زيارة لمذكرات رئيس الوزراء اللبناني الراحل صائب سلام (1): صارحت حافظ الأسد بمآخذي على دور سوريا السياسي والعسكري في لبنان

رئيس الحكومة الراحل ينتقد دور دمشق ويقول إنها لم تعالج الأمور بحكمة

صائب سلام في دمشق مع الرئيس حافظ الأسد وعبد الحليم خدام
صائب سلام في دمشق مع الرئيس حافظ الأسد وعبد الحليم خدام
TT

زيارة لمذكرات رئيس الوزراء اللبناني الراحل صائب سلام (1): صارحت حافظ الأسد بمآخذي على دور سوريا السياسي والعسكري في لبنان

صائب سلام في دمشق مع الرئيس حافظ الأسد وعبد الحليم خدام
صائب سلام في دمشق مع الرئيس حافظ الأسد وعبد الحليم خدام

تنشر «الشرق الأوسط» ابتداءً من اليوم ثلاث حلقات من مذكرات رئيس الحكومة اللبناني الراحل صائب سلام تغطي مراحل مهمة من فصول الأزمة اللبنانية، من دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976 إلى الغزو الإسرائيلي للجنوب ومناطق واسعة وصولاً إلى بيروت سنة 1982 وما رافق ذلك من أدوار لعبها سلام كأحد أبرز زعماء الطائفة السنية، ومحاولاته لتقريب وجهات النظر والحرص على التوافق الإسلامي - المسيحي والمحافظة على موقع لبنان كبلد مستقل خارج الصراعات.
ويلفت في مذكرات صائب سلام حرصه على التدوين شبه اليومي لوقائع الأحداث واللقاءات والاجتماعات التي شارك فيها وصراحته المتناهية في تقييم القادة والسياسيين العرب واللبنانيين الذين التقاهم وتعاطى معهم.
وتصدر المذكرات في ثلاثة أجزاء عن دار نشر «هاشيت أنطوان»، وستكون متوافرة في مكتبات لبنان ابتداءً من 28 يونيو (حزيران) وعلى موقع «أنطوان أونلاين».
وفي هذه الحلقة يعرض سلام ما رافق انتخاب الرئيس إلياس سركيس ودخول القوات السورية واتصالاته في تلك الفترة مع الرئيس حافظ الأسد ومع قيادات لبنانية وفلسطينية.

مع كمال جنبلاط

يوم الاثنين 10 مايو (أيار) من عام 1976، أي بعد انتخاب إلياس سركيس مباشرة، اجتمع عندي النوّاب ريمون إدّه، إميل روحانا صقر، جميل كبّي، محمد يوسف بيضون، ميخائيل الضاهر، حسين الحسيني، حسن الرفاعي، ألبير منصور الذين كانوا قد قاطعوا الانتخابات، وبعد المداولة أصدرنا بياناً هادئاً ومختصراً جداً يدعو إلى التريّث، ولقد لفت النظر يومها أنّ ريمون إدّه أخذ الخسارة بروح طيّبة جداً، وبدا أقلّ تأثّراً من غيره بما حدث. بعد يومين عقدنا اجتماعاً جديداً، تبيّنَ لنا فيه أنّ «التريّث» لا يزال هو الموقف الصحيح، فأصدرنا بياناً جديداً يدعو إليه، ولكن يوم الاثنين التالي، قرّرنا أن نصعّد بعض الشيء، فاجتمعنا وأصدرنا بياناً نحذّر فيه من «استمرار المؤامرة» ونحمّل فيه المسؤولية لـ«أصحابها»؛ وذلك لأنّ الناس بدأت تضجّ من عدم التقدّم بأي خطوة منذ انتخاب سركيس، علماً بأنّ الشعور العامّ الذي ساد بعد انتخابه – رغم المرارة والقهر – كان فيه أمل بالانفراج.
في تلك الآونة، شعر «أبو عمّار» ورفاقه في المقاومة بضيقٍ شديد، فطلبوا عقد قمّة في عرمون، وتقرّر إيفاد السيّد موسى الصدر إلى دمشق في محاولة لإبلاغ السوريين مشاعر القلق التي تعترينا من جرّاء تدخّلهم العسكري، ولا سيّما بسبب ما حصل في طرابلس. وعند نهاية اجتماع القمّة المذكورة، جرت مشادّة بيني وبين المفتي الشيخ حسن خالد، كنت فيها شديد القسوة عليه، خصوصاً أنّني كنت متألّماً من موقفه (وموقف كرامي) المتملّق لسوريا، وعند المشادّة انسحبتُ من الاجتماع؛ الأمر الذي كان له ضجّة كبيرة في الصحف ولدى الرأي العامّ. وكان لموقفي تأييدٌ واسع عند المسلمين الذين قالوا لي إنّهم يشعرون من جديد بأنّني أحافظ على كرامتهم. ووصل الأمر إلى أنّ أسامة فاخوري وغيره من الذين يحقدون عليّ، لم يتمالكوا أنفسهم من الاتّصال بي هاتفياً لتهنئتي على موقفي!

قوات سوريا في بيروت في نوفمبر 1976 (غيتي)

بعد عودة موسى الصدر من دمشق، عقد أعيان قمّة عرمون اجتماعاً آخر آثرت ألّا أحضره، عند ذلك زارني هاني الحسن موفداً من قبل «أبو عمّار»، يرجوني الحضور، فتمنّعت وهو ما زاد من تحبيذ موقفي عند الجميع، بينما ازدادت نقمة الشارع الإسلامي على المفتي وعلى رشيد كرامي.
وعطفاً على موقفي، أسرع شبابنا في «المقاومة الشعبية – روّاد الإصلاح» إلى إعادة قطَع السلاح التي كان الرئيس حافظ الأسد قد أهداها إلينا، وذلك بعد أن طالبتْنا قوّات «الصاعقة» بإعادتها!
بعد ذلك تلقيتُ دعوة أخرى من «أبو عمّار» لملاقاته في عرمون، حيث سيحضر من دمشق مباشرة برفقة عبد السلام جلّود، المسؤول الليبي الثاني بعد القذّافي، فأجبتُ بأنّني حاضر للاجتماع بهما متى أرادا، ولكن ليس في عرمون، فأنا منسحب مما يسمّى «قمّة عرمون». المهمّ، اجتمع جلّود بكرامي واليافي عند المفتي، كما اجتمع بجنبلاط والأحزاب، وبعد ذلك توجّه إلى بغداد. والحقيقة، أنّ زيارة جلّود للبنان أحدثتْ ضجّة كبيرة، حيث إنّ الناس أملوا منها خيراً. لكن ذلك كله سرعان ما ذهب أدراج الرياح؛ إذ إنّ جلّود نفسه أعلن قبل مغادرته بيروت، أنّ زيارته لم تكن للوساطة، حيث إنّه وليبيا، يؤيّدان المقاومة والحركة الوطنية، لذلك فهما طرف!
في تلك الأثناء كان قد عُقد اجتماع بين الرئيس إلياس سركيس وكمال جنبلاط بوساطة من المقاومة، وفي حضور «أبو عمّار» و«أبو إياد»، وكان قد جاءني باسل عقل، من قبَل «أبو إياد»، يسألني ما إن كنت أوافق على الاجتماع بإلياس سركيس بوساطتهم، فأجبتُه بأنّني أقبل ذلك ولكن بتحفّظ، أولاً لأنّني لا أوافق على أن يكون الاجتماع سرّياً، كما جرى مع جنبلاط، الذي سرعان ما انفضح اجتماعه بسركيس فأدّى ذلك إلى توجيه الانتقاد إليه من قِبل الأكثرية، وأنا طول عمري كنت ولا أزال ضدّ الاجتماعات السرّية، وخصوصاً أنّ ما من سرٍّ يمكن أن يبقى سرّاً في لبنان، فهو ينكشف على الفور، وحين ينكشف تكون النتيجة غير مُرضية. وبعد ذلك قلتُ إنّني أربط اجتماعي بسركيس باجتماعه بإدّه، إذا كان راغباً في ذلك، وقلت له إنّني على أي حال أحبّ أن أستشير بعض الزملاء والنوّاب قبل الموافقة النهائية على الاجتماع، وأصررتُ، على أي حال، على أنّ الغاية من الاجتماع يجب أن تكون المصارحة الكاملة، وأنّ ذلك يجب أن يكون مفهوماً. بعد ذلك خابرني باسل عقل يسألني ماذا جَدَّ في الأمر، فقلت إنّني أؤكّد استعدادي بعد مشاورة زملائي في «الجبهة النيابية»، فراجع «أبو إياد» مصادره، ثمّ أبلغني بأنّهم سيرتّبون اللقاء خلال 48 ساعة.

