الحلقة الثانية... أكد صدام أن بغداد مطوقة بأسوار دفاعية... لكن الدبابات الأميركية كانت على أبوابها

«الشرق الأوسط» تنشر مقتطفات من كتاب «درء المجاعة عن العراق» لمحمد الراوي

صدام وأفراد عائلته (إلى يساره عدنان خيرالله أخو زوجته ساجدة)، وفي الصف الثاني (يمين) حسين كامل زوج ابنته رغد (أ.ف.ب./غيتي)
صدام وأفراد عائلته (إلى يساره عدنان خيرالله أخو زوجته ساجدة)، وفي الصف الثاني (يمين) حسين كامل زوج ابنته رغد (أ.ف.ب./غيتي)
TT

الحلقة الثانية... أكد صدام أن بغداد مطوقة بأسوار دفاعية... لكن الدبابات الأميركية كانت على أبوابها

صدام وأفراد عائلته (إلى يساره عدنان خيرالله أخو زوجته ساجدة)، وفي الصف الثاني (يمين) حسين كامل زوج ابنته رغد (أ.ف.ب./غيتي)
صدام وأفراد عائلته (إلى يساره عدنان خيرالله أخو زوجته ساجدة)، وفي الصف الثاني (يمين) حسين كامل زوج ابنته رغد (أ.ف.ب./غيتي)

تنشر «الشرق الأوسط» اليوم الحلقة الثانية من كتاب الدكتور محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي السابق، «درء المجاعة عن العراق - مذكراتي عن سنين الحصار 1990 - 2003» (الذي يصدر قريباً عن دار «منتدى المعارف»). ويتناول الراوي مرحلة الانتفاضة ضد حكم الرئيس السابق صدام حسين، إثر خروجه مهزوماً من حرب تحرير الكويت، متهماً الإيرانيين بـ«الغدر» بالعراقيين بعدما وعدوهم بالوقوف إلى جانبهم إذا هاجمتهم أميركا، فإذا بهم يدعمون الثورة ضد حكم الرئيس العراقي. ويتناول الراوي أيضاً قصة الغزو الأميركي للعراق عام 2003، كاشفاً أن صدام كان يعتقد أن قواته قادرة على الصمود، مشيراً إلى أنه قال إن بغداد مسورة بثلاثة أسوار تحميها، لكن ذلك لم يمنع الدبابات الأميركية في الحقيقة من دخول العاصمة العراقية.
يتحدث الراوي عن الانتفاضة التي حصلت في العراق عام 1991 بعد طرد القوات العراقية من الكويت، فيقول: «على رغم إصابة وتدمير النسبة الغالبة من المشاريع المدنية والشلل العام الذي أصاب البلد، فإن تجهيز الغذاء استمر طيلة فترة القصف الجوي إلى حين وقف إطلاق النار في 3 مارس (آذار) 1991، حيث بدأت صفحة جديدة، والتي لم يحسب لها أي حساب، وهي أحداث 1991 التي بعد إعلان وقف إطلاق النار مباشرة (أطلقت عليها القيادة آنذاك صفحة الغدر والخيانة) وأطلق عليها بعد الاحتلال (الانتفاضة الشعبانية). وتسمية (صفحة الغدر والخيانة) مستمدة من غدر القيادة الإيرانية للعراق بعد أن تعهدت للوفد العراقي الذي زار طهران بعد فرض الحصار، والذي ترأسه نائب رئيس مجلس قيادة الثورة عزت إبراهيم، وأعضاؤه: نائب رئيس الجمهورية طه محيي الدين معروف، وعضو مجلس قيادة الثورة محمد حمزة الزبيدي، وعضو القيادة القطرية الدكتور سعدون حمادي وآخرون، بأنهم سيساندون العراق إذا ما نشبت الحرب مع الشيطان الأكبر أميركا، في حين انطلقت أحداث الفوضى بعد وقف إطلاق النار بمشاركة الحرس الثوري الإيراني والمخابرات الإيرانية والمعارضة العراقية الموجودة في إيران. أما الخيانة فأطلقت على العراقيين الذين خانوا بلدهم