الحلقة الأولى... علي صالح لصدام: الحرب واقعة... والهدف تدمير الجيش العراقي

«الشرق الأوسط» تنشر مقتطفات من كتاب «درء المجاعة عن العراق» لوزير التجارة السابق محمد الراوي

جنود عراقيون يحتفلون بـ«الانتصار» في الحرب ضد إيران يوم 20 أبريل 1988 (أ.ف.ب)
جنود عراقيون يحتفلون بـ«الانتصار» في الحرب ضد إيران يوم 20 أبريل 1988 (أ.ف.ب)
TT
20

الحلقة الأولى... علي صالح لصدام: الحرب واقعة... والهدف تدمير الجيش العراقي

جنود عراقيون يحتفلون بـ«الانتصار» في الحرب ضد إيران يوم 20 أبريل 1988 (أ.ف.ب)
جنود عراقيون يحتفلون بـ«الانتصار» في الحرب ضد إيران يوم 20 أبريل 1988 (أ.ف.ب)

يقدّم الدكتور محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي السابق، في كتابه الجديد «درء المجاعة عن العراق – مذكراتي عن سنين الحصار 1990 – 2003» (الذي يصدر قريباً عن دار «منتدى المعارف»)، رواية مفصلة عن الجهود التي قام بها على رأس وزارته للتصدي للعقوبات التي فُرضت على العراق في أعقاب غزوه الكويت عام 1990 واستمرت حتى الغزو الأميركي للعراق عام 2003. لكن الكتاب لا يتوقف فقط عند الجانب الاقتصادي البحت للعقوبات، والوسائل التي لجأ إليها العراقيون للالتفاف عليها خلال «سنوات الحصار» الطويلة، بل يقدّم أيضاً صورة لما كان يدور سراً –ويُحكى به همساً أحياناً– من نقاشات وخلافات بين أركان حكم الرئيس الراحل صدام حسين.
يتحدث الراوي بصراحة لافتة عن الخلافات التي كانت تعصف بنظام حكم صدام، وجزء منها مرتبط بالفريق حسين كامل زوج ابنة الرئيس العراقي قبل انشقاقه على عمّه عام 1995، وينقل عن صدام قوله في أحد الاجتماعات لحسين كامل الذي كان رئيساً لهيئة التصنيع الحربي: «صواريخك لا قيمة لها إذا جاع شعب العراق».
عمل الراوي في ديوان الرئاسة العراقية منذ العام 1982، وكان، كما يقول، على «تواصل مباشر» في العمل مع صدام حسين على مدى سبع سنوات، ولغاية تعيينه وزيراً للتجارة عام 1987. بعد الغزو الأميركي عام 2003، اعتُقل الراوي في سجن كروبر وكان يحمل الرقم 35 على لائحة «المطلوبين» الشهيرين للأميركيين من قادة النظام المنهار. ظل محتجزاً حتى العام 2012، وهو يعيش حالياً في الأردن. «الشرق الأوسط» تنشر، اليوم وغداً، مقتطفات من كتاب الراوي قبل صدوره:
يكتب الراوي في كتابه «درء المجاعة عن العراق»: «... في فترة حكم الرئيس الراحل عبد الرحمن عارف تمّ قطع العلاقات الكاملة مع الولايات المتّحدة الأميركية لمساندتها العدوان الإسرائيلي عام 1967 في احتلاله لمزيد من الأراضي العربية (الضفة الغربية وسيناء). وبقيت تلك العلاقة مقطوعة بعد ثورة (...) يوليو (تموز) عام 1968. وشارك الجيش العراقي بثقل كبير في حرب 1973 واستمرّت العلاقات مقطوعة مع أميركا لغاية عام 1982 حيث زار دونالد رامسفيلد بغداد مبعوثاً من الرئيس الأميركي رونالد ريغان. عرض في اللقاء، كما ذكر في كتابه (المعروف وغير المعروف)، وأيّده سكرتير الرئيس -آنذاك- حامد يوسف حمادي كما أبلغني في الزنزانة التي كنّا أنا وهو معتقلين فيها بعد احتلال العراق، في مقترح مدّ أنبوب للنفط عن طريق الأردن إلى ميناء العقبة، وإنشاء مصفى. وسأل الرئيس الراحل صدام حسين رامسفيلد فيما إذا كانت أميركا ستقدّم ضمانات بعدم تعرّض هذا المشروع لعدوان إسرائيلي، ولكن المبعوث الأميركي لم يعطِ أي ضمانات، وترك الموضوع الرئيس، ولم يطلب الرئيس الراحل -كما يقول رامسفيلد- أي مساعدة من أميركا في الحرب مع إيران بعد مرور ثلاث سنوات على اندلاعها، والتي كان يتوقّع رامسفيلد أن يطلبها الرئيس العراقي الراحل. ولكن كانت الزيارة تمثّل بداية فتح علاقات تجارية ومن ثمّ دبلوماسية بين البلدين».

الراوي (الثاني من اليمين) مع مسؤولين عراقيين وأردنيين في بغداد عام 2000 (غيتي)

أُعيدت العلاقات الدبلوماسية بالفعل عام 1986، ولكن سرعان ما انهارت بعد انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية. يقول الراوي: «في غمرة احتفالات الشعب العراقي بالنصر على إيران وافق مجلس النواب الأميركي، وبضغط من اللوبي الصهيوني المعادي للعراق، على فرض عقوبات على العراق في 22-9-1988 وذلك بعد خمسة وأربعين يوماً من توقّف الحرب. وتمّ إقرار مشروع فرض حصار أحادي الجانب من الولايات المتّحدة على العراق بموجب... لائحة التحريم (الإبادة الجماعية لعام 1988). ونصّ مشروع القرار (...) على إدانة العراق باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد الأكراد».