صائب سلام في اجتماع مع الرئيس اللبناني الأسبق إلياس سركيس

- الجيش السوري في لبنان
في الأول من يونيو 1976، انجلت الأمور عبر أحداث يومٍ تاريخي حقاً! ففي ذلك اليوم حدث ما كان يتوقّعه الكثيرون ويعتبرونه التتمّة المنطقية لما كان يحدث: فقد دخل الجيش السوري الأراضي اللبنانية من الشمال ومن الشرق تحت ذريعة حماية المسيحيين... وفي زحلة (بقاعاً) والقبيّات (شمالاً). والحال أنّ الكثيرين من المراقبين كانوا يتساءلون قبل ذلك بأيّام عن السرّ الكامن وراء عنف الأحداث من حول زحلة والقبيّات. وهكذا، بدلاً من أن تسوّى الأمور بحكمة من قبَل السوريين الذين كان بإمكانهم أن يفعلوا ذلك من دون تدخّل عسكري كبير، ها هي الأمور تؤدّي إلى ذلك التدخّل. مهما يكن، على الرغم من أن أطرافاً إسلامية وفلسطينية عديدة كانت تنظر بعين الخشية إلى تزايد التدخّل السوري خلال الأشهر الأخيرة، معتبرة إيّاه مقدّمة لوجودٍ عسكري كثيف، فإنّ الأوضاع اليائسة أودت بالناس إلى تمنّي مجيء أي جيوش لتوقف المجزرة الجماعية، ولتحقق الخلاص. والسؤال اليوم، بعدما حدث ما حدث، هل يكون الخلاص على يد الجيش السوري، أم تتفاقم الأمور في لبنان، وبعد ذلك في سوريا كما يقول بعض الذين يتحدّثون عن وجود مؤامرة أميركية - دولية، تستهدف تمزيق لبنان، ومن ثمّ توريط السوريين لتمزيق سوريا أيضاً؟
عندما صار دخول الجيش السوري حقيقة واقعة، عقَدَ كمال جنبلاط والمقاومة اجتماعات عديدة، وأصدروا العديد من البيانات العنيفة والتصعيدية مع تهديد بالتصادم والمجابهة.
كانت أيّاماً عصيبة تلك التي تلتْ دخول القوّات السورية، حيث تلاحقت الأحداث العسكرية والسياسية بشكل يقطع الأنفاس، وبدت «المقاومة الفلسطينية» مجبرة على خوض العديد من المعارك، سواء أكان ذلك على الجبهة مع السوريين، أم مع «الكتائب» وحلفائهم. غير أنّ ضراوة المعركة وطابعها المصيري لم يوقفا المقاومة عن العديد من التصرّفات التي تثير شكوى الناس. ويبدو أنّ أركان المقاومة شعروا بما يشكو منه الناس وما أشكو منه أنا من تصرّفاتهم، فجاءني «أبو اللطف» برفقة باسل عقل، وكان بيننا حديث طويل، حاول «أبو اللطف» فيه تبرير تصرّفاتهم، فكنت صريحا معه بإيضاح بعض مآخذي، ولا سيّما إهمالهم مشاعر المسلمين الذين هم الأرضية الصلبة التي يجب أن يرتكز عليها الفلسطينيون، ومع هذا، أفهمتُ «أبو اللطف» أنّنا باقون معهم بكلّ إمكاناتنا رغم ما نلقاه منهم؛ لأنّنا نعتبر أنفسنا أصحاب القضيّة مثلهم، ولا نعتبر أننا مثل أولئك الذين يلتفّون حولهم لمنافع سياسية مؤقتة.
جاءني عصام العرب ورفاقه، وهم من المحسوبين على ليبيا، ليبلغ تمّام أنّ عبد السلام جلّود، المسؤول الليبي الذي كان يزور بيروت في ذلك الحين، يرغب في الاجتماع بي مع رؤساء الوزارات وبعض الشخصيات، فأبلغه تمّام اعتذاري عن ذلك. في الساعة الرابعة من اليوم نفسه جاءني رسول من المقاومة ليبلغني، هو الآخر، أنّ جلّود يصرّ على الاجتماع بي في غرفة العمليات، فاعتذرتُ مرّة أخرى، فجاء رسول ثالث، ليقول لي إنّ جلّود سينتظرني في مقرّ الدائرة السياسية للمقاومة فاعتذرت مرّة ثالثة. وقد اعتذرت كلّ تلك المرّات حفاظاً على كرامتي تجاه جلّود وتجاه المقاومة. هذا بينما رشيد كرامي، وهو رئيس الحكومة، أتى عند عصام العرب ليجتمع بجلّود في حضور عبد الله اليافي وعدنان الحكيم ومحمد قبّاني. ويبدو أنّ اعتذاري المتكرّر كان له مفعوله لدى جلّود؛ إذ ما إن حلّت الساعة الثامنة مساءً، حتى وجدتُه يدخل علي في بيتي ومعه «أبو إياد» و«أبو اللطف»، دون سابق إعلام.
كان الحديث مع جلّود مستفيضاً، وأنا قدّرت له ولغيره غيرتهم ومساعيهم؛ إذ إنّه – والحقُّ يقال، مهما كانت دوافعه – كان العربي الوحيد الذي أبدى مثل ذلك الاهتمام وبذل مثل ذلك الجهد بالنسبة إلى الظروف الصعبة التي يعيشها لبنان في تلك الآونة. من جهتي، نبّهتُه إلى ما اعتدتُ أن أنبّه إليه أركان المقاومة، من ضرورة عدم إهمال المجتمع الإسلامي في لبنان. ثمّ شرحتُ له تفاصيل ما دار بين الرئيس السوري حافظ الأسد وبيني من أحاديث. وصارحت جلّود بأنّني مقتنع الآن بأنّني كنت على غشاوة حين اعتقدتُ صحّة كلّ ما قاله لي الرئيس الأسد، وما زلت على هذه الغشاوة حتى الآن؛ إذ إنّني لا أريد أن أفقد إيماني بحسن نواياه تجاه لبنان. وأحببت أن أُفهم جلّود أنّ انهيار «منظمة الصاعقة» في بيروت كان نتيجة للنقمة الإسلامية العارمة والموقف الصلب الذي وقفناه تجاهها، وطالبتُ جلّود بأن يحاول، إن استطاع، اجتذاب الكتائبيين بفصلهم عن سليمان فرنجيّة وكميل شمعون المساندَين لكلّ أنواع الإجرام، قائلاً له «إن هذه هي خطتي الأساسية التي أتّبعها على الرغم من كلّ ما صدر عن الكتائبيين من وحشية وعنف وإجرام».
- الاجتياح السوري الجديد
ما كدنا نطمئنّ إلى بعض التفاؤل، حتى أتتنا الأنباء متوالية تتحدّث عن اجتياح سوري جديد في منطقة جزّين – صيدا، ومنطقة بعبدا – شانيه عاليه، ولقد ولّد ذلك قلقاً كبيراً عند الكثيرين. طبعاً هذه المرّة لم تكن ردّة فعل المسلمين مماثلة لردّة فعلهم السابقة، يوم دخل الجيش السوري لأول مرّة في يونيو. فالظروف كانت قد تبدّلت كثيراً، ونقمة المسلمين تفاقمت ضدّ المقاومة، بالنسبة إلى الممارسات غير المحمولة، وبالنسبة إلى المساندة المستمرّة التي يلقاها جنبلاط والشيوعيون من هذه المقاومة. إنّ المسلمين يشكون مُرّ الشكوى من الفلسطينيين وعلى الصعد كافة؛ لذلك لا يمكنهم أن يقيسوا ذلك بما يمكن أن يلاقوه على أيدي السوريين، ما دام هذا لم يحصل بعد!
