السياب ونازك الملائكة استهلا الحداثة العربية بقصيدتين عن الحب والكوليرا

قبل أن يكتب ماركيز رائعته الروائية بعقود

نازك الملائكة
نازك الملائكة
TT

السياب ونازك الملائكة استهلا الحداثة العربية بقصيدتين عن الحب والكوليرا

نازك الملائكة
نازك الملائكة

لم يكن الحب على اختلاف تجلياته تفصيلاً بسيطاً في حياة البشر، أو ترفاً زائداً يمكنهم الاستغناء عنه متى رغبوا في ذلك، ولكنه العاطفة المتصلة بوجودهم اتصال القلب بوريده، والصخرة التي تعصمهم من التفتت والانحلال، والمعين الدائم الذي من دونه تتحول حياتهم إلى صحراء. على أن ذلك الأكسير السحري الذي عقدت الخليقة عليه أكثر رهاناتها صلة بالفرح والأمل والانتشاء بالحياة، لم يكن ليحضر في الأعم الأغلب إلا مقروناً بالمأساة أو مهدداً بالموت. ذلك لأن الحب العميق، إذ يأنف من أواسط المشاعر ليقيم عند الذرى الأخيرة لدورة الدم وخفقان القلب وغليان المسام، يستنفد طاقة الجسد على التحمل ويضعه في مواجهة مكشوفة مع الموت المتاخم. كما أن الحب، بما هو رغبة متعذرة في امتلاك غير الممتلك، هو من بعض وجوهه ضرب من القتل، سواء كان ذلك عن عمد أو عن غير عمد. فامرؤ القيس في معلقته يخاطب حبيبته معاتباً بالقول: «أغرّك مني أن حبك قاتلي\ وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ؟». وغالباً ما تتحول عيون النساء المعشوقات عند العرب إلى أداة للقتل المتعمد، كما عند امرئ القيس نفسه: «وما ذرّفت عيناك إلا لتضربي\ بسهميك في أعشار قلبٍ مقتّلِ». وكذلك هو الأمر عند جرير، الذي ينقل واقعة القتل إلى خانة التعميم، فيهتف قائلاً: «إن العيون التي في طرفها حوَرٌ\ قتلننا ثم لم يحْيين قتلانا». وكما هو الحال مع ضربة الشمس، التي تودي بالمرء إلى الجنون أو الموت في بعض الأحيان، فإن من يصاب بضربة الحب، لا بد وأن يلاقي المصير نفسه، كما حدث لعشاق بني عذرة، أبرزهم عروة وقيس وكثيّر وجميل.
إن أي عودة متفحصة إلى تراثنا الشعري والأدبي، كما إلى التراث العالمي، لا بد أن تقدم لنا شواهد كثيرة حول علاقة الحب بالموت والمرض من جهة، وبالجنون والاختبال من جهة أخرى. وقبل أن يتحدث سيغموند فرويد عن العلاقة الوثيقة بين الحب والموت أو بين الإيروس والتاناتوس، كان بشار بن برد يرى في موت المرأة التي أدمت قلبه، الحل الأقل كلفة لمأزق الحب وآلامه المبرحة، فيهتف قائلاً: «من حبها أتمنى لو يصادفني\ من نحو قريتها ناعٍ فينعاها\ كيما أقول: فراقٌ لا لقاءَ لهُ\ وتضمر النفس يأساً ثم تسلاها». وفي «مصارع العشاق» لأحمد بن الحسين السرّاج، يظهر المحبون بوصفهم كائنات متصدعة وسريعة العطب، ويبدو الحب أقرب إلى المرض منه إلى أي شيء آخر. ومع أن وباء كورونا لم يكن، وفق ما نعلم، معروفاً آنذاك، فإن الظواهر التي ينسبها المؤلف للعشاق، من بينها التعرق وارتفاع الحرارة وارتفاع نبض القلب وضيق النفس وتسارعه، ليست بعيدة تمام البعد عن ظواهر الوباء الذي يضرب العالم اليوم. لا بل كثيراً ما كان موت العاشق، إذ يباغته جمال محبوبته الصاعق، يأتي على شكل شهقة سريعة تغادر من خلالها الروح قميص الجسد الناحل. وقد بات النحول المرَضي أقرب إلى الصورة النمطية للحب الرومانسي في الغرب، حيث اختلط الدنيوي بالديني، وافتتن الشعراء بالفتيات المسلولات أو شديدات النحول، أو المفرطات في صفرتهن.