صدام حسين في صورة تعود للعام 1983 (غيتي)

ويتحدث الراوي عن قوة العراق النفطية قبل الحرب مع إيران وبعدها، فيقول: «لم يكن العراق بحاجة إلى القروض والتسهيلات الائتمانية في عقد السبعينات، خصوصاً بعد تأميم النفط الذي اتّخذ قراره الراحل صدام حسين حينما كان نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة مع رئيس مجلس قيادة الثورة رئيس الجمهورية الراحل أحمد حسن البكر، حيث ازدادت عائدات النفط من مليار دولار سنوياً إلى أن وصلت 26.4 مليار دولار عام 1980...»... لكنه يوضح: «لم يكن الإنفاق العسكري المتزايد طوال فترة السنوات الثماني للحرب العراقية - الإيرانية السبب الوحيد في تراكم الديون على العراق التي كان بدايتها منتصف عام 1984، وإنما أيضاً بسبب الانخفاض الكبير في إيرادات النفط جرّاء توقّف تصدير النفط عبر المنفذ الجنوبي الذي كان يصدّر العراق من خلاله ما يقارب ثلثي صادراته المحدّدة من قبل الأوبك، حيث أصبح المنفذ المذكور ضمن نطاق القصف الإيراني اليومي، بالإضافة إلى إيقاف سوريا التصدير من خلال الأنبوب المار عبر أراضيها إلى البحر المتوسط بطاقة تصدير تصل إلى 800 ألف برميل يومياً عام 1982 مساندة لإيران في حربها مع العراق، ما أسهم بالفعل في تراكم نصف ديون العراق البالغة 42 مليار دولار (عدا ديون الخليج) عند انتهاء الحرب عام 1988، ولم يبقَ سوى أنبوب النفط التركي بطاقة نصف مليون برميل يومياً».

حسين كامل زوج ابنة الرئيس العراقي (غيتي)