مهما يكن، فإنّ خطة السوريين لم تتوضّح بعد، هل تراهم سيقومون بعمليات محدودة في الجنوب والجبل، أم أنّ ما يقومون به ليس سوى خطوة نحو احتلال شامل للبنان؟ على كلٍّ، هذه المرّة – كما أشرت – لم تصدر ردود فعل عنيفة ضدّهم، بل ولا حتى ردّات فعل عادية. وأنا بدوري لم أتكلم! فمن جهة «أبو عمّار» وجماعته كفّوا عن الاتّصال بي منذ أسبوع على رغم اتّصالي الدائم بهم، ومن جهة أخرى ها هم قد مضوا في تنفيذ خطّتهم مع «المجلس السياسي» و«الإدارة المدنية» و«الأمن الشعبي» في بيروت على رغم امتناعي عن إصدار البيان، وعلى الرغم مما شرحتُه لـ«أبو عمّار» عن الضرر الذي يخشاه أهل بيروت من تسليم شؤونهم لهذا المجلس الذي يسيطر عليه الشيوعيون، وخصوصاً في نواحي الأمن والأمور المعيشية (طحين ومحروقات وغيرها) وفي إدارة المدارس. فالأمن عند من يطلق عليهم اسم «الإدارة المدنية»، يتسلّمه صورياً سنان براج، ولكن وراءهفي الحقيقة ثلاثة شيوعيين حتماً، وهم: إسبر بيطار، «طانيوس» و«كميل». وإدارة التربية كذلك، والدعاية أيضاً، ومن وراء هذا كله أقدَر الشيوعيين، الأمين العام محسن إبراهيم الذي أطلق عليه اسم «ميني بريجنيف»!
- قمة سداسية في الرياض
اتّصل بي علي الشاعر هاتفياً ليبلغني أنّه قد جرى اتفاق على عقد قمّة سداسية في السعودية يحضرها الملك خالد، الأمير الكويتي الشيخ صباح السالم الصباح، الرئيس المصري أنور السادات، الرئيس السوري حافظ الأسد، الرئيس اللبناني إلياس سركيس و«أبو عمّار»، على أن يحاط عقد القمّة بتكتّم شديد. أنا، لمعرفتي بالخبرة، أنّ السرّية في مثل هذه الأمور مستحيلة، أوصلتُ الخبر لبعض أعضاء «الجبهة» وغيرهم! ولم يخبْ تقديري على أي حال، إذ بعد أقلّ من نصف ساعة كان راديو «مونتي كارلو» يذيع الخبر نقلاً عن نيويورك، كما أذاعه راديو «الكتائب» في الوقت نفسه نقلاً عن بيار الجميّل، نقلاً عن إلياس سركيس...
حاولت أن أساعد رشيد كرامي في توجّهه إلى السعودية، بعد أن علمتُ أنّ إلياس سركيس طلب منه مرافقته. كان على كرامي، لكي يتوجّه إلى السعودية، أن يصل أولاً إلى دمشق، لكنّه لم يكن راغباً في أن يخاطر عابراً الطريق إلى العاصمة السورية. هاتفت الشاعر فعلمت منه أنّه سيذهب إلى بعبدا ومن هناك سيرافق سركيس إلى السعودية. اتّصلت بكرامي أغريه بأن يذهب معه فرفض خشية خطر الطريق، إثر ذلك علمت من «أبو عمّار» أنّ طريق مرجعيون سالكة، فهاتفت كرامي مرّة أخرى، فتمنّع قائلاً، إنّ سركيس والسوريين أبلغوه أنّ الطريق خطرة!
ولأول مرّة منذ عشرة أيّام هتفت لياسر عرفات؛ إذ وجدتُ أنّ من غير المناسب في ظروفهم الحالية، وبعد زيارة هاني الحسن لي قبل يوم، وبعد الإعلان عن عقد «قمّة الرياض»، من غير المناسب ألّا أتّصل بالزعيم الفلسطيني قبل سفره، فأشجّعه وأطلب له التوفيق. شعرت على الفور بأنّ مكالمتي كانت بالنسبة إليه أشبه بهبَة من السماء، وكانت مجاملته لي أكثر من المعقول!
على الرغم من انعقاد «قمّة الرياض»، وإشاعتها جوّاً عارماً من التفاؤل، سرعان ما تفاقمت الأمور بعد أيّام قليلة وبشكل أشدّ خطورة وسوءاً من أي وقت مضى، إذ بين يومي 20 و21 أكتوبر (تشرين الأول)، أمضت بيروت أشدّ أيّامها هولاً، بسبب قصف عشوائي يشتدّ حيناً ثمّ يخفّ ويهدأ ليلاً ساعات قليلة لسبب مجهول، ثمّ يشتدّ بصورة مخيفة. قدّر البعض عدد القذائف التي هطلت على جانبَي بيروت بأكثر من خمسة آلاف قذيفة خلال اليومين الأخيرين. أمّا القتلى فتساقطوا بالعشرات والجرحى بالمئات. اتّصلتُ مراراً ببيار الجميّل وبياسر عرفات، وبغيرهما طبعاً، وكنت أحاول أن أحثّ الجميع، وخصوصاً زعيم «الكتائب» وزعيم «المقاومة الفلسطينية»، على التعاون في سبيل إيقاف تلك المجازر المرعبة. وأعتقد أنّني كنت الوحيد الذي يمكنه أن يتّصل بالفريقين معاً. يوم الخميس 21 أكتوبر كنّا قد أمضينا ليلتين في الطابق الأسفل أو الأوسط، وبدا لنا لبعض الوقت أنّ الجحيم الذي فُتح لن يهدأ أبداً. ولكن اعتباراً من يوم الأحد التالي، بدأت نتائج «مؤتمر الرياض» تلوح ميدانياً، فهدأ القصف إلى حدٍّ ما... وساد الأمل في أن يكون وقف النار الجزئي والنسبي الذي ساد في ذلك اليوم، نهائيا هذه المرّة.
مهما يكن، فإنّنا سرعان ما عدنا إلى عيشنا الروتيني، أنا بتّ لا أخرج من الدار إلّا نادراً، ودائماً يرافقني مسلّحون في سيّارة أمامي، وآخرون في سيّارة جيب تسير خلف سيّارتي. ولولا اضطراري إلى المشاركة في اجتماعات «جبهة الاتّحاد الوطني» و«التجمّع الإسلامي» لما كان من شأني أن أخرج أبداً.
- اغتيال كمال جنبلاط وارتداداته
في السادس عشر من مارس (آذار) 1977، اغتيل كمال جنبلاط على طريق المختارة في منطقة الشوف، وكان لذلك الاغتيال رجّة كبيرة في طول لبنان وعرضه، وقد حصلت من قِبل أهل الشوف الدروز ردّة فعل فورية غاضبة، ذهب ضحيّتها أكثر من مائة شوفي مسيحي، ولا سيّما في قرية مزرعة الشوف القريبة من المختارة.
