صائب سلام يروي تفاصيل نهاية «الحكم الشهابي»

«الشرق الأوسط» تنشر الحلقة الأخيرة من مذكراته

صائب سلام مع جمال عبد الناصر
صائب سلام مع جمال عبد الناصر
TT
20

صائب سلام يروي تفاصيل نهاية «الحكم الشهابي»

صائب سلام مع جمال عبد الناصر
صائب سلام مع جمال عبد الناصر

في آخر حلقة من مذكراته تنشرها «الشرق الأوسط» اليوم، يروي رئيس الحكومة اللبنانية الراحل صائب سلام، قصة المفاوضات التي انتهت بانتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية في لبنان سنة 1970، منهياً «الحكم الشهابي» ممثلاً بالرئيس فؤاد شهاب، كاشفاً أن الموقف السلبي المصري من عودته كان من أبرز العوامل وراء عزوفه عن الترشح.
يقول سلام إنه في 28 يوليو (تموز) 1970 «دعوتُ إلى اجتماعٍ مسائيّ، حضره عديد من النوّاب والفعاليات، ومن بينهم كامل الأسعد، وكمال جنبلاط، وتقي الدين الصلح. وخلال ذلك الاجتماع، استعرضنا العديد من الأسماء المرشّحة، ثمّ فجأة ومن دون مقدّمات، طرحتُ اسم سليمان فرنجيّة». ويضيف: «عدنا إذن إلى الأسطوانة نفسها، أسطوانة أنّني إذا أيّدت شهاب أضمن رئاسة الحكومة. وهنا وجدتُ لزاماً عليّ أن أعود، أنا نفسي، إلى تكرار أسطوانتي التي يعرفونها: أفهمتهم أنّني لست ممن يتطلّعون إلى رئاسات أو كراسي».
ويروي سلام أن رشيد كرامي توجّه للقاهرة لاستطلاع رأيها النهائي في الأمر، وأنّ فشل رحلة كرامي كان السبب المباشر لإصدار شهاب ليلة 4 أغسطس (آب)، بياناً أعلن فيه عزوفه عن ترشيح نفسه. ويمضي: «تمّ كلّ شيء كما كنا نريد، وجرت الانتخابات يوم 17 أغسطس، وكان الفوز من نصيب مرشّحنا سليمان فرنجيّة (...) شعرت بشيء من الراحة، ولكنّني شعرتُ أيضاً بأنّ ثمّة معارك جديدة تنتظرني».
... المزيد


مقالات ذات صلة

بومبيو في مذكراته: بوتين «فظ»... وشي «غشاش»

تحقيقات وقضايا الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائهما في القصر الرئاسي في هلسنكي في 16 يوليو 2018 (أ.ب)

بومبيو في مذكراته: بوتين «فظ»... وشي «غشاش»

كشف وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو، جوانب لم تكن معروفة من المقاربة التي اعتمدتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، لتطبيع العلاقات بين عدد من الدول العربية وإسرائيل. ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنَّه «فظ»، واعتبر أنَّ الرئيس الصيني «غشَّاش». وأوضح في مذكراته «لا تعطِ أي بوصة..

علي بردى (واشنطن)
شؤون إقليمية السيارة التي كان يستقلها سليماني مشتعلة بعد استهدافها بصواريخ أميركية قبل عامين (أ.ف.ب)

بومبيو: طهران معقل «القاعدة»... وهكذا قتلنا سليماني

اعتبر وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو في مذكراته «لا تعطِ أي بوصة، القتال من أجل أميركا التي أحب»، أنَّ النظام الإيراني الذي أسسه الخميني عام 1979 ما هو إلا «تنظيم إرهابي» يتَّخذ «هيئة دولة» لديها «حدود دولية» و«عملة إلزامية»، متهماً إياه برعاية جماعات مثل «حزب الله»، و«الجهاد الإسلامي»، و«حماس»، و«جماعة الحوثي»، سعياً إلى إقامة «هلال شيعي» يشمل العراق وسوريا ولبنان واليمن. وذهب بومبيو إلى أنَّه لا فرق بين إيران وتنظيمات مثل «القاعدة» التي يوجد «معقلها الرئيسي في طهران وليس في تورا بورا بأفغانستان». وكشف تفاصيلَ مثيرة عن عملية صنع القرار الذي أدَّى إلى استهداف قائد «فيلق القدس» لدى «