ويضيف أن انخفاض أسعار النفط في منتصف الثمانينات كان له «تأثير كبير في الوضع الاقتصادي» إذ تم اتخاذ «إجراءات تقشفية» في كثير من القطاعات بهدف ضمان عدم تأثر «خطط تأمين الغذاء والدواء والنفقات الخاصة بدعم المجهود الحربي». ويوضح: «لأوّل مرّة يتمكّن قطاع التصنيع العسكري بعد تولي صهر الرئيس الفريق حسين كامل مهمّة الإشراف على القطاع المذكور من تأمين نسبة عالية من احتياجات القوّات المسلّحة من الأعتدة الخفيفة وأعتدة المدفعية والقنابل وفقاً للتقارير الدورية التي كانت تَرد إلى الدائرة الاقتصادية من هيئة التصنيع العسكري بالإضافة إلى تطوير مدى الصواريخ لتصل إلى طهران، والتي كان لها تأثير في نتيجة الحرب لصالح العراق. ولقد تولّى الهيئة قبل الفريق حسين كامل كلّ من جواد لاوند، والفريق عامر السعدي، والفريق الركن الطيار جسام الجبوري، ولفترة قصيرة حامد يوسف حمادي». ويتابع: «(...) تبنّت قيادة التصنيع العسكري المتمثّلة بالفريق حسين كامل وكوادر التصنيع وبموافقة الرئيس، سياسة التوسّع في بناء القاعدة الصناعية الحربية. وإنتاج السلع الحربية المتطوّرة، والوصول إلى حلقات متقدّمة في تكنولوجيا الإنتاج الحربي، والعمل على استكمال برنامج الطاقة الذرية السلمي والحربي بعد أن تمّ نقل مهمّة ذلك من هيئة الطاقة الذرية إلى هيئة التصنيع العسكري. ومع ذلك كلّه أعطى الرئيس الراحل أولوية لتسديد ديون العراق. كانت تلك الأهداف العديدة والكبيرة والطموحة (...) تتطلّب موارد مالية ليست بالقليلة. وكان العراق الذي يمتلك ثاني احتياطي نفطي في العالم بعد السعودية، وأصبحت لديه طاقات تصديرية تصل إلى أكثر من أربعة ملايين برميل يومياً عن طريق المنفذ الجنوبي للعراق وعن طريق تركيا والسعودية، ولديه تفاؤل بتأمين الموارد الماليّة لتحقيق تلك الأهداف بالإضافة إلى تسديد الديون التي تحققت على العراق إبان الحرب الإيرانية - العراقية. وكان هذا التفاؤل يستند إلى استمرار التحسّن في أسعار النفط التي وصلت إلى 18 دولاراً للبرميل».
ويوضح: «لقد كانت عائدات النفط لا تلبّي الأهداف المشار إليها سابقاً. وبدأ التنافس الحاد بين هيئة التصنيع العسكري، وبين بقية الوزارات والجهات المسؤولة عن تنفيذ خططها المدرجة في المنهاج الاستثماري، والموازنة الجارية. ولقد أصبح الفريق حسين كامل بحكم السمعة التي اكتسبها في تطوير الإنتاج الحربي في السنوات الأخيرة من الحرب مع إيران، وصلة القرابة والمصاهرة من الرئيس الراحل، صاحب الكلمة الأولى في الدولة بعد الرئيس الراحل صدام حسين الذي كان بالإضافة إلى كونه رئيساً للجمهورية، رئيساً لمجلس الوزراء في الوقت ذاته. وتمّ تعيين الفريق حسين كامل نائباً لرئيس اللجنة الاقتصادية (غرفة العمليات الاقتصادية سابقاً)، والتي أصبح يرأسها نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية الدكتور سعدون حمادي، وعضوية وزراء التجارة، والمالية، والتخطيط ومحافظ البنك المركزي (وكنت آنذاك أتولّى مسؤولية وزارتي التجارة والمالية في آن واحد) ليؤثّر في القرار الاقتصادي لصالح هيئة التصنيع العسكري ووزارة الصناعة على حساب القطاعات الأخرى».
ويقول الراوي: «رغم اعتراضي المتواصل في اللجنة الاقتصادية ولجنة الموارد الماليّة على هذا الموقف الجديد فإن رئيس اللجنة وأعضاءها الآخرين لم يكونوا قادرين على معارضة نائب رئيس اللجنة. وحينما علم الرئيس الراحل بالأمر اتّصل بي هاتفياً وطلبني على عجل وأن أجلب معي الحاسبة التي يعلم الرئيس الراحل بأنها لا تفارقني وذلك لشرح الموضوع. وكان حاضراً في اللقاء لطيف نصيف جاسم، عضو القيادة القطرية ووزير الثقافة والإعلام. على أثر اللقاء ألغى قرارات اللجنة الاقتصادية فيما يتعلّق بجميع تخصيصات وزارة التجارة في المنهاج الاستيرادي المقترح لعام 1990 والتي تمّ تقليصها من اللجنة الاقتصادية، وأضاف خمسمائة مليون دولار إضافية لفقرة الغذاء، وطلب مني الظهور في ندوة تلفزيونية مع رئيس المؤسّسة العامّة للإذاعة والتلفزيون ماجد السامرائي، للإعلان عن تخصيص نصف مليار دولار لشراء لحوم وحليب كبار وأجبان للشعب العراقي بسبب التحسّن في أسعار النفط. وأبلغ الرئيس الراحل الفريق حسين كامل بحضوري وحضور عضو القيادة القطرية لطيف الدليمي بأن (صواريخك لا قيمة لها إذا جاع شعب العراق)».
- هيئة التصنيع العسكري
ويوجه الراوي انتقادات لكشف هيئة التصنيع العسكري عن إنتاجها إعلامياً والمبالغة فيه، قائلاً: «بدلاً من المنهج السرّي المعتمد من الدول المنتجة للأسلحة وعدم الاعتراف بالمحظور منها رغم إنتاجها لها، فإن المشرف على هيئة التصنيع العسكري وكوادره القيادية تبنّوا سياسة مغايرة، وذلك بالإعلان عن برامج وخطط ومنتجات التصنيع العسكري من دون التحسّب لردود الفعل الدولية، خصوصاً الولايات المتّحدة الأميركية وإسرائيل، حيث كان يتمّ الإعلان عن تلك البرامج قبل الوصول إلى الإنتاج الفعلي للأسلحة والمبالغة في الإعلان عنها وكشفها، خصوصاً السريّة منها أمام بعض الزائرين من الرؤساء والملوك. وكان الفعل الإعلامي الأوسع نطاقاً والأكثر ضرراً على التصنيع العسكري وعلى العراق هو إقامة معرض للصناعات العسكرية على أرض معرض بغداد الدولي التابع لوزارة التجارة، ودعوة وسائل الإعلام المحلّية والعربية والدولية، ودعوة سفراء الدول المقيمين والوفود لزيارة أجنحة المعرض والاطّلاع على المنتجات وعلى الخطط المستقبلية من خلال الشروحات التي كان يقدّمها ممثّلو هيئة التصنيع العسكري في أجنحة المعرض للزائرين. ولقد صادف أن رافقت بعض المسؤولين ومنهم نائب رئيس الجمهورية طه ياسين رمضان، واستمعت إلى شروحاتهم المبالغ فيها. وكان هذا الإجراء بحدّ ذاته يمثل عنصر استفزاز وتحريض للإدارة الأميركية وإسرائيل اللتين كانتا تتابعان كلّ خطوة لها أثّر في تهديد أمن إسرائيل».
- غزو الكويت والعقوبات
يقول الراوي عن فترة ما بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990:
«كوني وزيراً للتجارة، ووزيراً للمالية بالوكالة، عندما فرض الرئيس بوش الحصار الأميركي الشامل على العراق، وجمّد أرصدته وممتلكاته في الولايات المتّحدة، توجّهت صباح يوم 3 أغسطس (آب) 1990 إلى البنك المركزي للاطّلاع على موجودات العراق من العملة الصعبة في البنوك الخارجية وفي خزائن البنك المركزي. طلبت من محافظ البنك صبحي فرنكول والذي كان من الكوادر المصرفية المهنية البارزة في العراق أن يبدأ فوراً بتحويل أرصدة العراق المودعة في البنوك كافة خارج العراق إلى البنك المركزي الأردني، إلا أنه اعتذر عن تنفيذ ذلك باعتبار أن البنك المركزي ليس مرتبطاً بوزير الماليّة وإنما مرتبط مباشرة بديوان الرئاسة في رئاسة الجمهورية. وطلب أن أستحصل موافقة رئيس الجمهورية. اتّصلت بسكرتير رئيس الجمهورية حامد يوسف حمادي، لعرض الموضوع على الرئيس لاستحصال موافقته والذي أجابني بعد ساعتين بموافقة الرئيس على السير بالإجراء». ويتابع: «أما في داخل العراق فلا توجد مبالغ بالعملة الصعبة مودعة في البنك المركزي أو في مصرفي الرافدين والرشيد الحكوميين سوى مبالغ عائدة للسفارات الأجنبية والمنظّمات الدولية لتغطية نفقاتها المحلّية وكمية من الذهب مودعة في خزانة البنك المركزي اشتراها محافظ البنك المركزي الأسبق حسن النجفي في فترة السبعينات ولم يتمّ بيعها في الثمانينات في أثناء الحرب الإيرانية - العراقية بسبب انخفاض سعر أونصة الذهب عن سعر الشراء البالغ 450 دولاراً للأونصة آنذاك. وقدّر المحافظ قيمتها بما لا يتجاوز خمسمائة وخمسين مليون دولار بالإضافة إلى المخشلات الذهبية التي تبرعت بها الماجدات العراقيات لدعم المجهود الحربي في أثناء الحرب الإيرانية - العراقية، والتي قدّر المحافظ قيمتها بحدود خمسة وخمسين مليون دولار (...) في ضوء ذلك أصبح الرصيد المتاح من العملة الصعبة الذي هو بيد الدولة بحدود 700 مليون دولار. وهذا المبلغ يشكل 28 في المائة من الحاجة السنوية للغذاء المستورد».