كما أن الرواية، من جهتها، تقارب الموضوع نفسه، وتُظهر أن الحب غير المتحقق، مقروناً مع الجمال، لا بد أن يضع المحب على طريق الهلاك. ففي عمله المميز «موت في البندقية» يروي توماس مان قصة الكاتب الستيني غوستاف أشنباخ، الذي غادر مسقط رأسه ميونيخ، ليبحث في المدينة الإيطالية الخلابة عما يوفر له السبيل إلى الراحة والطمأنينة الوادعة من جهة، ويوفر له سبيل الكتابة واستعادة جذوة الإبداع المتضائلة، من جهة أخرى. لكن لقاءه بالمراهق الوسيم تادزيو يغير كل المعادلات، ويضعه أمام مأزق الاختيار الصعب بين الحياة والكتابة، حيث يشعر أن كل كتب العالم لا تستطيع أن تمنحه ذلك الألق المنبعث من وجه المراهق الفتي الجالس قبالته. وإذ تضرب الكوليرا أحياء المدينة وممراتها المائية المتداخلة، يفقد الكاتب الكهل أثر الفتى الوسيم وعائلته، ثم ما يلبث أن يصاب بعدوى الوباء المستشري، ويقضي بين أزقة المدينة الملوثة، ضحية لركضه العقيم خلف سراب الجمال الذي يتعذر امتلاكه. وإذا كان توماس مان يرسم من خلال روايته صورة قاتمة لأوروبا المهددة يومها بوباء الفاشية المتنامي، فقد بدا عمله الروائي في الوقت ذاته، استشرافاً مبكراً لما سيُلحقه وباء كورونا بالمدينة وجوارها من خسائر وأضرار كارثية محققة. أما رواية غابرييل غارسيا ماركيز الشهيرة «الحب في زمن الكوليرا»، فلم تكن من جهتها سوى تأكيد إضافي على مقولة فرويد المعروفة حول الصراع الأبدي بين الحب والموت. واللافت هنا أن فكرة الكوليرا لم تكن جزءاً من متن الرواية ووقائعها المتعاقبة، ولم تدخل على خط الأحداث إلا في الفصل الأخير منها، حيث اختار فلورنتينو أن يقضي شهر عسله مع حبيبته فيرمينا على متن إحدى السفن، طالباً من القبطان البقاء في النهر، ورفع شارة الكوليرا على صارية السفينة، حتى إذا سأله القبطان: إلى متى ؟، أجابه العاشق العجوز: إلى الأبد.
لطالما انشغل دارسو الحداثة العربية ونقادها، من جهة ثانية، بموضوع الأسبقية الزمنية التي نسبها بعضهم إلى نازك الملائكة، وبعضهم الآخر إلى بدر شاكر السياب. وبمعزل عن البلبلة النقدية التي سبّبها الالتباس القائم بين تاريخ كتابة قصيدتي «هل كان حباً؟» و«الكوليرا»، وتاريخ إحالتهما للنشر، فإن أحداً من الباحثين لم ينتبه على الأرجح إلى أن النصين التأسيسيين اللذين استهل بهما بدر شاكر السياب ونازك الملائكة مشروع التحديث الشعري في العالم العربي، كانا يدوران حول ثنائية الحب والموت، التي تحدث عنها فرويد في كشوفه الرائدة