كان واضحاً أنّ البلد مقبل على فتنة كبيرة، قد تكون أكبر من أي فتنة أخرى عرفها، وذلك بسبب مكانة جنبلاط في لبنان، وبسبب تعقّد الظروف اللبنانية، وخصوصاً بسبب الغموض الذي أحاط بالجريمة وجعل محاسبة أي كان عليها بديلاً من محاسبة المسؤولين الحقيقيين عنها. ولئن كان «شمعون» والشمعونيون تعمّدوا إذكاء نار الفتنة، عبر تحريض المسيحيين على إبداء ردود فعل مضادّة على ما حدث لمسيحيي الشوف، فإنّني من جهتي سارعتُ إلى التعاون مع «حزب الكتائب» في محاولة منّا لوأد نار الفتنة، قد نجحنا في ذلك إلى الحدّ الأبعد، وخصوصاً أنّ وليد جنبلاط نجل الزعيم الراحل تبدّى على الفور عاقلاً وحكيماً، وقرّر أن يدفن والده في اليوم التالي مباشرة، بعد أن كانت أحزاب «الحركة الوطنية» قرّرت تأجيل الدفن حتى يوم الأحد تأجيجاً لردود الفعل.
لقد رحل «كمال جنبلاط»، ورحيله أحزننا جميعاً وجعلنا نأسف أسفاً شديداً، في الوقت نفسه الذي دعونا فيه إلى الهدوء والتعقّل، وكانت دعوتنا لذلك قد انطلقت منذ ليلة الاغتيال.
رحل «كمال جنبلاط»، هذا الزعيم الذي لم يكن – في نظري كما في نظر الكثيرين – شخصاً عادياً، بل كان «ظاهرة» إنسانية، إنّه أكبر زعيم قبيلة وأهمّ إقطاعي في لبنان، ومع هذا فإنّه ينادي بالديمقراطية ويرأس حزباً اشتراكياً، هو ينتمي روحياً إلى الدروز – كما يحبّ أن يقول – لكنّه في الوقت نفسه يعلن إسلامه، وهو زعيم إقليمي شوفي ودرزي، ومع هذا نراه ينادي بوحدة لبنان، وبوحدة العرب، ووحدة الإنسانية كلها. إنّه مزيج من التناقضات التي لم يكن ليرفّ له جفن وهو يمارسها جميعاً، متقلّب في مواقفه وسياسته بين يوم وآخر، أفليس هو حامل جائزة «لينين» السوفياتية، في الوقت نفسه الذي يقال عنه فيه إنّه يتبع توجيهات الأميركيين الذين يشتمهم علناً؟
من ناحية الحسابات السياسية البحتة التي كان لا بدّ من أن ترِدَ إلى خاطري رغم فداحة الحدث، كان من الواضح لدي أنّ مقتل كمال جنبلاط وغيابه عن الساحة اللبنانية، سوف يؤدّي مباشرة إلى إضعاف مكانة كميل شمعون، وعلى هامش هذا الواقع طالب إخواننا في «التجمّع الإسلامي» بضرورة أن نتصلّب منذ الآن في مواقفنا، بعد أن كنّا نمثّل نوعاً من الاعتدال بين تطرّف كمال جنبلاط من جهة، وتطرّف كميل شمعون من جهة ثانية، وكنتُ أرى عكس هذا تماماً؛ لذلك رحتُ أقول بضرورة مضاعفة الانفتاح على المسيحيين لكسب المعتدلين وإحراج من يدّعون الاعتدال (وعلى رأس هؤلاء وأولئك «بيار الجميّل» في تناقضاته هو الآخر)، للتعاون على إضعاف شمعون.
في خضمّ ذلك كلّه، كان لا بدّ من طرح السؤال الأساسي: من قتل كمال جنبلاط؟
منذ سنة، وفي عزّ الأوقات العصيبة واشتداد المحنة، كنتُ لا أكفّ عن القول إنّه عندما يهدأ الأمن ظاهراً، ستكون هناك تفجيرات خفيّة، واغتيالات عديدة، والحقيقة أنّنا، منذ هدأت الأحوال نسبياً، كنّا نسمع بين الحين والآخر أسماءَ تتردّد على شفاه العالمين بالأمور، على أساس أنّها مُعرّضة للاغتيال. وكان في مقدّمة تلك الأسماء اسم «ريمون إدّه» واسمي واسم «كمال جنبلاط» واسم «كميل شمعون»، ولكن كان من الواضح لدينا أنّ ترداد الأسماء يهدف أوّلَ ما يهدف إلى إثارة الفتنة والبلبلة. ومع هذا لم أفاجأ أبداً حين جرت محاولات لاغتيال «ريمون إدّه»... الذي كان عمره طويلاً فنجا دائماً من تلك المحاولات. وكذلك لم تفاجئني قذيفة مدفع الهاون التي استهدفت «كميل شمعون» وأخفقت في قتله، والآن لا أحسّ أنّ اغتيال «كمال جنبلاط» كان مفاجأة لي. السؤال الآن: مَن صاحب الاسم التالي على اللائحة؟
غير أنّ هذا السؤال لم يحجب السؤال الآخر، الأساسي: مَن قتل جنبلاط؟
قال البعض، إنّ اغتيال جنبلاط قد نتج من ثارات شخصية...
وقال آخرون، إنّ القتلة عملاء لإسرائيل...
وقال فريق ثالث، إنّ اغتيال «جنبلاط» يقف وراءهالسوريون...
فإلى أي فريق، يا تُرى، يجب أن تتّجه ظنوننا؟
مهما كانت هويّة القاتلين وهويّة محرّضيهم، فإنّ شعور معظم الناس كان الأسف لرحيل رجل من طينة «كمال جنبلاط»، ولكن لم يخلُ الأمر من كثيرين شعروا بالراحة إزاء التخلّص من «جنبلاط»، وهؤلاء لم يكونوا في صفوف المسيحيين وحدهم، بل كان بينهم مسلمون ودروز أيضاً!
- زيارة الأسد والسادات
قبل اغتيال «كمال جنبلاط»، كنت عازماً على التوجّه إلى مصر لمقابلة الرئيس أنور السادات، بعد أن تأخّرَ الجواب الذي كنت أنتظره من سوريا بصدد مقابلة طلبتُها مع الرئيس «حافظ الأسد»، وكنت أوَدّ أن تتمّ قبل زيارتي إلى السعودية، ولكن فجأة، وفيما كنت أستعدّ للسفر إلى مصر، وصلتني برقيّة من السيد «عبد الحليم خدّام» تفيد بأنّ الرئيس «الأسد» سوف يستقبلنا في العاصمة السورية يوم السبت في التاسع عشر من مارس.
- الاجتماع مع حافظ الأسد
توجّهتُ إلى دمشق في الموعد المضروب، وكان الاستقبال كالعادة، لائقاً، تواكبه دراجات نارية وشرطة ووزير الرئاسة «أديب ملحم»، عند نقطة الحدود.
دام الاجتماع بين الرئيس «الأسد» وبيني ثلاث ساعات، من منتصف النهار حتى الثالثة بعد الظهر، وكان بحضور فيصل سلام. ظاهر الحديث كان ودّيّاً للغاية، ولكن لأنّ قلب المؤمن دليله، لم أشعر بأنّ ثمّة صفاءً حقيقياً خلف ذلك الودّ، وخصوصاً أنّ كمال جنبلاط كان لا يزال طريّاً في ذهني وأحاسيسي.