وهو يواجه أميركا وقوات التحالف من المعارضة العراقية في إيران ومن ساعدهم داخل العراق أثناء الحرب وبعدها مباشرة، مع الإشارة إلى أنني كرئيس للجانب العراقي في اللجنة العراقية - الإيرانية المشتركة شاركت أثناء انعقاد اللجنة في اجتماعها الأخير عام 2002 قبل غزو العراق في التفاوض مع الجانب الإيراني، وبطلب من مدير المخابرات العراقية الفريق طاهر حبوش، الذي كان موجوداً آنذاك في العاصمة الإيرانية طهران، وبحضور مدير المخابرات الإيراني، في أحد فنادق طهران، بمبادلة الضباط في المخابرات الإيرانية وعناصر من الحرس الثوري الإيراني الذين اعتقلوا في العراق من قبل الجهات الأمنية أثناء أحداث 1991 بأسرى عراقيين منذ فترة الحرب العراقية – الإيرانية، وتلبية طلب مدير المخابرات الإيراني بإضافة فقرة إلى الاتفاقية الثنائية التي كنا نناقشها مع وزير التجارة الإيراني شريعة مداري، وهي التزام العراق بشراء سلع من إيران بمقدار 450 مليون دولار، وتم ذلك.
ولقد تم تدمير ونهب كامل الخزين الغذائي وخزين السلع الأخرى، التي تم تخصيصها لمواطني كل محافظة قبل بدء الحرب في تلك الأحداث. ودمرت وعطلت المطاحن العائدة للقطاع الخاص في جميع محافظات الجنوب والفرات الأوسط ومحافظات الحكم الذاتي، عدا محافظة واسط، التي لم يتعرض خزينها أو سايلواتها إلى أي ضرر، وكذلك مخازن الهارثة الاستراتيجية في البصرة التي دافع عنها الحراس والشرطة والموظفون المكلفون بحمايتها. لقد أفرغت جميع محتويات مخازن وزارة التجارة من المواد الغذائية والسلع المعمرة والألبسة والأثاث والمواد الإنشائية والأدوات الاحتياطية التي كانت تستوردها الوزارة قبل بدء الحصار، وتم تدمير المخازن كأبنية وحرق بعضها بعد إفراغها من محتوياتها (الحرق حدث في محافظتي النجف والسليمانية)، وسقطت نظرية المحافظات الآمنة التي استخدمت في تركيز الخزين الاستراتيجي للغذاء في كربلاء والنجف ومحافظات الحكم الذاتي».
ويضيف: «في الوقت نفسه، وبعد يومين من وقف إطلاق النار اتصل بي سكرتير الرئيس حامد يوسف حمادي يوم 5 مارس، وأبلغني أن الرئيس يطلبك على عجل ومعك جداول بخزين الغذاء. أوصلتني سيارة من القصر الجمهوري يقودها أحد المرافقين إلى مقر وزارة التجارة البديل، ووصلنا أحد القصور في الرضوانية الواقعة في محيط بغداد بعد أقل من ساعة. ودخلت إلى أحد الأبنية الصغيرة والمخصصة لحراسة القصر المذكور المنتشرة بجوار السياج الرئيسي الذي يحيط بالقصر، فوجدت الرئيس وهو يجلس على منضدة عادية وعلى يمينه المرافق عبد حمود (الذي أصبح سكرتيراً له بعد عدة أشهر من توقف الحرب) وخلفه العميد أرشد ياسين، كما يظهر في الصورة والخبر الذي نشرته جريدة العراق. بادر إلى رغبته في الإعلان عن زيادة الحصص الغذائية التي توزع بموجب نظام البطاقة التموينية، وأراد شرحاً وافياً، وما هي الإمكانيات لذلك. وكان قد انفلت الوضع الأمني، وبدأت أعمال النهب من مخازن الوزارة، وعرضت أماكن خزن الحبوب تحت الأرض وكمية الخزين في محافظات بغداد ونينوى وصلاح الدين والأنبار.