حول التحليل النفسي، التي قاربتها رواية ماركيز. صحيح أن صاحبي «أنشودة المطر» و«قرارة الموجة» لم يفعلا ذلك عن سابق تصور وتصميم، حيث الشعر ينبثق من مناطق اللاوعي الأكثر ظلمة وتعقيداً، ولكن هذا الانبثاق بالذات هو ما يعطي للمصادفة بُعدها الاستثنائي ورمزيتها الخاصة. ولعل السياب الذي أصر على أن يضع لقصيدته «هل كان حباً» تاريخاً محدداً هو 29 - 11 - 1946، كان يهدف إلى إقامة الدليل الملموس على أنه سبق بأشهر عدة قصيدة الملائكة المؤرخة في أواخر عام 1947. أما على المستوى الفني والأسلوبي، فإن القيمة الأهم لقصيدة السياب تتمثل في جانبها الإيقاعي، الذي يكسر نظام الشطرين الخليلي وينقل القصيدة من نسق الأبيات المتماثلة إلى نسق مختلف تحدده المعاني والصور والأفكار. لكن القصيدة في جوانبها الأخرى لا تختلف كثيراً عن بواكير السياب المفعمة بالشجن الرومانسي والهواجس العاطفية الموزعة بين الافتتان بالمرأة المعشوقة وبين الشكوك والغيرة المؤرقة: «كم تمنى قلبي المكلوم لو لم تستجيبي\ من بعيدٍ للهوى أو من قريبِ\ آه لو لم تعرفي قبل التلاقي من حبيبِ\ أي ثغرٍ مسّ هاتيك الشفاها\ ساكباً شكواه، آهاً ثم آها\ غير أني جاهلٌ معنى سؤالي عن هواها\ أهْو شيءٌ من هواها، يا هواها\ ليت قلبي لمحة من ذلك الضوء السجينِ\ أهْو حبّ كلّ هذا ؟ خبّريني».
على الطرف الآخر من المعادلة، تطأ نازك الملائكة بخطى واثقة أرض الحداثة البكر، مسهمة بذلك في «تأنيث» الشعرية العربية التي كادت أن تكون لقرون خلت، حكراً على الرجال وحدهم. لكن اختيار جائحة الكوليرا لتكون موضوعاً لمغامرة نازك الحداثية الأولى، لم يكن أمراً بلا دلالة. إذ إن النبرة الرثائية للقصيدة تُظهر أن الشاعرة تستكمل، ولو عبر وعيها الباطني، الدور الذي أناطه المجتمع الذكوري بالمرأة الشاعرة منذ زمن الخنساء، والمتمثل بالرثاء والندب والتحسر، عدا استثناءات «إباحية» قليلة شكلت ولادة بنت المستكفي ذروتها الأكثر جرأة. وإذا كانت القراءة النقدية المتأنية لقصيدة نازك لا تكشف عن فتوحات رؤيوية وتعبيرية نوعية، فإن تفكيك البيت الشعري التقليدي ليس بالأمر العارض في عالم عربي ظل لقرون طويلة يربط الشعر بالفحولة، ويرى في العمود الشعري جزءاً من مقدساته الثابتة التي لا يجب أن يطالها التغيير.
وإذ تختار الشاعرة بحر الخبب للتعبير عن الفاجعة، فإن هذا الاختيار لم يكن تحاشياً للأوزان «الذكورية» الصارمة فحسب، بل لأنه يتساوق مع حركة النفس المشظاة، ومع مشاهد الموت الجماعي التي يستجيب لها القلب بأقصى خفقانه: «أصغِ إلى وقع خطى الآتينْ\ في صمت الفجر، أصخْ\ أنظرْ ركْب الباكينْ\ موتى موتى، ضاع العددُ\ موتى موتى، لم يبق غدُ\ الكوليرا في كهف الرعب مع الأشلاءْ\ في صمت الأبد القاسي، حيث الموت دواءْ\ ألموت الموت الموت\ في شخص الكوليرا القاسي ينتقم الموتْ».



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.