كالعادة، كنت صريحاً مع الرئيس الأسد، فشرحت له كلّ مآخذي على تصرّفاتهم في لبنان، عسكرياً وسياسياً، فلم يتوانَ عن أن يقول لي إنّه يأخذ ذلك في الاعتبار... ومع هذا داخَلَني شعور بأنّه يتصرّف الآن انطلاقاً من الواقع الجديد، أي إحساسه بأنّه أغرَقَ الجيش السوري في الرمال المتحرّكة اللبنانية، وأنّ ذلك يُشعره بالقلق، ويزيد بالتالي من تصلّبه.
بعد زيارتي للرئيس «الأسد»، كان عليّ أن أزور مصر لألتقي الرئيس «السادات»، بعد عشرة أيّام على زيارتي الدمشقية، ولأهمّية زيارتي للقاهرة، وجدت أنّ من الضروري أن أزور الرئيس «إلياس سركيس» وأقابله عشيّة تلك الزيارة، فتوجّهتُ إليه.
أذكر أنّ لقائي بالرئيس سركيس كان بعد ظهر السبت، وكان من المفترض أن يجتمع مجلس الوزراء يوم الاثنين، وفي أهمّ جدول أعماله تعيين قائدٍ جديد للجيش. ويوم الاثنين كنت أنا قد وصلت إلى القاهرة، وهناك صباحاً علمت بحادث الاعتداء الفظيع الذي تعرّض له منزل وزير الدفاع فؤاد بطرس، وكان من الواضح أنّ مسؤولية الاعتداء تقع على كميل شمعون وبشير الجميّل. شعرت بأنّ هذا الإرهاب غايتُه إخضاع رئيس البلاد، ولو خضع هذا للإرهاب لأنهار لبنان، والحقيقة أنّ السلطة برئاسة سركيس لم تخضع للإرهاب، بل إنّها بدلا من ذلك قرّبتْ موعد انعقاد الجلسة الحكومية من بعد الظهر إلى قبل الظهر، وأعلنتْ إعفاء حنّا سعيد من منصبه كقائد للجيش، معيّنة مكانه فكتور خوري. على الفور، حاول كميل شمعون وبشير الجميّل إقامة الدنيا وعدم إقعادها، وساندهم سليمان فرنجيّة في ذلك، لكنّ موقف بيار الجميّل حسم أمر الكتائبيين وحال دون وقوع الفتنة، حيث إنّ «الجميّل» الأب أيّد على الفور ما أقدمتْ عليه السلطة، وكذلك وقف موقفاً حازماً لمنع الإضراب الذي كان قد أعلن، وأيّده الرأي العامّ المسيحي في ذلك تأييداً قويّاً. وأنا حين اجتمعت بـ«بيار الجميّل» بعد ذلك، نبّهتُه إلى أنّ لي يداً في ذلك بالنسبة لما طرأ على الرأي العامّ المسيحي من تطوّر نتيجة لسياسة الانفتاح التي اتّبعتُها، فوافقني على ذلك كلّ الموافقة، والحقيقة أنّ الحادث الذي تعرّض له منزل فؤاد بطرس قد أسهم كثيراً بتبدّل موقف الرأي العامّ المسيحي، الذي لم تعدْ تستبدّ به الرغبة في معاودة الاقتتال.
وأنا، بعد عودتي من القاهرة، وحال وصولي إلى مطار بيروت، أعربت عن سروري بتعيين القائد الجديد، فكان لذلك تأثير طيّب.
- مع الرئيس السادات
وكنت قد توجّهتُ إلى القاهرة إثر مقابلتي للرئيس «سركيس»، وكان برفقتي في زيارتي العاصمة المصرية كلّ من «جميل كبّي» و«علي المملوك»، ومقابلتي مع الرئيس «السادات» جرتْ في «القناطر الخيرية»، واستمرّت ساعة ونصف الساعة، وكان حاضراً خلالها نائبه «حسني مبارك».
كان الحديث ودّيّاً وحميماً، والحقيقة أنّني كنت قد طلبتُ المقابلة قبل أسبوع، لكنّ السفير المصري أجابني، بعد المراجعة، بأنّ وقت الرئيس ضيّق عشية سفره إلى أميركا، وأنّه يفضّل أن يراني بعد عودته منها، لكنّه عاد في اليوم التالي وأخبرني أنّ الرئيس يرغب في مقابلتي قبل سفره، وهو أمر أخبرني به الرئيس «السادات» خلال اللقاء، حيث قال لي «كنت قد قلت للسفير إنّني سأقابلك بعد عودتي من الولايات المتّحدة، لكنّي عدتُ ووجدت أنّ من الأفضل أن نتبادل الرأي قبل ذهابي إلى هناك، رغم ضيق الوقت».
خلال المقابلة شعرت بأنّ «السادات» شديد التفاؤل بمقابلته المقبلة مع الرئيس الأميركي «جيمي كاتر»، قلت له إنّني بدوري متفائل، ومع هذا سألته «هل عندك ما يشير إلى هذا التفاؤل؟» قال «عندي ما نقَلَه إلى كارتر نفسه»، فأطلعتُ الرئيس «السادات» على المذكّرة التي كنت قد بعثتُ بها إلى وزير الخارجية الأميركية «سايروس فانس» خلال زيارته للبنان، فأبدى إعجاباً شديداً بها. بعد ذلك أخبرني الرئيس «السادات» أنّهم كانوا على وشك الاشتباك عسكرياً، مع إسرائيل، أخيراً، بسبب عدوانها في عملية حفر الآبار في خليج «السويس»، وأنّ البوارج والطائرات كانت وشيكة التصادم، لكنّ الرئيس «كارتر» تدخّل مؤكّداً أنّ المنطقة مصرية وستبقى مصرية، وأنّه – أي «كارتر» – لن يسمح بغير ذلك أبداً.
قال «السادات»، إنّه مصرّ على أن يلعب كلّ أوراقه مع الأميركيين؛ لأنّه يعتقد أنّ المفتاح لحلّ النزاع مع إسرائيل كله بيد أميركا، أمّا السوفيات فإنّهم مضطرّون إلى مجاراة واشنطن لا أكثر.
فيما يختصّ بلبنان، قال لي «أنور السادات»، كما سبق للرئيس اللبناني «إلياس سركيس» أن أكّده في خلال اجتماعي به قبل أيّام، أنّ السوريين هم الذين اغتالوا «كمال جنبلاط»، وأكّد «السادات» أنّه رغم كلّ الإشارات التي تنمّ عن رغبة السوريين في وضع اليد نهائياً على لبنان، فهو – أي «السادات» – لن يقبل بذلك، وكشف لي عن أنّه كان قد حذّر الرئيس «الأسد» قائلاً له، إنّ لبنان يجب أن يعود سيّدَ نفسه، في المقابل أخبره بأنّه يوافق على أي اتفاق سوري-أردني على الصعيد العسكري، وحتى على الصعيد السياسي إذا أراد «الأسد» ذلك، لكنّه لن يقبل المساس بلبنان، إلّا إذا رغب لبنان في ذلك بمطلق إرادته الحرّة... وبعد عودته إلى أوضاعه الطبيعية.