وأبديت الإمكانية عن الإعلان عن بعض الفقرات. فقال الذي يهمني هو الخبز فهل نستطيع زيادة حصة الفرد من الطحين. أجبته بأنني لا أستطيع الإجابة إلا بعد أن أزور المحافظات للتحقق من الضرر الذي حصل في خزين القمح في المحافظات التي بدأ فيها الانفلات الأمني. وطلبت مهلة يومين لأبلغه بالإمكانية من عدمها، واقترحت أن نعلن بعد الاجتماع عن الفقرات الجاهزة مع الإشارة في خبر اللقاء إلى أن الوزارة ستعلن قريباً عن زيادات للفقرات الأخرى. ووافق على ذلك».
- السنوات السبع الشداد الأولى
يقول الرواي: «كانت السنوات السبع الأولى الأشد خطورة والأقسى في تاريخ العراق الحديث. كانت المجاعة محتملة في أي فترة تنفد فيها الأموال الشحيحة في البنك المركزي، وتفشل الجهود التي بذلناها لتأمين مواد غذائية من مصادر غير مضمونة في أفق زمني مفتوح غير محدد بفترة زمنية حول تاريخ رفع الحصار.
في أحد لقاءاتي بالرئيس الراحل عام 1992 سألته سؤلاً محدداً عن وجهة نظره عن الفترة الزمنية التي يتوقع أن يرفع فيها الحصار، أجاب باعتقاده في غضون سنتين. فالبطاقة التموينية تنهار كلياً إذا نفد خزين الغذاء الذي كان محتمـلاً في أي شهر تفشل فيها الجهود في تأمين مصادر تمويل لم تكن مضمونة على عكس الفترة التي سبقت الحصار حينما تتوافر المبالغ المطلوبة للغرض المذكور.
لا شك في أن اللجنة الخاصة بأسلحة الدمار الشامل التي تدار مباشرة من قبل أميركا، وبريطانيا، وبتدخل من إسرائيل، لا تخفي هدفها الأساسي في إطالة مدة الحصار لاستخدامه لأغراض سياسية لكي يحقق أهدافهم المعلنة في تغيير النظام السياسي (...) وكان الجانب العراقي يشعر بأن غرض اللجنة في إطالة أمد التفاوض هو سياسي أيضاً، وكلما طال الزمن تهاوت قدرة العراق على الصمود».
ويقول إنه تم «التمكن من تجاوز المجاعة في السنوات السبع الأولى» من الحصار نتيجة اعتماد مجموعة من الإجراءات، من بينها اللجوء للاحتياطي المتبقي للعراق من الذهب، والمقدرة قيمته بـ600 مليون دولار، حيث تولى البنك المركزي العراقي مسؤولية بيعه في سوق لندن لتحويله إلى دولار. كما تم اللجوء إلى استخدام «الأموال المجمدة» للعراق في البنوك الدولية لشراء المواد الغذائية والطبية والسلع المدنية الأخرى.