علي بردى (واشنطن)
تحقيقات وقضايا صدام وأفراد عائلته (إلى يساره عدنان خيرالله أخو زوجته ساجدة)، وفي الصف الثاني (يمين) حسين كامل زوج ابنته رغد (أ.ف.ب./غيتي)

الحلقة الثانية... أكد صدام أن بغداد مطوقة بأسوار دفاعية... لكن الدبابات الأميركية كانت على أبوابها

تنشر «الشرق الأوسط» اليوم الحلقة الثانية من كتاب الدكتور محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي السابق، «درء المجاعة عن العراق - مذكراتي عن سنين الحصار 1990 - 2003» (الذي يصدر قريباً عن دار «منتدى المعارف»). ويتناول الراوي مرحلة الانتفاضة ضد حكم الرئيس السابق صدام حسين، إثر خروجه مهزوماً من حرب تحرير الكويت، متهماً الإيرانيين بـ«الغدر» بالعراقيين بعدما وعدوهم بالوقوف إلى جانبهم إذا هاجمتهم أميركا، فإذا بهم يدعمون الثورة ضد حكم الرئيس العراقي.

كميل الطويل (لندن)
المشرق العربي صدّام لحسين كامل: صواريخك لا قيمة لها إذا جاع الشعب

صدّام لحسين كامل: صواريخك لا قيمة لها إذا جاع الشعب

يكشف محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي السابق، في كتاب جديد عنوانه «درء المجاعة عن العراق - مذكراتي عن سنين الحصار 1990 - 2003»، تنشر «الشرق الأوسط» اليوم وغداً مقتطفات منه، تفاصيل الجهود التي قام بها على رأس وزارته للتصدي للعقوبات التي فُرضت على العراق في أعقاب غزوه الكويت عام 1990 واستمرت حتى الغزو الأميركي للعراق عام 2003. ويتحدث الراوي بصراحة لافتة عن الخلافات التي كانت تعصف بنظام حكم صدام، وجزء منها مرتبط بالفريق حسين كامل، زوج ابنة الرئيس، قبل انشقاقه عام 1995.

كميل الطويل (لندن)
تحقيقات وقضايا جنود عراقيون يحتفلون بـ«الانتصار» في الحرب ضد إيران يوم 20 أبريل 1988 (أ.ف.ب)

الحلقة الأولى... علي صالح لصدام: الحرب واقعة... والهدف تدمير الجيش العراقي

يقدّم الدكتور محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي السابق، في كتابه الجديد «درء المجاعة عن العراق – مذكراتي عن سنين الحصار 1990 – 2003» (الذي يصدر قريباً عن دار «منتدى المعارف»)، رواية مفصلة عن الجهود التي قام بها على رأس وزارته للتصدي للعقوبات التي فُرضت على العراق في أعقاب غزوه الكويت عام 1990 واستمرت حتى الغزو الأميركي للعراق عام 2003.

