استهدافاً لقادة «حماس» فيصب الزيت على نار الأزمة، ومسلطاً الضوء على الشرخ بين المواقف الأميركية وتلك الإسرائيلية. فمن جهة يؤكد مسؤولون إسرائيليون أنهم أبلغوا أميركا مسبقاً بنواياهم، من دون معارضة تذكر، ومن جهة أخرى ينفي ترمب نفياً قاطعاً أن نتنياهو أبلغه بالضربة قبل وقوعها.

وبغض النظر عمن هو محق في هذا الجدل العلني، تبقى النتيجة واحدة، ولا تصب في مصلحة أميركا ولا إسرائيل، وتمثلت بإجماع دولي على الاعتراف بدولة فلسطين في دورة أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة رغم المعارضة الأميركية، في مبادرة بدأتها السعودية وفرنسا، وتوسعت لتشمل أكثر من 100 دولة.

ويقول براين كتوليس، كبير الباحثين في معهد الشرق الأوسط، إن الرسالة الأساسية التي يوجّهها الاعتراف الرمزي بدولة فلسطينية إلى ترمب هي أن «طموحاته في التوصل إلى اتفاق تطبيع أوسع بين إسرائيل والسعودية قد أصبحت في حكم المنتهية ما دام ترمب يواصل هذا النهج السلبي في إدارة ملف الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني».

ويضيف كتوليس، في حديث مع «الشرق الأوسط»: «من المهم الإشارة إلى أن السعودية هي الداعم الرئيسي لخطوة الاعتراف بدولة فلسطينية، وأن الرسالة الأساسية التي توجهها هي أن هذا الملف يمثل أولوية بالنسبة لها».

خطة إنهاء الحرب

بمواجهة الإجماع الدولي في الاعتراف بدولة فلسطين بعيداً عن المسار الأميركي، سارع ترمب لاحتوائه طارحاً رؤيته لإنهاء الحرب أمام الزعماء العرب على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.

ومن أبرز النقاط التي تعهد بها ضمن هذه الرؤية عدم السماح لإسرائيل بضم الضفة الغربية، وذلك حرصاً على عدم انهيار اتفاقات إبراهام وانسحاب دول منها. وهذا ما تحدث عنه المستشار العسكري السابق في الخارجية الأميركية، الكولونيل عباس داهوك، قائلاً إنه رغم أن اتفاقيات أبراهام «ما زالت قائمة من الناحية التقنية، فإن مستقبلها يزداد غموضاً».

ويضيف في حديث مع «الشرق الأوسط»: «مع أن الاتفاقات لم تصبح بحكم المنتهية بعد، فإن أي خطوة إسرائيلية كبرى لضم الضفة الغربية ستقوّض الأسس التي أُبرمت هذه الاتفاقيات عليها. فخطوات من هذا النوع تتجاوز خطاً أحمر بالنسبة للدول العربية الرئيسية. كما أنها ستعرض جهود الاندماج الإقليمي للخطر، وتنسف الالتزام المشترك بحل الدولتين».

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

علاقة متقلبة

في ظل هذه التجاذبات، تسلط الأضواء على العلاقة بين ترمب ونتنياهو، فمن الواضح أن طموحات رئيس الوزراء الإسرائيلي تقف عائقاً أمام سعي الرئيس الأميركي لتصوير نفسه بمظهر رجل السلام. ولهذا فإن موافقة نتنياهو على خطة ترمب تعد انفراجة في العلاقة التي شهدت تقلبات عدة بين التعاون الوثيق إلى الخلاف العلني منذ وصول ترمب إلى الرئاسة في عهده الثاني. فالتقلب في مواقف ترمب حيال حرب غزة وإصرار نتنياهو على موقفه الرافض لحل دبلوماسي أدّيا في بعض الأحيان إلى توتر العلاقة بين الرجلين.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب بعد انتهاء مؤتمر صحافي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبيت الأبيض يوم الاثنين (أ.ب)

كذلك، فإن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا من دون مباركة إسرائيلية فاجأت نتنياهو، على غرار إعلان ترمب عن نيته التفاوض مع إيران قبل أن يقرر ضرب المنشآت النووية الإيرانية في خطوة أشاد بها نتنياهو في خطاب رنان. وحول هذا التفاوت يقول داهوك: «فيما أظهرت واشنطن رغبة في خفض التوتر، جاءت رسائلها الدبلوماسية ومواقفها العسكرية في كثير من الأحيان غامضة. بل إن الإدارة في بعض الأحيان أثنت على العمليات الإسرائيلية التي استهدفت إيران ووكلاءها. وقد فسّر نتنياهو هذا التأييد الانتقائي على أنه موافقة ضمنية على المناورات الهجومية تحت عنوان الدفاع عن النفس، رغم الدعوات الرسمية إلى ضبط النفس».