ويروي الراوي قائلاً: «في يوم 13-8-1990 طلبني الرئيس الراحل مع وزير الزراعة والري محمود الصباغ، واجتمعنا معه في كرفان في إحدى مزارع الرضوانية. وأبلغنا بأن نستعدّ للحرب. وأبلغني في الاجتماع أن أبدأ فوراً بخزن القمح والشعير تحت الأرض (بطريقة الجفر باللغة المحلّية) لحمايتها من الضربات الجوّية المتوقّعة على صوامع خزن الحبوب إذا نشبت الحرب، وكذلك تشتيت الخزين الغذائي في مواقع متفرّقة في بغداد والمحافظات وللغرض نفسه. كما تمّ اعتماد سياسة دعم أسعار شراء الحبوب (القمح والشعير والأرز) بأسعار مشجّعة من وزارة التجارة تعلن سنوياً. ووافق على طلبي حصر الذهب المتاح لدى البنك المركزي لأغراض البطاقة التموينيّة. كما وافق على طلبي إعادة استحداث الشركة العامّة للمطاحن والأفران التي تتولّى إنتاج الدقيق والخبز والصمون، وتشرف على المطاحن والمخابز العائدة للقطاع الخاصّ، والتي تمّ دمجها مع شركة تجارة الحبوب عام 1988 ضمن حملة ترشيق أجهزة الدولة، وإعادة تعيين مديرها العام السابق غازي الربيعي. وصدر بعد يومين قرار من مجلس قيادة الثورة بذلك، كما أبلغني الرئيس بإيقاف تجهيز النخالة إلى وزارة الصناعة تحوّطاً للاضطرار إلى استخدامها للاستهلاك البشري».
وعن الاستعدادات العراقية لحرب تحرير الكويت عام 1991، يقول الراوي: «تمّ تأمين حاجات كلّ محافظة من الموادّ الغذائية والحبوب كافة لكي لا يحصل عجز في خزين أي محافظة في أثناء الحرب ويصعب إيصال الغذاء لها من المحافظات الأخرى من خلال المناقلة التي تجري في الظروف الاعتيادية. وتمّ التركيز في الخزين الاستراتيجي على محافظتي كربلاء والنجف لأنهما محافظتان دينيتان يُستبعد أن تتعرضا للقصف الجوّي. والأمر نفسه بالنسبة إلى محافظات الحكم الذاتي التي عُدّت هي ومحافظتا كربلاء والنجف من المحافظات الآمنة. ويضاف إلى ذلك إبلاغ أصحاب المطاحن والأفران في بغداد والمحافظات بتأمين خزين كافٍ من الوقود لاستمرار عملهم إذا تعرّضت المنشآت النفطية للقصف الجوّي (...)
قبل أسبوع من انتهاء المهلة الزمنية من مجلس الأمن للعراق سافرت إلى عمّان، ومنها إلى اليمن للقاء الرئيس الراحل علي عبد الله صالح للسماح للوزارة بنقل حمولة باخرة السكر، والتي تمّ تفريغها في ميناء الحديدة من الشركة الناقلة مباشرةً بعد فرض الحصار، إلى ميناء العقبة الأردني. وصلت إلى العاصمة صنعاء وكان الرئيس علي عبد الله صالح في مقرّه الثاني في عدن. رافقني في سفرتي إلى عدن الدكتور محمد سعيد العطار وزير الاقتصاد اليمني. وأصدر الرئيس اليمني موافقته على السماح بنقل الباخرة حسب طلبي. وذكر في أثناء دعوة الغداء أن رأي القيادة اليمنية أن الحرب ستحصل، وأن التجمّع العسكري لقوّات التحالف هدفه الأساسي هو تدمير الجيش العراقي، والحرب ستقع في كلّ الأحوال، وطلب نقل هذه الرسالة إلى الرئيس، وتمّ إبلاغ الفريق عبد حميدي مرافق الرئيس بذلك».
ويتحدث عن بدء الضربات الأميركية في يناير (كانون الثاني) 1991 قائلاً:
«لقد كنت أتابع مع المديرين العامّين نشاط شركات وزارة التجارة في بغداد ومديري الفروع في بقيّة المحافظات (...) اشتدّ القصف الجوّي على الطريق، ورسم خطّاً نارياً شكّلته سلسلة القنابل من طائرات تبيّن لاحقاً أنها بـ52 على يسارنا في الجهة الأخرى للطريق السريع المتوجّه نحو البصرة يتحرك بالاتّجاه الذي نسير فيه. كانت الكتلة النارية المتحرّكة لو انحرفت بالملليمترات من الجو لكنا داخلها. عندها شعرنا بأننا اقتربنا من النهاية، ولكن إرادة الله أنقذتنا. استمرّ الوضع على هذه الحال، والقصف المتبادل شديد لمدّة ثلاثة أرباع الساعة. بدأ القصف يخفّ فطلبت من السائق أن يفتح الضوء الجانبي ثمّ الضوء العادي لحين خروجنا من الطريق السريع إلى مدينة الناصرية عبر الطريق القديم. وصلنا إلى مدينة الناصرية منتصف الليل وهي في ظلام دامس... وعند دخولنا المستشفى أُصبنا بصدمة لا تقلّ عمّا شاهدناه في الطريق، حيث جثث الشهداء من المدنيين مكدّسة في ممرّات المستشفى نتيجة حملة جوية عنيفة على الناصرية». ويقول: «لقد تعدّت الحملة الجوّية لقوّات التحالف هدف إخراج القوّات العراقية من الكويت لتحمل خطّة تدميرية للعراق وتقويض كلّ المنجزات التي حققها والتي ليس لها علاقة بالحرب».
- صدّام يرفض عرضاً حول التسوية في الشرق الأوسط
> يقول الراوي في كتابه: «بتاريخ 4 أغسطس (آب) 2010، أخبرني سكرتير الرئيس الراحل حامد حمادي ونحن معاً في الزنزانة نفسها في سجن الحماية القصوى في الكاظمية العائد لوزارة العدل العراقية بعد انتقالنا من معتقل كروبر تحت سلطة القوّات الأميركية منذ اعتقالي في 23 أبريل (نيسان) 2003، أنّ الرئيس الراحل قد كلّفه بكتابة مذكراته، واقترح عليه عنوان (كنت سكرتيراً للرئيس صدام) وقد أكمل كتابتها في المعتقل، حيث يتمتع بذاكرة قويه صافية، وكان كفؤاً ودقيقاً في أداء عمله كسكرتير مع ميزة التغطية الكاملة والدقيقة للقاءات الرئيس مع الضيوف. وكانت القيود المفروضة على سرّية المعلومات قد انتهت بعد احتلال العراق. وتعرّفت على حامد يوسف حمادي، لأوّل مرّة عند مباشرتي العمل في رئاسة الجمهورية بداية الشهر الأول من عام 1982، حيث كان يشغل منصب مدير الديوان مع صديق الرئيس الشخصي حاتم العزاوي المستشار السياسي، وصديقه الشخصي الآخر اللواء صادق شعبان، والدكتور حكمت عمر الحديثي، بالإضافة إلى اللواء طارق حمد العبد الله سكرتير الرئيس أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية الذي استمرّ بعمله حينما تولّى الرئيس الراحل منصبه كرئيس للجمهورية في يوليو (تموز) عام 1979. (وكان هؤلاء الثلاثة عند مباشرتي العمل يشكّلون الكادر المتقدّم في ديوان الرئاسة). ولقد كان المتوقّع أن ينشر تلك المذكّرات، إلا أنه انتقل إلى جوار ربّه بعد بقائه في غرفة الإنعاش على جهاز التنفس الصناعي في دبي لمدّة تزيد على نصف عام، وجدت نفسي مضطراً لأن أشير إلى المعلومة التالية التي لها صلة بموضوع القوّة العسكرية والصناعية التي خرج العراق بعد انتهاء الحرب الإيرانية - العراقية، وصلتها بقضية الصراع العربي - الصهيوني. وتتلخّص المعلومة وحسبما أوردها مضموناً وليس نصّاً:
في يوم 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 سافرت بطائرة خاصة إلى جنيف في سويسرا لتسلم رسالة من شقيقه برزان، ممثّل العراق الدائم في جنيف، موجّهة إلى الرئيس صدام حسين من جهة لم يشأ ذكرها. وتضمّنت فحوى الرسالة الموجّهة إلى الرئيس بأنكم خرجتم بقوّة عسكرية وصناعية في التسليح لا يحتاج إليها العراق بهذا الحجم بعد انتهاء الحرب. ونحن لا نطلب منك أن تقبل بمشروع التسوية بين إسرائيل والفلسطينيين ولا أن تكون جزءاً منه. ولكن الذي نطلبه أن تكفّ يدك عن إسرائيل، وألا تتدخّل بين الطرفين في حلّ الموضوع، وتتخلّى عن موقفك المتشدّد. ونحن ليس لدينا تحفظ أن تكون أقوى زعيم في المنطقة. ويستطرد حامد يوسف حمادي: قدّمت الرسالة في ملف البريد بعد عودتي. وبعد عشر دقائق عادت الرسالة وعليها تعليق الرئيس نصّ قول الرسول ﷺ: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه». يقول دخلت على الرئيس وقلت له: سيدي ما التوجيه الذي أبلغ به؟ فأشار بيده إلى التعليق. واتّصلت هاتفياً بشقيق الرئيس برزان لأبلغه بعدم الموافقة. وكان الردّ: أريد جواباً واضحاً. فقلت له: تأتي إلى بغداد لتسلمه. وحينما وصل الجواب إلى مصدر الرسالة كان رد الفعل: ضاع العراق».
الحلقة الثانية... أكد صدام أن بغداد مطوقة بأسوار دفاعية... لكن الدبابات الأميركية كانت على أبوابها