ويضيف: «كان عام 1994 ينذر بصعوبات كبيرة بسبب استمرار الحصار، واقتراب نفاد العملة الصعبة المضمونة لدى البنك المركزي، وارتفاع أسعار المواد الغذائية في السوق المحلية بسبب تصاعد الدولار، وبعد تقليص الحصة التموينية للطحين من 9 كيلو غرامات للفرد إلى 6 كيلوات لتدارك تجنب توقف تجهيز السكان بفقرة الطحين، وما زالت هنالك حاجة إلى 70 مليون دولار. وكان هنالك مبلغ من مبيعات النفط تم إبرام عقود قمح وسكر به عام 1992، وكان ممثل وزارة النفط مثنى البدري شقيق مؤيد البدري مع الدكتور عبد المنعم رشيد مع زهير عبد الرحمن مدير عام الشركة العامة لتجارة الحبوب معي في عمان. ونظراً لصدور القرار 778 في أكتوبر (تشرين الأول) 1992 منع بموجبه استخدام الأموال المجمدة مرة أخرى مما عطل تنفيذ هذه العقود في ذلك العام. أصبحت المجاعة حتمية، وبدأت حالة القلق على سلوك وحديث الرئيس في اجتماعات مجلس الوزراء... وذكر هل يصح أن نموت ونحن جالسون؟ أم نموت ونحن واقفون؟ وأعلن في آخر الخطبة أنه سيفتح مخازن العالم ولا يسمح أن يجوع الشعب العراقي. وبقينا أنا والرئيس فقط ندرك اقتراب توقف تجهيز المواطنين بالطحين لمدة شهرين وانتابنا القلق الشديد. وفجأة تردنا برقيات بأن العقود التي أبرمت عام 1992 قد تم تحمليها في البواخر وستصل العقبة قبل نفاد الطحين، والإعلان عن توقف التجهيز للمواطنين، وكانت يد الله مع الشعب العراقي لتمنع المجاعة، وأبلغت فوراً الرئيس الراحل بالمفاجأة التي لم نتوقعها، فقد اعتبرناها عقوداً ميتة».
- الخلاف مع حسين كامل
وعلى رغم حديث الراوي عن خلافات نشبت بينه وبين حسين كامل، إلا أنه يوضح قائلاً: «لا بد من القول، ومن خلال صلتي القريبة به حين كنا نعمل سوية في رئاسة الجمهورية، حيث كان مديراً لجهاز الأمن الخاص، ومشرفاً على الحرس الجمهوري، وكنت آنذاك وكيلاً لرئيس ديوان الرئاسة، بأنه لم يكن يتخذ القرارات لوحده وإنما كانت لديه كوادر ذات كفاية في هيئة التصنيع العسكري، وفي وزارة الصناعة، وفي وزارة النفط، ومعظم قراراته تمثل رأي العاملين معه في كل قطاع وليس رأيه المنفرد. واستمد قوته من قوة الرئيس ويعمل باسم الرئيس، من خلال صلة القرابة من جهة، والمصاهرة من جهة ثانية. وبحكم ذلك، وكونه أصبح الشخص الثاني في الدولة فعلياً كان يوفر المستلزمات المادية والدعم المالي للقطاعات التي يشرف عليها وللعاملين وحمايتهم، والتي لا تتوفر للوزراء الآخرين ولنواب الرئيس، فتجاوزت سلطاته الوزارات الأخرى. إلا أنه كان يتسرع في اتخاذ بعض القرارات التي كانت تتطلب تأنياً ودراسة معمقة».
ويتحدث عن قصة انشقاق حسين كامل وفراره إلى الأردن، فيقول: «كنت أقود السيارة كعادتي في زياراتي داخل العراق إلى المحافظات لمتابعة أنشطة وزارة التجارة، وكذلك في زياراتي إلى الأردن وسوريا في فترة الحصار لمنع الطيران المدني العراقي والدولي للوصول من وإلى العراق. كان بجانبي وزير الزراعة خالد عبد المنعم رشيد، الصديق الشخصي للرئيس الراحل، حينما تم إذاعة خبر هروب حسين كامل في أخبار الساعة السادسة مساءً، وكنا قد اقتربنا من جسر سامراء، قلت له: لنعد إلى بغداد وأنت الصديق الشخصي للرئيس لصعوبة الموقف. أجاب بأن الموضوع عائلي بينه وبين عدي لا حاجة للعودة. واستمر سيرنا باتجاه مدينة الموصل، واجتمعنا في اليوم الثاني لوصولنا مع نائب رئيس مجلس قيادة الثورة الذي تولى قبل شهرين مهمة رئاسة اللجنة الزراعية التي أصبحت اللجنة العليا لمتابعة موضوع الحصاد والتسويق الذي كان السبب في تكليفه بالمهمة المذكورة. عرضت في الاجتماع مقترح العودة إلى بغداد، خصوصاً السيد نائب رئيس مجلس قيادة الثورة الشخص الثاني المسؤول، واستمر عملنا الروتيني حتى بعد إعلان حسين كامل إسقاط النظام في المؤتمر الصحافي ليكون هو رئيساً للبلاد».