ومنذ تسلم ترمب سدة الرئاسة في يناير (كانون الثاني)، التقى الرجلان في البيت الأبيض 4 مرات، منها اجتماعات أظهرت قوة العلاقة بينهما، وأخرى أظهرت عمق الانقسامات بين الرجلين، وعن هذه الاجتماعات يقول كتوليس: «لقد استغلّ ترمب ونتنياهو لقاءاتهما الثلاثة الأولى لمغازلة قواعدهما الداخلية ودفع سياسات ألحقت أضراراً كبيرة بخصوم البلدين، خصوصاً إيران وحلفاءها. لكنّ هذين الزعيمين لا يقودان بالمعنى التقليدي للكلمة، بل يكتفيان بمخاطبة قاعدتهما السياسية من دون أي أفكار كبرى للمستقبل».

وتابع كتوليس: «عمل ترمب ونتنياهو في الغالب وفق تكتيكات عسكرية مصحوبة بجهود اتصالات استراتيجية هجومية، لكن ذلك لا يشكّل نموذجاً لتحقيق السلام والأمن، بل ضربات بلا استراتيجية. إن التوصل إلى اتفاقيات دبلوماسية تعيد البناء وتنتج السلام أصعب بكثير من تصفية الخصوم».

تغير المزاج الأميركي

بعد 7 أكتوبر، اصطف الأميركيون وراء إسرائيل، لكن الحالة اليوم اختلفت مع استمرار حرب غزة، وتعالي أصوات ديمقراطية وجمهورية وصف بعضها ممارسات إسرائيل بالإبادة الجماعية، في مواقف لافتة خاصة من قبل بعض الجمهوريين من قاعدة (ماغا) الشعبية المناصرة لترمب كالنائبة الجمهورية مارجوري تايلور غرين التي وجهت كذلك انتقادات لاذعة للوبي الإسرائيلي (إيباك) ونفوذه في واشنطن. مواقف دفعت بترمب إلى القول في مقابلة مع موقع «دايلي كولر» إن اللوبي «لم يعد يسيطر» على الكونغرس كالسابق.

متظاهرون ضد نتنياهو في نيويورك خلال إلقائه كلمة في الأمم المتحدة الجمعة (رويترز)

وترافق هذا مع استطلاعات رأي تظهر تراجع دعم إسرائيل في الرأي العام الأميركي، خصوصاً بين الشباب من الجمهوريين. وأفاد استطلاع لمركز بيو للأبحاث أن 50 في المائة من الجمهوريين تحت سن الخمسين لديهم نظرة سلبية عن إسرائيل خاصة حيال تعاطيها مع حرب غزة.

لكن، ورغم هذه المعارضة الجديدة، تتصدر إسرائيل البلدان التي تتلقى مساعدات عسكرية أميركية؛ إذ تحظى بـ3.8 مليار دولار سنوياً ضمن مذكرة تفاهم لعشرة أعوام وقع عليها الرئيس الديمقراطي باراك أوباما في عام 2019، ولم تواجه هذه المساعدات خاصة الدفاعية أي عرقلة فعلية في الكونغرس، رغم وجود بعض المشرعين الذي يسعون لتأخير المصادقة عليها.

وبالإضافة إلى المساعدات، يقر الكونغرس بشكل دوري صفقات أسلحة مع تل أبيب ما يفيد القطاع الصناعي العسكري الأميركي ويعزز مبيعاته بملايين الدولارات، ليثبت مقولة أميركية واسعة التداول في الأوساط السياسية: «إذا كنت تبحث عن الحقيقة، فاتبع خيط الأموال».