مقالات ذات صلة

بومبيو في مذكراته: بوتين «فظ»... وشي «غشاش»

تحقيقات وقضايا الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائهما في القصر الرئاسي في هلسنكي في 16 يوليو 2018 (أ.ب)

بومبيو في مذكراته: بوتين «فظ»... وشي «غشاش»

كشف وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو، جوانب لم تكن معروفة من المقاربة التي اعتمدتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، لتطبيع العلاقات بين عدد من الدول العربية وإسرائيل. ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنَّه «فظ»، واعتبر أنَّ الرئيس الصيني «غشَّاش». وأوضح في مذكراته «لا تعطِ أي بوصة..

علي بردى (واشنطن)
شؤون إقليمية السيارة التي كان يستقلها سليماني مشتعلة بعد استهدافها بصواريخ أميركية قبل عامين (أ.ف.ب)

بومبيو: طهران معقل «القاعدة»... وهكذا قتلنا سليماني

اعتبر وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو في مذكراته «لا تعطِ أي بوصة، القتال من أجل أميركا التي أحب»، أنَّ النظام الإيراني الذي أسسه الخميني عام 1979 ما هو إلا «تنظيم إرهابي» يتَّخذ «هيئة دولة» لديها «حدود دولية» و«عملة إلزامية»، متهماً إياه برعاية جماعات مثل «حزب الله»، و«الجهاد الإسلامي»، و«حماس»، و«جماعة الحوثي»، سعياً إلى إقامة «هلال شيعي» يشمل العراق وسوريا ولبنان واليمن. وذهب بومبيو إلى أنَّه لا فرق بين إيران وتنظيمات مثل «القاعدة» التي يوجد «معقلها الرئيسي في طهران وليس في تورا بورا بأفغانستان». وكشف تفاصيلَ مثيرة عن عملية صنع القرار الذي أدَّى إلى استهداف قائد «فيلق القدس» لدى «