ويوضح: «الأكيد أن النزاع بين عدي وحسين بلغ أشده، كما أن حسين كامل كان أقوى من عدي الذي ليس له حظوة عند والده، في حين أصبح حسين كامل فعلياً الشخص الثاني في الدولة. ومعظم القرارات التي اتخذها الرئيس الراحل قبل الحصار وبعده كان له مشاركة فيها من خلال قربه ولقاءاته اليومية العائلية. وكان أقوى من نائب رئيس مجلس قيادة الثورة عزت إبراهيم، ونائب رئيس الجمهورية طه ياسين رمضان، وكلاهما كان يحذر منه، ويتوددان إليه، ولا يرفضان له طلباً... لم يكن هروب حسين كامل ناجماً في تقديري عن الصراع القائم بينه وبين عدي فقط، حيث كان كما ذكرت له سلطة وموقع أكبر بكثير من عدي الذي كان يشغل منصباً رياضياً كرئيس للجنة الأولمبية ورئيس مجلس إدارة جريدة وقناة تلفزيون (الشباب)، وليس له تأثير في قرارات الدولة كما كان يتمتع به حسين كامل، وكان يخضع لمراقبة شديدة من والده. وأحد الأسباب فقدانه الأمل في أن يشغل منصب رئيس الوزراء الذي كان يتطلع للوصول إليه.
(...) اتصل بي الرئيس الراحل هاتفياً الساعة الرابعة فجر يوم 29 مايو (أيار) 1994 بعد الارتفاع الفاحش لأسعار الطماطم (البندورة) في الأسواق المحلية، وقال: (أنا حالياً في علوة الرشيد/ سوق الجملة للخضراوات/ الذي يقع في وسط طريق بغداد ومدينة المحمودية أدقق أسعار الطماطم والخضراوات، فهل أسعار الخضراوات من مسؤوليتك؟)، أجبته بأن تسعيرة الخضراوات ألغيت قبل فرض الحصار، ووزارة التخطيط لديها قسم يتابع لأغراض إحصائية تلك الأسعار فهل أتولى الموضوع؟ أجاب: (لا، وإنما تأتيني الساعة العاشرة صباحاً في مكتبي).
جاءت سيارة الحماية إلى الوزارة، وأوصلتني قبل الساعة العاشرة صباحاً، وكان في الانتظار الدكتور خليل المعموري (من محافظ بابل) رئيس أمانة مجلس الوزراء ووكيل رئيس ديوان الرئاسة، ودخلنا الساعة العاشرة صباحاً بعد وصول حسين كامل ويحمل كالعادة مسدسه (هو وطه ياسين رمضان يدخلان على الرئيس بمسدساتهما فقط). وبعد الانتهاء من مناقشة أسعار الخضراوات، وقبل انتهاء الاجتماع استأذنت الرئيس لإبداء رأي، وقلت: «بأن ظروف البلد تزداد صعوبة مع استمرار الحصار ونحن في السنة الرابعة، ورغم الجهود التي يبذلها رئيس مجلس الوزراء، فإنني أرى أن البلد سيواجه صعوبات كبيرة في الفترة القادمة إذا لم تتول سيادتكم رئاسة المجلس»، وانتهى الاجتماع. في الساعة التاسعة من مساء اليوم نفسه أذيع في الأخبار الرئيسة في قناة العراق التلفزيونية الخبر الرئيس؛ وهو إعفاء أحمد حسين السامرائي من منصب رئيس الوزراء وإعادته إلى منصبه رئيساً لديوان رئاسة الجمهورية بدرجة نائب رئيس وزراء، وتولى صدام حسين رئيس الجمهورية منصب رئيس الوزراء. فقد حسين كامل أي أمل له في التعيين بعد أن عاد الرئيس الراحل رئيساً لمجلس الوزراء».