ويدرك الرئيس «السادات»، كما قال لي، أنّ المسلمين السُّنّة هم الذين خسروا أكثر من غيرهم من الفئات في لبنان، هذا العام. وللمناسبة، طلب «السادات» من نائبه «حسني مبارك» أن يبلغ السفير والسفارة في بيروت بضرورة التنسيق معي شخصياً في كلّ نشاطاتهم؛ لأنّه يعتبر أنّ صائب سلام هو أمل المسلمين والعرب الوحيد في لبنان. وفي الوقت نفسه حذّرني الرئيس «السادات» من خطر تعرّضي للاغتيال في لبنان، كما طلب منّي أن أبلغ التحذير نفسه إلى «سركيس»؛ لأنّ مَن اغتال «كمال جنبلاط» لن يتورّع عن اغتيال «إلياس سركيس» و«صائب سلام» من بعده. وطلب منّي الرئيس «السادات» أن أبلغ الرئيس سركيس أنّه يؤيّده كامل التأييد، محبّذاً تأييدي لدور الرئيس سركيس ولحكومته الحالية، وانفتاحي على المسيحيين عن طريق «بيار الجميّل». أمّا بالنسبة إلى «شمعون»، فإنّ الرئيس «السادات» يشاطرنا الاعتقاد بأنّه متّفق مع الإسرائيليين.
عندما انتهت المقابلة، وفي حين كان الرئيس السادات يودّعني، حذّرني مرّة أخرى من احتمال اغتيالي، وقال لي إنّني يجب أن أنتبه من السوريين.
- مناورات لتطبيق «اتفاق القاهرة»
مرّت الأسابيع التالية كما التي قبلها، دون أحداث كبيرة يمكن التوقّف عندها: مناورات سياسية وعدم استقرار في الصفّ الإسلامي، إمعان «المقاومة الفلسطينية» في الغرق في أوحال الوضع اللبناني، ازدياد استياء المواطنين... كلّ هذا في وقت راح فيه الجيش السوري يعزّز من وجوده في لبنان. وكان واضحاً أنّ سوريا باتت هي مركز الثقل في الواقع اللبناني. أمّا إسرائيل، فكانت تدخل على الخطّ بين الحين والآخر. وعلى الصعيد العربي، كانت الأوضاع بين شَدّ ومدّ، وكان واضحاً أنّ في الأفق أحداثاً كبيرة تنتظر الفرصة السانحة لتبرز. من ناحيتي، توزّعَ نشاطي بين «المقاصد»، و«التجمّع الإسلامي»، والاستجابة لصرخات الاستغاثة من المواطنين، وكنت أتشدّد أكثر وأكثر تجاه «أبو عمّار» وجماعته، لحرصي عليهم بقدر ما أحرص على «التجّمع» وعلى لبنان ككلّ، لكنّهم لم يشاؤوا أن يُصغوا إلى نصائحي.
وسط ذلك المناخ، تلقّيت دعوة لزيارة دمشق من جديد، والاجتماع بالرئيس «حافظ الأسد»، وكانت الزيارة الجديدة يوم 27 يونيو 1977، وهذه المرّة كان برفقتي النائب جميل كبي الذي كانت تلك هي المرّة الأولى التي يلتقي فيها الرئيس الأسد. والحقيقة أنّ انطباع «الكبّي» عن الرئيس «الأسد» بعد انتهاء اللقاء فاجأني؛ لأنّه كان مغايراً لما يُجمع عليه الكثيرون. المهمّ، كان الاستقبال الذي بدأ، كالعادة، عند الحدود وصولاً إلى «قصر الضيافة» في دمشق، حاملاً أسمى آيات التكريم، وهو ما أرضاني، لكنّني في الوقت نفسه لم أرتحْ كثيراً لما لمستُه فيه من مبالغة؛ إذ أحسستُ أنّه ربّما كان هناك قدْر من سوء النيّة يُبيَّتُ لي؛ إذ إنّني كنت أنا الوحيد الذي لا أزال أجرؤ على الخروج عن سلطتهم وتوجيهاتهم في لبنان. بعد «قصر الضيافة» أخذونا إلى قصر الرئاسة، حيث اجتمعنا بالرئيس «الأسد»، الذي بعد الترحيب المعتاد والكلام اللطيف والسؤال عن العائلة وعن «تمّام» و«فيصل»، أخذ دفّة الحديث ليقول إنّه يصرّ على ضرورة تنفيذ المقاومة لحصّتها من «اتفاق القاهرة»، طالباً منّا نحن، أن نعلن مطالبنا بذلك ونصرّ عليها، قائلاً إنّه سيحاول الوصول إلى التنفيذ بالتفاهم... فإن لم يُجدِ، فسيكون من الضروري، عندئذٍ، اللجوء إلى القوّة!
كرّر الرئيس الأسد، وكذلك فعل السيد عبد الحليم خدّام، أنّهم ليسوا وراء رشيد كرامي فيما يدعو إليه من «جبهة عريضة»، بل إنّهم منزعجون في الحقيقة من علاقته بالشيوعيين و«جنبلاط» و«المرابطون». قلت لهما إنّ الصورة في لبنان هي خلاف ذلك، وخصوصاً بالنسبة للاتّصالات التي يقوم بها أشخاص مثل «كمال شاتيلا» و«عاصم قانصوه» من المحسوبين على سوريا بشكل أو بآخر.
مهما يكن، فإنّ الرئيس الأسد لم يُخفِ أمامنا أنّه بات أقلّ تفاؤلا اليوم منه حين قابل الرئيس الأميركي «جيمي كارتر»، بل إنّه بات يذهب في تحليله إلى أنّ إسرائيل تتمتّع اليوم بفرصة ذهبية لشنّ حرب جديدة واحتلال أراضٍ عربية أخرى لتضع العالم، من جديد، تجاه الأمر الواقع.
والحقيقة أنّ من يتابع الأمور والتطوّرات، وخصوصاً في أميركا، يلاحظ أنّ التفاؤل الذي كان قد أشاعه الرئيس «كارتر» قبل شهرين، قد أخذ ينقلب إلى شيء من التشاؤم بعد وصول مناحيم بيغن وأحزاب اليمين الإسرائيلي المتطرّف إلى رئاسة الحكومة، وعلى ضوء الهجمة الصحافية وهجمة «الكونغرس» اللتين تجابهان الرئيس «كارتر» وحكومته، في هذا الصدد.
وكان الرئيس «السادات» قد وصف لي خلال زيارة قمت بها لمصر قبل أسابيع مقابلاته الخاصّة والعامّة مع «جيمي كارتر»، مؤكّداً أنّه اتفق وإيّاه على عقد «مؤتمر جنيف» والوصول إلى إقرار السلام قبل نهاية العام. ومع أنّ الرئيس «كارتر» أعلن عزمه على ذلك مرّة أخرى قبل أيّام، فإنّ من يتتبّع الأمور عن قرب يدرك جسامة المَصاعب والعقبات التي تواجه الرئيس الأميركي في «الكونغرس» والإعلام، كلما حاول أن يضغط على «إسرائيل وأن يفرض عليها شيئاً، وهذه ثابتة من ثوابت الوضع السياسي الأميركي. وأذكر هنا أنّني حين نجح «بيغن» وحزبه في الانتخابات الإسرائيلية ووصل اليمين المتطرّف إلى السلطة للمرّة الأولى، لاحظتُ ضخامة الحملة الإعلامية التي شُنّت ضدّه، فقلت لمن حولي «الله يجيرنا من هجمة صهيونية مضادّة». والواقع أنّ هذه الحملة ما لبثت أن بدأت، وبدا واضحاً أنّ «كارتر» سوف يكون ضحيّتها هو وكلّ أحلامه السلمية، اللهمّ إلّا إذا وجد في أوساط العرب تجاوباً معه يتمثّل في تنازلات إزاء تصلّب إسرائيل!