علي بردى (واشنطن)
تحقيقات وقضايا صدام وأفراد عائلته (إلى يساره عدنان خيرالله أخو زوجته ساجدة)، وفي الصف الثاني (يمين) حسين كامل زوج ابنته رغد (أ.ف.ب./غيتي)

الحلقة الثانية... أكد صدام أن بغداد مطوقة بأسوار دفاعية... لكن الدبابات الأميركية كانت على أبوابها

تنشر «الشرق الأوسط» اليوم الحلقة الثانية من كتاب الدكتور محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي السابق، «درء المجاعة عن العراق - مذكراتي عن سنين الحصار 1990 - 2003» (الذي يصدر قريباً عن دار «منتدى المعارف»). ويتناول الراوي مرحلة الانتفاضة ضد حكم الرئيس السابق صدام حسين، إثر خروجه مهزوماً من حرب تحرير الكويت، متهماً الإيرانيين بـ«الغدر» بالعراقيين بعدما وعدوهم بالوقوف إلى جانبهم إذا هاجمتهم أميركا، فإذا بهم يدعمون الثورة ضد حكم الرئيس العراقي.

كميل الطويل (لندن)
المشرق العربي صدّام لحسين كامل: صواريخك لا قيمة لها إذا جاع الشعب

صدّام لحسين كامل: صواريخك لا قيمة لها إذا جاع الشعب

يكشف محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي السابق، في كتاب جديد عنوانه «درء المجاعة عن العراق - مذكراتي عن سنين الحصار 1990 - 2003»، تنشر «الشرق الأوسط» اليوم وغداً مقتطفات منه، تفاصيل الجهود التي قام بها على رأس وزارته للتصدي للعقوبات التي فُرضت على العراق في أعقاب غزوه الكويت عام 1990 واستمرت حتى الغزو الأميركي للعراق عام 2003. ويتحدث الراوي بصراحة لافتة عن الخلافات التي كانت تعصف بنظام حكم صدام، وجزء منها مرتبط بالفريق حسين كامل، زوج ابنة الرئيس، قبل انشقاقه عام 1995.

كميل الطويل (لندن)
تحقيقات وقضايا صائب سلام مع جمال عبد الناصر

صائب سلام يروي تفاصيل نهاية «الحكم الشهابي»

في آخر حلقة من مذكراته تنشرها «الشرق الأوسط» اليوم، يروي رئيس الحكومة اللبنانية الراحل صائب سلام، قصة المفاوضات التي انتهت بانتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية في لبنان سنة 1970، منهياً «الحكم الشهابي» ممثلاً بالرئيس فؤاد شهاب، كاشفاً أن الموقف السلبي المصري من عودته كان من أبرز العوامل وراء عزوفه عن الترشح. يقول سلام إنه في 28 يوليو (تموز) 1970 «دعوتُ إلى اجتماعٍ مسائيّ، حضره عديد من النوّاب والفعاليات، ومن بينهم كامل الأسعد، وكمال جنبلاط، وتقي الدين الصلح. وخلال ذلك الاجتماع، استعرضنا العديد من الأسماء المرشّحة، ثمّ فجأة ومن دون مقدّمات، طرحتُ اسم سليمان فرنجيّة».

«الشرق الأوسط» (بيروت)

خيارات «داعش» في سوريا... والاستثمار في «خيبات الجهاديين»

«داعش» يستعيد نشاطه في سوريا ويهدد استقرار المنطقة (أرشيفية- أ ف ب)
«داعش» يستعيد نشاطه في سوريا ويهدد استقرار المنطقة (أرشيفية- أ ف ب)
TT
20

خيارات «داعش» في سوريا... والاستثمار في «خيبات الجهاديين»

«داعش» يستعيد نشاطه في سوريا ويهدد استقرار المنطقة (أرشيفية- أ ف ب)
«داعش» يستعيد نشاطه في سوريا ويهدد استقرار المنطقة (أرشيفية- أ ف ب)

على رغم خسارته آخر معاقله في الباغوز القريبة من الحدود العراقية بريف دير الزور في مارس (آذار) 2019، ظل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يشكل تهديداً جدياً لأمن سوريا واستقرارها عبر «مجموعات متنقلة» تنشط عبر البادية السورية. ومع سقوط النظام السوري في ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان متوقعاً أن يعيد التنظيم رسم استراتيجياته والتكيّف مع الواقع الأمني الجديد.

ولم تفلح الحملات العسكرية التي شنّها النظام السابق بدعم جوي روسي، والحملات التي شنتها «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) بدعم من طيران التحالف الدولي في القضاء على التنظيم وتهديداته. كما أن سياسات الولايات المتحدة التي ركزت على منع ظهور التنظيم أو عودته إلى المدن مجدداً حققت نجاحات نسبية في إضعاف قدرات التنظيم العسكرية والقضاء على معظم قيادات الصفوف الأولى والثانية فيه، لكن التنظيم لا يزال يشكل تهديداً بشكل ما، وقد يستثمر في الأوضاع الأمنية «الهشة» في سوريا، ومع الانسحاب الأميركي المرتقب.

ولعل أحدث وأبرز تهديد للتنظيم هو البيان المصور الذي أصدره «داعش» في 20 أبريل (نيسان) 2025، مهدداً الرئيس أحمد الشرع، ومحذراً إياه من الانضمام إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب، بعد طلب رسمي أميركي لمشاركة سوريا الجديدة في جهود مكافحة التنظيم وتفرعاته.

