«الأقدار الغاشمة»... تاريخ البشرية في إدارة الكوارث

منذ عهود سحيقة إلى فترات قريبة من الذاكرة الحديثة

المؤرخ الليبرالي نيال فيرغسون
المؤرخ الليبرالي نيال فيرغسون
TT

«الأقدار الغاشمة»... تاريخ البشرية في إدارة الكوارث

المؤرخ الليبرالي نيال فيرغسون
المؤرخ الليبرالي نيال فيرغسون

من زاوية معينة، فإن التاريخ أشبه بسجل ضخم لأرشفة الكوارث وإرث أخطاء البشريّة المتراكم في التعاطي معها. ويبدو أن نيال فيرغسون؛ المؤرخ الليبرالي الأكثر شعبيّة في الغرب قد ألهمته فترة عزلة «كوفيد19» الإجباريّة خلال عام 2020 للتّقليب في دفاتر الاستجابات البشريّة للكوارث ومحاولة استخلاص الدّروس التي يُمكن الاستفادة منها للتعامل مع مأزقنا الحالي، كما تلك المقبلة. نتاج العزلة هذا صدر في سفر ضخم (496 صفحة) بعنوان: «الأقدار الغاشمة: سياسات إدارة الكوارث*»، وقفز سريعاً إلى صدارة قوائم الكتب الأكثر مبيعاً، ولا يزال لشهور العنوان الأول عالمياً على قائمة متجر «أمازون» الإلكتروني في فئة الفلسفة السياسيّة. لكن صدور الكتاب قبل أن ينحسر الوباء الحالي، ودون التوصل إلى استيعاب مختلف أبعاد التّجربة القاسية التي رافقته، قد يجعل منه عملاً غير مكتملٍ بشكل ما، وحججه منقوصة، واستنتاجاته غامضة، إلا إنّ الجزء التأريخي منه لا شكّ غني ومحكم ومتماسك.
قسّم فيرغسون نصّه أقساماً؛ يمثّل أولها الجزء الأكبر من «الأقدار الغاشمة» ويسترجع فيه خبرات البشريّة التاريخيّة مع الكوارث من عهود سحيقة إلى فترات قريبة من الذّاكرة الحديثة: المجاعات والأوبئة والزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير والحروب وحوادث القطارات وانخفاض أعداد السكّان والهجرات التي تؤدي إلى اضطرابات سياسيّة والأسلحة النوويّة... وما إلى ذلك. وبحسب الخبرة البشريّة عبر آلاف السنين، فإن الكوارث غالباً ما نسبت للطبيعة: استياء الآلهة أو اضطرابات الفلك أو سوء الطالع. ويستنتج الكاتب من بحثه أنّه من المضلل تصنيف الكوارث إلى طبيعيّة وأخرى يتسبب فيها الإنسان؛ إذ لا خط صريحاً يمكن رسمه بين نوعين متفاوتين تماماً؛ لأن العوامل السياسية والثقافية يمكن أن تحدد في كثير من الأحيان مدى الأثر الذي تتركه كارثة طبيعية ما وصيغة الاستجابة للتحديّات التي قد ترافقها، مما يجعلها عندئذ أقرب إلى الاصطفاف مع الأخطاء البشريّة بدل تحميل مسؤوليتها للأقدار الغاشمة. وبعبارة أخرى؛ فإن الكوارث ليست كوارث بمجرد حدوثها، بل بقدر التأثيرات التي تنشأ عنها وكيفيّة التعامل معها عندما تضرب المجتمعات وتزعزع نظمها واستقرارها. ويستعير فيرغسون هنا من تشبيهات وضعها كتّاب آخرون لوصف الكوارث، بأنواع حيوانات مثل «وحيد القرن الرّمادي» علماً على المصائب الظاهرة التي لها سوابق ونراها حين تقترب منا، و«البجعات السوداء» للأحداث التي تبدو بحكم تجربتنا المحدودة أقرب إلى الاستحالة، و«ملوك التنين» أي الكوارث الهائلة التي تقع خارج الظروف المعياريّة العادية، فيصف تاريخ البشريّة في مواجهة الكوارث كأنّه «حديقة الحيوان سيئة الإدارة» التي تجمع هذه المخلوقات معاً، مع بعض الأحداث المؤسفة غير المنطقيّة وسوء الحظ.
يحاكم فيرغسون في القسم الثاني ميلاً تقليديّاً إلى إلقاء اللّوم على القادة الأشخاص عند فشل الاستجابات المجتمعيّة أو قصورها عن التّعامل مع الكوارث، فينتقد نظريّة «الرجل العظيم» للتاريخ أو «مغالطة نابليون» التي تختصر الأحداث والتيارات الكبرى بأفرادٍ يديرون العالم بأيديهم بوصفها منهجيّة تفكير تبسيطيّة لا يمكن الدّفاع عنها، في الوقت الذي تكمن فيه الأسباب الأساسيّة لمثل تلك الإخفاقات غالباً في الاحتكاكات بين المستويات الدنيا والمتوسطة من التّسلسلات الهرميّة التنظيميّة للمجتمعات ونقاط ضعف أنظمتها الإداريّة أو غياب المساواة الاجتماعيّة، وأن أولئك القادة ليسوا في النهاية إلا عرضاً للأنظمة التي أنتجتهم. فقد أظهرت كارثة «تشيرنوبيل» مثلاً، جهل مشغلي المرفق وعقم بيروقراطية السلطات. وبينما كشفت مأساة «تشالنجر» كيف أدت سيطرة معايير التكلفة على عمليّات توريد المكوّنات إلى قبول مواد بكفاءة متوسطة وأقل أماناً لتتسبب قطعة صغيرة في انفجار المكوك. وعند انتشار وباء الكوليرا في هامبورغ عام 1892 كانت البنية الطبقية الصارمة في المدينة التي سمحت لملاك العقارات المؤجرة برفض تحسين شبكات المياه والصرف الصحي مسؤولة عن معدل الوفيات المرتفع نسبياً، والذي كان أعلى لدى الفقراء بـ13 مرّة مقارنة بالأغنياء. وفي سفينة «تايتانيك» الشهيرة، فإن التصميم الذي حكمته النظرة الطبقية جعل فرصة النجاة أعلى بـ50 في المائة على الأقل لدى ركّاب «الدرجة الأولى» من تلك الموجودة على الطوابق السّفلى.