- الغزو الأميركي عام 2003
يقول الراوي، «بدأ العدوان الأميركي في 19 مارس جواً على مزرعة الدورة، وبدأت الحرب البرية في اليوم التالي، يوم 20 مارس. كان كل شيء يسير بشكل طبيعي وفق الخطة المعتمدة. وأضفنا لها قيام أسطول من الشاحنات المحملة بالطحين نمرة صفر لتوزيعه على المخابز في مناطق بغداد كافة، وكنت أرافق تلك الشاحنات للتحقق من تزويد تلك المخابز، والقنابل تهطل على بغداد كالمطر...
بعد أسبوع من بدء العدوان طلبني الرئيس الراحل، وحضرت مع وزير النفط اجتماعاً مصغراً كان حاضراً فيه نائب رئيس الجمهورية طه ياسين رمضان، ونائب رئيس الوزراء طارق عزيز، وقصي صدام حسين عضو القيادة والمسؤول عن بغداد، ووزير الدفاع الفريق سلطان هاشم، والدكتورة هدى عماش عضو القيادة القطرية مسؤولة الرصافة للحزب. طلب الرئيس مني أن أجلب مواد غذائية إضافية إلى داخل مدينة بغداد تحسباً للقتال داخل المدينة (...) كما وجه الرئيس الراحل وزير النفط الدكتور عامر محمد رشيد بأن يكثف من الدخان الناجم عن حرق الوقود لمنع الصواريخ من الوصول إلى أهدافها.

جنود أميركيون ومواطنون عراقيون خلال إطاحة نصب الرئيس العراقي صدام حسين في ساحة الفردوس ببغداد يوم 9 أبريل 2003 (غيتي)

وأثناء الحديث عن سير المعارك، وكان التركيز على صمود الجيش في أم قصر، طلبت الحديث، وذكرت بأنني سافرت إلى مدينتي راوة في محافظة الأنبار قبل بدء العدوان العسكري، وسألت مسؤول الشعبة الحزبية ما هو عدد قاذفات الآر بي جي التي لديكم؟ أجاب ست قاذفات فقط، وعند عودتي إلى بغداد زرت مسؤول مكتب الجزيرة للحزب في مدينة حديثة، وهو من أقربائي وسألته السؤال نفسه، وكان عدد القاذفات المزود بها ست قاذفات فقط. وهذا عدد قليل جداً. لم يحصل تركيز على هذه النقطة سوى تدخل نائب رئيس الجمهورية بأنه على استعداد لاستيراد كمية من سوريا. ولم يتحدث عن الموضوع كل من وزير الدفاع وقصي صدام حسين، رغم المعلومات العامة بتوافر مليون قاذفة لدى العراق قبل الحرب».
ويضيف: «(...) بعد أكثر من أسبوع، وعند دخول القوات الأميركية النجف، طلبنا الرئيس مجدداً أنا ووزير النفط لمتابعة تنفيذ توجيهاته في الاجتماع الماضي. تحدث الرئيس الراحل بأن الفريق صلاح عبود ومحافظ النجف وعضو مجلس قيادة الثورة مزبان خضر هادي (المسؤول عن محافظات الوسط بعد تقسيم العراق إلى أربع مناطق مستقلة، للمسؤول صلاحية رئيس مجلس قيادة الثورة في الدفاع عن المنطقة التي يشرف عليها) طلبوا التوجيه بالانسحاب من مدينة النجف بعد وصول القوات الأميركية إلى المدينة، وبدء أعمال النهب في دوائر الدولة، وانفلات الوضع الأمني، ووافقت على طلبهم. طلبت الحديث، وذكرت للرئيس الراحل بأن البصرة صامدة وتقاتل القوات الأميركية منذ أسبوعين، رغم أن أعمال النهب مستمرة من مخازن وزارة التجارة في البصرة قرب المنطقة الصناعية، وهذا لا يعني سقوط المدينة. طلب الرئيس من سكرتيره الفريق عبد ومن وزير الداخلية محمود ذياب الأحمد الخروج فوراً من الاجتماع للاتصال بهم وإبلاغهم بعدم الانسحاب من المدينة. وبعد أكثر من نصف ساعة عادا وأبلغا الرئيس بأنهم انسحبوا فعـلاً من النجف. (...) وأثناء حديث الرئيس عن سير المعارك بعد خروج السكرتير ووزير الداخلية من الاجتماع، قال الرئيس بأن القوات الأميركية لن تتمكن من دخول بغداد، فالمدينة مطوقة بثلاثة أسورة (مصدات) محركاً يده اليمنى على اليسرى بشكل دائري ثلاث مرات تعبيراً عن الأسورة الثلاثة».