كميل الطويل (لندن)

الكبتاغون: ورش عشوائية تنمو على أنقاض «خطوط إنتاج» نظام الأسد

0 seconds of 3 minutes, 26 secondsVolume 90%
Press shift question mark to access a list of keyboard shortcuts
00:00
03:26
03:26
 
TT
20

الكبتاغون: ورش عشوائية تنمو على أنقاض «خطوط إنتاج» نظام الأسد

أحد عناصر السلطة السورية داخل مصنع لحبوب «الأمفيتامين» المعروفة باسم الكبتاغون في دوما على مشارف دمشق 13 ديسمبر (أ.ب)
أحد عناصر السلطة السورية داخل مصنع لحبوب «الأمفيتامين» المعروفة باسم الكبتاغون في دوما على مشارف دمشق 13 ديسمبر (أ.ب)

لم تكن سوريا ساحةً لحربٍ تطحن الحجر فحسب، بل غدتْ مسرحاً لحربٍ صامتةٍ تلتهم الأرواح قبل الأجساد. بين أنقاض المدن المحترقة، نما جيلٌ كاملٌ تحت رحمة أقراصٍ زهيدةِ الثمن كانت أساساً معدّة للخارج لكنها أيضاً أغرقت السوق المحلية.

بدأت القصة حين حوّل النظام السوري السابق أقراص الكبتاغون (وهو مخدّر صناعي مكوّن من مادتي الأمفيتامين والثيوفيلين) إلى «عملةٍ دمويةٍ» لتمويل نفسه وآلة حربه، فتحوّلت هذه الحبوب إلى سيلٍ جارفٍ يجتاح الشوارع والأزقة، يسرق الأعمار، ويحوّل الأحلام كوابيس.

وشكَّل عام 2020 المنعطف الأقسى: فقد هبط سعر حبة الكبتاغون من دولار ونصف الدولار إلى خمسة سنتات فقط، أي أرخص من كوب شاي. وتضافرت عوامل عديدة في ذلك منها بدء تطبيق «قانون قيصر»، وفرض عقوبات كبيرة على النظام السوري، والأزمة الاقتصادية والمصرفية في لبنان نهاية 2019، وعدم القدرة على التعامل بالدولار وسحب الإيداعات من لبنان، والنجاح النسبي في ضبط الحدود البرية والحد ولو جزئياً من التهريب.

وفي جولة بين العديد من المناطق السورية بعد سقوط الأسد، ولقاءات مع صيادلة وأطباء في عمّان وأربيل، يحاول هذا التحقيق إعادة رسم خطوط إنتاج الكبتاغون بالاعتماد أيضاً على شهادات ضحايا إدمان وذويهم.

أحرقت السلطات السورية الجديدة مئات الأطنان من حبوب الكبتاغون المخدرة بالإضافة إلى أكياس من الحشيش في مقر الفرقة الرابعة في دمشق... الثلاثاء (إ.ب.أ)
أحرقت السلطات السورية الجديدة مئات الأطنان من حبوب الكبتاغون المخدرة بالإضافة إلى أكياس من الحشيش في مقر الفرقة الرابعة في دمشق... الثلاثاء (إ.ب.أ)

قصص إدمانٍ تُحاك في الظلمة

في شوارع دمشق المتهالكة، حيث تتدلى الأسلاك الكهربائية كأشباحٍ تترصد المارة، ينتشر السمّ بأسماءٍ بريئة: «حبوب النشاط»، «أقراص السعادة»، «الكابتي يا مسهرني فريز» وغيرها حسب التاجر. الشباب هنا ليسوا ضحاياً عشوائيين، بل أرقام في معادلةٍ ممنهجة. تقول أرقام منظمة العمل الدولية لعام 2023 إن 39.2 في المائة من الأشخاص بعمر الإنتاج (ما فوق 15 عاماً) عاطلون عن العمل في سوريا، لكن الأرقام لا تحكي كيف يقضي أحمد (19 عاماً) أيامه جالساً على رصيفٍ مهترئ في أحد شوارع ركن الدين في دمشق، يحدّق في حذائه المثقوب، بينما يهمس تاجرٌ قريبٌ منه: «هذه الحبة ستجعل منك رجلاً... ستعمل مثل الحصان دون تعب!». لم يكن أحمد يعلم أن «الرجل» الذي وُعد به سيصبح عبداً لحبوب زرقاء، وأن ساعات العمل الطويلة في الورشة المُدمَّرة ستتحول إلى كابوسٍ لا ينهيه إلا بالمزيد من الأقراص.

