بعد أن باع رضوان قطعة مصاغ ذهبي بنحو عشرين مليون ليرة، تمنى على المشتري أن يعمل معه معروفاً، بتأمين كامل المبلغ من فئة الخمسة آلاف «الجديدة» كي يتمكن من حملها في الشارع. إلا أن المشتري أقسم إنه ليس لديه سوى الأوراق القديمة وإن فئة الخمسة آلاف قليلة في السوق، لأن المصارف وشركات الصرافة منذ بعض الوقت لا تطرح سوى الأوراق النقدية المتهالكة.
ويتجنب المتعاملون بمبالغ كبيرة تسلم أوراق فئتي الخمسمائة والألف، بسبب رزمها الكبيرة، لا سيما الطبعات القديمة المهترئة، وفي أحيان كثيرة يتم في التعاملات اشتراط الحصول على فئتي الألفين والخمسة آلاف، لتخفيف أعباء حمل رزم النقود.
وبحسب مصادر في السوق، أدى الطلب على الفئات النقدية الجديدة من الألفين والخمسة آلاف إلى نقصها في السوق، ما دفع المصارف وشركات الصرافة إلى طرح الفئات القديمة المهترئة لتعويض نقص السيولة في السوق.
ظهيرة الثلاثاء.. أسعار العملات الرئيسية في سورياحتى الساعة 2:30 من ظهر الثلاثاء، بقي "دولار دمشق"، ما بين 14000 ليرة شراءً، و14100 ليرة مبيعاً.#اقتصاد_سورياhttps://t.co/ywZbp4I0ox pic.twitter.com/nbYkhWmFAk
— eqtsad (@eqtsad_syria) November 21, 2023
يقول فاضل وهو مهندس متقاعد إنه توقف عن شراء حاجيات البيت، وتنازل عن هذه المهمة لزوجته وأولاده، فكل ما يتقاضاه من راتب تقاعدي وأعمال أخرى لا يغطي نفقات أسبوع.
مضيفا: «عقلي لم يعد يستوعب الأصفار المتزايدة في الأسعار، ولا أتحمل دفع ثمن كيلو لحمة 180 ألف ليرة، أو ثمن كيلو أرز 25 ألف ليرة، حتى لو كانت بجيبي. المشكلة ليست في ارتفاع الأسعار فقط، بل في الفئات النقدية التي فقدت قيمتها». لافتا بجدية كبيرة أن عدّ النقود بهذا الشكل غير المعتاد يتسبب له بأذى نفسي كبير، ويقول «كان لليرة السورية عزّ وكنا نشقى للحصول عليها».
83 % خسارة لليرة
وخسرت الليرة السورية 83 في المائة من قيمتها في السنوات الثلاث الأخيرة، و53 في المائة خلال العام الحالي، ما رفع معدلات التضخم إلى مستويات مخيفة. ووصفت نشرة «المركز السوري لبحوث السياسات»، أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، التضخم في سوريا خلال الأعوام الأربع الأخيرة، بـ«التضخم الجامح»، حيث بلغ معدل التضخم لعام 2022 (84.9 في المائة) بالنسبة لعام 2021، و289 في المائة بالنسبة لعام 2020، و729 في المائة بالنسبة لعام 2019.
وارتفع دليل الرقم القياسي لأسعار المستهلك عام 2022 من 138 في بدايته يناير (كانون الثاني) 2022 إلى 243 في نهايته ديسمبر (كانون الأول) 2022. وبلغ الوسطي السنوي للرقم القياسي 185 مقارنة بـ100 في عام 2021.
وبحسب النشرة، بلغ خط الفقر المدقع (الغذائي) للأسرة في سوريا المكونة من 5 أفراد 736 ألف ليرة سورية شهرياً، وخط الفقر الشديد 1.16 مليون ليرة سورية، وخط الفقر الأعلى 1.6 مليون ليرة سورية في عام 2022. وبمقارنة الأجور مع خطوط الفقر لعام 2022 يظهر أن الأجور أخفض من جميع خطوط الفقر (الأعلى والأدنى والمدقع).