ويتابع: «كانت مدينة بغداد متماسكة، وتتلقى القصف الهائل من القوات الجوية الأميركية، ومن الصواريخ البعيدة المدى. وكنت يومياً أرافق القافلة المحملة بالدقيق (خالٍ من النخالة نمرة صفر) لتوزيعها على المخابز من باب المعظم مروراً بشارع الشيخ غمر وصولاً إلى الباب الشرقي وإلى البتاويين والكرادة الشرقية ومناطق بغداد الأخرى. وكانت المنظمات الحزبية تمسك الأرض بالمتاريس التي أقامتها حسب المناطق المسؤولة عنها ضمن نشاطها الحزبي، وكان المواطنون متلاحمين مع تلك المنظمات منهم من يزودهم بالطعام والفواكه، ومنهم من يوجد بالقرب منهم لإبداء المشاركة الرمزية، حتى ظهور وزير الدفاع في ندوة تلفزيونية شرح فيها عدم تمكن القوات البريطانية من التأثير على صمود القطعات العسكرية التي كانت تقاتل في أم قصر في البصرة. ورداً على سؤال من إحدى وكالات الأنباء عن موعد وصول القوات الأميركية إلى بغداد، أجاب وزير الدفاع خلال سبعة أيام، كما أخبرني غسان القاضي مراسل إحدى وكالات الأنباء المشاركة في المؤتمر الذي كان معي ضمن مجموعة المسافرين في أول زيارة لأداء العمرة في المدينة المنورة ومكة المكرمة عام 2013 بعد إطلاق سراحي عام 2012، لقد كان لهذه الإجابة تأثير مدمر على معنويات من كان في مدينة بغداد، وبدأت العوائل تغادر المدينة أفواجاً أفواجاً، وكنت ألاحظ ذلك في انحسار نقاط وجود المنظمات الحزبية في مناطق بغداد كافة.
وكانت آخر زيارة لي في مدينة الثورة قبل يوم من احتلال بغداد، وإعلان تغيير النظام الوطني في 9 أبريل (نيسان)، حيث لم أجد سوى تجمعين لفرقتين حزبيتين بعد أن كان وجودها يملأ المدينة... وكانت الدبابات الأميركية قد وصلت طريق القناة بالقرب من حي المعلمين في حي القاهرة، حيث مقر مبيتي مع أخوتي في دار والدي في ذلك الحي أثناء الحرب».
ويقول: «في يوم الجمعة 3 أبريل كان أحد أفراد الحماية ينتظرني أمام مسجد أبو حنيفة، حيث أديت الصلاة أنا والدكتور ناجي الحديثي وزير الخارجية، وأبلغني أن الرئيس يطلبك على الفور. ذهبت معه بعد أن سلمت على الدكتور ناجي صبري. وعند وصولي الاجتماع سلمت على الحاضرين، وجميعهم قادة عسكريون، وكان عضو القيادة القطرية المسؤول عن بغداد قصي، يجلس على جانبه الأيمن وهو في حالة انهيار واضحة على وجهه الشاحب، وعدي على يساره عكس قصي الذي كان جالساً واثقاً من نفسه مثل الذئب، حيث كان فدائيو صدام يقاتلون ببسالة».
الحلقة الأولى... علي صالح لصدام: الحرب واقعة... والهدف تدمير الجيش العراقي


مقالات ذات صلة

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».