القصة تتكرر كأنها لعنةٌ جماعيةٌ في بلد تتناوب عليه موجات الحرب والفقر. في هذه الظلمة يلمع بريق الكبتاغون كشهابٍ زائف. تتقاطع روايات المصادر عن حبة تُسقط الفتيانَ واحداً تلو الآخر، كقطع دومينو لا تستثني الفتيات. حتى أحلام الهجرة باتت جزءاً من المأساة: أحدهم يبيع أرضاً ليموّن رحلةً بحريةً، لكن ينتهي به المطاف في زنزانةٍ تركية... مدمناً، بلا أرضٍ ولا مال ولا مستقبل.

أكثر من عشر شهادات على امتداد المناطق السورية، قمنا بجمعها من أصحابها مباشرة أو من ذويهم لرصد ظاهرة الإدمان التي اتخذت منحى مختلفاً بعد سقوط نظام الأسد. فما كان بالأمس «تجارة» منظمة تعتمد على قطاع صناعة الأدوية والتصدير الخارجي ويسعى لزيادة أعداد «المستهلكين» داخلياً لضمان استمرارية الإنتاج، أصبح عملاً عشوائياً يسقط مزيداً من القتلى بجرعات زائدة.

أحد أفراد قوات الأمن التابعة للسلطات السورية الجديدة يحمل حبوب كبتاغون (أ.ف.ب)
أحد أفراد قوات الأمن التابعة للسلطات السورية الجديدة يحمل حبوب كبتاغون (أ.ف.ب)

ياسر (17 عاماً) من حلب، طرده أهله فالتجأ للسكن في غرفة في قبو لدى زوج خالته الذي سهل لنا التواصل معه. يقول ياسر: «كان أصدقائي يضحكون حين يتعاطون الحبوب... قالوا إنها تجعلك تشعر كأنك بطل في لعبة فيديو. جربتُها لأثبت أنني شجاعٌ مثلهم. الآن، أجوب الشوارع كالشبح... أسمع صوت أمي يلاحقني. في الليالي الباردة، أتسلل إلى بيتنا، ألمس الباب المُغلق، وأتخيل أن قذيفةً تسقط عليّ... ربما يمنحني الموتُ غفراناً لا أستحقه».

علي (22 عاماً) من دير الزور يعمل ويسكن في حي غويران بالحسكة حيث قابلناه بعد نهاية يوم عمل شاق. قال: «في يومٍ، حملتُ أكياساً من الطحين على ظهري لمدة 10 ساعات متواصلة. كان صاحب العمل يراقبني، ثم ألقى إليّ بحبةٍ قائلاً: خذ هذه ستجعل ظهركَ من حديد. الآن، ظهري يرزح تحت أثقال كثيرة... أكثرها قسوة ما أراه في عيون أطفالي. حين أعود للمنزل، أتظاهر بالنوم كي لا يقتربوا مني. أسمعهم يهمسون: بابا ينام كالميت!».

في بيوتٍ كانت يوماً تعبق برائحة القهوة الصباحية، تُحكى الآن حكاياتٌ يُراعى ألا تسمعها الجدران. محمد أبو يوسف (45 عاماً) يفرك يديه المتشققَتين وهو يحدّق في صورة ابنه البكر، ويقول: «كنت أبيع صحتي وعافيتي في الطرقات والعمل الشاق لأدفع رسوم دراسته. لكن الكبتاغون سرقه مني. حين وجدته يهتزّ كالورقة في الزاوية، صرخت: لماذا لم تمت في القصف؟! حاولت دفعه للسفر إلى أوروبا عبر مهربين، لكنه هرب من الشاحنة في منتصف الطريق وعاد إليّ بعد أشهر، عيناه تُشبهان فجوتين مظلمتين. الآن، حبسته في المنزل وأقوم بشراء الحبوب له وأدعو كل ليلة أن يأخذه الله».

