تتخذ رواية «لا مفاتيح هناك»، للروائي المصري أشرف الصباغ، من السخرية نهجاً لها، سخرية من الذات ومن العالم، ومن المدينة الكبيرة التي لا ترحم، الأقرب إلى أن تكون ديستوبيا، أو هكذا تبدو من السطح، لكنها ليست كذلك تماماً، بل ذات شفرات خاصة، ومغلقة على أسرارها، ومفارقاتها، وخرابها الداخلي الخاص، وأيضاً جمالها الذي لا يمكن سبر أغواره بسهولة، فهي لا تمنح أسرارها سوى لمن يحبها وتحبه.
الرواية، الصادرة في القاهرة عن دار روافد للنشر، تبدأ بإهداء أقرب إلى أن يكون تصديراً، فهو أشبه بمفتاح دلالي للدخول إلى النص، كما يفسر أيضاً العنوان، فهذا الإهداء يبدو عنواناً جانبياً شارحاً للعنوان الأصلي للرواية، إذ يقول فيه «إلى تلك المدينة التي تخبئ مفاتيحها حتى عن أبنائها، وكلما خلعوا عيونها نبتت لها عيون أخرى جديدة، تخفي فيها المفاتيح عن أيدي العابثين»، وتظل كلمة المفاتيح تحتمل تأويلات عدة، فلا نعرف هل هي مفاتيح الوصول والترقي الاجتماعي، والسراديب الخلفية التي تمرر نجاح البعض - ممن لا يملكون مواهب - بطرق ملتوية، أم مفاتيح السعادة رغم كل هذا، أم مفاتيح جماليات المكان ومواضعاته، والتاريخ العالق بكل حجر في جدران هذه المدينة التي تبدو أسطورية، رغم ما بها من موبقات؟ لكن اللافت أكثر، هو استخدام مفردة «هناك» في العنوان، بدلاً من «هنا»، وكذلك استخدام «تلك المدينة» في الإهداء، بدلاً من «هذه المدينة»، فكل من «هناك» و«تلك» هي أدوات تستخدم للإشارة للبعيد، فالسارد - عبر استخدام هذه الأدوات - يتخذ لنفسه مكاناً قصياً متعالياً عن هذا الفساد، يرى من الخارج بعين المتابع والمراقب والمحلل، وليس المتورط، كأنه ليس ابن هذه المدينة ويشبه كل المروي عنهم، رغم أن كل أجواء السرد داخل الرواية تقول إنه غارق حتى أذنيه في قوانين المدينة، ويحفظ ممراتها الخلفية، ويعرف مفاتيحها جيداً.
العمود الفقري للرواية هي حكاية حب تجمع بين السارد البطل (سعد)، الصحافي ابن الفقراء، وبين «طبيبة العيون السريالية نورهان هانم أباظة»، كما يسميها البطل، ويكرر هذه التسمية عشرات المرات تقريباً داخل النص، هذه هي الحكاية الإطار، إذ يسرد البطل علاقته بحبيبته هذه، وما يكتنفها من فروقات طبقية واضحة بينهما، فهو الصحافي الفقير المعدم المعتاد على التسكع في أكثر أماكن القاهرة بؤساً، وهي وريثة الطبقة الأرستقراطية، المرهفة، بالغة الجمال والأنوثة، والتي تبدو كطيف في حياة البطل، سواء في ظهورها وتجليها، أو في اختفائها واحتجابها، فهو يبدأ تقديمها سردياً بأوصاف تضعها في مرتبة أقرب لآلهة الجمال عند اليونان «جميلة وجذابة وفقاً لمعايير الجمال الغربية - الشرقية - اللاتينية، كل ما فيها جميل ورائع ومثير في آنٍ معاً، حيث استولت على أجمل ما في نساء هوليوود مجتمعات. وأضفى حسنها وعقلها وخفة ظلها قنطارين إضافيين من الرونق والبهجة والغموض على جمالها، فصارت أجمل من ملاك، وألذ وأطعم وأنعم من نساء الأرض أجمعين، وأشهى من الرغبة نفسها».
في قصة الحب هذه، بكل ما تنطوي عليه من وصال وعراك وهجر وأيروتيكا، يرى كل طرف العالم بعيون الآخر، إذ يدخل كل منهما عوالم غريبة عنه، فالسارد يرتاد أماكن وعوالم الطبقة الأرستقراطية، سواء في حي الزمالك العريق وموطن الطبقات الثرية منذ القدم، أو في الحفلات والتجمعات التي تشارك فيها نورهان، وهي بدورها تطوف مع السارد (سعد)، في الأحياء الشعبية، من السيدة زينب إلى عين شمس ودير الملاك، وتدخل معه البارات الرخيصة والمقاهي، تتعلم لغته ولغة الشعبيين الذين ينحدر منهم، حتى أنه يسقط في حالات ضحك هستيرية عندما يسمعها تتحدث أو تسب بألفاظ شعبية سوقية لا تستقيم مع مظهرها الأرستقراطي، لمجرد أن لسانها أصابته هجنة من كثرة مخالطتها لعوالمه.