في أواخر يونيو، قابلتُ الرئيس سركيس، فوجدتُه قانطاً يائساً من إمكان قيامه بأي خطوة جدّية قبل حلّ قضيّة تنفيذ «اتفاق القاهرة»، ومع هذا فإنّه يعلّق بعض الأمل على نتائج الرحلة التي يقوم بها الوزير فؤاد بطرس للبلاد العربية (مصر، السعودية، الكويت) قائلاً، إنّ الأمير فهد بن عبد العزيز سيدعو إلى مؤتمر قمّة سداسيّ، يضع فيه المؤتمِرين أمام مسؤوليّاتهم، ويصرّ على الفلسطينيين لتنفيذ الاتفاقات المعقودة معهم.
أمل إلياس سركيس يكمن هنا فقط، أمّا المشكلة الأساسية فتكمن في المعارضة الشرسة التي يلقاها من قبل «الجبهة اللبنانية» ممثّلة بالرباعي «شمعون»/«فرنجيّة»/«الجميّل»/«قسّيس».
قبل يومين، كان قد تناول الغداء عندي سفير الولايات المتّحدة الأميركية «ريتشارد باركر» الذي أحضر لي معه النصّ الأصلي لبيان كانت وزارة الخارجية الأميركية قد أصدرتْه في اليوم السابق، ولفتني في البيان أنّه يعيد إلينا شيئاً كثيراً من التفاؤل، بعد أن كانت الغيوم قد تلبّدت كثيراً، إثر هجوم الإعلام الصهيوني و«الكونغرس» على الرئيس جيمي كارتر.
بعد أيّام زارني أمين الجميّل برفقة المحامي عبد الحميد الأحدب، وكانت هذه هي المرّة الأولى التي يجري فيها حديث طويل بيننا، وكان همّي الأوّل أن أدرس شخصيّته وأحدّد أهدافه وخلفياته وأستنتج إثر ذلك قيمته الحقيقية. كان مثل والده كثير الكلام، تكلَّم وحده أكثر من نصف ساعة وكان حديثه مزيجاً من الشرق ومن الغرب، المهمّ أنّني لاحظت أنّه متضايق مما يسمّيه «جبهة الكفور»، مستعملاً هذا الاسم بدل اسم «الجبهة اللبنانية»، وهذا الأمر كشف لي بالملموس واقع الخلافات التي كنّا نسمع عنها ولا نعرف لها تقييماً حقيقياً، وانتهى أمين الجميّل إلى اقتراحٍ يرمي إلى أن نضع اتفاقاً لمخطّطٍ مشترك نرسمه أنا ووالده بيار الجميّل، ونذهب به إلى رئيس الجمهورية لنعرضه عليه، ومع هذا قال أمين الجميّل، إنّ الآمال التي كانت معقودة على رئيس الجمهورية قد تبخّرت.
حدّثتُه عن إمكانية تفاهم مع الفلسطينيين لإنقاذ الجنوب ومنع الخطر عن كلّ لبنان، قال «إنهم كذابون!» قلت «لكنّهم اجتمعوا بأخيك بشير وبعدد من رفاقه الكتائبيين». قال «أخي بشير لا يفهم شيئاً، ولا يطلع منه شيء!» ولم أكن في حاجة إلى أكثر من هذا الدليل، حتى أتأكّد من الأخبار التي كانت لا تكفّ عن الحديث عن صراع عنيف بين الأخوين. بالنسبة إلى أمين الجميّل، لمستُ أنّ اختلاط كلّ الأمور في حديثه لا يجعله قادراً على أن يشكّل ثقلاً ليفاوض ويفاوَض. ولكن لا شك في أنّه استخدم مهارته لكي يرمي الطابة، في نهاية الأمر، في ملعبي، بحيث يمكنه في المستقبل أن يلقي اللوم علي قائلاً «لقد زرتك وحدّثتك بصراحة وطلبت منك المساهمة في وضع ورقة عمل لكنّك لم تفعل!». لذلك؛ وتحسّباً لهذه «الشطارة»، طلبتُ من عبد الحميد الأحدب، على حدة، أن يتّصل بمن يعرفهم في «الكتائب» من القوم المعتدلين والمنفتحين، من أمثال إبراهيم النجار، ليطلب منهم أن يضعوا، هم، ورقة العمل.
- قيادات المقاومة في الحضيض
في اليوم التالي زارني «أبو إياد» بعد طول جفوة وافتراق؛ إذ كنت لا أكفّ عن تحميله مسؤولية مساندة الشيوعيين و«المرابطون» في محاولاتهم لاقتحام منطقتنا، التي أوقفناها بعنف. مهما يكن، كنت أشعر بأنّ قيادات المقاومة في الحضيض، والوقت ليس وقت معاتبات، فأنا بعد كلّ شيء أحرص على القضيّة الفلسطينية من قيادات المقاومة نفسها. أخبرت «أبو إياد» بما جرى مع شمعون، وقلت له، إنّ هاني الحسن يلحّ علي بضرورة وصلهم بالقيادات المارونية، فرحّب بذلك كثيراً، لكنّه لم يصدّق أن كميل شمعون رضي بالاجتماع بـ«أبو عمّار»، هو الذي كان دائماً يصرّ على رفض ذلك، قلت له إنّ ما يجعلني أعتقد أنّ شمعون جادٌّ هذه المرّة فيما يقول هو أنّه أضاف لرفيق شاهين، الذي تولّى الوساطة بيننا، أنّني إذا وافقت على اقتراحه عليّ أن أخبره بذلك حتى يتدبّر الأمر مع أصحابه (ومع السوريين) كي لا يقوم هؤلاء بإفساد الأمر، معنى هذا أنّ «شمعون» يدرك أنّ هذا الأمر لا يروق السوريين!
عندما أشرتُ أمام «أبو إياد» إلى ما أعتقده من وجود خلافات وضروب منافسة بين قيادات المقاومة، وإلى انعدام الثقة بين هذه القيادات، وبـ«أبو عمّار» شخصياً، شاء «أبو إياد» أن يؤكّد لي تضامنهم فاقترح أن يبعث لي بالموافقة على هذه الخطوات مع «هاني الحسن» بالذات، علماً بأنّ الشائع هو أنّ الخلاف بين «هاني الحسن» و«أبو إياد» شخصياً على أشدّه، إلى درجة أنّ البعض عزا طلب زيارتي اليوم بالذات إلى ما رآه «أبو إياد» من تكرار زيارات «هاني الحسن» لي.
على أي حال، عاد هاني الحسن من دمشق بعد يومين، ليحدّثني فور زيارته لي عن لقاءاته بـ«ناجي جميل» و«محمد ناصيف»، ونقل إليّ معلومات تفيد بأنّ الأوضاع مضطربة في سوريا، وأنّ الوضع الاقتصادي متردٍّ، وقبل خروج «هاني الحسن» من عندي، وصل القاصد الرسولي (سفير الفاتيكان) فعرّفتُه إليه ورتّبتُ له موعدا لزيارته في الغد، ففرح بذلك كثيراً.
زيارة لمذكرات رئيس الوزراء اللبناني الراحل صائب سلام (2): الأميركيون أمنوا حماية أبو عمّار يوم خروجه من بيروت
زيارة لمذكرات رئيس الوزراء اللبناني الراحل صائب سلام (الأخيرة): موقف القاهرة السلبي من عودة فؤاد شهاب للرئاسة دفعه إلى العزوف عن الترشح