غياب مراكز التأهيل: موت بطيء

تعمل الطبيبة روان الحسين (اسم مستعار) في أحد أفرع مديرية الصحة ولديها عقد استشاري مع منظمة غير حكومية تعنى بقضايا الإدمان. تغرق الطبيبة يومياً بين أكوام من الملفات، في محاولة لإنقاذ ما تبقى من أرواح، وتقول: «قبل أسبوع، جاءني شاب هزيل يحمل ابنته الرضيعة. قال: خُذيها قبل أن أبيعها مقابل الحبوب. لا أملك حتى سريراً لإيوائها».

حبوب الكبتاغون مخبأة في فاكهة مزيفة داخل مصنع بمدينة دوما شرق العاصمة دمشق (إ.ب.أ)
حبوب الكبتاغون مخبأة في فاكهة مزيفة داخل مصنع بمدينة دوما شرق العاصمة دمشق (إ.ب.أ)

تتنهد الحسين وهي تلملم أوراقاً تالفة وتقول: «المنظمات الدولية ترسل لنا صناديقَ أدوية من دون دراسة احتياجاتنا بينما شبابنا يموتون لأن السموم صارت جزءاً من دمائهم. ماذا سنفعل بضماداتٍ لجراح لا تُرى».

المأساة الإنسانية تكمن في غياب خدمات الصحة النفسية وعلاج الإدمان. ويشير موظفون عاملون في سوريا ضمن المفوضية السامية للاجئين (UNHCR) ومنظمة الصحة العالمية إلى أن عدد المراكز المتخصصة بعلاج الإدمان حتى مطلع شهر فبراير (شباط) من عام 2025 لا يتجاوز 10 مراكز على امتداد الأراضي السورية، بينما تقدّر الاحتياجات بأكثر من 150 مركزاً. وفي وقت تعرض أكثر من 70 في المائة من المنشآت الصحية للتدمير الجزئي أو الكلي يصبح من شبه المستحيل الوصول إلى خدمات صحية إسعافية مجانية.

وتقول الحسين: «حتى البرامج القائمة تعاني من نقص الأدوية النفسية، واعتمادها على جهود تطوعية». ولعل المشكلة الأعمق هي الوصمة المجتمعية والخوف من النظرة الدونية للمدمن وعائلته. ففي درعا على سبيل المثال، رفض الأهالي إنشاء مركز تأهيل خوفاً من «تشويه سمعة المنطقة»، حسبما علمت «الشرق الأوسط» من منظمة محلية.

 

الكبتاغون بعد سقوط الأسد

ورش عشوائية... وجيلٌ يُباد بالجرعات

لم يكن سقوط نظام الأسد نهاية المعاناة، بل كانت شرارةً لفوضى أكثر تعقيداً. فكما أدى انهيار المؤسسات في زمن الحرب إلى تحويل الشباب إلى وقودٍ لإدمانٍ رخيص، حوَّلت تركة النظام الأمنية إلى ساحةٍ لصناعة كبتاغون أكثر فتكاً. فالحكومة الجديدة، التي داهمت ودمرت المصانع العلنية، لم تدرك أن شبكات الإنتاج ستتجزأ إلى ورشٍ عشوائيةٍ تُدار بخبرة مهربين سابقين، ومدمنين استفاقوا على واقع جديد. فـ«الحبة الزهيدة» التي اعتادوها أصبحت بضاعةً نادرةً تباع بأسعارٍ تُجبرهم على العمل في تلك الورش نفسها لتمويل إدمانهم، وهي ورش عشوائية تخلط السموم بأيدٍ عارية، وبمقادير مرتجلة.