بعيداً عن الحكاية الإطار هذه، تبرز حكايات تبدو جانبية، ولكنها في تضامها تبدو هي متن الرواية وجوهرها، حتى إن قصة الحب تكون أقرب إلى قناع نصي، يدفع البطلين لدخول عوالم شتى، وسرد حكايات غريبة لبعضهما. هذه الحكايات الجانبية، تميل إلى فضح عوالم القاهرة وتناقضاتها، والسخرية المريرة من كل شيء، فالبطل كائن ساخر، يعيش بالسخرية بدلاً من الموت كمداً، فهو يرى ويعرف ويعاين كل أوجه التردي، ولكنه يحول كل شيء إلى كوميديا سوداء، عبر لغته، وأوصافه، ولامبالاته بكل ما يرويه من عبث، تعبيراً عن جوهر ما يحدث في المدينة، فالسخرية تبدو أعلى طاقات النقد والتفكيك والكشف، فنرى بعيونه ما يحدث من فساد داخل المؤسسة الصحافية التي يعمل فيها، وفساد مؤسسة الجامعة التي تعين نورهان مدرسة بها لمجرد أنها قدمت خدمات طبية مجانية لمسؤولين فيها، وتحرُّش هؤلاء المسؤولين أنفسهم بها لاحقاً، كما تتبدى السخرية من مؤسسة الجامعة، مصنع العقول، في موقف أستاذ الفيزياء من تلميذه (عيد)، ابن خالة البطل، وتوبيخه له لأنه كتب مقالاً علمياً عن المادة والطاقة في مجلة الكلية، وحتى السخرية من الرأي العام نفسه وكيفية صناعته وتوجيهه عبر وسائل الإعلام التقليدية أو «السوشيال ميديا»، خاصة في حادث «ميكروباص كوبري الساحل» الذي سقط في النيل.
في الرواية يسخر البطل من نفسه أيضاً، ويعري أوجه فساده الصغيرة، سواء في علاقاته النسائية، أو في كونه يعيش على الدعوات لحفلات و«عزومات» هنا وهناك، أو حتى عندما يعتمد مادياً على نورهان نفسها في أوقات ارتباطهما، حتى إنهما حينما اختلفا كان أحد أسباب حزنه أنها بهذه القطيعة حرمته من الأطعمة والمشروبات الفخمة التي اعتاد عليها. كما نرى سخرية مريرة من نسيان اسمه، في فقرة شديدة الدلالة عندما سألته نورهان في أول تعارف بينهما عن اسمه، فبدا أنه نسيه، من فرط تعاطي الآخرين معه من دون اسم، وبمجرد الإشارة له بهزة رأس، أو بـ«يا» فقط، أو يا أستاذ، وكأنه أصبح غير مرئي من فرط تهميشه، فهو بلا هوية، ولا علامة تخصه وتميزه، رغم سخريته داخل النص من ارتباط الاسم بالهوية.
لغة الرواية مخاتلة، تبدو ساخرة بشدة، حد تحويل كل شيء إلى «مسخرة»، وهذا هو سلاح البطل المهمش المنسحق، على نحو يذكرنا بـ«طز»، الكلمة الشهيرة لمحجوب عبد الدايم بطل رواية «القاهرة الجديدة» لنجيب محفوظ، لكن بطل الصباغ هنا مكترث بشدة، ومسكون بمحبة كل من حوله، رغم ما هم عليه من ترد، أو بسبب ما هم عليه، وهذا ما يتجلى في الأسى الكامن في «حكاية الكتكوت» التي يحكيها لنورهان كي تنام، وهي أشبه بحكايات «ألف ليلة وليلة» بكل خرافيتها وأسطوريتها وجمالها، لكنها مسكونة بوجع خاص، عن العقول التي تظل تدور في مكانها بشكل دائري ولا تتقدم، معيدة إنتاج نفس البنى. إن أشرف الصباغ يقدم الحياة في القاهرة وكأنها مسرحية عبثية، ولا يمكن أخذ شيء في هذا العبث على محمل الجد، لأنه سيفقد المسرحية جمالها ونكهتها المميزة.