ويُلمس من النصّ أن قدرة البشريّة على توقع الكارثة «الصحيحة» مسألة بعيدة المنال، حيث «نادراً ما نحصل على الكارثة التي نتوقعها»، من الصعب كذلك التنبؤ بالسرعة التي تحدث بها الكوارث؛ إذ يمكن أن تحدث كتفكك نظام معقد في وقت واحد، بسرعة مذهلة – كما كانت الحال في الانهيار السريع لحضارات العصر البرونزي - القرن الثاني عشر قبل الميلاد - أو يمكن أن تأخذ شكل انتقالات مرحلية متشنجة متتالية، كذلك الانحطاط التدريجي للإمبراطورية الرومانية.
ويستنتج فيرغسون من تجربة العالم مع «كوفيد19» أن الأنظمة مركزيّة القرار مثل الصين - وذلك بحكم فاعليّة تنفيذ التوجيهات التي تقيّد الحريات المدنية - أثبتت قدرة فائقة على إدارة الوباء من نظيرتها الأنظمة الديمقراطيّة التوافقيّة التي غالباً ما تتعارض فيها مصالح ورغبات مراكز القوى المتعددة، وتضعف من هامش سيطرتها على سلوك مواطنيها، وجعلت من الولايات المتحدّة - الدّولة الأعظم في العالم - موضع سخريّة دوليّة وتندّر فيما يتعلّق بمعدلات الإصابات والوفيّات بالفيروس، ورفعت من وتيرة القلق داخليّاً بشأن موثوقية القوة الاقتصادية الأميركية، وأخلاقيات قيادتها، وحتى قدرتها على البقاء، وهي مخاوف يتأكد دائماً أنها، كالعادة ووفق فيرغسون، سابقة لأوانها.
الفصول المخصصة لتجربة «كوفيد19» الحالية متخمة بكم هائل من المواد الأرشيفيّة: التقارير الصحافية، ومقالات الرأي، والأوراق العلمية، وخلاصات الكونغرس الأميركي، وهذه الببليوغرافيا الضخمة يوظّفها فيما يبدو لتخفيف حدّة النقد الذي استهدف القائدين: دونالد ترمب (الولايات المتحدّة)، وبوريس جونسون (بريطانيا)، في سياساتهما لإدارة الوباء القائمة على تقديم مصالح الاقتصاد على توفير حماية مثاليّة للجميع. وهذان؛ تحديداً، زعيما دولتين من المفترض أنّ إدارتهما الأزمة أفضل من الدّول الأخرى بكثير نظراً للقدرات التقنيّة والعلميّة والماديّة المتقدّمة. لكن أكوام الحقائق التي يجمعها صاحب الكتاب وتناقضها أحياناً لا يمنحان القارئ كبير ثقة فيما يذهب إليه، لا سيما أن انعكاسات الوباء ما زالت مستمرة إلى الآن، مما يصعّب الوصول إلى أحكام قاطعة بشأن أي شيء.
وأخيراً؛ فإن مجموعة موجزة من التكهنات حول المآسي المحتملة في المستقبل واحتمالات الاستجابات الكافية تكمل الكتاب. ولا يخفى هنا انحياز المؤرّخ؛ ليبرالي التوجهات ونجم نخبة واشنطن، ضد الصين وذلك بنقلنا إلى عالم ما بعد «كوفيد19» للتركيز على مصدر قلق مستقبلي من استراتيجية الصين بوصفها قوة عظمى لمنطقتها، وبحر الصين الجنوبي، بشكل عام، وكأنّ كل هموم العالم وشجونه قد حُلّت ولم يتبق سوى أن نحسم نطاق الحدود البحريّة للمياه الإقليميّة الصينيّة.
في الفصل الختامي من «الأقدار الغاشمة» يراهن المؤلف على الخيال؛ الذي يعرّفه ببراعة بأنه بمثابة «تأريخ للمستقبل»، ليمنحنا فرصة إلقاء نظرة على عالم قد نرغب في تجنبه، وأن خير ما نبدأ به للتعامل مع الكوارث المستقبليّة هو السعي جاهدين لتخيّلها أو تحليل العوامل الفاعلة في المؤكّد منها، وترسيم تأثيراتها المحتملة على المجتمع بشكل كلي، وربّما الشروع المبكّر في الإعداد لها. ومع ذلك؛ فإن الأفضل ألا ننسى يوماً نصيحة التاريخ للبشر: «المستقبل غير مؤكد... والنهاية قريبة دائماً».
«الأقدار الغاشمة: سياسات إدارة الكوارث»
«Doom: The Politics of Catastrophe»
المؤلف: نيال فيرغسون
الناشر: ألان لين
مايو 2021


مقالات ذات صلة

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أجمل ما يحدُث هو غير المُتوقَّع (مواقع التواصل)

من «لم أَبِع كتاباً» إلى «الأكثر مبيعاً»

أكّدت كاتبة بريطانية طموحة أنّ رؤية روايتها تُصبح من أكثر الكتب مبيعاً بعدما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي كان ذلك أمراً «مثيراً جداً».

«الشرق الأوسط» (لندن)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.