مواد بدائية لصنع حبوب الكبتاغون في قرية حاويك (الشرق الأوسط)
مواد بدائية لصنع حبوب الكبتاغون في قرية حاويك (الشرق الأوسط)

ومباشرة بعد سقوط نظام الأسد، أطلقت الإدارة الجديدة حملةً عسكريةً وأمنيةً لاجتثاث مصانع الكبتاغون، التي كانت تُعدُّ أحد أعمدة تمويل النظام السابق. ونجحت الحملة في تدمير عشرات المنشآت الكبرى، في ريف حمص وريف دمشق، لكن هذا النجاح حمل في طياته كارثةً غير متوقعة. فمع انهيار الإنتاج المنظم، عاد سعر الحبة الواحدة وقفز من 5 سنتات إلى دولار ونصف الدولار وأكثر أحياناً، وفقاً لشهادات صيادلة مطلعين ومستهلكين، ما حوَّل المدمنين إلى كائناتٍ يائسةٍ تبحث عن الجرعة بأي ثمن.

الحال هنا أشبه بالدمية الروسية: داخل كل كارثةٍ، تكمن كوارث أصغر. فسقوط الأسد لم يُوقف آلة الموت، بل شظّاها إلى آلاف القطع. والمدمنون الذين خُدعوا بوعود «النشوة الزهيدة» في الماضي، وجدوا أنفسهم في دوامةٍ جديدةٍ: حبوبٌ مغشوشة تُنتجها ورشٌ غير خاضعة لأي رقابة، تدفعهم إلى السرقة أو الانضمام لعصابات التهريب للحصول على جرعةٍ تكفي لإسكات آلام الانسحاب. حتى العائلات التي ظنت أن غياب الأسد سيُعيد إليها أبناءها، اكتشفت أن الورش العشوائية حوّلتهم إلى أرقامٍ جديدةٍ في إحصاءات الإدمان والوفيات.

صناعة مُمنهجة بغطاء دوائي

في عهد النظام السابق، لم تكن صناعة الكبتاغون عملاً عشوائياً، بل مشروع منهجي للدولة. فقد استغل الأسد «البُنية التحتية الدوائية» لسوريا، التي كانت تُعدُّ واحدةً من الأكثر تطوراً في المنطقة قبل الحرب لإنتاج المواد المخدرة. ففي معامل حلب ودمشق المرخصة والمجهزة بتقنيات عالية، عمل كيميائيون وخبراء صيدلانيون على تطوير تركيباتٍ «آمنة نسبياً»، تضمن الإدمان دون التسبب بوفياتٍ سريعة. ثلاث مقابلات مع ثلاثة صيادلة كانوا يعملون مع معامل أدوية مختلفة وفي غير مدينة سورية أكدوا أن النظام كان يعمل باستخدام المخابر الرسمية في تطوير تركيباته. ففي فترة من الفترات كانت تغلق المعامل أو تصادر أدواتها بحجج مختلفة ليتسنى لخبراء صناعة الكبتاغون تطوير تركيبات جديدة. ويقول مصدر مطلع لـ«الشرق الأوسط»، وهو مهندس كيميائي عمل في مصنع في منطقة الكسوة جنوب دمشق، إنه من ضمن الخبرات التي كان يتم الاستعانة بها خبرات إيرانية وخبرات هندية للوصول إلى «صيغة مثالية». وقال المصدر: «كان يتم اتباع بروتوكولات دقيقة... النظام أراد حبوباً تُدمن دون فضائح. وهذا ما جعل الكبتاغون السوري الأكثر طلباً في الأسواق»، علماً بأن الخلطة المخففة منه كانت تباع أيضاً كـ«مخدر حفلات» أي أنها ذات تأثير مؤقت.

تحالف ضباط فاسدين وتجار الموت

مع انهيار الدولة، خرجت صناعة الكبتاغون من عباءة النظام إلى أحضان الفوضى. وحسب مصدر مطلع فقد «استغل أحد الضباط الذين كان يُشرفون على أحد خطوط التهريب علاقاته السابقة في مناطق حدودية لتأسيس ورشتي تصنيع واستغلال الفقر والفوضى، وذلك طبعاً بحماية ميليشيا مسلحة»، وهو «ليس وحده بالطبع».