الرئيس السوري أحمد الشرع وعقيلته لطيفة الدروبي يستقبلان مجموعة من الأطفال السوريين في قصر الشعب بدمشق أول أيام عيد الفطر (أ.ف.ب)
الرئيس السوري أحمد الشرع وعقيلته لطيفة الدروبي يستقبلان مجموعة من الأطفال السوريين في قصر الشعب بدمشق أول أيام عيد الفطر (أ.ف.ب)

ومنذ سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر 2024، رصدت «الشرق الأوسط» تصاعداً لافتاً في خطاب «داعش» الإعلامي عبر مجلة «النبأ»، التي بدأت في شن حملات تحريضية ضد الإدارة السورية الجديدة ورئيسها أحمد الشرع. ركزت هذه الحملات على مهاجمة سعي الحكومة الجديدة لبناء علاقات مع الدول العربية والمجتمع الدولي، عادّةً ذلك «خيانة» لتضحيات السوريين وتنازلاً عن مبدأ «تحكيم الشريعة» الذي لطالما تحدثت به «جبهة النصرة» بقيادة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في مرحلة ما، وهو الشعار نفسه الذي يرفعه التنظيم ذريعةً لوجوده، ولكسب المزيد من الأنصار والمؤيدين.

سلسلة ضربات موجعة

لكن واقعياً، وعلى رغم هذا التصعيد الإعلامي، فقد شهد الميدان العسكري تغيراً ملحوظاً؛ إذ اختفى تقريباً النشاط المسلح للتنظيم في البادية، وهو ما أثار تساؤلات عن طبيعة المرحلة المقبلة في استراتيجية التنظيم، لكن لا يخفى أيضاً إن «داعش»، ومنذ ديسمبر الماضي، تلقى سلسلة من الضربات الأمنية المؤثرة؛ ففي 11 ديسمبر، ومباشرة بعد استلامها زمام الأمور في سوريا عقب سقوط نظم بشار الأسد، أعلنت الحكومة السورية الجديدة بقيادة الشرع إحباط مخطط لاستهداف مقام السيدة زينب جنوب دمشق واعتقال خلية تابعة للتنظيم.

وفي 16 من الشهر نفسه، نفذت القيادة المركزية الأميركية غارات جوية قتلت 12 عنصراً من «داعش»، وبعد هذا بثلاثة أيام فقط، قُتل قيادي آخر للتنظيم في دير الزور فيما يعتقد أنه بتنسيق مع الإدارة الجديدة.

وفي 23 ديسمبر، استهدفت غارة أميركية شاحنة أسلحة تابعة للتنظيم، ثم في يناير (كانون الثاني) 2025، دعمت الولايات المتحدة عملية لـ«قسد» أدت إلى اعتقال زعيم خلية هجومية. وفي 16 فبراير (شباط) 2025، اعتقلت السلطات السورية الجديدة أبو الحارث العراقي، المتهم بالتخطيط لهجمات إرهابية داخل العاصمة دمشق.

بعض المراقبين يرجعون السكون الذي يقابل به التنظيم هذه العمليات النوعية، إلى استراتيجية جديدة يتبعها وتقوم على تخفيف الظهور العلني لتقليل الضغط الأمني عليه، وإعادة ترتيب صفوفه بعيداً من الأنظار. كذلك، يبدو التنظيم حريصاً الآن على إعطاء انطباع بأنه غير نشط؛ ما يمنحه فرصة لإعادة بناء خلاياه بهدوء في المدن والقرى بعيداً من رقابة الأجهزة الأمنية المتمركزة في المدن.

تغيير في التكتيك

وخلال سنوات، طوّر «داعش» أساليب قتاله التكتيكية بالاعتماد على هجمات ليلية خاطفة ينفذها أفراد معدودون ضمن «مجموعات صغيرة متنقلة» تضم ما بين ثلاثة إلى خمسة أشخاص سرعان ما ينسحبون إلى مواقع انطلاقهم؛ ما يصعّب تتبعهم ويقلّل من فرص استهدافهم. هذه التكتيكات جعلت التنظيم يحتفظ بحضور نشط دون الحاجة إلى قواعد دائمة أو مراكز قيادية مكشوفة؛ الأمر الذي أربك جهود القضاء عليه لعقود.

عراقيات أمام «مخيم الجدعة» جنوب الموصل عام 2024 بعد نقلهن من مخيمات لعوائل «داعش» شمال شرقي سوريا (إكس)
عراقيات أمام «مخيم الجدعة» جنوب الموصل عام 2024 بعد نقلهن من مخيمات لعوائل «داعش» شمال شرقي سوريا (إكس)

وفي مناطق سيطرة «قسد»، تبنى التنظيم نمطاً آخر من العمل، مستغلاً التوترات العشائرية والخلافات المحلية.

مصادر عشائرية تحدثت لـ«الشرق الأوسط» وكشفت عن أن بعض الهجمات التي استهدفت «قوات سوريا الديمقراطية» نُفذت من قِبل أفراد عشائر محليين، لا يرتبطون تنظيمياً بـ«داعش» بشكل رسمي، ولكنهم تحركوا وفق تكتيك التنظيم للمناورة الأمنية والتخفي؛ ما زاد من صعوبة كشف هوية الفاعلين الحقيقيين، وأضفى طابعاً منظّماً على أعمال فردية متفرقة، وهذا يعني أن التنظيم يجد في هذه البيئة فرصة لزيادة نشاطه ووجوده، مستغلاً غضب المجتمع العشائري على قوات «قسد».

خبرة إدلب والاستراتيجية الشاملة

في السياق، صرح مسؤول في الأمن العام السوري لـ«الشرق الأوسط»، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، قائلاً: «نحن خبرنا (داعش) جيداً في إدلب وتمكنا سابقاً من تفكيك خلاياه، حتى في أوقات كان التنظيم أقوى مادياً وأمنياً، بينما كنا نحن أضعف من اليوم. لكننا الآن أكثر جاهزية وخبرة».

تركيا والأردن وسوريا والعراق سيتخذون خطوات نحو مكافحة تنظيم «داعش» (رويترز)
تركيا والأردن وسوريا والعراق سيتخذون خطوات نحو مكافحة تنظيم «داعش» (رويترز)

وأكد المسؤول أن الحكومة السورية الجديدة تعتمد «استراتيجية أمنية شاملة تقوم على إعادة بناء الأجهزة الأمنية وتنسيق عملها للكشف المبكر عن الخلايا النائمة، تعزيز التعاون مع دول الجوار لضبط الحدود ومنع عبور المقاتلين، ومواجهة خطاب التنظيم المتطرف عبر حملات توعية مجتمعية ومراقبة النشاط الإلكتروني، وتفكيك البيئات الحاضنة عبر تحسين الخدمات الأساسية، ومكافحة الفساد، وتوسيع برامج التنمية المحلية».