تجربة مغتربة
سيدة خمسينية قالت وهي تخرج ثلاث رزم نقدية من فئة الخمسة آلاف، أي مليون ونصف المليون ليرة لتسديد ثمن مشترياتها: «عندما غادرت البلد قبل 15 عاما كانت الألف ليرة تحكي». وتضيف متحسرة أنها في زيارتها الأخيرة، ظنت أن ما تحمله من عملة أجنبية سيكفيها فترة زيارتها لستة أشهر، كما جرت العادة في زياراتها السابقة، لكن ثلث المبلغ «طار» في أول شهر. «عندما أخرج للتسوق أحشو حقيبتي برزم كانت يوما ما تشتري بيتاً»، لافتة إلى أن فارق سعر الصرف كان في الزيارات السابقة يمكنها من العيش في بحبوحة، لكن في هذه الزيارة التهم ارتفاع الأسعار فارق سعر الصرف، مشددة على أن «الأسعار في سوريا باتت مثل أوروبا».
في السياق نفسه، بين تقرير صدر مؤخرا عن برنامج الغذاء العالمي أن سعر السلة الغذائية القياسية ارتفع ثلاثة أضعاف عن العام الماضي، فقد وصل سعر السلة إلى 938 ألف ليرة سورية (81 دولارا أمريكيا بسعر الصرف الرسمي البالغ 11557 ليرة سورية). علما بأن سعر الصرف في السوق السوداء أدنى من ذلك، ويبلغ 13950 ليرة للدولار الواحد.
ولفت التقرير لارتفاع الحد الأدنى لسلة الإنفاق للشهر الرابع عشر على التوالي، ليصل إلى 2,198,000 ل.س في سبتمبر (أيلول) 2023. ورد السبب إلى رفع الحكومة الدعم عن المحروقات.
كما حذر البرنامج من تواصل ارتفاع الأسعار في ظل الطلب المتزايد على مواد الطاقة والمحروقات مع حلول فصل الشتاء، واستمرار التصعيد في المنطقة.
ارتفاعات قياسية
هذا، وشهدت الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الحالي ارتفاعات قياسية في الأسعار، وتضاعفت تكاليف المعيشة جراء ارتفاع سعر صرف الدولار من 7000 ليرة سورية بداية العام إلى نحو 14000 ليرة سورية في نوفمبر (تشرين الثاني)، ما أدى إلى اختفاء مزيد من الفئات النقدية من التداول، فبعد تلاشي فئتي الخمسين ليرة والمائة ليرة، العام الماضي، اختفت فئة المائتي ليرة، لتصبح ورقة الـ 500 ليرة أصغر فئة متداولة في السوق. وذلك رغم عدم صدور قرار من المصرف المركزي بسحب الفئات النقدية الصغيرة من التداول.
مجسم للمصرف المركزي
والمفارقة بدأت عندما أعلن المصرف المركزي تلقيه هدية من شركات الصرافة المحلية صيف 2022، مجسم الهيكل الخارجي للمصرف استخدمت في صنعه العملة المعدنية التي خرجت من التداول دون قرار بذلك، حيث استهلك المجسم 252.400 قطعة من فئة الليرة و103.500 من فئة نصف الليرة و14800 من فئة الـليرتين، ليبلغ وزنه مع القاعدة المكونة من حديد وخشب نحو 5 أطنان و400 كيلوغرام، ليكون ذلك فاتحة للتجرؤ على انتقاد الانهيار الكبير لليرة السورية.
وفي كشف عن عمق البؤس الذي وصله الوضع الاقتصادي والمعيشي في سوريا، وفق ما قاله في تسجيل مصور شاب من مدينة السويداء أن تكلفة طلاء متر مربع من جدار أغلى بكثير من تغطيته بأوراق من العملة المحلية ذات الفئات الصغيرة التي خرجت من التداول.