مقالات ذات صلة

بومبيو في مذكراته: بوتين «فظ»... وشي «غشاش»

تحقيقات وقضايا الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائهما في القصر الرئاسي في هلسنكي في 16 يوليو 2018 (أ.ب)

بومبيو في مذكراته: بوتين «فظ»... وشي «غشاش»

كشف وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو، جوانب لم تكن معروفة من المقاربة التي اعتمدتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، لتطبيع العلاقات بين عدد من الدول العربية وإسرائيل. ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنَّه «فظ»، واعتبر أنَّ الرئيس الصيني «غشَّاش». وأوضح في مذكراته «لا تعطِ أي بوصة..

علي بردى (واشنطن)
شؤون إقليمية السيارة التي كان يستقلها سليماني مشتعلة بعد استهدافها بصواريخ أميركية قبل عامين (أ.ف.ب)

بومبيو: طهران معقل «القاعدة»... وهكذا قتلنا سليماني

اعتبر وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو في مذكراته «لا تعطِ أي بوصة، القتال من أجل أميركا التي أحب»، أنَّ النظام الإيراني الذي أسسه الخميني عام 1979 ما هو إلا «تنظيم إرهابي» يتَّخذ «هيئة دولة» لديها «حدود دولية» و«عملة إلزامية»، متهماً إياه برعاية جماعات مثل «حزب الله»، و«الجهاد الإسلامي»، و«حماس»، و«جماعة الحوثي»، سعياً إلى إقامة «هلال شيعي» يشمل العراق وسوريا ولبنان واليمن. وذهب بومبيو إلى أنَّه لا فرق بين إيران وتنظيمات مثل «القاعدة» التي يوجد «معقلها الرئيسي في طهران وليس في تورا بورا بأفغانستان». وكشف تفاصيلَ مثيرة عن عملية صنع القرار الذي أدَّى إلى استهداف قائد «فيلق القدس» لدى «

علي بردى (واشنطن)
تحقيقات وقضايا صدام وأفراد عائلته (إلى يساره عدنان خيرالله أخو زوجته ساجدة)، وفي الصف الثاني (يمين) حسين كامل زوج ابنته رغد (أ.ف.ب./غيتي)

الحلقة الثانية... أكد صدام أن بغداد مطوقة بأسوار دفاعية... لكن الدبابات الأميركية كانت على أبوابها

تنشر «الشرق الأوسط» اليوم الحلقة الثانية من كتاب الدكتور محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي السابق، «درء المجاعة عن العراق - مذكراتي عن سنين الحصار 1990 - 2003» (الذي يصدر قريباً عن دار «منتدى المعارف»). ويتناول الراوي مرحلة الانتفاضة ضد حكم الرئيس السابق صدام حسين، إثر خروجه مهزوماً من حرب تحرير الكويت، متهماً الإيرانيين بـ«الغدر» بالعراقيين بعدما وعدوهم بالوقوف إلى جانبهم إذا هاجمتهم أميركا، فإذا بهم يدعمون الثورة ضد حكم الرئيس العراقي.

كميل الطويل (لندن)
المشرق العربي صدّام لحسين كامل: صواريخك لا قيمة لها إذا جاع الشعب

صدّام لحسين كامل: صواريخك لا قيمة لها إذا جاع الشعب

يكشف محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي السابق، في كتاب جديد عنوانه «درء المجاعة عن العراق - مذكراتي عن سنين الحصار 1990 - 2003»، تنشر «الشرق الأوسط» اليوم وغداً مقتطفات منه، تفاصيل الجهود التي قام بها على رأس وزارته للتصدي للعقوبات التي فُرضت على العراق في أعقاب غزوه الكويت عام 1990 واستمرت حتى الغزو الأميركي للعراق عام 2003. ويتحدث الراوي بصراحة لافتة عن الخلافات التي كانت تعصف بنظام حكم صدام، وجزء منها مرتبط بالفريق حسين كامل، زوج ابنة الرئيس، قبل انشقاقه عام 1995.

كميل الطويل (لندن)
تحقيقات وقضايا جنود عراقيون يحتفلون بـ«الانتصار» في الحرب ضد إيران يوم 20 أبريل 1988 (أ.ف.ب)

الحلقة الأولى... علي صالح لصدام: الحرب واقعة... والهدف تدمير الجيش العراقي

يقدّم الدكتور محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي السابق، في كتابه الجديد «درء المجاعة عن العراق – مذكراتي عن سنين الحصار 1990 – 2003» (الذي يصدر قريباً عن دار «منتدى المعارف»)، رواية مفصلة عن الجهود التي قام بها على رأس وزارته للتصدي للعقوبات التي فُرضت على العراق في أعقاب غزوه الكويت عام 1990 واستمرت حتى الغزو الأميركي للعراق عام 2003.

كميل الطويل (لندن)

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.