وأضاف المصدر الأمني، أنه لا يستبعد «استهداف التنظيم شخصيات مدنية أو أمنية بارزة عبر عمليات سريعة، مثل تفجير عبوات ناسفة صغيرة، أو تنفيذ عمليات اغتيال انتقائية»، مؤكداً أن «التنظيم في داخل المدن قد يعتمد الخلايا النائمة لتنفيذ مثل هذه العمليات، كما أنه من الممكن له أن يستغل الأحياء العشوائية والمناطق غير المنظمة مخابئ مؤقتة؛ ما يفرض تحديات إضافية على الأجهزة الأمنية».

تحريض ضد الإدارة الجديدة

رأى الباحث في مركز «أبعاد»، عرابي عرابي، أن التنظيم يمر الآن «في مرحلة الإنهاك والاستنزاف، ويحاول تأسيس خلايا صغيرة لضرب الاستقرار الأمني دون أن يسعى للسيطرة على مناطق جغرافية كما كان في السابق»، وأوضح عرابي لـ«الشرق الأوسط» أن التنظيم «يواجه شحاً في الموارد المالية والكوادر البشرية، بالإضافة إلى ضغط إقليمي متزايد بفضل تحسن التعاون الأمني بين سوريا والعراق». لكن، وبحسب عرابي: «سيحاول تنظيم (داعش) استغلال حالات السخط داخل صفوف الفصائل المسلحة الأخرى، خصوصاً بين المقاتلين من ذوي الخلفيات الجهادية الذين قد يشعرون بخيبة أمل تجاه خطاب الحكومة السورية الجديدة الذي يبتعد عن الطرح الإسلامي».

وبحسب عرابي، يعتمد التنظيم على «خطاب تحريضي» متزايد يصور الإدارة الجديدة «خائنةً لدماء السوريين»، مستغلاً قضايا مثل «تأخر العدالة الانتقالية، والشعور بالتهميش الإداري أو الإقصاء السياسي، كما يعمل على بث دعايته عبر قنوات (تلغرام) وشبكات إعلامية سرية».

ولم تستثن هذه الحملات التي تبادلتها مجموعات عبر وسائل التواصل الجانب الشخصي للرئيس الشرع لتحسب ضده تفاصيل كثيرة، بدءاً بمظهره ولباسه والصورة العامة التي يسعى إلى تصديرها للخارج عن حاكم سوريا الجديدة، لا سيما تلك التي جمعته بزوجته في لقاء أنطاليا الأخير.

وتواجه الحكومة السورية الانتقالية تحديات كبيرة في تحقيق الاستقرار الأمني والاقتصادي في البلاد مع واقع معقد يشير إلى انقسامات داخلية وتوترات مع قوات «قسد» في شمال شرقي سوريا ومع بقايا النظام السابق في مناطق الساحل، بالإضافة إلى علاقة شائكة بأبناء الطائفة الدرزية.

في الوقت نفسه، تحاول الإدارة اكتساب شرعية «دولية» وعربية وإرساء أسس حكم فعلي، فحتى الآن لم تعترف الولايات المتحدة «رسمياً»، ولا تزال غالبية العقوبات الدولية مفروضة على سوريا، في حين اتخذت دعوة الرئيس الشرع إلى القمة العربية المقبلة في بغداد مفاوضات دبلوماسية عدّة قبل أن يتم توجيهها بشكل رسمي.

وفي ظل هذه التعقيدات، لا شك في أن تنظيم كـ«داعش» سوف يستغل حالة عدم الاستقرار والفراغ الأمني مع افتقار الحكومة الجديدة إلى قوات كافية لتأمين البادية السورية والمناطق النائية. ويوفّر العنف الطائفي المستمر والعداوات في أجزاء مختلفة من البلاد بيئة مواتية لعمل التنظيم خاصة مع تلكؤ الإجراءات الحكومية في تحقيق العدالة الانتقالية لإنصاف ذوي ضحايا النظام السابق؛ ما يدفع التنظيم إلى أن يقدم نفسه على أنه «البديل» الأفضل من الحكومة للقصاص من المتورطين بالدم السوري، وهذا ما تفصح عنه أدبيات التنظيم وخطابه الإعلامي في الأسابيع الأخيرة، بحسب أكثر من موقع إلكتروني تابع له.

قافلة من النساء من عوائل «داعش» خلال معركة الباغوز (أ.ف.ب)
قافلة من النساء من عوائل «داعش» خلال معركة الباغوز (أ.ف.ب)

وما يزيد المخاوف أكثر من التجنيد المحتمل بين صفوفه، هو التركيز على إطلاق سراح السجناء من قياداته ومقاتليه ويجاورون بضعة آلاف محتجزين لا يزالون تحت إشراف قوات «قسد» ومصيرهم يخضع لشد وجذب.

لذلك؛ قد تكون مواجهة التنظيم واحدة من أكبر التحديات العلنية والضمنية المطروحة على الحكومة الجديدة؛ لما يتطلبه الأمر من موازنة بين ما تفرضه شروط إدارة دولة من سيطرة على كامل التراب السوري، وتخفيف الانقسامات المجتمعية والصعوبات الاقتصادية من جهة والعمل على تبديد انتشار آيديولوجيا التنظيم وإلحاق المقاتلين والبيئة الحاضنة له بالتغيير الجذري الذي طرأ على «هيئة تحرير الشام» نفسها. وذلك لا يتم إلا بالتنسيق مع الدول الفاعلة لتبادل المعلومات الاستخباراتية وتعطيل القدرات المالية للتنظيم والحد من عمليات التجنيد، إضافة إلى دعم المجتمع الدولي لجهود تحقيق الاستقرار في سوريا.