مهند نعمان أحد المقربين من ماهر الأسد أشرف على تصنيع الكبتاغون في دمشق والساحل السوري (متداولة)
مهند نعمان أحد المقربين من ماهر الأسد أشرف على تصنيع الكبتاغون في دمشق والساحل السوري (متداولة)

أما أحد الذين عملوا سابقاً في التوزيع في مناطق شمال شرقي سوريا، ويقيم حالياً في مدينة أربيل العراقية، فقال لـ«الشرق الأوسط»: «أحد التجار كان يُموِّل عمليات النظام عبر شركته الوهمية لاستيراد الأدوية، فأسس شبكةً تمتد من اللاذقية إلى الحسكة». وبذلك انتشرت الورش العشوائية في مناطق كانت تُعدُّ «نظيفة» سابقاً، مثل مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) بالحسكة والرقة. وأضاف: «تعمل هذه الورش دون غطاء قانوني أو خبرات كافية، حيث يُطحن أي مسحوق أبيض من بقايا أدوية منتهية الصلاحية إلى مساحيق المبيدات الزراعية أو زجاج ويُخلط بمذيباتٍ كيميائية رخيصة».

وبسبب فوضى الإنتاج والتسويق تحوَّلت هذه الحبوب إلى قنابل موقوتة. ففي مستشفى دير الزور على سبيل المثال، سجّلت الدكتورة نهى (اسم مستعار) 10 حالات تسمم «غير اعتيادية» في الفترة بين 15 يناير (كانون الثاني) ومنتصف شهر مارس (آذار) 2025 بسبب جرعات زائدة أو شوائب سامة. وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «أغلب المرضى جاءوا يعانون من تشنجات عصبية أو شلل مؤقت في أحد الأطراف، بالإضافة إلى عوارض التسمم المعروفة... وتبين أنهم تناولوا مواد تحتوي على زرنيخ أو فورمالين».

عقدة دول الجوار

سريعاً جداً، ما كان يُعتقد أنه «مشكلة سورية» تحوّل إلى وباءٍ يهدد أمن واستقرار الشرق الأوسط بأكمله. فتجارة الكبتاغون، التي تغذت من جشع الأسد للسلطة وتحالفه مع الميليشيات المدعومة من إيران، صارت جزءاً من اقتصاد الظل الإقليمي، تُموِّل عصاباتٍ في لبنان، وتُغذي الجريمة في الأردن، وتُدخل السموم إلى الخليج عبر العراق. وكل دقيقة تمر تعني ولادة مدمن جديد وخط إنتاج جديد.

عنصر أمن سوري يقف أمام معمل لصناعة حبوب الكبتاغون صادرها الأمن السوري خلال حملة التمشيط الأخيرة
عنصر أمن سوري يقف أمام معمل لصناعة حبوب الكبتاغون صادرها الأمن السوري خلال حملة التمشيط الأخيرة

ولا تزال دول الجوار تعاني من تبعات انتشار الكبتاغون السوري حتى بعد سقوط نظام الأسد، لكن تعاملها مع الأزمة يختلف باختلاف الأولويات والموارد. ففي الأردن ومنذ 2015، تشدد السلطات على عمليات التفتيش الحدودية وتعتمد على تقنيات متطورة في «الجدار الأمني»، الذي يتكون من أسلاك شائكة وعوائق برية ومراقبة جوية بالدرون وأنظمة المراقبة الإلكترونية النهارية والليلية عالية الدقة.

لكن المشكلة الأخطر تبقى مع لبنان والعراق، حيث يوجد الكثير من الضباط السابقين والأشخاص النافذين المتورطين في تجارة وتصنيع الكبتاغون، الذين يستفيدون من غطاء سياسي وأمني. لذا فإن الخوف الآن هو أن تستأنف صناعة الكبتاغون المنظمة والدقيقة في كل من البلدين أو أحدهما بالاستناد إلى الخبرات السابقة وقنوات التصريف المعروفة.